الفصل الثالث
عندما كنت طفلة صغيرة كنت أحب سكون طهران وألوانها الزاهية في الصباح الباكر؛ إذ كنت أشعر بالحرية والخفة كأنني محجوبة عن الأنظار. كان ذلك هو الوقت الوحيد من اليوم الذي يمكنني فيه التجول بحرية داخل صالون التجميل الذي تمتلكه أمي؛ فكنت أتنقَّل بين مقاعد تصفيف الشعر ومجففات الشعر دون أن تغضب مني. ذات صباح من شهر أغسطس ١٩٧٢ وأنا في السابعة من العمر أمسكت بمطفأة السجائر الكريستالية المفضلة لديها. كادت تصل في حجمها إلى حجم طبق الطعام، وقد سبق وحذرتني أمي آلاف المرات من لمسها، لكنها كانت جميلة للغاية، وأردت أن أمرر أصابعي على نقوشها الرقيقة. أدركت سر حب أمي الشديد لهذه المطفأة، فهي تبدو ككتلة ثلجية عملاقة لا تذوب أبدًا. وحسبما أتذكر، كانت المطفأة موضوعة في منتصف مائدة زجاجية، وكانت مرتادات الصالون من السيدات — بأظافرهن الطويلة المطلية باللون الأحمر — يجلسن في مقاعد الانتظار المغطاة بقماش أبيض وثير ويطفئن سجائرهن فيها، وكنَّ أحيانًا يخطئن التصويب فيتساقط الرماد على المائدة. كانت أمي تكره اتساخ المائدة، وكلما أحدثتُ أي نوع من الفوضى صرختْ في وجهي وأمرتني بتنظيفها. لكن ما جدوى التنظيف إذا كانت الأشياء تتسخ طوال الوقت.
أمسكت بالمطفأة ورفعتها في يدي. كان شعاع ذهبي شفاف من الضوء يتسلل من النافذة الوحيدة بالغرفة التي تحتل أكثر من نصف مساحة الحائط الجنوبي، والضوء ينعكس على السقف الأبيض ويتفرق في ثنايا المطفأة الشفافة اللامعة. وبينما أميلها كي أنظر إليها من زاوية أخرى إذ انزلقت من بين أصابعي، فحاولت أن ألتقطها، ولكن كان الأوان قد فات، فسقطتْ على الأرض وتحطمت.
صاحت أمي من غرفة نومها المجاورة للصالون: «مارينا!»
جريت إلى اليسار عبر الباب المؤدي إلى الممر المظلم الضيق، واندفعت إلى غرفتي، وتسللت أسفل فراشي. كان الجو مشبعًا برائحة الغبار التي أحرقت أنفي، فكتمت أنفاسي كي لا أسعل. ومع أنني لم أرَ أمي، فقد سمعت صوت خفها المطاطي على مشمع الأرضية، وجعلني وقعُ خطواتها الغاضبة أنكمش بجوار الحائط. نادتني عدة مرات أخرى، ولكنني ظللت ساكنة. وعندما دخلت غرفتي ووقفت إلى جوار فراشي سمعت جدتي تتساءل عما حدث، فأخبرتْها أمي أني كسرت المطفأة، ولكن جدتي قالت إنني لم أكسرها، بل هي التي كسرتها أثناء تنظيف المكان. لم أصدق أذني، فقد أخبرتني جدتي بأن جهنم مصير الكاذب بعد الموت.
سألتها أمي متعجبة: «أنتِ كسرتها؟!»
أجابت جدتي: «نعم، كنت أنظف المائدة من الغبار. كان حادثًا، وسأنظف المكان على الفور.»
بعد قليل شعرت بثقل جسد ارتمى على الفراش، فرفعت الملاءة القديمة ذات اللون البني الفاتح عن الأرض، ورأيت خُفَّي جدتي البنيين وساقيها النحيلتين. تسللتُ خارجة من تحت الفراش وجلست بجوارها. كان شعرها الأشيب مشدودًا بإحكام خلف رأسها، ترتدي تنورة سوداء وقميصًا أبيض مكويًّا بعناية، وتحدق في الحائط مباشرة. لم يكن يبدو عليها الغضب.
قلت: «جدتي، لقد كذبتِ!»
– «نعم، كذبت.»
