الفصل الثالث عشر
بعد نحو أربعة أشهر ونصف من إلقاء القبض عليَّ نُودي اسمي في مكبر الصوت.
– «مارينا مرادي بخت، ارتدي الحجاب وتعالي إلى المكتب.»
لم أدرِ سبب الاستدعاء؛ ربما افتقدني حامد مرة أخرى. غطيت شعري بالشال وذهبت إلى المكتب.
استقبلتني الأخت مريم بابتسامة وقالت: «لقد عاد الأخ علي، وسأل عنك.»
وضعت العصابة وتبعتها إلى مبنى آخر حيث انتظرت في الممر. شعرت بأن أنفاسي تقف كالحجارة في حلقي.
سمعت صوت علي: «مارينا، اتبعيني!» فتبعته. أغلق الباب خلفنا وطلب مني أن أجلس وأخلع العصابة. بدا لي أطول قليلًا مما أتذكر؛ ربما لأنه فقد بعض الوزن.
نظرت حولي؛ كنا في غرفة بلا نوافذ، وبلا فراش للتعذيب، وعلى أحد الحوائط صورة آية الله الخميني؛ ذلك الرجل الذي أخبرني عليٌّ بأنه أعطى الأمر بإنقاذ حياتي؛ حاجباه الداكنان معقودان، يقطب جبينه وعيناه تحدقان في بغضب شديد. بدا لي عجوزًا وضيعًا. وبجوار صورة الخميني صورة أخرى للرئيس آية الله خامنئي الذي كانت ملامح وجهه تشي بالطيبة مقارنة بالإمام.
أحضر عليٌّ مقعدًا من خلف مكتب معدني وهو يعرج، وأخذ يتفحص وجهي بعينيه. كدت أنسى شكله. كان مصابًا بندبة حديثة على خده الأيمن.
– «تبدين أفضل كثيرًا من آخر مرة رأيتك فيها. كيف حالك؟»
– «بخير. وأنت؟»
– «هل هذا السؤال من باب الأدب أم أنك تودين أن تعرفي أخباري حقًّا؟»
قلت: «بل أود أن أعرف.» دون أن أعني ذلك. كل ما أردت هو الخروج من تلك الغرفة، والعودة إلى «٢٤٦».
أخبرني أنه قضى أربعة أشهر في الجبهة يقاتل العراقيين، لكنه عاد بعدما أصيب في ساقه بطلق ناري. قلت إنني آسفة لسماع ذلك، وهو ما كنت أعنيه حقًّا. لم أتمنَّ له أو لغيره الأذى قط.
تفحصني باهتمام، واتخذتْ ابتسامته طابعًا جديًّا.
– «مارينا، عليَّ أن أتحدث معك في أمر مهم. أريدك أن تنصتي لي جيدًا وألا تقاطعيني حتى أنتهي من كلامي.»
أومأت وقد اعترتني الحيرة. قال إن السبب الأساسي الذي دعاه لمغادرة «إيفين» هو رغبته في الابتعاد عني. كان يظن أن عدم رؤيتي سيغير من مشاعره تجاهي، لكن ذلك لم يحدث. أخبرني أيضًا أن مشاعره تحركت نحوي منذ اللحظة الأولى التي التقينا فيها، وأنه حاول أن يتجاهل تلك المشاعر، لكن ذلك لم يزدها إلا قوة. وفي تلك الليلة التي اقتادني فيها إلى الحمام شعر أن عليه إنقاذي بأي ثمن، وهو ما جعله يشعر بالخوف الشديد. وعندما لم أخرج من الحمام ناداني لكنني لم أُجِب، فدخل كي يرى ماذا حدث فوجدني ملقاة على الأرض. وللحظة ظن أنني مت، ولكنه عندما تحسس نبضي أدرك أنني ما زلت على قيد الحياة. علم أن اسمي مدرج في قوائم الإعدام، وأن حامدًا يكرهني. حاول التفاوض مع حامد، لكنه لم يستمع إليه. السبيل الوحيد كي ينقذ حياتي هو الذهاب إلى آية الله الخميني صديق والده المقرب منذ سنوات، وبالفعل ذهب إليه وتوسل إليه كي يعفو عني، موضحًا له أني فتاة قليلة الخبرة أحتاج فرصة كي تتغير أفكاري. أخبره آية الله بأن التهم الموجهة لي خطيرة بما يكفي لأن تضعني على قائمة المحكوم عليهم بالإعدام، لكنه ظل يتوسل إليه، وفي النهاية وافق آية الله على تخفيف الحكم الصادر ضدي إلى السجن مدى الحياة، فهرع عليٌّ إلى «إيفين» وسأل الحرس عن مكاني، فأخبروه بأن حامدًا اقتادني لتنفيذ حكم الإعدام، فدعا الله وأسرع إلى مكان تنفيذ الحكم.
شعرت بموجة من الذعر تجتاحني.
