الليلة التي بدأ بها الرحيل

في تلك الليلة جاءته كعادتها دون موعد، دائمًا كانت تشعر بحاجته إليها، ودائمًا كانت تأتي إليه حين يبدأ في التفكير فيها، كانت توءم روحه وتميمة سعده، أيام صاحبته في رحلاته البحرية، منذ فكَّر في مغادرة القرية للبحث عن نقطة التقاء الأرض بالسماء. وأنقذت مراكبه القديمة المُتهالكة أكثر من مرة، وحمَتْه من هول العواصف ودوَّامات الموج والحيرة.

وقادت الطريق أمام قوافِلِه إلى ينابيع الماء والواحات الخضر، عندما حاصرته الكثبان الرملية ورياح الهبوب.

وحمت ظهره يوم اشتبك مع التنِّين ذي الرءوس الأربع، وقطعت أسلاك المُعتقل سرًّا، وهربت به تحت جناح الليل، وأعطتْه طعامًا وشرابًا وسيفًا، ودلَّته إلى درب العودة إلى الفسطاط، يوم كان الصليبيون يبحثون عنه للانتقام لفتاتهم المُنتحرة.

لكنها جاءت بهم في أثرها هذه المرة.

عصف الشك برأسه. لم يُبح بما يوغِر صدره، بل حاول جاهدًا ألَّا يترك الفكرة العابرة الشريرة تُفسد فرحته بلقائها، وحاول أن يُخفيها عن عيونهم عندما اقتحموا الحجرة عبر الحائط والنوافذ المُغلقة، لكن جهوده ذهبت عبثًا، فقد ألهبَتْه بجمالها الرقيق، وعطرها الأسطوري، ونظرة التساؤل الغامضة، التي كانت ترتعش فوق جبينها الناصع، فجعلت الجميع يُحاصرونها بالأسئلة والعِصي.

تعاظم إحساسه بالأحذية الحكومية منذ وحَّد مينا القطرَين ووضع أُسَس الحساب، ومنذ أجهد قائد شرطة عبد الملك بن مروان نفسَه ومساعِديه، في إثبات الأحاديث الشريفة، وقهر المُتمرِّدين. وخيل إليه أن كل الأقدام (النبيلة) والملَكية، تُحاول أن تختبر قُدرة أضلاع قبيلته على الاحتمال، وهي تُجهد نفسها في ركلٍ مُنتظم ومحسوب. وحينما جرُّوه على الأرض الصلبة الباردة، أخذ يُفكر في الجثة، وأعطته لهفتهم في تبادل الاعتداء عليها فرصة لإعادة التفكير، مُركزًا كل ذاكرته على أطراف أصابعه وعروق رقبتِها المُستسلِمة النابضة باللذة … وحاول الاحتفاظ ولو بخيطٍ واهٍ، يربطه بالعالَم الحقيقي، وهو يُخمن أنهم يأخذونه إلى الشارع، وحاول التأكُّد من ذلك وهو يعُدُّ عدد المرَّات التي ارتطم فيها رأسُه بدرجات السُّلَّم، وعلى السلمة الأخيرة، بدأ يتبيَّن ما حوله خلال غمامة حطَّت على عيونه، اختلط فيها الأحمر بالأزرق.

•••

لم يكن هناك شبَّاك مفتوح في أي مكان، حسب أوامر صاحب الشرطة الجديد. امتدَّ حظر التجول حتى موعِد جنازة السلطان الجديد، ولذلك أطاعت كل الجدران، وظلَّت صمَّاء صامتة مُمتدة حتى السماء، وأطاع الناس أوامر الجند، ولزموا بيوتهم، فخلت الدنيا من أهل البيت وسكَّان الحارة!

•••

غمرَه فيضان من أمل كاذب، حين لمح دكان السجائر الصغير المجاور لباب البيت، لا يزال مضاء، لكن الأرض الحجرية ابتلعت — مثل كثيب الرمل — آثار الدم والعرق، التي نزفها من باب الشقة حتى الرصيف، عندما رأى الرجل العجوز الطيب يُدير ظهره لمَوكبهم ويتظاهر بالانشغال في ترتيب البضاعة. وذهب أحدُهم ليتأكد من جدية انشغاله ورُعبه، وعاد يبتسِم راضيًا، ليأمُرهم أن يقذفوا به إلى جوف العربة، وما إن صعدوا خلفَه، حتى انطلقت صامتة وابتلعها الظلام، وعادت الحياة تدبُّ في البيت وفي الحارة، وغمر النور الشارع، وكفَّ عن ترتيب بضائعه، وفُتِحت شبابيك كثيرة، وبدا طفلان لَعِبَ الكرة في بحر الشارع: كان كاذبًا مُشاغبًا وكان يعشق الصغار.