– «ولكن الله لن يغضب منك.»
رفعتْ أحد حاجبيها، وقالت: «لماذا؟»
– «لأنك أنقذتني.»
علت البسمة وجهها. نادرًا ما كانت جدتي تبتسم؛ فقد كانت امرأة جادة تعلم جيدًا كيفية القيام بكل شيء، ولديها دائمًا حلول لأصعب الأمور، فضلًا عن أنها لم تخفق قط في معالجة آلام المعدة.
إنها جدتي لأبي وتعيش معنا. تذهب للتسوق كل يوم في الثامنة صباحًا، وغالبًا ما أذهب معها. في ذلك اليوم أخذتْ محفظتها وتبعتُها على الدرَج، وفور أن فتحتِ الباب الخشبي الوردي الذي يقع أسفل الدرَج، تدفق خليط من أصوات السيارات والمشاة والباعة إلى المدخل. أول ما وقعت عليه عيناي الابتسامة الدرداء على وجه أكبر أغا الذي تخطى الثمانين من العمر ويبيع الموز على عربة مكسورة.
سأل جدتي: «أتريدين موزًا اليوم؟»
تفحصت جدتي الموز، فوجدته طازجًا أصفر اللون لا تشوبه شائبة. أومأت برأسها وأشارت له بثمانية من أصابعها، فأعطانا أكبر أغا ثماني موزات.
انعطفنا يسارًا في شارع «رازي»، وهو شارع ضيق ذو اتجاه واحد أرصفته ترابية. وباتجاه الشمال استطعت رؤية جبال «ألبرز» بلونها الرمادي الضارب إلى الزرقة تناطح السحاب. كنا في أواخر الصيف، وقمم الجبال الثلجية قد اختفت منذ وقت طويل، فيما عدا جبل «دامافاند» — البركان الخامد — الذي كانت مسحة من البياض تعلو قمته. عبرنا الطريق وسرنا عبر سحابة من البخار مشبعة برائحة الكتان النظيف المكوي المنبعثة من باب المغسلة المفتوح.
– «جدتي، لماذا لم تقولي ثمانية بالفارسية؟ فأنت تعرفينها.»
– «تعلمين جيدًا أني لا أحب التحدث بالفارسية. الروسية أفضل كثيرًا.»
– «أنا أحب الفارسية.»
– «ولكننا لا نتحدث إلا الروسية.»
– «عندما أذهب إلى المدرسة في الخريف القادم، سوف أتعلم القراءة والكتابة بالفارسية، وسوف أعلمك.»
تنهدت جدتي.
تقدمتها في السير. كان الشارع هادئًا يكاد يخلو من الزحام المروري. رأيت امرأتين تسيران في الطريق تلوِّحان بحقائب التسوق الفارغة في يديهما. عندما دخلت متجر البقالة الصغير، كان صاحبه أغا روستامي — ذو الوجه العطوف والشارب الأسود الكث الذي لا يتناسب ووجهه النحيل — يتحدث إلى سيدة ترتدي شادورًا أسود يغطيها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها، لا يظهر منها سوى وجهها، بينما سيدة أخرى ترتدي تنورة قصيرة وقميصًا ضيقًا بلا أكمام تنتظر دورها. كنا في زمن الشاه، ولم يكن لزامًا على النساء أن يلتزمن بالزي الإسلامي. ومع أن المحل كان ضيقًا، فالأرفف عامرة بمختلف أنواع البضائع مثل الأرز طويل الحبة، والتوابل، والأعشاب المجففة، والزبد، واللبن، والجبن التبريزي، والحلوى، وحبال القفز، وكرات القدم البلاستيكية. ابتسم لي أغا روستامي وهو يناولني عبوة من اللبن بالشيكولاتة ويناول المرأة التي ترتدي الشادور كيسًا ورقيًّا بني اللون. وبينما كنت أزدرد اللبن مستمتعة ببرودته العذبة، إذ تقدمت جدتي وأشارت إلى كل ما نحتاجه. وفي طريقنا للعودة رأينا أغا طاغي؛ الرجل المسن الذي يجوب الشوارع في مثل هذا الوقت من كل عام ينادي: «أمشط وبر الجمال والقطن.» فتفتح النساء النوافذ وتدعوه للدخول كي يعد الأغطية للشتاء عن طريق تمشيط الصوف أو الألياف القطنية بداخلها.
