انتقام القرصان!
ظل الشياطين الثلاثة … «بو عمير»، و«فهد»، و«قيس» في قاع السفينة طول الليل ثم طول النهار الثاني، وفي المساء جاء بعض الحراس واقتادوهم دون كلمة واحدة وأنزلوهم إلى الشاطئ، ثم ذهبوا بهم إلى غرفة طعام، وفكُّوا رباطهم وبعد لحظات رأَوْا لأول مرة من أيام طويلة أطباقًا من اللحم والمكرونة تُحمل إليهم.
لم يصدِّقوا عيونهم، ولكن أحد الحراس قال: لقد أمر الكابتن «مورجان» أن تأكلوا جيدًا، ثم تقابلوه بعد ذلك.
دهش الشياطين الثلاثة لهذا التحول المفاجئ في معاملة الكابتن «مورجان» … ولكن ما كان مهمًّا في هذه اللحظة هو أن يأكلوا، وانقضُّوا على أطباق الطعام كالوحوش وهم لا يكادون يُصدقون ما يحدث، وفي دقائق قليلة انتقل كل ما في الصحاف إلى بطونهم … وازدادت دهشتهم عندما حمل إليهم الحراس الفاكهة، ثم أتبعوها بأكواب الشاي. قال «قيس» وهو يتمطَّى: إنني لا أصدِّق نفسي، ماذا حدث للكابتن «مورجان»؟
بو عمير: من المؤكد أنه يضع خطة معينة.
قيس: في الأغلب سيطلب منا أن ننضم إلى قطيع العبيد الذين يعملون في جزيرته.
ولم يَطُل حديثهم، فقد أخذهم الحراس لمقابلة «مورجان»، وساروا عبر دروب الغابة التي بدأ الظلام يغشى أشجارها وشواطئها، وفوجئوا في وسط ساحة متسعة بفيلَّا أنيقة على الطراز الإنجليزي القديم، وقال «فهد»: إنها شبه الفيلات التي كنا نراها في أفلام القراصنة.
بو عمير: إن «مورجان» يعيش في الماضي … إنه يحاول أن يبعث التاريخ من مرقده، وأن يُعيده في الزمن الحاضر.
قيس: إنه مجنون خطر؟
وما حدث بعد ذلك دلَّ على أن «بو عمير» أدرك الحقيقة كاملة … فقد استقبلهم الكابتن «مورجان» وهو يلبس ملابس الفرسان، ولم يكد يراهم حتى تحدَّث على الفور، فقال: إن أمامكم فرصة عظيمة للحرية!
سكت الثلاثة في انتظار أن يُكمل حديثه، فمضى يقول: ليس من عادتي أن أقتل الأسرى الذين يقعون في يدي … إنها طريقة خسيسة لا أرضى عنها، فلا بد للرجل أن يموت في ساحة القتال.
تبادل الثلاثة النظرات دون أن يفهموا ماذا يريد منهم، ولكنه لم يترك وقتًا يضيع، وقال: عندما كان العبيد يهربون في الماضي من أسيادهم، كانت تتم معركة رائعة بين الأسياد والعبيد، فقد كانوا يُطلقون في أعقابهم كلاب الصيد الشرسة، وينطلقون خلفهم على الجياد.
قال «بو عمير» بضيق: ماذا تريد منا بالضبط يا كابتن «مورجان»؟
مورجان: كما قلت الآن … سأمنحكم فرصة عظيمة للحرية … أرجو أن تنتهزوها!
بو عمير: أرجو أن تُوضِّح الأمر أكثر!
مورجان: سأعطي لكل منكم خنجرًا … ثم أترككم تجرون في أنحاء الغابة … وهناك قارب صغير وضعته على الشاطئ … إذا وصلتم إليه قبل أن أصل إليكم فاركبوه واهربوا.
بو عمير: إنك تعاملنا كالحيوانات المتوحشة.
قال «مورجان» بغضب مكتوم: لقد عاملتموني أسوأ من ذلك.
بو عمير: ماذا تريد منا الآن؟
مورجان: أن تتسلموا خناجركم ثم تنطلقوا … وسوف أتبعكم بعد ساعة كاملة … فابتعدوا بأسرع ما تستطيعون.
بو عمير: وإذا رفضنا؟
مورجان: وهل يرفض الإنسان فرصة للحياة والحرية؟
بو عمير: إن العالم المتحضر يرفض مثل هذه الأساليب الوحشية.
مورجان: دعك من العالم المتحضر. إنني أمقته من كل قلبي، إن ما يهمني هو الماضي، الماضي الجميل.
بو عمير: لنفترض أننا سنرفض مغادرة أماكننا الآن.
مورجان: في هذه الحالة ليس أمامي إلَّا أن أسلِّمكم إلى أعواني، إنهم لن يترددوا في إطلاق الرَّصاص عليكم عند أول شجرة، بل إنهم قد يضنُّون بالرصاص ويعلقونكم على مشانق الأشجار.
أدرك الشياطين الثلاثة أنهم أمام مجنون خطر، وإنَّ كشْف المخبأ السري لسفينته في بحر الشمال قد ذهب بالبقية الباقية من عقله، والتفت إليهم «مورجان» قائلًا: سوف أنصحكم نصيحة هامة … مفيدة لكم ولي أيضًا، إن الطرف الجنوبي الغربي من الجزيرة عبارة عن مستنقع خطير، تعيش فيه أخطر الحَيَّات الاستوائية التي يمكن أن تقضيَ عليكم بلدغة واحدة، وفي نفس الوقت ينتشر في الشمال الشرقي أيضًا نوع من الخنازير البرية شديدة التوحش، وأنا لا أريدكم أن تموتوا بغير يدي.