قال إنه بعد الحديث مع آية الله قرر أن يرسلني إلى «٢٤٦» مرة أخرى ويرحل بعيدًا. فما دمت قد حصلت على عفو الإمام، لن يستطيع حامد أن يؤذيني. حاول أن ينساني، لكنه وجد نفسه يفكر في طوال الوقت، وسُرَّ عندما أصيب بطلق ناري، لأنه وجد سببًا كي يعود. كان والده يخبره دائمًا أن يؤجل اتخاذ القرارات المهمة في حياته حتى اليوم التالي ويفكر فيها جيدًا، وقال إنه أجَّل قرار الزواج بي وظل يفكر فيه أكثر من أربعة أشهر، وفي نهاية الأمر اتخذ قراره.
قال: «أريد الزواج منك يا مارينا، وأعدك أن أكون زوجًا صالحًا وأن أعتني بك. لا تجيبي الآن. أريدك أن تفكري جيدًا.»
حاولت أن أفهم ما سمعته، لكنني لم أستطع، فالكلام خلا من كل منطق. كيف يمكنه أن يفكر في الزواج بي؟ لا أود الزواج منه، بل لا أرغب في البقاء معه في نفس الغرفة.
قلت بصوت مرتعش: «عليكَ أن تفهم يا علي أنني لا أستطيع أن أتزوجك.»
– «ولمَ لا؟»
– «لأسباب عديدة.»
– «أنا على استعداد لسماعها، ولا تنسي أنني فكرت في ذلك الأمر شهورًا طويلة، ولكن من يدري، فربما نسيتُ شيئًا. هيا أخبريني بكل الأسباب التي تمنعك.»
– «أنا لا أحبك، ولست لك.»
– «لا أتوقع منك أن تحبيني، فالحب سيأتي مع الوقت، بعد أن تمنحيني الفرصة. تقولين إنك لست لي، لمن أنت إذن؟ لأندريه؟»
تسارعت أنفاسي. كيف علم بأمر أندريه؟
أخبرني أني كنت نائمة ذات مرة وسمعني أتلفظ باسم أندريه أثناء نومي، فأجرى بعض البحث وعرف من يكون أندريه وأين يسكن. ومع أن أندريه لم يكن له ملف سياسي، فبوسع علي أن يعد له واحدًا إذا اضطر إلى ذلك.
مع أني أعلم أني أتحدث أثناء نومي أحيانًا، فلم أستطع أن أصدق ما قاله. ربما كان يراقبني قبل إلقاء القبض عليَّ وهكذا علم بأمر أندريه. رباه! لقد تسببت في توريط أندريه في هذا الأمر. ماذا عساي أن أفعل؟
سألني علي: «هل تريدين رؤيته هنا؟ ربما تودين رؤيته على فراش التعذيب. دعيه يواصل حياته، وعليك أن تتقبلي حقيقة أن حياتك قد تغيرت تمامًا بعد القبض عليك. ولا تنسي والديك أيضًا، فأنا على يقين أنك لا ترغبين في تعريضهما للخطر. لماذا تجعلينهما يدفعان الثمن؟ أعدك أنك ستنعمين بالسعادة معي، وستتعلمين كيف تحبينني.»
أخبرته بأنه لا يملك الحق في ذلك، ولكنه أجابني بأنه يملك هذا الحق، وأني ربما أكون قد نسيت أنه أنقذني من الموت المحقق. بوصفي عدوة للإسلام لم أكن أملك أي حقوق. كان يظن أنه يسدي لي معروفًا، وأنني لا أدرك مصلحتي جيدًا.
حاولت يائسة البحث عن مهرب. يبدو أن موتي سيحل مشاكل كثيرة.
انتزعني صوته من أفكاري: «أنا أعرفك جيدًا، وأعرف فيمَ تفكرين الآن؛ تفكرين في الانتحار. يمكنني أن أرى ذلك في عينيك، لكنني أعلم أيضًا أنك لن تفعلي ذلك، فلستِ ممن يستسلمون، فهذا ليس من شيمك. أنت مقاتلة بطبيعتك مثلي. تحرري من أسر الماضي، وسوف نحيا حياة رائعة معًا. وعليك أن تعرفي أنك لو آذيت نفسك عن عمد، فسوف أعدم أندريه. سوف يدفع الثمن بدلًا منك.»
كيف يمكنني أن أحيا حياة «رائعة» معه وهو يهددني بإعدام أندريه والقبض على والديَّ؟
– «سأمهلك ثلاثة أيام حتى تفكري، ولكن تذكري ألا ترتكبي أي حماقة، فأنا جاد بشأن كل كلمة قلتها.»
لقد عرَّضت أندريه ووالديَّ للخطر، وعليَّ أن أفعل كل ما بوسعي لحمايتهم، وعليَّ أن أتذكر أيضًا أنني أقضي حكمًا بالسجن مدى الحياة، وليس لي من مهرب. كدت أتمنى لو أني لم أقابل أندريه قط.