عندما عدنا إلى المنزل، تبعتُ جدتي إلى المطبخ. كان الموقد ذو الشعلتين إلى اليسار، والثلاجة البيضاء إلى اليمين، وخزانة الأطباق تستند إلى الحائط المواجه للباب. عندما نكون معًا داخل المطبخ، بالكاد يكون هناك مكان للحركة. كانت نافذة المطبخ الصغيرة قريبة من السقف يتعذَّر وصولي إليها، وكانت تطل على ساحة مدرسة للبنين. وضعتْ جدتي الغلاية المعدنية القديمة على الموقد كي تعد الشاي، ثم فتحتِ الخزانة.
– «دخلت أمك هنا مجددًا، ولا يمكنني العثور على أي شيء! أين المقلاة؟»
تناثرت الأطباق والأواني من الجانب الآخر من الخزانة على الأرض، فهرعت كي أساعد جدتي في إعادتها إلى أماكنها. كان المطبخ مملكة جدتي، وهي من تعتني بي وتؤدي كل الأعمال المنزلية، في حين كانت أمي تقضي نحو عشر ساعات يوميًّا في صالون التجميل، وكانت تكره إعداد الطعام.
– «لا تقلقي يا جدتي؛ سوف أساعدك.»
– «كم مرة أخبرتها أن تبتعد عن المطبخ؟»
– «عدة مرات.»
سرعان ما أصبح كل شيء في موضعه مرة أخرى.
نادت جدتي على أبي الذي كان يجلس في استوديو الرقص على الأرجح: «كوليا!» لكن لم يجبها أحد.
قالت جدتي وهي تضع أغراض البقالة في الثلاجة: «مارينا، اذهبي واسألي أباك هل يرغب في تناول الشاي.»
– «صباح الخير يا أبي. جدتي تسألك هل تريد كوبًا من الشاي.»
أجابني دون أن ينظر إليَّ: «كلا.» فاستدرت عائدة من حيث أتيت.
عندما أستيقظ في الصباح الباكر والكل نيام أذهب إلى استوديو الرقص، وأتخيل موسيقاي المفضلة — الفالْس — تصدح، وأشرع في الرقص والدوران حول الغرفة متخيلة والدي يقف في أحد أركانها يصفق لي ويقول: «أحسنت يا مارينا! أنت ترقصين جيدًا!»
عندما دخلت المطبخ، كانت جدتي تقطع البصل والدموع تنهمر من عينيها. بدأت أشعر بحرقة في عيني.
قلت: «أكره البصل النيئ.»
– «سوف تقدرينه عندما تكبرين. عندما تكونين بحاجة للبكاء دون أن يعلم أحد أنك تبكين، يمكنك تقطيع البصل.»
– «لكنك لا تبكين حقًّا، أليس كذلك؟»
– «كلا، بالطبع لا.»
•••
عندما تزوج والداي أثناء الحرب العالمية الثانية استأجرا شقة متواضعة في الجانب الشمالي الغربي لتقاطع شارعي «شاه» و«رازي» في وسط طهران، عاصمة إيران وأكبر مدنها. وهناك افتتح أبي — غلام رضا نيكولاي مرادي بخت — استوديو للرقص أعلى متجر صغير للأثاث ومطعم صغير. ولما كان العديد من الجنود الأمريكيين والبريطانيين قد مروا بإيران أثناء الحرب، فقد انتشرت الثقافة الغربية بين أفراد الطبقة العليا، وهكذا وجد والدي العديد من المتحمسين لتعلم الرقص على المنوال الغربي.
وضعت أمي — رقية ناتاليا فكري — أخي في عام ١٩٥١، وعندما بلغ العامين، سافرت أمي إلى ألمانيا — مع أنها لم تكن تتحدث الألمانية — للحصول على دورة تدريبية في تصفيف الشعر، وعندما عادت بعد ستة أشهر، أصبحت بحاجة إلى مكان كي تفتتح صالون تجميل، وكانت الشقة المجاورة لشقة والديَّ مطابقة لها، فاستأجراها هي الأخرى وضما الشقتين معًا.
