عندما يأتي الموت من بعيد!
بدأت الجياد والكلاب تقترب من «بو عمير» الذي وقف وحده، لم يعد بينه وبينها سوى بضع عشرات من الأمتار، وعرف أن النهاية قد اقتربت، ولكنه كان يفدي زميلين من زملائه، وهذا واجبه حتى النهاية، وبدأت المسافة تضيق وتضيق، عندما سمع الجميع صوتًا خفيفًا يأتي من بعيد، صوتًا رنَّ في الصمت الاستوائي الواسع، وبدت نقطة سوداء في الأفق آتية من قلب المحيط، وتوقَّف الجميع، وعرف الجميع، كانت طائرة … ولم تكن أيَّ طائرة … لقد كانت «الجت ستار» التي يقودها «أحمد» ومعه خمسة من الشياطين … وكأنما أراد «أحمد» أن يؤكد تفوُّقه من الجو؛ فقد أطلق قذيفة صاروخية طارت فوق رأس الجميع، وانفجرت في الغابة، وهتف «مورجان» برجاله: ادخلوا الغابة!
ونادى الحراس على الكلاب التي كادت تنقضُّ على «بو عمير» فتراجعت وقد أرخت ذيولها، وبدت لحظة لا مثيل لها … الطائرة تحوم فوق المكان وقد هرب القرصان وأعوانه.
دار «أحمد» بالطائرة دورة واسعة، واستخدم المعدات التي أضيفت إليها لتهبط في أي مكان، فهبط على الشاطئ الرملي، وراقب الشياطين الثلاثة الطائرة وهي تنزل بطريقة ناعمة كأنها تنزل في مطار حديث.
وقال «بو عمير» الذي انضمَّ إلى زميليه: يا له من طيار بارع!
توقَّفت الطائرة تمامًا عند طرف الغابة، وفتحت الأبواب، وقفز الشياطين الخمسة الذين بها، كلٌّ منهم يحمل مدفعه الرشَّاش، وكانت لحظات لا تُنسى تلك التي اندفع فيها الشياطين الثلاثة، «بو عمير» و«فهد» و«قيس» ناحية الطائرة، كانوا يحسون أنهم خرجوا من موت أكيد إلى الحياة بعد أيام طويلة في سجن السفينة القذر، والغابة المخيفة.
قال «بو عمير» وهو يصافح «أحمد»: كيف وصلت؟
أحمد: كنا نعتمد على الأجهزة اللاسلكية التي معكم في الوصول إليكم، ولكنَّ الذي أوصلنا هو أحد أعوان رقم «صفر» ممن يعيشون في هذه المناطق.
بو عمير: وكيف حددتم اتجاه السفينة من بحر الشمال إلى هنا؟
أحمد: بواسطة أعوان رقم «صفر» أيضًا.
كان الشياطين جميعًا يتحدثون معًا … وقال «أحمد» وهو يرفع يده: لقد نسيتم أننا في مكان يسيطر عليه القراصنة، يجب أن نضع خطة على الفور، فما هي معلوماتكم عن مكان السفينة وعدد القراصنة؟
قال «فهد»: السفينة موجودة في خليج طبيعي في الجنوب الشرقي للجزيرة … أي في خط مستقيم من هنا إلى الشاطئ الآخر.
أحمد: شيء مدهش … إننا لم نرها من الطائرة.
فهد: لأنها مخفية بمهارة تحت سياج من الأشجار العالية.
أحمد: وعدد القراصنة؟
فهد: من الصعب معرفة العدد … ولكن فيما يهم العدد؟
إلهام: معك حق … سوف نهاجمهم من الجو … المهم هي السفينة والكابتن «مورجان».
أحمد: ولكن كيف نهاجمها من الجو وهي مختفية تحت الأشجار؟! إن تحديد مكانها مسألة صعبة.
صمت الشياطين أمام هذه الحُجَّة القوية، وقال «بو عمير»: إنني أعتقد أنه سيخرج إلى البحر فورًا … إنه سيهرب كعادته.
أحمد: من الصعب أن يهرب في هذا الضوء القوي، إن الهرب سهل في بحر الشمال، حيث الضباب والأمطار، وفي إمكانه هناك — كما كان يفعل — أن يُطلق سحابة من الدخان تخفيه، ولكن هذا لن يجديه هنا … وفي إمكاننا مهاجمته.
قيس: لا تنسوا أنها مدمرة مجهزة بمدافع مضادة للطائرات، ومن السهل عليهم أن يدخلوا معنا معركة لا يمكن حساب نتائجها.
وفجأة سمعوا صوت طلقات رَصاص قادمة من الغابة، عرفوا أن «مورجان» كان يفكر مثلهم في أفضل الطرق للهجوم عليهم. وأنه اختار أن يصطادهم على الساحل الرملي المكشوف.
وارتمى الشياطين على الرمال، وبدأ حمَلَةُ الرشاشات منهم الضربَ المركز على المنطقة الكثيفة التي صدرت منها الطلقات، واستمرَّ الضرب بين الجانبين، ثم لاحظ «أحمد» أن بعض أعوان «مورجان» قد ركبوا الأشجار العالية … وأخذوا يحاولون القيام بدور القناصة، وصاح «أحمد»: إنهم يستخدمون بنادق بها تلسكوب لضبط الضرب … إنهم أكثر دقة في التصويب الآن.