صمت «مورجان» لحظات، ثم قال: والآن انطلقوا.
لم يكن أمام الشياطين الثلاثة بُدٌّ من الخروج، فهناك على الأقل فرصة للحياة ليست متاحة لهم إذا وقعوا في أيدي القراصنة الذين سوف يُعلِّقونهم على المشانق في لحظات.
تسلَّم كل واحد منهم خنجرًا مُقوَّسًا من النوع الذي يستخدم في كسر الأغصان أثناء الجري وسط الأشجار المتشابكة، وخرجوا إلى الليل الاستوائي الحار، حيث تطنُّ عشرات من الهوام منها الناموس المتوحش الذي يهري الأبدان بلدغاته.
قال «بو عمير»: أمامنا ساعة كاملة … وأنا أظن أن هذا المجنون قد وضع القارب الذي أشار إليه عند الطرف الجنوبي الغربي، حتى إذا أفلتنا منه، وقعنا بين أنياب الحَيَّات السامَّة … ولكن من الأفضل أن نُغامر بدلًا من أن يلحَقَ بنا هذا المجنون.
فهد: إذن سوف نتجه إلى الجنوب الغربي.
بو عمير: هذا ما أراه.
قيس: وأنا أوافق.
وبدأ الثلاثة جريهم بين الأشجار، ظلُّوا ساعة يجرون، كان الطعام الذي تناولوه قد أعطاهم بعض القوة، واستعادوا بعض قوتهم التي أضعفها السجن والطعام السيئ … ثم توقَّفوا لاهثي الأنفاس …
وقال «فهد»: يجب ألَّا نفقد أعصابنا، إن الكلاب سوف تشم آثارنا سريعًا، فيجب أن نضع خطة للتغلُّب عليها.
بو عمير: أحسن خطة هي الصعود فوق الأشجار.
قيس: إن هذه أفضل مصيدة نقع فيها بالنسبة ﻟ «مورجان»!
بو عمير: إنني أتصور أنه لن يطلق علينا النار ليلًا إذا لم نكن هدفًا واضحًا بالنسبة له، وبين الأغصان الكثيفة لا أظن أنه سيرانا.
فهد: هناك خطأ ارتكبناه من البداية، لقد سرنا في خط مستقيم ممهَّد تقريبًا … وهو نفس الطريق الذي يسلكه أي شخص يسير في هذه الغابة المخيفة … ومن الأفضل أن نسيرَ في خط متعرِّج.
بو عمير: معك حق … وعلى كل حال، نحن نسبقه الآن بساعة كاملة … وعندنا الوقت لاختيار طريقنا.
وبدأ الثلاثة يجرون في خط متعرج، كانت الطيور تطير فزِعة وهم يقتربون من أوكارها والحيوانات الصغيرة تفرُّ هاربة، وأنواع متعددة من الحشرات الطائرة تصطدم بوجوههم وأجسامهم، وكان أقسى من هذا كله هذا الناموس الذي يلتصق بأجسادهم … ناموس كبير كأنه العناكب، يمتصُّ الدَّم، ويُلهب الجلد، وكان عليهم أن يضربوا وجوههم بأيديهم لطرد هذا العدو المسلح.
تعبوا بعد فترة من الجري … واختاروا مكانًا تحف فيه الأشجار، ونظروا إلى النجوم لتحديد مسارهم …
وقال «قيس»: تعالَوْا نستخدم خطة الثعلب في تضليل مطارديه … لعلكما تذكرانها، لقد تعلمناها في السنة الأولى من دراستنا في «ش. ك. س».
كانوا جميعًا يتذكرونها، الجري في اتجاه ثم العودة في نفس الاتجاه، ثم الانحراف والعودة إلى منتصف الطريق، إن هذا يُخفي آثار أقدامهم، ويُبدِّد رائحتهم ويُثير حيرة المطارِدين.
بدءوا يطبقون الخطة، كانوا يتصرفون كالمجانين، لقد كانت حياتهم رهنًا بما يفعلون، ولم يكن أمامهم حل آخر، فليس هناك من يساعدهم في هذه الجزيرة الاستوائية الحارة.
ظلُّوا يجرون ويرتاحون ويجرون ويرتاحون حتى انقضى جزء كبير من الليل دون أن يسمعوا أثرًا لمطاردهم المجنون … وبدأ نوع من الثقة يتسلل إلى نفوسهم، وكانوا قد أشرفوا على طرف الجزيرة … وقفوا يستردون أنفاسهم …
وقال «بو عمير» بنفَسٍ متقطع: لعلَّ جزءًا من خطة «مورجان» أنه سيعرف أننا سنجري حتى تنقطعَ أنفاسنا، ثم بعدها نصبح فريسةً سهلة له، لهذا يجب أن نرتاح.
قيس: بالإضافة إلى هذا، فنحن الآن قرب الطرف الجنوبي الغربي للجزيرة … حيث توجد الحيَّات، ومن العبث أن ندخل منطقتها ليلًا، فما أسهل أن تنقضَّ علينا دون أن نرى!
فهد: إذن نختار ثلاثة أشجار متقاربة وينام كل واحد منا على فرع في شجرة … ونستيقظ عند أول ضوء لنستأنف جرينا.
وسرعان ما اختاروا ثلاثة أشجار تسلَّقوها كالقِرَدة … وانطرح كل منهم في غصن عريض … وسرعان ما راحوا في سبات عميق.