وُلدت أنا في الثاني والعشرين من أبريل ١٩٦٥. ومنذ عام ١٩٤١ كان محمد رضا شاه بهلوي الحاكم المستبد الموالي للغرب هو ملِك إيران. وقبل أربعة أشهر من مولدي اغتيل رئيس الوزراء الإيراني حسن علي منصور على يد أتباع الزعيم الشيعي الأصولي آية الله الخميني الذي كان يطالب بإقامة دولة دينية في إيران. وفي عام ١٩٧١ أقام أمير عباس هوفيدا — رئيس الوزراء آنذاك — احتفالًا ضخمًا عند أطلال مدينة «برسيبوليس» العتيقة لإحياء الذكرى السنوية الخمسمائة بعد الألفين لتأسيس الإمبراطورية الفارسية. حضر الاحتفال خمسة وعشرون ألفًا من المدعوِّين من كل أنحاء العالم، بينهم ملوك وملكات ورؤساء دول ووزارات ودبلوماسيون، وبلغت تكلفته ٣٠٠ مليون دولار. وأعلن الشاه أنه أراد بهذا الاحتفال أن يظهر للعالم مدى التقدم الذي أحرزته إيران في السنوات الأخيرة.
عندما بلغت الرابعة من عمري غادر أخي المنزل كي يلتحق بجامعة بهلوي في مدينة شيراز بوسط إيران. كنت فخورة للغاية بأخي الوسيم فارع الطول، لكنه لم يكن يأتي إلا نادرًا، ولم يكن يمكث معنا فترة طويلة. في المناسبات السعيدة التي كان يزورنا فيها، كان يسد باب غرفتي بجسده وهو يبتسم ويقول: «كيف حال أختي الصغيرة؟» كنت أحب رائحة عطره الخلابة التي تملأ المكان. كان هو وجدتي الوحيدين اللذين يعطيانني هدايا عيد الميلاد، أما والداي فكانا يعتقدان أن عيد الميلاد مضيعة للوقت والمال.
كانت جدتي تصطحبني إلى الكنيسة أيام الآحاد، وكانت الكنيسة الروسية الأرثوذكسية الوحيدة في طهران تقع على مسيرة ساعتين من منزلنا. كان الطريق إلى الكنيسة يقودنا عبر شوارع وسط المدينة بطهران، حيث تصطف على جانبيها المتاجر والباعة وأشجار القيقب العتيقة. كانت الرائحة العطرة لدوَّار الشمس وبذور اليقطين تملأ الجو، وكان شارع «نادري» الذي يضم متاجر اللعب والمخابز هو الجزء المفضل لدي في تلك الرحلة، إذ كانت رائحة الفطائر الطازجة والفانيليا والقرفة والشيكولاتة تشعرني بالنشوة. أيضًا كانت هناك العديد من الأصوات التي يتداخل بعضها مع بعض في الشارع: أبواق السيارات، والباعة الذين يعلنون عن بضاعتهم ويساومون زبائنهم، والموسيقى التقليدية. لم تكن جدتي تؤمن بأهمية شراء اللعب، ولكنها كانت دومًا تشتري لي هدية صغيرة.
وفي أحد أيام الآحاد انطلقنا مبكرًا كي نزور إحدى صديقات جدتي التي تسكن في شقة صغيرة. كانت سيدة روسية عجوزًا صعبة المراس، شعرها أشقر قصير مجعد، تضع دائمًا أحمر شفاه وظل عيون أزرق، وتفوح منها رائحة الأزهار. كانت شقتها مليئة بالأثاث القديم والعديد من الحلي الصغيرة، ولديها أروع مجموعة من التماثيل الخزفية الصغيرة على الإطلاق في كل مكان؛ على الموائد الجانبية، وأرفف الكتب، وقواعد النوافذ، بل وعلى طاولات المطبخ. وكنت أحب على وجه الخصوص تماثيل الملائكة بأجنحتها الرقيقة. قدمت لنا الشاي في أروع فناجين صينية رأيتها من قبل؛ فكانت بيضاء لامعة، مرسومًا عليها أزهار وردية. وضعت السيدة ملعقة ذهبية صغيرة بجوار كل فنجان. كان يروق لي وضع مكعبات السكر في فنجاني ومشاهدة الفقاعات تعلو وأنا أقلِّبه.
