الموت في كل مكان!
كان «بو عمير» أولَّ من استيقظ من الشياطين الثلاثة، سمع زقزقة العصافير وهي تطير مرة واحدة، وأدرك بذكائه أن العصافير لا تزقزق بهذه الطريقة إذا كانت هادئة، وأن سبب هذا الاضطراب المفاجئ في ضوء الفجر الذي أخذ يتسلَّل بين الأشجار يعني شيئًا واحدًا؛ أن أحدًا يقترب.
وقد صدَقَ حَدْس «بو عمير»، فقد سمع صوت أقدام الجياد وهي تقترب من مكانهم … وأدهشه أنه لم يسمع نباح الكلاب، فكانت مهمته في هذه اللحظة إيقاظ «فهد» و«قيس» وفكَّر لحظات، ثم استخدم مهارته المعروفة في قذف الخنجر … فأمسكه ورفع ذراعه ثم أطلقه كالسهم فاستقرَّ الخنجر بقوة على بعد سنتيمترات قليلة من رأس «فهد» الذي استيقظ على الفور وشاهد الخنجر فعرف كل شيء، ولحسن الحظ لم يكن محتاجًا لأن يفعل نفس الشيء مع «قيس»؛ فقد كان الغصن الذي ينام عليه قريبًا منه … لهذا اكتفى بأن كسَرَ غصنًا، ومدَّه حتى لامس وجه «قيس» الذي استيقظ فورًا.
استخدم الشياطين الثلاثة صوت الوطواط في التفاهم، وكان وقع حوافر الجياد واضحًا رغم أنها تسير على العشب الطري، وبدأ أول فارس من أعوان «مورجان» يتقدَّم وأخذ يدور بحصانه هنا وهناك، ثم صاح: لا أثر لأحد هنا يا كابتن!
ردَّ الكابتن بغضب: أين ذهبت هذه الكلاب اللعينة؟
قال الفارس: لقد خدعنا هؤلاء الأولاد، لقد ساروا في طرقات متعرجة كما يفعل الثعلب … ومضت الكلاب خلف الأثر الزائف …
وكان الشياطين الثلاثة فوق الأشجار يكتمون أنفاسهم في انتظار انتهاء هذا الحوار الذي يحدد مصيرهم … وتنفسوا الصُّعَداء عندما أخذ صوت حوافر الجياد يبتعد، ولكنهم عرفوا أنهم سيعودون بكلابهم، وأن هذه الكلاب لا تُخطئ الأثر، فنزل الثلاثة، وكانوا أفضل حالًا بكثير من الأمس بعد نومهم الطويل، ولكنهم كانوا جوعى … لكنها كانت مشكلة سهلة الحل هذه المرة، فقد كانت الفاكهة البرية تملأ الأشجار، فتناولوا طعامهم من الفاكهة الطازجة، وقال «بو عمير»: سيعودون في خلال ساعة على الأكثر، إن الكلاب سوف تهديهم إلينا … ويجب أن ننصُب فخًّا لهم.
نظر إليه «فهد» و«قيس»، فقال «بو عمير»: هذه الخناجر ستصنع الفخ … سنقطع بعض الأغصان القوية … سنجعل أحدها قوسًا والآخر سهمًا … سننصب هذه الأقواس بين الأشجار ونربطها من طرفيها إلى شجرة … وسنجذبها إلى الخلف بقوة ونضع فيها السهم، ثم نربطها إلى شجرة، فإذا داس أحدهم عليها فسوف ينطلق السهم … ويصيبه!
فهد: سنجعلها عالية حتى تصيب الفارس نفسه وليس الجواد.
بو عمير: بالضبط.
وأسرعوا بإحضار الأغصان، وقاموا بإعداد القوس والسهم، ثم ربطوا القوس بحبال صنعوها من ليف الشجر، وأصبح السهم مُعَدًّا للانطلاق عند أول حركة تقترب منه.
