الصباح الذي تكلَّمت فيه الأوراق الرسمية
قال الأحدب مواسيًا: «يعرفون أنك ضعيف الجسم ولن تصمد، لكن صمتك يقتُلهم. سمعنا المأمور يبكي بدموعٍ حقيقية من الغيظ، وهو يتحدَّث عنك في التليفون، رغم أنه كان يُهدد بدفنك حيًّا في الصحراء. أُقسِم لك أن هذا حدث، بعضُنا شاهدَه من الكوة السريَّة، التي صنعها زميلنا في المكاتب، لنُشاهد ما يحدث عندهم! نوع من التسلية … صدقني.»
عاش حياته يثِق بالبشر، ويغفر لبعضهم دناءة الطبع، ولآخرين الخسَّة التي يخلُقها الفقر، ويختلِق المعاذير للصوص، وحتى للقوادين، وبائعي الوهم، وللمُحترفات، لكنه أبدًا لم يجد تبريرًا يصلُح لغفران الخيانة.
ورفض أن يُصدق الأحدب، خوفًا من وطأة عذابٍ جديد.
لكنه مضى معه، فقد كان الباب مفتوحًا والأوامر صريحة، وضحكة الحارس التركي كانت مُفعمة بالرثاء والسخرية، فتجمَّع الأطفال، وتسلَّق بعضهم السياج الحديدي، يَرقُبونه في صمتٍ وحزن، ولمح في عيونهم المريضة، آثار دموعِ صديقِه، ولم يرَ حول أفواههم أيَّ أثرٍ للسخرية، فأحسَّ أن من واجبه أن يُصدِّق مشاعر الأحدب، وإلَّا فسوف يضعف، وسيتمكَّنون منه في غرفة التحقيق.
وحين لمح من بين حديد السياج، طفلًا غلبَه البُكاء، يُجاهد كي يُداري مشاعره ويمسح دموعه، خائفًا أن يُلاحظه أحد الحراس، امتلأ قلبه بالفرح، واستطالت قامته رغم الألَم الحاد في نهاية سلسلته الفقرية … وتدفَّق الشعر في عروقه، دافعًا به إلى تلك المساحة، التي عاش يُفضل دائمًا أن يوازن فيها بين كآبة الحقيقة وابتهاج الحلم.
•••
وشحنَه هذا بقوةٍ هائلة، أخذ يسنُّ عليها أسلحة صمتِه، استعدادًا لتبادُل الطعنات مع ذي السترة الذهبية والشارب التتري الغاضب: ما الذي أتى بك إلى هنا؟ من الذي أرسلكم؟ لحسابِ مَن تعملون، ومن الذي دفع لكم؟ كيف تجرءون على تدنيس مُقدساتنا بأفكاركم؟ ألا تعرفون أن سلطاننا قادر على تحطيم كل مُعارض، فما بالك بمن يعيشون على طعام الغرباء؟ أيها الأحمق، مَواهبك تشفع لك، فتشفَّع. أحلامك سهلة التحقيق، فاطلُب. لا تركب رأسك واركب الفرصة … وإلَّا … اتق شرَّ الحليم! ماذا … ماذا قلت؟
ظل مُثبتًا عينَه الصامتة في جوف عينَيه الخابيتَين المُرهقتَين من السهر والفسوق، أو من ثقل العمامة ذات الطبقات، فازداد قلق المُحقق، وانتابه الاضطراب، فأمرهم بإشارةٍ خفيَّة أن يُعِدُّوه لتبادُل الحديث أولًا.
سحبوه على الأرض إلى حجرة التجهيز على الفور، وخلال الكوَّة السريَّة راقبَه الأطفال وهو يرفض الاستجابة، بل وابتسم لهم، فقد كان يعرف الآن أنهم يُراقبونه، تشجَّع بعضهم وتماسك، ولكن البعض الآخر في الأركان، يعضُّ صخر الجدار مُرتعبًا، بينما راح آخَرون بلا أمل، يقتسِمون سيجارةً رخيصة ملوثة.