سألتها عن سبب امتلاكها لكل هذا العدد من التماثيل الملائكية، فأخبرتني بأنها تؤنس وحدتها، وسألتني هل أعلم أن كل واحد منا لديه ملاك حارس، فأجبتها بأن جدتي قد أخبرتني بذلك. أوضحتْ لي وهي تنظر إليَّ بعينيها الزرقاوين اللتين بدتا كبيرتين للغاية خلف نظارتها الطبية السميكة أن كل واحد منا قد رأى ملاكه الحارس من قبل، ولكنه نسي كيف كانت هيئته.
قالت: «الآن أخبريني، هل حدث من قبل أن هممتِ بارتكاب خطأ ما فشعرت بهاتف يهمس في أذنيك ألا تفعلي؟»
قلت وأنا أفكر في مطفأة السجائر: «نعم … أظن ذلك.»
– «حسنًا، كان هذا ملاكك الحارس يتحدث إليك. وكلما أنصتِّ إليه، سمعتِهِ أفضل.»
تمنيت أن لو تذكرت شكل ملاكي الحارس، فاقترحتْ عليَّ صديقة جدتي أن ألقي نظرة على كل تماثيلها، وأكدت لي أن ملاكي يشبه التمثال الذي سينال إعجابي أكثر. تفحصت التماثيل برهة، وأخيرًا وجدت تمثالي المفضل؛ شاب وسيم يرتدي ثوبًا أبيض طويلًا، أخذته إلى جدتي كي أريها إياه، فأخبرتني أنه لا يبدو كالملائكة لأنه لا يملك أي أجنحة، لكنني أخبرتها بأن أجنحته غير مرئية.
قالت صديقة جدتي: «يمكنك الاحتفاظ به يا عزيزتي.» وهو ما أسعدني كثيرًا.
***
كانت جدتي تصطحبني إلى الحديقة العامة كل يوم، فهناك حديقة عامة فسيحة تدعى «حديقة فالياد» على مسيرة نحو عشرين دقيقة من المنزل. كنا نقضي الساعات نستكشف الحديقة وننظر بإعجاب إلى أشجارها العتيقة وأزهارها العطرة. وفي أيام الصيف الحارة، كنا نجلس على مقعد طويل نتناول المثلجات. في منتصف الحديقة كانت توجد بركة ضحلة في وسطها نافورة تقذف بالمياه عاليًا في الهواء وحولها العديد من النافورات الصغيرة. كنت دائمًا أقف بجوار البركة وأدع الرياح تنثر رذاذ المياه فوقي. حول البركة كانت توجد تماثيل برونزية لفتيان صغار يختلف شكل كل منهم عن الآخر؛ فأحدها يقف شامخًا ينظر إلى السماء، وآخر ينحني بجوار المياه كأنه يبحث عن شيء ثمين مفقود، وثالث يشير بعصا نحاسية نحو المياه، ورابع يقف على ساق واحدة ويرفع الأخرى في الهواء كأنه يستعد للقفز في البركة. جمعت مسحة من الحزن والوحدة بين هذه التماثيل، فكانت تبدو وكأنها حقيقية لكنها تجمدت إلى الأبد في وضع ثابت كئيب أعجزها عن التحرر.
كانت الأرجوحة متعتي الكبرى، كانت جدتي تعلم أنني أحب الانطلاق عاليًا بها، وكانت دائمًا تدفعني بأقصى قوتها، وكنت أحب مداعبة الرياح لخصلات شعري واختفاء العالم من تحتي. وفي عالمي الصغير الذي لم يتجاوز الأعوام السبعة، كان يخيَّل إليَّ أن الحياة ستظل هكذا إلى الأبد.
ذات يوم في فترة ما بعد الظهيرة، وبينما كنت أجري في الحديقة، نادتني جدتي من مسافة بعيدة كي تخبرني بأن الوقت قد حان للعودة إلى المنزل، ولكنها نادتني باسم خطأ، حيث دعتني تامارا. أسرعت نحوها حائرة وسألتها من تكون تامارا، فاعتذرت لي وأخبرتني أنه من الأفضل أن نعود إلى المنزل لأنها لا تتحمل شدة الحرارة، فانطلقنا في رحلة العودة سيرًا على الأقدام. بدت متعبة، وتعجبتُ لذلك، لأني لم أرها مريضة أو متعبة من قبل.