قال «فهد»: إنه سيحذرهم … فسوف يعرفون أنهم يسيرون في الطريق الصحيح خلفنا.
بو عمير: ولكنه سيجعلهم يتحركون بحذر، وسوف يتصورون أننا أعددنا فخاخًا أخرى على طول الطريق.
بدءوا الجري فورًا، وأخذوا يُبعدون الأغصان التي تعترض طريقهم بالخناجر … وبعد نحو نصف ساعة صاح «قيس»: انتبها.
ووقف الجميع وأمامهم على غصن شجرة كانت حية ضخمة تنساب بهدوء من مكان إلى آخر.
وقال «بو عمير»: لم يكذب «مورجان» عندما حذَّرنا من الثعابين … لقد اقتربنا من وادي الحيات فعلًا.
وأنصت الجميع، وقال «فهد»: إننا على مقربة من المحيط … فهل سنجد القارب؟
بو عمير: المهم أن نصل أولًا.
استأنفوا سيرهم، هذه المرة ساروا ببطء، فقد زاد عدد الحيات التي يرونها على أغصان وجذوع الشجر، وأخذت وشوشة المياه تصل إليهم أكثر فأكثر، وكان «بو عمير» يسير في البداية، وخلفه «فهد» ثم «قيس»، وفجأة حدث ما كان مُتوقَّعًا، فقد تدلَّت حيَّة بسرعة أمام «بو عمير»، وقذفت برأسها كالسهم تريد أن تلدغه في وجهه، وكردِّ فِعْل غريزي أبعد «بو عمير» رأسه ووجد عينيه تُطِلَّان على رأس الحية التي فتحت فمها على اتساعه، وأطلقت لسانها ذا الشعب، ولم يُمهلها «بو عمير» أكثر من ذلك، وطوَّح بذراعه في الهواء، وبها الخنجر ثم قطع رقبتها بضربة واحدة.
استأنف الثلاثة سيرهم وقد أصبحوا أكثر حذرًا، وبين الحين والحين كانوا يسمعون صُراخًا غير مفهوم يأتي من أماكن مختلفة من الغابة، كانت زمجرة وحشية لا يُطلقها حيوان مما يعرفون … وبينما وشوشة المياه تقترب إذ فوجئوا بالزمجرة ترتفع وتقترب … ثم برز مصدرها، كان خنزيرًا بريًّا ضخمَ الجثة بشِعَ الشكل، تقفز أنيابُه البارزة إلى الأمام كالحِراب، وكان الخنزير ينقضُّ كل مرة على حية من الحَيَّات ويبتلعها دفعة واحدة … أما الحية التي كانت تقاومه فقد كان يهاجمها بطرق مختلفة حتى يُمزِّقها ثم يبتلعها.
كان منظرًا مقززًا يدعو للرعب، خاصةً عندما لاحظ الخنزير البري وجود الثلاثة، فأخذ يحفر الأرض بحوافره بعنف وهو يطلق زمجرته المرعبة، وعرف الشياطين الثلاثة أنه عدو لا يُستهان به، ماكر وغادر، لا يعرف الرحمة، وأسرع «بو عمير» يقطع غصن شجرة، وأخذ يبريه في شكل الحربة، وكذلك أسرع «فهد» و«قيس»، واستعدَّ كلٌّ منهم في الوقت المناسب … فلم ينتظروا واندفع ناحيتهم كالذبابة، وتراجع الثلاثة حتى أخذوا أوضاعًا مناسبة، وبدأ الخنزير بمهاجمة «فهد» الذي رفع حربته إلى فوق، ثم قفز إلى غصن شجرة غير مرتفع، ووجَّه الحربةَ إلى رأس الخنزير، ولكن الرأس القويَّ الذي يُشبه الصُّلب لم تؤثر فيه هذه الحربة الخشبية، ولكن الخنزير ذهل للحظات، وقد كانت كافية لكي يرسل كلٌّ من «بو عمير» و«قيس» كلٌّ منهما حربتَه إلى بطن الخنزير الذي ظلَّ مُندفِعًا رغمَ إصابته ناحية «فهد» … ولكنه لم يكد يصل إلى الشجرة حتى كانت الإصابتان قد أضعفتا قواه فخرَّ على الأرض وهو يُطلق صيحاتٍ عالية، وسمِع الشياطين الثلاثة صوتًا يشبه سقوط الأمطار على الأرض، وعرفوا معنى هذا الصوت، كان صوت عشرات الأقدام تطأ أرض الغابة.