أعادوه، فأعاد الرجل ذو السترة الذهبية سؤاله، رغم أنهم ناوَلوه التقرير السلبي عن مدى استجابته لوسائل الإعداد الحديثة، والتي قررت أنها حالة (عدم قابلية فطرية للاعتراف)، وتحتاج لجراحة استئصالٍ عضوية، فتوجَّه الرجل بأسئلته إلى الحارس المَدني المُرافق: متى وصل إلى شواطئنا؟!
قص رسول الملك عليهم كيف عثروا عليه ضعيفًا، خائفًا، جائعًا، لا يقوى على السَّير، عند البئر، يوم ذهبوا لتلقيح خيل السلطان — أطال الله بقاءه.
أخذوه إلى القصر ونظَّفوا جسده، وطهَّروا جِراحه، وحلقوا له شعره وشاربه! وأطعموه أفخر الطعام، وسقَوه ألذَّ الشراب، وجعلوه يدخل المدينة دخول الفاتحين، بعد أن سلَّموا لوالده، حسب القواعد، كلَّ ما يخصُّه من ملابس ونقود، باستمارة صحيحة.
ووعدوه برضاء السلطان وعفوه، وسماحه بتجهيز سفينة ذات أربعين شراعًا تعود به إلى بلاده، مُحملًا بالهدايا السلطانية، ومودَّعًا بالأهازيج الشعبية، لكنه ليس وش نعمة! فقد رفض بغباء وعناد … أن يدُلَّنا على مكان رفاقه، أو يذكُر أسماءهم، وأعلن العِصيان، وانطلق يصرخ في الشوارع الرئيسية المزدحمة بالأجانب والسائحين، مُطلقًا شعاراتٍ بذيئة مُعادية، ويُعلق صحفًا حائطية فاسقة على جدران المدارس والمساجد، وأحدث من الضجيج والصخب ما أزعج أفراس البحر، فرفضت أن تصعد من البحر كعادتها كلَّ عام، لتُضاجع خيل السلطان، ليعمَّ الخير ويجِد الفقراء ما يأكلون … وسمع السلطان اسمَه يتردَّد على لِسان الخلق بلا احترام، بل وفي قلَّةِ أدب، فحطَّ عليه الهمُّ واكتأب، ولم يعُد يضحك كالعادة في وجه وزير الدولة، فقطع الخلَف. وأخذ يُهدد بالويل جميع الغرباء والشعراء وحراس الليل وسيَّاس الخيل وأراذل الناس ووجهاءهم!
حاول الرجل ذو السترة الذهبية جاهدًا، أن يظلَّ بعد كل ما سمع، مُحافظًا على الحياد الجدير بقاضي الشرع وحامي ناموس الكون، فأخذ يقضم قلَم الأحكام في عصبية وقلق، ثم قال: هل كانت كل تلك الأوراق هنالك معه؟
ردَّ المُخبر مؤكدًا: بالتأكيد نعم … ولكن …
لم يُعجب هذا، القاضي، ووجدها تعرقل فكرته، فصاح غاضبًا: ولكن … لماذا؟
فأخذ المخبر المتمرِّس يشرح فكرته في هدوء الواثق: يوم عثرنا عليه بعد طول بحث، لم يكن معه شيء، وهذا أمر طبيعي معهم؛ فلو أنه كان يحمل شيئًا، لَما أثار شكَّ الحراس، لكنَّ مثله صاحب خبرة قديمة، يستطيع أن يُخفي المنشورات السريَّة تحت جلده، هكذا عرفناهم دائمًا، إنهم يتقنون علم الكيمياء والفلك، ويتحدَّثون مع السُّحب ونباتات الصبار، لكن هذا لا ينفع معنا، نحن أمكر منهم، فنحن نعمل حسابهم منذ سنين طويلة … قرون طويلة يا سيدي، نعرف عنهم أكثر مما يعرفون عن أنفسهم، نحن نُراقبه منذ ميلاده — مثل غيره — يوم مَولده قتَل أمَّه، وعندما بلغ الحلم تنكَّر لأبيه، وعندما عرف القراءة أنكر دينَه، ولمَّا أحب، تمرَّغ في كنف الشيطان، وبدَّل كلمات الله وعبد النسوة، وإن استطاع فليُنكر، لكنه لا يجرؤ، فتقارير الأمن وصور