سألتها مرة أخرى: «من تكون تامارا؟»
– «إنها ابنتي.»
– «لكن ليس لديك بنات يا جدتي، ليس لديك سواي أنا حفيدتك.»
أخبرتني أن لديها ابنة تدعى تامارا، أكبر من والدي بأربعة أعوام، وأني أشبهها كثيرًا كأني توأمها. تزوجتْ تامارا رجلًا روسيًّا وهي في السادسة عشرة من عمرها، وعادت إلى روسيا معه. سألتُها لماذا لم تزرنا تامارا قط، فأخبرتني جدتي أنه غير مسموح لها بمغادرة روسيا؛ فالحكومة السوفييتية لا تسمح لمواطنيها بالسفر إلى الدول الأخرى بسهولة. اعتادت جدتي أن ترسل لتامارا الثياب الجميلة والصابون ومعجون الأسنان، لأن تلك الأشياء يصعب العثور عليها هناك، إلى أن تلقَّت خطابًا من جهاز «السافاك» — البوليس السري للشاه — يقول إنه غير مسموح لها بالتواصل مع أي شخص في الاتحاد السوفييتي.
سألتُها: «لماذا؟»
– «الشرطة هنا تعتقد أن روسيا دولة شريرة، ولذا أخبرونا أننا ممنوعون من مراسلة تامارا أو إرسال أي شيء لها.»
وبينما كنت أحاول استيعاب تلك المعلومة الجديدة عن عمتي التي لم أعرفها قط، تابعت جدتي الحديث كأنها تتحدث مع نفسها. لم أتمكن من فهم كثير مما قالت، فقد ذكرت أسماء أشخاص وأماكن لم أسمع عنها من قبل، واستخدمت كلمات غريبة وغير مألوفة، فكنت ألتقط أجزاء متفرقة من حديثها. أخبرتني أنها عندما كانت في الثامنة عشرة من عمرها وقعت في غرام شاب قُتل فيما بعد أثناء الثورة الروسية. أخذت تصف منزلًا ذا باب أخضر يطل على شارع ضيق ونهر واسع وجسر كبير، وتحدثت عن جنود يمتطون الخيول ويطلقون النار على أحد الحشود.
– «… استدرت فوجدته قد سقط أرضًا. أصابته إحدى الرصاصات. كانت الدماء في كل مكان. احتضنته فلفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعيَّ …»
لم أكن أرغب في سماع المزيد، لكنها لم تكن لتتوقف. لم أستطع تغطية أذني بيدي؛ فهو تصرف غير لائق وسوف يغضبها. ربما يمكنني إسراع الخطى وترك مسافة بيني وبينها، ولكن هناك خطبًا ما، فهي ليست على ما يرام، وعليَّ أن أعتني بها. أخيرًا بدأت أدندن وطغى صوتي على كلماتها. لطالما كانت تحكي لي الحكايات قبل النوم، ولكنها جميعًا كانت تنتهي نهايات سعيدة، ولم يكن بها أي قتلى. كنت أعلم أن الأخيار يذهبون إلى الجنة بعد الموت، وهكذا لا يمكن أن يكون الموت سيئًا إلى هذا الحد، ولكنه ما زال يخيفني. إنه أشبه بالسير نحو ظلام دامس قد يصيبك فيه أي مكروه، ولم أكن أحب الظلام على الإطلاق.
كنا نسير باتجاه المنزل عندما توقفتْ عن الكلام فجأة ونظرتْ حولها، وبدت تائهة حائرة. ومع أننا كدنا نكون قد وصلنا، فقد كان عليَّ أن آخذ بيدها وأقودها ما تبقى من الطريق. المرأة القوية التي عرفتها طوال حياتي، الصديقة الحميمة التي كنت أعتمد عليها، المرأة التي كانت دائمًا بجواري تساعدني أصبحت ضعيفة فجأة، أصبحت كطفلة مثلي تمامًا. جدتي التي كانت دائمًا تستمع ونادرًا ما تتفوه بأكثر من بضع كلمات في المرة الواحدة أخبرتني قصة حياتها. صدمتني كلماتها عن الدماء والعنف والموت. لطالما كان عالمي آمنًا معها، لكنها أخبرتني أن كل شيء إلى زوال. شعرت أن جدتي تحتضر، رأيت ذلك في عينيها كأن أحدهم همس به في أذني.