صاح «بو عمير»: إنه قطيع من الخنازير البرية، لقد سمِعَتْ صوتَ الخنزير الذي صرعناه، نحن في خطر حقيقي.
فهد: اصعدا إلى الأشجار.
وأسرع الثلاثة إلى شجرة كبيرة تسلقوها، وتحقق ظنهم سريعًا، فقد ظهر قطيع من الخنازير البرية المخيفة تحيط بالخنزير الجريح، ولدهشة الثلاثة فوجئوا بالخنازير تنقضُّ على زميلها وتتبارى في تقطيع أوصاله …
وقال «قيس»: خنازير.
بو عمير: يجب أن ننتهز فرصة انشغالها ونهرب، سوف تأتي الكلاب فورًا … إنها سوف تشمُّ رائحة الدم.
نزل الثلاثة مسرعين وأخذوا يجرون دون توقف ناحية صوت المياه، وبعد نحو نصف ساعة أشار «فهد» وهو يلهث إلى بقعة زرقاء وسط خضرة الغابة، وقال لاهثَ الأنفاس: البحر!
اتجهوا ناحية اللون الأزرق، وعندما انحسرت كثافة الأشجار شاهدوا الرمال الصفراء فاتجهوا إليها، ثم استلقَوْا على الرمال الناعمة يلتقطون أنفاسهم المتقطِّعة.
كانت الشمس الاستوائية تغمر الشاطئ بضوئها …
وكان كل شيء يبدو واضحًا … وتقلَّب «بو عمير» في مكانه ونظر بعيدًا ثم صرخ: القارب!
وقفز الثلاثة. كان ثمة قارب متوسط الحجم يلمع تحت ضوء الشمس … وأنستهم الفرحة بالنجاة والأمل في الحياة كلَّ حذر، فاندفعوا كالمجانين ناحية القارب … وفي هذه اللحظة سمعوا نباح الكلاب.
كان النباح قادمًا من طرف الغابة، لا يبعد عنهم أكثر من ثلاثة كيلومترات … وكانت المسافة بينهم وبين القارب تُساوي هذه المسافة تقريبًا … وبدأ السباق بين الإنسان والحيوان … بين الشياطين الثلاثة وكلاب «مورجان» المتوحِّشة … ولم يكن في إمكان أحد منهم أن يتنبَّأ بنهاية هذا السباق الرهيب، سباق الحياة والموت، واستعدَّ الشياطين بالخناجر … وقال «بو عمير» وهو يلهث ويجري: سأبقى لأكون آخر واحد فينا … اركبا القارب، ولا تنظرا لما سيحدث خلفكما … سأتولَّى أنا أمرَ الكلاب.
أخذ «قيس» و«فهد» يحتجَّان وهما يجريان، وأخذ الثلاثة يقتربون من القارب، بينما ظهرت الكلاب الشرسة قادمة من بعيد، كانت من نوع «الوولف» الضخم، وقد كشرت أنيابها استعدادًا للانقضاض على الثلاثة، وظهر عدد من الرجال خلفها يركبون الجياد، بينما وقف «بو عمير» وحده تحت الشمس وأمسك بخنجره، وكان عليه وحده أن يصدَّ القادمين بينما ينجو «فهد» و«قيس» وحدهما.