المرسى الأخير!
في فجر اليوم السادس جاءت الإشارة الموعودة، كانت من أحد عملاء رقم «صفر» … شوهدت سفينة تنطبق عليها الأوصاف تدور حول رأس الرجاء الصالح، ستصلكم معلومات أخرى من المحطة التالية إذا كان الاتجاه الذي حددناه صحيحًا.
وتم إبلاغ الشياطين بالإشارة، وبدأ النشاط يدب في المقر السري، كانت كل التفاصيل تدرس بعناية؛ خط سير الطائرة، المحطات التي ستقف فيها، عدد ركابها من الشياطين، احتمالات ما حدث للشياطين الثلاثة الأسرى عند القرصان.
وفي منتصف الليل وصلت الإشارة التالية: السفينة أخذت طريقها إلى البحر الكاريبي.
وعندما أبلغ الشياطين بهذه البرقية قال لهم «أحمد»: إن القرصان يعود إلى حيث عاش جَدُّه «مورجان» الكبير … إنكم لم تنسَوْا طبعًا أن القراصنة كانوا يعيشون في منطقة البحر الكاريبي، حيث كانت أشهر موانئ القراصنة … «جامايكا» … «بربادوس» … «هسبانيولا» … «بهاما» … وغيرها … علينا إذن أن نطير فورًا إلى هذه المنطقة، إن عندي شبه يقين أننا سنجده في إحدى هذه الموانئ.
إلهام: هل تتصور أن يلجأ علنًا إلى موانئ تسيطر عليها قوات حكومية … إن ذلك يعرضه للقبض عليه.
أحمد: لم أقصد ذلك بالطبع، لكن قصدت أن له مخبأ آخر في هذه المنطقة، ربما جزيرة صغيرة من آلاف الجزر المتناثرة في عرض المحيط.
هدى: سيمضي وقت طويل قبل العثور عليه.
أحمد: لا تنسَ أن معهم أجهزة إرسال دقيقة يمكن أن يتصلوا بها، ومشكلة هذه الأجهزة أنها قصيرة المدى، لهذا لا تصل إلينا هنا، ولكن الأجهزة تعمل على مسافة عشرين كيلومترًا، وعلينا أن نطوف حول كل الجزر المنعزلة في هذه المنطقة، وسنجده في إحداها.
باسم: وفي نفس الوقت قد يُخطِرنا أحد أعوان رقم «صفر» بمكان السفينة أو على الأقل باتجاهها.
أحمد: هذا صحيح.
بعد ساعة من هذا الحديث كان الشياطين الخمسة؛ «أحمد»، و«إلهام»، و«ريما»، و«باسم»، و«رشيد» يركبون الطائرة الصغيرة من طراز «جت ستار» ذات التوربينات الأربعة.
•••
في هذا الوقت كانت سفينة القرصان القوية المدججة بالسلاح تنساب تحت ظلام البحر الكاريبي، وقد اقتربت من نهاية رحلتها الطويلة، من شمال أوروبا إلى جنوب أمريكا، وكان الكابتن «مورجان» يقف وحيدًا … تحت سماء سوداء أضاءتها النجوم، يفكِّر فيما حدث له.
لم يكن يصدق أن مجموعة من الأولاد يمكن أن يفعلوا ما عجزت الحكومات عن تحقيقه. لقد استطاع أن يحصل على كنوز الكابتن «مورجان» الشهير، وأن ينقُلها إلى مكان حصين لا يمكن لمخلوق أن يصل إليه، ثم استطاع شراء مدمرة قديمة وتحويلها إلى قلعة متحركة تضج بالقوة، وأعاد أسطورة القراصنة إلى القرن العشرين، كما أنه يقوم بأكبر عمليات سطو في التاريخ بالحصول على شحنات من المواد المشعة، ويبيعها بملايين الجنيهات سرًّا.
فكَّر في أن هذا المجد الذي كان يحلم به قد تلاشى في لحظات، وأحسَّ برغبة رهيبة في الانتقام ممن حطَّموا أسطورته، فترك حاجز المدمرة ونزل مُسرعًا إلى الكابينة، وطلب إرسال الأسرى الثلاثة.
كان الأسرى الثلاثة هم «بو عمير»، و«فهد»، و«قيس» … الذين تسلَّلوا إلى المدمرة حسب الخطة الموضوعة، ولكن الأحداث غيرت كل شيء، ووجدوا أنفسهم أسرى الكابتن «مورجان» الذي عاملهم معاملة القراصنة، فقيَّدهم بالحبال، وألقى بهم في قاع المدمرة، لا يطعمون إلا العيش الجاف والماء القليل، وعندما دخل الثلاثة لم يكن ليتصور أحد أنَّ الشبَّان اللامعين الذين خاضوا عشرات المعارك والمغامرات وقضَوْا على أعتى اللصوص والمجرمين، يمكن أن يتحولوا إلى ثلاثة من الأشباح قد انهارت قوتهم، وبدت عليهم علامات التعب والهزال.
وقف الثلاثة أمام «مورجان»، وقد رُبطوا بحبال غليظة، وقال «بو عمير» بحدة: اسمع يا كابتن «مورجان» … إن المعاملة التي نلقاها منك مهينة لنا، وسوف تدفع ثمن ذلك غاليًا.
نظر إليه «مورجان» باستخفاف وقال: ومَن الذي سيتقاضى الثمن؟
بو عمير: إن لنا زملاء أقوياء.