عندما عدنا إلى المنزل ساعدتُها كي تستريح في الفراش. لم تتناول معنا عشاء ذلك اليوم، ولم تنهض من فراشها في الصباح التالي. اصطحبها والداي إلى الطبيب في ذلك اليوم، وعند عودتهم ذهبت جدتي إلى الفراش مباشرة، ولم يُجِب والداي على أي من أسئلتي بشأن مرضها.
ذهبتُ إلى غرفتها، ووجدتها نائمة، فجلست على مقعد بجوارها، وانتظرت فترة طويلة حتى تحركت أخيرًا، وحينها فقط أدركتُ كم أصبحتْ هزيلة واهنة.
سألتها: «ما الخطب يا جدتي؟»
قالت: «أنا أحتضر يا مارينا.» كأنه أمر عاديٌّ يحدث كل يوم.
سألتها عما يحدث لنا بعد الموت، فطلبت مني أن أتأمل صورة معلقة على الحائط في غرفة نومها منذ أن تفتحت عيناي على العالم، وأن أخبرها بكل ما أراه في الصورة. قلت إنها صورة عجوز شعرها أشيب تتوكأ على عكاز وتسير في طريق في غابة مظلمة، وفي نهاية الطريق يوجد ضوء ساطع.
أوضحت جدتي أنها تشبه تلك العجوز، فقد ظلت تسير طوال حياتها التي استمرت سنوات عديدة حتى شعرت بالتعب، وأن حياتها كانت مظلمة وصعبة، وأنها واجهت العديد من العقبات لكنها لم تستسلم قط.
قالت: «والآن، حان دوري كي أرى وجه الرب.»
عارضتها: «لكن يا جدتي، لم لا يمكنك رؤية وجه الرب وأنت هنا معي؟ أعدك بأن أدعك تستريحين، ولن يتعين عليك الذهاب إلى أي مكان.»
ارتسمت على وجهها ابتسامة. تحسستْ أهداب عيني بأصابعها المرتجفة وقالت: «يا صغيرتي، لا يمكننا رؤية وجه الرب بهاتين العينين، ولكن بأرواحنا. عليك أن تعلمي أن الموت ليس إلا خطوة علينا أن نخطوها كي نصل إلى العالم الآخر ونحيا حياة مختلفة.»
– «لكني لا أريد لأي شيء أن يتغير، فأنا أحب كل شيء كما هو الآن.»
– «عليكِ أن تتحلي بالشجاعة يا مارينا.»
غير أني لم أكن أرغب في التحلي بالشجاعة. كنت خائفة، وحزينة، وبدا لي أن الشجاعة مثل الكذب من حيث التظاهر بأن كل شيء على ما يرام، بينما الحقيقة غير ذلك.
أخذت جدتي نفسًا متقطعًا، وطلبت مني أن أذهب إلى خزانتها وأفتح الدرج العلوي الأيسر، وأحضر لها صندوقًا ذهبيًّا كان هناك، ثم طلبت مني أن أتسلل تحت فراشها وأحضر الحذاء الأسود، حيث وجدت داخل الفردة اليسرى مفتاحًا ذهبيًّا صغيرًا.
أعطتني الصندوق والمفتاح والدموع تنهمر من عينيها.
– «مارينا، لقد كتبت قصة حياتي ووضعتها في هذا الصندوق، وهي ملكك الآن. أريدك أن تحتفظي بها وأن تتذكريني. هل ستفعلين ذلك من أجل جدتك؟»
أومأت برأسي.
«ضعي الصندوق في مكان آمن. الآن اذهبي ولا تقلقي، فأنا بحاجة إلى الراحة.»
تركتها وأويت إلى غرفتي حيث شعرت بالوحدة أكثر من أي وقت مضى. خبأت الصندوق أسفل فراشي، وفتحت الباب الزجاجي المؤدي إلى الشرفة وخرجت إليها. كان الهواء ساخنًا، والشارع مزدحمًا كعادته دائمًا. بدا كل شيء مختلفًا مع أن شيئًا لم يتغير عما كان عليه.