وأشار «أحمد» إلى «بو عمير» وأخذا يزحفان على الرمال حتى قاما بدورة واسعة واقتربا من حيث يوجد القناصة، ثم فتحا مدفعيهما الرشاشين على الأشجار … وسرعان ما صدرت صرخات، وتوقف الضرب لحظات، ولكن كان واضحًا أن «مورجان» يضع خططًا بديلة في كل لحظة، فقد اشتدَّ الضرب على «أحمد» و«بو عمير» من الغابة، ثم شاهدا من بعيد ثلاثة من الرجال يحاولون الالتفاف حولهما، هكذا تَوزَّع انتباهها بين الضرب من الغابة وهؤلاء القادمين.
قال «أحمد»: إنهم سيُحيطون بنا، ولا نستطيع التقهقر لأننا سنكون مكشوفين للضرب.
بو عمير: ضع ظهرك في ظهري، اضرب أنت على من في الغابة، وسأقوم أنا بمواجهة القادمين.
نفَّذا فورًا الخطة … وامتلأ الجو بطلقات الرصاص المتطايرة كأنها ساحة قتال، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، لقد سمع الجميع صوتًا رهيبًا غطَّى على صوت طلقات الرصاص، لقد انفجرت قنبلة على الشاطئ، ونظر الجميع إلى مصدر القنبلة، وبدت مدمرة القرصان على بعد نحو خمسة كيلومترات من الشاطئ، وقد أخذت تصبُّ نيران مدافعها القوية على الشاطئ.
صاح «بو عمير»: إنهم سيُحطِّمون الطائرة.
ولم يتردد «أحمد»، قام واقفًا وأسرع يجري إلى الطائرة، كان يجري ووجهه للمهاجمين وكذلك فعل «بو عمير» وتبعهم بعد لحظات جميع الشياطين، وظهر المهاجمون من الغابة يجرون نحوهم، كانوا بين قوسين من ضَرْب الرَّصاص وضَرْب قنابل المدمرة، وإذا أصابت مدفعية المدمرة الطائرة بطلقة واحدة لحطَّمتها وانتهى كل شيء، وحُوصر الشياطين في الجزيرة وانتهى أمرهم.
كانت قنابل المدمرة تقترب تدريجيًّا من الطائرة … وكان واضحًا أنهم يصححون الضرب بعد كل طلقة.
وقفز الشياطين إلى الطائرة، ثم أدار «أحمد» المحركات … وأخذت الطائرة تجري على الرمال والمهاجمون يتقدمون، وقنابل المدمرة تنهال قرب الطائرة فتقفز في كل مرة وتكاد تنقلب.
ولكن «أحمد» نجح في النهاية في الصعود بها إلى الجو، وبدأت المدمرة تطارده بقنابلها قبل أن يتمكَّن من مهاجمتها، ولكن «أحمد» ابتعد عن نطاق الضرب سريعًا ثم دار دورةً واسعة وقال ﻟ «بو عمير»: سوف أهبط تحت مستوى الضرب … سأطير فوق سطح المياه ثم أضربها بالصواريخ.
ونفَّذ «أحمد» خطته البارعة؛ هبط دون مستوى مدفعية المدمرة التي استدارت وحاولت الهرب، ولكنه هبط تدريجيًّا حتى أصبح يطير على ارتفاع عشرة أمتار فقط فوق مياه المحيط. وأخذ يقترب ويقترب حتى أصبح على بعد أقل من ٥٠٠ متر فقط من المدمرة، ثم أطلق صاروخين اندفعا بقوة، وأصابا المدمرة إصابة مباشرة فانفجر جانبها المواجه للمحيط. وارتفع الماء حولها وأخذت تترنح، ولم ينتظر «أحمد»، طار عاليًا ودار ثم عاد وهبط عليها عموديًّا، وأطلق صاروخين آخرين واهتزت المدمرة بعنف، ثم انفجر مخزن الوقود فيها وأخذت تغرق تدريجيًّا.
قال «بو عمير»: هل سنعود للجزيرة؟
أحمد: هذه ليست مهمتنا، لقد قضينا على مأوى القرصان في بحر الشمال، ثم في البحر الكاريبي، وحطَّمْنا سفينَته التي اعتمد عليها في مغامراته الإجرامية.
بو عمير: وما هي خطتنا؟
أحمد: إن ما معنا من الوقود يكفينا للعودة إلى «هافانا» … عاصمة «كوبا» … من هناك سوف نتصل برقم «صفر» … وسيقوم هو بإخطار الحكومات التي يهمها الأمر لتطهير الجزيرة ممن فيها من اللصوص والقراصنة.
ودارت الطائرة دورةً أخيرةً فوق المدمرة التي ابتلعتها المياه … وتبادل الشياطين النظرات ثم ابتسموا … وأخذت الطائرة الصغيرة طريقها إلى «هافانا».