مورجان: إن زملاءكم لن يصلوا إليكم أبدًا … وإذا كان ذلك العجوز المخرف «جانسن» قد باح لكم بمكاننا فإن مكاني هنا لا يعرفه أحد إلا عدد قليل من رجالي … وهؤلاء من أخلص أعواني وأقواهم.
بو عمير: أؤكد لك يا كابتن «مورجان» … إن أصدقاءنا لن يهدأ لهم بال حتى يصلوا إلينا.
مورجان: إنني في انتظارهم إذا استطاعوا الوصول، وهذا ما أشك فيه، فإذا وصلوا فسوف يكون انتقامي منهم مُروِّعًا، تمامًا كما سأنتقم منكم.
وأخذ «مورجان» يسير في الغرفة قائلًا: سوف أعاملكم معاملة الحيوانات البرية، لقد حاولتم القضاء عليَّ، وواجبي يُحتِّم عليَّ أن أنتقم، وسوف أنتقم على طريقة القراصنة، كما كانوا يفعلون مع عبيدهم.
فهد: وماذا تريد منا الآن؟
مورجان: ليس لك حق في أن تسأل؟
فهد: ليس من الشهامة أن تعامل أسراك بهذه الطريقة.
مورجان: وهل كان من الشهامة أن تُحطِّموا حياتي؟
فهد: إنك خارج على القانون يا كابتن «مورجان»، أنت لص!
دار الكابتن «مورجان» على عقبيه، كأنما لدغته أفعى، وصاح: أنت تناديني باللص أيها التافه … سوف ترى!
ودقَّ «مورجان» جرسًا فحضر بعض الحراس، وطلب منهم اقتياد الثلاثة إلى قاع السفينة، ونزل الشياطين السلالم العالية إلى جوف السفينة بالقرب من غرف الآلات … حيث ترتفع درجة الحرارة ويثقل الهواء.
ارتمى الثلاثة في غرفتهم الحديدية الصغيرة على الأرض، وقال «قيس»: ماذا حدث لرقم «صفر»؟! … ماذا حدث لبقية الشياطين؟! لقد مضى على عملية جزيرة «شتلاند» سبعة أيام دون أن يفكروا في مطاردة هذا القرصان!
فهد: أؤكد لك أنهم يبذلون كل وسعهم، ولكن لا تنسَ يا «قيس» أن هذا الرجل يسير في المحيطات بعيدًا عن خط السير العادي للسفن، بحيث يصعب متابعته.
بو عمير: إن الأمل معقود الآن على ميناء الوصول، فهذه أول مرة تصل فيها السفينة إلى الأرض، ومن الواضح أن سرعة السفينة تنخفض تدريجيًّا، ومعنى ذلك أنهم على وشك الوصول إلى المرسى الأخير.
وفعلًا كانت السفينة تقترب من إحدى الجزر الاستوائية قرب البحر الكاريبي، وقد أوشك الفجر على البزوغ، وفرش الضوء الشاحب شعاعَه على صفحة مياه الكاريبي الزرقاء.
كانت جزيرة غريبة، قد نبتت فيها الأشجار بطريقة وحشية، أخفتها من جميع نواحيها، وبدت ساكنة لا حياة فيها، وكأنما لم تطأها قدم إنسان من قبل، ولكن باقتراب السفينة بدأت الحياة تدب في الجزيرة الساكنة، فقد أسرع عدد من الرجال إلى الميناء المختفي تحت الأشجار، وأضاءوا أنوارًا متقطعة تستدل بها المدمرة على مكان رسوها، وصعد الكابتن «مورجان» الذي قضى أكثر الليل ساهرًا إلى حاجز السفينة يرقب كل شيء بعينين حمراوين، وقد تدلَّت لحيته الطويلة على ذقنه، وأحاط به بعض أعوانه.
أخذت المدمرة تتهادى داخلة إلى الميناء حتى رست تحت مجموعة من الأشجار الاستوائية العالية، وتحركت بعض القوارب الصغيرة إلى ناحية المدمرة، وأخذت بعض الحبال التي ألقاها البحارة، ثم أسرعت مرة أخرى إلى الشاطئ، وأخذت تربط هذه الحبال في أوتاد دُقَّت خصوصًا لتصبح السفينة ملاصقة للشاطئ، مختفية عن العيون تحت الأشجار.
نزل الكابتن «مورجان» إلى الشاطئ، وأسرع إليه بعض الرجال الواقفين، وقال أحدهم: مرحبًا بك يا كابتن في أرض أجدادك!
ردَّ «مورجان»: ليست الأحوال على ما يرام يا «هيلي»، لقد تحطَّم مأوانا في الشمال، وهذا ملاذنا الأخير.
هيلي: كيف حدث هذا يا كابتن؟
مورجان: بالصدفة السيئة، لقد عرف المكان أحد البحارة النرويجيين، ولم يستطع إغلاق فمه، وعندما أرسلنا رجالنا للقضاء عليه كان قد قال الكثير.
هيلي: وبعد … ماذا سنفعل؟
مورجان: لا شيء … سنُوقف نشاطنا فترة من الوقت حتى تسكن الضجة، فمن المؤكد أن العالم كلَّه يبحث عنا الآن.
وسكت «مورجان» لحظات، ونظر إلى رجاله، فرأى في عيونهم الضيق، فهم جميعًا من اللصوص وقُطَّاع الطرق الذين لا يعرفون من الحياة إلا السلب والنهب، قرأ ما يدور برءوسهم، فقال: إن عندي حتى الآن ما يكفينا، وسوف نستأنف نشاطنا قريبًا.
قال ذلك واستدار ماشيًا إلى حيث يوجد قصره الكبير تحت الأشجار، دون أن ينتظر تعليقًا من أحد.