لم تستيقظ جدتي بعدها أبدًا. كان سرطان الكبد يفتك بها، وأخبرتني أمي أنها في غيبوبة. وامتدت الغيبوبة أسبوعين ظل فيهما أبي يذرع الممر جيئة وذهابًا ويبكي. كنت أجلس بجوارها ساعتين على الأقل يوميًّا كي أؤنس وحدتها، وكي لا أشعر بالوحدة أنا أيضًا. كان وجهها يشع هدوءًا وسكينة، وإن كان شديد الشحوب والهزال. وبمرور الأيام، كنت أغالب دموعي خوفًا من أن تصبح وفاتها حقيقة واقعة.
ذات صباح استيقظت مبكرًا ولم أستطع النوم مرة أخرى، فذهبت إلى غرفة جدتي، وأضأت النور فوجدتها في مكانها. كان وجهها شاحبًا تمامًا. لمست يدها فوجدتها باردة، وقفت صامتة وقد أدركت أنها توفيت ولكن لم أكن أعلم ماذا أفعل، أردت أن أقول لها شيئًا، ولكنني لم أكن متأكدة هل تستطيع سماعي؛ هل يمكنني اختراق الحاجز الذي أوجده الموت بيننا.
– «وداعًا يا جدتي، أتمنى أن تحيي حياة طيبة مع الرب أينما كان.»
داهمني شعور غريب بوجود شخص آخر في الغرفة معنا. هرعت إلى غرفتي، وانزويت في فراشي أتلو كل الصلوات التي أذكرها.
ارتفع الغطاء عن جانب فراشي، وتدفقت موجة من الضوء وسط الظلام إلى البقعة التي أختبئ فيها، فرأيت وجهًا غريبًا ينظر إليَّ. كان وجه شاب ذي شعر أسود مجعد وعينين شديدتي السواد. كان وجهه ناصع البياض مقارنة بشعره، وابتسامته دافئة حنون. أردت أن أسأله من يكون، ولكنني لم أستطع.
قال: «مرحبًا.»
كان صوته حنونًا رقيقًا أعطاني الشجاعة التي أحتاجها، فخرجت من أسفل الفراش. كان يرتدي ثوبًا أبيض طويلًا وكان حافي القدمين. لمستُ أصابع قدميه فوجدتها دافئة. انحنى، ورفعني، ثم جلس على فراشي، وأجلسني على حجره، فملأتْ أنفي رائحة زكية كعبير أزهار النرجس في يوم مطير.
قال وهو يربت على شعري: «كنتِ تنادينني فأتيت.» أغمضت عيني، وتحركت أصابعه بين خصلات شعري مذكرة إياي بنسائم الربيع وأشعة الشمس الدافئة وهي تداعب أغصان الأشجار. ملت على صدره يخالجني شعور بأني أعرفه، كأننا التقينا من قبل، لكن لا أعلم متى أو أين. نظرت إليه، فارتسمت على وجهه ابتسامة عميقة دافئة.
سألته: «لم لا ترتدي خفًّا في قدميك؟»
– «لا حاجة إلى الخف في المكان الذي أتيت منه.»
– «هل أنت ملاكي الحارس؟»
– «من تظنين أني أكون؟»
نظرت إليه لحظة. وحده الملاك يملك عينيين كهاتين.
– «أنت ملاكي الحارس.»
– «هذا صحيح.»
– «ما اسمك؟»
– «أنا ملك الموت.»
كاد قلبي أن يتوقف.
«أحيانًا يكون الموت صعبًا، لكنه ليس سيئًا أو مخيفًا. إنه رحلة إلى الله، ولأن الناس لا يموتون إلا مرة واحدة، فهم لا يعرفون الطريق، ولذلك فأنا أرشدهم وأساعدهم.»
– «هل أتيت لتأخذني معك؟»
– «كلا، ليس الآن.»
– «هل ساعدت جدتي؟»
– «نعم.»
– «هل هي سعيدة؟»
– «إنها في غاية السعادة.»
– «أتبقى معي قليلًا؟»
– «أجل.»
مِلت على صدره مرة أخرى وأغمضت عيني. لطالما تساءلت بمَ تشعر الطيور وهي تحلق في الهواء وتغتسل بأشعة الشمس وتعانق السماء. الآن عرفت.
عندما استيقظت في الصباح التالي كنت في فراشي لا أرى أي ملائكة حولي.