البصَّاصين وشرائط القمر الصناعي، تؤكد أي يقين تتبع؛ الشك في ناموسِنا ضياع، والتردُّد استسلام للوسواس الخناس، ولذلك، من أجل اليقين، نُراقب الجميع لإحقاق الحق … فكم من الأعداء ينتظرون الصدفة، لأن الصدفة على طول التاريخ كانت أعدى أعداء الدولة، ومصرع السلاطين … فاطمئن يا سيدي … نحن لا نترُك شيئًا للصدفة أو للتخمين. إن أول رجلٍ قابلناه في القرية أخبرَنا باسمه … ورائحة الزيت المحروق قادتنا إلى بيتِه، ورأينا ما كتبَه المُخلصون على الجدران نكاية فيه … يا للعار، سمِعنا قصصًا يخجل منها اللوطي. فضائح مؤكدة، لا يستطيع حتى إنكارها … انظر … إنه يبتسِم موافقًا ويلتزم الصمت، ظنًّا منه أنه سيستعصي على التجهيز … بينما كان لا يخجل من معاشرة العجائز، لأن هذا أحد مبادئهم. كما أكد لنا العمدة وهو يوزِّع علينا مَصل القوة الذي يعتبرونه سرًّا!
وشاركه القاضي ضحكته طربًا، وهو يُناوله نصيبَه، ويرقُب معه في شبَق جثتها المُسجَّاة بالمشرحة، عارية تمامًا … كان الجسد الغضُّ يبدو دافئًا بالحياة، فأشار القاضي للمُخبر إشارة بذيئة، اهتزَّ لها الواقفون اهتزازةً دنيئة، وضحكوا طربًا، وهم يفحصونها باهتمام!
وسمعتُ القهقهات العابِثة في الفناء، فتجمَّع الأطفال مذعورين واحتمَوا بالزنازين. وجمع الأحدب أشياءه ولفَّها في عجلةٍ ثم دسَّها في مكانها الأمين، خوفًا من حالة الطوارئ التي يعرف بغريزته أنها ستبدأ بحثًا عن الممنوعات وانتقامًا لصمته الحجري.
•••
سرت الضحكات وآهات الرُّعب، عبر الممرَّات المسقوفة بالطوب الأحمر، والمُلطخة بزيت المشاعل وهباب النار ودماء الأسرى، واخترقت جدران القلعة إلى الحواري الضيقة المُجاورة، وظل الصنم هو الآخر صامتًا، يرقُب ما يجري كإلهٍ وثني قديم، دون أن يُثير غيظ أحد! بينما اندفعت جموع الذُّعر والعوام، ترقُص فرحًا في ميادين المدينة، وهي تصرخ بكلماتٍ فاضحة، طالبة الموت لكلِّ من يقرأ كتبًا، بينما رفعت فوق أسنَّة الرماح وعصي المكانس أعضاء تناسُلية مُمزقة ودامية.
وقاد الجند — راكبون وراجلون — جماعات السوقة، وهم يرفعون فوق أسنَّة السيوف رءوس فتيات نوبيَّات وروميَّات ومصريَّات عذارى، مقطوعة الآذان، يتصاعد منها بُخار الدم الحار، وتنطلق عيونها — التي لم يُغمضها أحد — بنظرة الرُّعب الأخيرة اليائسة، التي تزرعها المفاجأة في عيون بريئة. وأطل السلطان المُتمتِّع بحُب الشعب، فزغردت النسوة المُجتمعات فوق أسطح المنازل. ولما تُليت برقيات المُبايعات والتأييد، نثرنَ الورد وماء الزهر أمام موكبه، فمضى يشقُّ الجموع بصعوبة، في جبةٍ سوداء ذات (طرز زركش) ووشاح أخضر وسيف يماني، وسار بين يدَيه قائد عسكره الجديد، الذي حل محلَّ وزيره المقطوع الخلَف، وهو يحمل القبة مُنحنيًا، يُفسح الطريق للموكب، الذي مرَّ بخزانة شمايل والعرقانة، حيث ذبح الأطفال وسط عاصفة الرعب، حتى وصلوا إلى باب سِر القصر الكبير، ليجلس مؤيَّدًا بنصر الله والشعب، على كرسي السلطنة.
