حوار مع مارينا نعمت
لم أخطط لأي شيء؛ كنت أشبه ببركان خامل انفجر بعد سنوات طويلة. كتبت أولًا أجزاء متفرقة من ذكرياتي، ثم شعرت بالحاجة إلى تنظيمها فبدأت أكتب وفق الترتيب الزمني للأحداث. كان عليَّ أن أسترجع خطواتي، ولم يكن لديَّ ما أعتمد عليه سوى ذاكرتي، ولكنني أدركت أن بوسعي الاعتماد عليها، فالأحداث المؤلمة المؤثرة لا تمحى من الذاكرة أبدًا.
لم أندم على هذا القرار قط، بل شعرت كأني في غيبوبة حتى بدأتُ الكتابة؛ كأني أسير نائمة منذ عدة سنوات. منذ إطلاق سراحي من السجن وحتى بدأتُ كتابة قصتي، بدا لي العالم بعيدًا غامضًا، كنت قد أصبحت مجرد قوقعة تضم شخصيتي الأصلية، وفور أن بدأت الحديث والكتابة عن ذلك الأمر، ومع أنه كان شديد الصعوبة والإيلام، شعرت أخيرًا بأنني حية. ولا شك أن كل ذلك قد أثر على علاقتي بزوجي؛ فليس لديَّ الآن ما أخفيه، ولم أعد أشعر بالذنب لإخفائي الحقيقة. لقد انزاح من فوق كاهلي ثقل الصمت. بعد أن قرأ أندريه المخطوطة، نظر إليَّ كأنه يراني للمرة الأولى، ولكنه تفهَّم سبب صمتي وأهمية سرد قصتي. أبنائي أيضًا شعروا بالتغيير الذي حدث، وأعتقد أنهم يشعرون بالسعادة لعودتي إلى نفسي الحقيقية.
كنت أحمل ذاتي المراهقة داخلي طوال الوقت كما قلت سابقًا، كأني في غيبوبة، وكان النوم ملاذي دائمًا، وأعتقد أنني توصلت إلى أن جانبًا مني قرر ألا يستيقظ أبدًا، ولكن جسدي ظل يعمل كالمعتاد، ويتظاهر كالجميع بأن كل شيء على ما يرام. أعتقد أنني نضجت نوعًا ما في سن الثالثة عشرة عندما اندلعت الثورة وفقدتُ أراش، فالصدمة والحزن يرهفان حدة الذاكرة إلى حد مزعج، لكن ردود أفعال من يعانون متلازمة اضطراب ما بعد الصدمة تختلف، فبعضهم لا يستطيع النسيان ويصاب بالكوابيس والاكتئاب، والبعض الآخر يغلق صندوق ذكرياته ويظن أنه قد نسي الماضي، لكن الحقيقة أن تلك الذكريات لا تُمحى، ولا بد للمرء أن يواجهها كي ينجو منها. عندما واتتني الجرأة لفعل ذلك استحوذتْ عليَّ ذاتي المراهقة وفعلتْ ما كانت تتوق إلى فعله، ومع أن نظرتي للعالم قد أصبحت أكثر نضجًا، فإنني لم أتغير كثيرًا عما كنت عليه وأنا في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة؛ الفرق الوحيد أني أصبحت أكثر فهمًا لنفسي وثقة بها.
كنت في السابعة عشرة عندما أُجبرت على اعتناق الإسلام، وكان إيماني جزءًا مهمًّا من شخصيتي دائمًا، فكنت أقرأ طوال حياتي قصصًا خيالية يؤيد فيها الأبطال الخير والصواب ويرفضون الاستسلام، واعتقدتُ أنني خنت الله عندما تحولت عن ديني، مما جعلني أدرك أنني لست بطلة، فشعرت بالخزي، ورغبت في أن يصيبني عقاب الله وغضبه لأنني شعرت بأنني أستحقه. أنا كاثوليكية، وهو المذهب الوحيد الذي كنت وما زلت أعتنقه فعليًّا، ولكني أفضل القول إني مسيحية، فأنا أؤمن بالحب والتسامح. أكنُّ احترامًا جمًّا للإسلام أيضًا، والعديد من أصدقائي الرائعين مسلمون. في العصور الوسطى ارتُكبت فظائع كثيرة باسم المسيح والمسيحية، لكن هذا لا يجعل من المسيحية دين عنف، وأعتقد أن نفس الشيء ينطبق على الإسلام.