– ذهب وهو مدين لي بسبعة عشر قرشًا، ولستُ أدري ممن سوف أطلُبها، وإن وجدتُ من أُطالبه فلن يدفع، كنت أبيع له دون فوائد.

– رجل الدماء والغش يكرهه الرب.

– أتعرف أنه كان يُعاشر أخته في الحرام؟ وهي التي وشت به. أنا رأيتها بنفسي. الشيطان نقش على زندها صليبًا أسود.

– يُمهل ولا يهمل، هذا كله لأنه لم يدخل مسجدًا في حياته — كافر — منذ اليوم سيلعب أطفالنا في أمان!

وحملت إليه الريح الغربية عقاب الحارة وإنكارها، فحمد الله أن أحدًا منهم لم يُسلِّمه مع ذلك. وحاول أن يدافع عن نفسه، ولكن الكلمات خانَتْه وعجز عن فتح فمه تمامًا. فقد كان لسانه ملتصقًا بسقْف حلقه من شدة العطش، وكانت أنفاسه تُجاهد للنفاذ بصعوبة، خلال كُتَل الدم اللزجة التي سدَّت حلقه، وجفَّت حول فمه، لكنه استطاع أن يهمس لنفسه بلا صوت: ورغم ذلك فإنني أستطيع التفكير فيها!

وانشغل بمحاولة تحريك أصابعه المهروسة، حين خُيل إليه أنه يسمع صوتًا هادئًا عميقًا يُناصره من بعيد: ما كان يَجب أن تُبالغوا إلى هذه الدرجة … لو أنه مات فسوف تكون مسئولية جسيمة، من يضمن ألَّا تُطالب القبائل بثأره، الدنيا ستقوم ولا تقعد، فالتخلُّص من جثةٍ حتى ولو كانت بريئة، أمر يحتاج لتدبيرٍ مُحكم. جثة أمثاله أعصى على الإفناء من جثة السلطان، لانعدام الحُجة في عالَم لا ينسى الجثث، ولكنه قادر على طيِّ صفحات آلاف الأحياء … عليكم أن تكونوا أكثر حرصًا في المرات القادمة!

فرح كصبيٍّ عثر على أمِّه، وفكر أن ينهض ليُزوِّد ذلك الذي يدافع عنه بالوثائق الكافية، وليُثبت له حُبه للشعر القديم والحكايات الشعبية، ورغبته في أن يجد الجميع حتى أولئك الذين ضربوه بيوتًا بسيطة، ومناشف نظيفة، ولُعَبًا. وتمنَّى أن يذكُر له اسمه وعنوانه، وأن يطلب منه الذهاب إلى شقته، ليُحضر له بعض الأشياء الضرورية، التي لا بد سيحتاجها في الأيام القادمة. لكن فشلَه في تحريك رأسه ناحية الصوت جعله يعدِل عن الفكرة، حتى ضاع الصوت الرحيم، في ضجيج الأقدام المعدِنية، ورنين أصوات الآلات الكاتبة، فبَكى كطفلٍ فقدَ النصير.

لكنهم عندما حلقوا له شعره وصوَّروه، أعادوا إليه الطمأنينة، فقد أكَّد له هذا، أنه مُسجَّل بعالِيه في دفترٍ ما، وأن له منذ الآن رقمًا وأوراقًا رسمية، تُثبت لمن سوف يأتون بعدَه أنه كان موجودًا، فليس هناك مصري يُمكن أن يُكذب الأوراق الرسمية … وبدأ القلق يُزايله، وأحسَّ أن ما يجب عليه هو أن يستريح من عناء يومِه الثقيل، في حماية الأحرف والأرقام الحكومية.

والحقيقة أن الإرهاق كان قد بدأ يُهاجمهم، فاعتذروا له بسبب إقلاق راحته حتى هذا الوقت المتأخِّر، ووعدوه باستئناف شُغلهم معه في الصباح، ثم سمحوا له أن ينام، وأجَّلوا كل شيء بحماس، ومضَوا إلى بيوتهم.

•••

كان على أحدهم أن يتذكَّر شراء قلمٍ وممحاةٍ لابنه الصغير، وابتاع الثاني وأكَلَ فاكهةً ولحمًا مشويًّا، قبل أن يُجامع زوجته الحامل، بمجرد وُلُوجِه باب الشقة، بطريقةٍ أثارت دهشتَها وإعجابها، فظلَّت طوال الوقت تُحذِّره في دلال، من إيذاء الطفل ذي الشهر الرابع.