وإلى كل جهات البر، انطلق المنادون والمُطبلون يُبشرون بالأمان لكل إنسان … فضج الخلق في الأسواق والمساجد بالدعاء، وفرَّق السلطان الهبات والعطايا على عسكره ورجال حربه، الذين نصروه وساعدوه على قطع دابر الفتنة، وإنقاذ عباد الله المؤمنين وأميرهم ودينهم من الكفرة والملاحِدة ومُعاشري أخواتهم في الحرام. وأعلن السلطان أنه إذا ما استقرَّ الأمر له، فإنه سوف يجعل من أسوان جنة، ويخلِط ماء النيل بالعنبر، ويُصدر عفوًا شاملًا عن كل من كان السلطان السالِف قد سجنهم ظلمًا، ووعد أيضًا بتطييب خاطرهم، وبأن يخلع عليهم الخُلَع الشاهانية.
وعلى الفور تم إلقاء جُثث العذارى والفتيان المارقين إلى الكلاب تحت المُقطم، فظلَّت أصوات القضم والقرقشة مُختلطة بصرخات ألَم وآهات موت، تُسمع خلف الجيوشي! وكان العسكر قد عادوا برءوس الفتنة، فصلبوهم في الرميلة، جماعة بعد جماعة، بعد تجهيزهم بالخوازيق، على دقَّات الطبل وألاعيب المُحبظين والحواة، الذين ظلوا يرقصون في المسافة بين الخوازيق وباب القصر حتى المساء، ثم انطلقوا مع الجند، يقطعون الأشجار ويهدمون البيوت ويخربون بساتين أعداء السلطان، بحثًا عن المنشورات والسلاح، وخوفًا من التجاء المتمردين إليها.
ومات يومها خلق كثير تحت الأنقاض، وتحت سنابك الخيل بلا عدد.
•••
ولكن ما إن حلَّ الليل وأذَّن المؤذن لصلاة العشاء، حتى هبَّت على المدينة رياح سوداء لها رائحةٌ نتنة، ففزع الناس وخرجوا يدعون الله ويطلبون الرحمة، وفاض الرعب، فاستجاروا بالسلطان وحاصروا القصر، ولكنَّ الحرَّاس وجدوه مخنوقًا عاريًا في فراشه، فساد الذُّعر وقرع الطبل ودقَّت الكئوسات.
وأَدخلت النسوة الناجيات أطفالهنَّ الناجِين إلى البيوت التي بقِيت، وأُغلقت أبواب الحواري التي لم تُحرق.
وأفتى شيخ الجامع أنها علامات الساعة، فتاب الناس على يدَيه، آمِلين في عفو الله وغفرانه وهو الغفور الرحيم.
وحلَّ الصمت والترقُّب، وساد سكون مُريب شامل، إلَّا من آهاتٍ يائسة لا تكاد تُبين.
•••
وفي مُنتصف الليل بالضبط، صرخت امرأة مصرية صرخة مُرعبة، سمِعها الناس في جيزة حلوان، كشفت عن بطن ابنها المُنتفخة، فزعقت من الهول؛ الطاعون.
ارتعش قلب الرجل في السترة الذهبية ساعتها، ونظر إلى أسيرِه الصامت في حقد، وهو يعجَب لبقائه حيًّا حتى الآن … فأسرع يُغلق دفاتره وأدواته، وصاح في الحارس غاضبًا، وأمره بالابتعاد بذلك الملعون، وعزلِه في زنزانة التأديب، حتى تنكشِف الغمَّة وتتَّضِح الأمور، ويتبيَّن الخيط الأسود من الخيط الأبيض، ويعرف الخلق إلى أين ستمضي الدنيا في هذه الأيام الصعبة، فهو بالتأكيد لن يفعل شيئًا حتى تصِل إليه الأوامر الجديدة!