لا أعتقد أن ناجيًا من الموت يمكنه أن يتغلب على الشعور بالذنب، لكنني واجهته. أشعر بالذنب لأني عشت في الوقت الذي مات فيه كثيرون. هل كنت أستحق الحياة أكثر منهم؟ كلا. هل كانوا يستحقون الموت؟ كلا. ظللت أعوامًا عديدة أحاول الهروب من هذا الشعور بالذنب، حتى أدركت ذات يوم أن عليَّ أن أستدير وأن أواجهه بعيون مفتوحة. نعم، حياتي تخصهم، وتلك هي الطريقة الوحيدة التي تجعل لحياتي معنى، فقد عشت كي أتأكد من أن أحدًا لن ينساهم.
حتى الأشخاص «الطبيعيون» يصيبهم الارتباك أحيانًا بشأن علاقاتهم، وما زال يلتبس عليَّ الأمر بشأن مشاعري تجاه عليٍّ، فقد أنقذني من الموت وأحبني بطريقته الخاصة وهددني وتزوجني واغتصبني واعتنى بي وانتزعني من كل ما أحبه ومنحني عائلة مساندة لي لم أحظَ بها قط، ثم أنقذني مرة أخرى وهو يحتضر. وأثناء الكتابة حاولت جاهدة أن أجعل القارئ يشعر بما مررت به، لا عن طريق الاستنتاجات وإصدار الأحكام، ولكن عن طريق رواية الأحداث ورسم خريطة المشاعر الإنسانية المعقدة التي غالبًا ما تقدم لنا المزيد من الأسئلة لا الإجابات.
أحببتهم لأنهم منحوني الحب والدعم في عالم بارد مظلم. كنت فتاة صغيرة متلهفة على الحب والاستقرار، لكن حبي لهم لم يمدني بأي أمل في المستقبل؛ على الأقل ليس المستقبل الذي كنت أتمناه لنفسي. في بداية الأمر كنت كمن يغرق في الرمال المتحركة، فقد قاومت الشعور بحبهم، لكن ما إن أحببتهم حتى اكتشفت أن هناك متنفسًا، وهو ما أربكني إلى حد تعجز الكلمات عن وصفه.
لقد شعرت بتأثير جدتي عليَّ كثيرًا، فمنذ أن ترجمتُ قصتها شعرت بأنني أحيا حياتها مرة أخرى بطريقة ما، لكني أعتقد أنني حصلت على فرصة لتحسين الأوضاع، وأعتقد أنني كنت سأكتب قصتي حتى لو لم تكن قد أعطتني قصتها، فطالما كان الأدب جزءًا مهمًّا من حياتي.
طالما كان حبنا بريئًا، ولم يكن مخططًا له أو مقصودًا بأي شكل. حالتنا مختلفة، ومنذ أن التقينا أدركنا أن أحدنا ينتمي إلى الآخر. أثناء وجودي في «إيفين» كان حبي لأندريه طاقة النور الوحيدة التي تمدني بالأمل وسط الظلام الدامس. كان هو الشيء الوحيد الذي أملكه وأثق به، لكن مع كل هذا، ومع أنني لم أجرؤ على الاعتراف لنفسي بذلك صراحة، فقد أدركت وأنا عائدة إلى المنزل بعد خروجي من «إيفين» أن هناك احتمالًا ألا يرغب في بعد الآن. كان وجوده في الكنيسة عندما اصطحبني عليٌّ للزيارة هو ما منحني الأمل، فقد اختار أندريه أن يذهب إلى هناك لأنه أراد ذلك، لا لأنه اضطر إلى ذلك، وهو تصرف شجاع منه. أصعب ما واجهناه في استئناف علاقتنا بعد خروجي من السجن أنني لم أستطع إخباره بحقيقة ما حدث لي في «إيفين»، فكانت هناك أسرار بيننا، وهناك جزء مني لا يعلم عنه شيئًا على الإطلاق، لكن بدا لي أن أحدًا لا يريد معرفة أي شيء عن الماضي، فتظاهرت بألا مشكلة في الاحتفاظ به لنفسي.