أما ثالثهم — ذلك الذي كان قد توجَّه إلى دكان السجائر — فقد نام ملء جفونه في أحضان زوجة زميلٍ لهم، كان مُوفدًا في مهمةٍ مُماثلة في بلدٍ بعيد.

أما رئيسهم، فقد أعطى نفسه مِثل كل ليلة، لسائق سيارته النوبي في قرَف، وهو يلعن كلَّ الكُتب والقصائد في أركان الدنيا الأربعة.

أما (هو)، فقد ظلَّ طوال الليل يُنصت إلى تأوُّهات الزوجة الخائنة، والزوجة الحامل، وقائد السيارة الفحل النوبي المُتمرس، لكنه لم يستطع أن يتبيَّن شيئًا في الظلام الكثيف المُمتد حوله إلى أبعادٍ لانهائية، فمدَّ يدَه محاولًا التعرُّف على موقعه من المكان والظلام بتحسُّس الظلمة، ولكن ذلك كان مُستحيلًا، فكفَّ عن المحاولة، وقرَّر أن يقطع الوقت في استعادة صوت الزوجة الحامل، والزوجة الخائنة، ورابعهم، الذي ظنَّ أنه يُدافع عنه، والاكتفاء بذلك كخيطٍ يربطه بالعالم، ولكن حتى ذلك فشل فيه، إذ آلَمتْه جراحُه، وشقَّ على ظهره المُمزق تحمُّل قسوة الأسفلت الخشن … فأخذ يشغل نفسه باستعادة ما مرَّ به من أحداث خلال يومِه المنصرم، وتخيَّل ما قد يحدُث في اليوم التالي، لكنَّه عجز عن تذكُّر حروف اسمه الأول، فكفَّ عن أي شيء، واستسلم لشعورٍ مؤكَّد بالبراءة، ولإحساسٍ مُمتع بأنه مجرد جزء من كتلة الظلام والصمت التي تحتويه في أحشائها!

•••

استجمع كلَّ ما كان مُقدرًا له من قوة، في مُحاولة أخيرة ليدفع بحسدِه إلى الخارج، لكنه انتفض غاضبًا عندما سمِع الداية العجوز تصرُخ في جزع: راسه كبيرة وقد ينحشر!

أراد أن يحتجَّ، لكن سيلًا جارفًا من القاذورات والدم الفاسد حاصرَه وغمره وأعماه وسدَّ أمامه السبيل، فعجز عن النطق، وكاد أن يختنق.

لكنه لم يستسلِم وأعاد المحاولة بإصرارٍ أكبر، فقد كان يشعُر أنَّ نبض الحياة يغيض من حوله شيئًا فشيئًا، وأن حرارة المقاومة والرغبة في البقاء — وهي زاد الضعفاء والمرضى — قد اقتربت من درجة الصفر.

ومثل فأرٍ قرَّر أن يُغادر السفينة التي كتب عليها الغرق، حاول للمرة الأخيرة، عندما جاء صوت الداية وكأنها تصرُخ به مُشجعة، وهي تجذِبه إلى الخارج: هانت، ساعديني يا «أم هاشم»، شي الله يا «سيدي مجاهد يا أبو عبد الوهاب»، ابنك وطنيبك وحامل رايتك!

ولم تَرُد الأم … فقد كفَّ كل عِرق حي في جسدها عن النبض، في اللحظة نفسها التي استطاع فيها الإفلات، مُنزلقًا كالسمكة الملساء بين ذراعَي الداية الضامِرتَين.

•••

ويذكر، أن يومَها لم ينطق أحد بكلمة تهنئة، فقد كان الحُزن يملأ القلوب، والتسليم لإرادة الله يُخرس كل شيء، فلم ترتفِع زغرودة، أو شهقة فرَح في أي مكانٍ تزفُّ البشرى بوصوله، أو تُهنئ أي إنسانٍ بمقدم ذلك الذي أتى من غياهب الظلمة.

كذلك، يذكر أن أحدًا لم يبك، ولم ترتفع صيحة حُزن واحدة، تنعي تلك التي رحلت، بل سمع أحدهم يقول: أراحت واستراحت.

وكان هذا هو كل ما نطق به ذلك الوجه الذي أطلَّ عليهما بملامح مُحايدة، والذي تعرَّف فيه — فيما بعد — على والده!

لم يُعقب أحد على كلمات الأب، فأعقب قولته بتنهيدةٍ طويلة تنطق بطول العذاب والمُعاناة.