بالفعل، شعرت بأن مغادرة إيران وداع أبدي، وراودني شعور بأنني لن أتمكن من العودة أبدًا، ليس لأنني لن أرغب في ذلك، ولكن لأنه لن يُسمح لي بذلك على الأقل دون أن أتعرض للسجن. ظللت على اتصال بوالديَّ، ولكنني توقفت عن الاتصال بأصدقائي، لأنني لم أرغب في جلب المتاعب لأحد. ما زلت أزور إيران كل ليلة تقريبًا في أحلامي، فأذهب إلى منزل أسرتي الصيفي الذي يطل على بحر «قزوين» كما كنت أفعل في الأيام الخوالي، وألتقي بأصدقائي الذين ماتوا منذ أعوام طويلة والذين فقدت أخبارهم منذ زمن بعيد. توفيت أمي في مارس من عام ٢٠٠٠، وغالبًا ما تزورني أيضًا في الأحلام، حيث أتجول حول المنزل وأجلس على «صخرة الصلاة» وأشاهد غروب الشمس وأنا واقفة على الشاطئ.
بعد أن قضيت خمسة عشر عامًا في كندا، يضايقني أن الناس لا يعرفون سوى القليل عن حياة الآخرين في دول أخرى. يتصدر الشرق الأوسط دائمًا عناوين الأخبار، ولكن ما لا يدركه الناس أن الضحايا الذين يشاهدونهم على شاشات التلفاز بشر مثلهم لهم أحباء ينتظرونهم، فهم إما أزواج أو زوجات أو أمهات أو آباء أو أشقاء أو شقيقات أو أبناء، والتجربة الإنسانية هي الأهم، وما لم يعترف الجميع بتلك التجربة التي غالبًا ما تكون صادمة في معظم أنحاء الشرق الأوسط ويتعاملون معها معاملة إنسانية رحيمة، فسوف تتحول إلى شعور بالغضب والكراهية والعنف وتقضي على العالم تدريجيًّا بمرور الوقت. قصتي هي قصة جيل الثورة الإسلامية، أو بالأحرى الجزء غير المروي منها. إنها قصة المراهقين الذين رغبوا في أن يجعلوا إيران مكانًا أفضل ولكنهم سقطوا بعدها في شراك حريق هائل خرج عن السيطرة وجلب لهم السجن والتعذيب والموت بدلًا من الحرية والديمقراطية، بينما ظل العالم يشاهد الأحداث في صمت. أولًا، أود أن تصبح قصتي تخليدًا لذكرى قتلى الثورة الإسلامية، قبل قيامها وخلاله وبعد أن قامت، وقبل كل ذلك تشجيعًا لكل الناجين من «إيفين» على الخروج عن صمتهم والحديث عما جرى لهم. لا أمثل السجناء السياسيين في إيران بأي حال من الأحوال، بل إنني واحدة منهم فقط، فأمر السجناء السياسيين في إيران معقد للغاية، وهو بحاجة للتناول والدراسة من زوايا عديدة بقدر الإمكان بحيث نتمكن في نهاية الأمر من الحصول على صورة واضحة لما حدث. وأود أيضًا أن يعرف العالم أن «إيفين» ما زال موجودًا، وأن الناس ما زالوا يعانون ويموتون خلف أسواره، وعلى المجتمع الدولي أن يطالب الحكومة الإيرانية بالاعتراف بسوء معاملة السجناء السياسيين في إيران والتوقف عن ذلك على الفور، وربما يتحول «إيفين» ذات يوم إلى متحف يصطحب الناس أطفالهم إليه كي يخبروهم عن فترة حالكة في تاريخ إيران؛ عندما كان تعذيب المراهقين والشباب والفتيات وإعدامهم من أعمال الخير التي تهدف إلى إرضاء الله. وأطلب من قرائي ألا يمنعهم الخوف من الحديث صراحة عما يرونه خطأ، فالخوف أفظع السجون على الإطلاق.