الفصل السادس
استيقظت ومذاق حساء الدجاج في فمي. كنت جالسة، وبدا العالم كأنه مغطى بطبقة كثيفة من الضباب وأنه يدور حولي. لم تكن هناك أي خطوط أو أشكال مجسمة، بل ألوان ضبابية فقط، وأحدهم ينادي اسمي. حساء الدجاج في فمي مرة أخرى. سعلت.
– «ابتلعيه، إنه مفيد لكِ.»
تدفق السائل الساخن في حلقي، وكان مذاقه جيدًا، فابتلعت جرعة أخرى. رأيت أمامي مربعًا أبيض مضيئًا، فحاولت أن أركز انتباهي، ووجدته نافذة صغيرة ذات قضبان. كنت محمومة أشعر بالألم.
قال صاحب الصوت: «هذا أفضل.» كان الصوت يأتي من خلفي، وحاولت أن أتحرك.
– «لا تتحركي، ابتلعي.»
كانت الحركة مؤلمة. ابتلعت الحساء، وتساقط بعضه على ذقني.
بدأت معالم الزنزانة تتضح تدريجيًّا.
قال صاحب الصوت الذي عرفت أنه عليٌّ: «سوف أدعك تستلقين الآن.»
كان جالسًا على الأرض على بعد متر أو أقل مني، وأخبرني أنه سيرسلني إلى عنبر للنساء في «إيفين» يطلق عليه «٢٤٦»، حيث أرى بعض صديقاتي وأكون في حال أفضل. أخبرني أيضًا أنه يعرف إحدى الحارسات المسئولات عن عنبر «٢٤٦» اسمها الأخت مريم، وأنه سيطلب منها الاعتناء بي.
قال: «سوف أتركك بعض الوقت …» ولكنه ظل يحدق إليَّ صامتًا كأنه ينتظر مني أن أقول شيئًا. لم تكن لديَّ فكرة عن طبيعة المكان الذي سأنتقل إليه. هل أخبرني عليٌّ حقًّا أني أواجه حكمًا بالسجن مدى الحياة، أم أنها كانت أضغاث أحلام؟
سألته: «هل حُكم عليَّ بالسجن مدى الحياة حقًّا؟»
أومأ برأسه، وطاف بوجهه شبح ابتسامة حزينة.
حاولت ألا أبكي، لكني لم أستطع. أردت أن أسأله عن السبب الذي دفعه لإنقاذي من الإعدام. أردت أن أخبره أن الإعدام أفضل كثيرًا من السجن مدى الحياة. أردت أن يعرف أنه لم يكن لديه الحق فيما فعل، لكنني لم أستطع.
وقف، وقال: «في رعاية الله.» ثم غادر المكان.
استغرقت في النوم، وبعد بضع ساعات عاد واصطحبني إلى غرفة صغيرة بها نحو عشرين فتاة يرقدن جنبًا إلى جنب على الأرض، وقال لي: «ستنتظرين في هذه الغرفة حتى يأتوا ويصطحبوك إلى عنبر «٢٤٦». انتبهي لنفسك، وسوف تتحسن الأمور. ضعي العصابة على عينيك بعد أن تجلسي.»
وقعت عيناي على مكان صغير خالٍ في جانب بعيد من الغرفة. كنت أشعر بالدوار، وقدماي تؤلمانني، فاستغرق الأمر جهدًا كبيرًا كي أصل إلى هذا المكان دون أن أطأ أحدًا. لم أتلقَّ رد فعل على وصولي من أحد. لم يكن المكان كافيًا للنوم، فجلست وضممت ركبتي إلى صدري واتكأت على الحائط وأخذت أبكي.
بعد قليل نادى رجل عشرة أسماء بصوت عالٍ كان من بينها اسمي، ثم أردف: «كل من سمعن أسماءهن يرفعن العصابة قليلًا كي يرون الطريق ويصطففن أمام الباب هنا. على كل واحدة منكن أن تتشبث بشادور الفتاة التي تقف أمامها. تذكَّرن ألا ترفعن العصابة إلا قليلًا. وإن رأيتُ إحداكن تختلس النظر، فسوف تندم على ذلك. فور أن تصطففن في أماكنكن، ضعن العصابة مرة أخرى وتأكدن من إحكامها.»
تشبثتُ بشادور الفتاة التي تقف أمامي، وتشبثتِ الفتاة التي تقف خلفي بالشال الذي أرتديه. مررنا عبر رواقين، وسرعان ما خرجنا من المبنى. كان الجو باردًا، ودعوت أن نصل إلى وجهتنا سريعًا لأنني على وشك الانهيار. كل ما أمكنني رؤيته الرصيف الرمادي وشادور الفتاة التي تسير أمامي وقدماها. لم تكن قدماها متورمتين، ولكنها ترتدي خفًّا مطاطيًّا أكبر من مقاسها مرتين على الأقل يشبه ذلك الذي أرتديه. تساءلتُ عما حدث لحذائي. دخلنا أحد المبانى وسرنا في ممر، ثم صعدنا درجتي سلم، وطلب منا الحارس أن نتوقف، ثم نادى اسمي وطلب مني أن أخرج من الصف وقال: «أمسكي بهذا الحبل، واتبعيني.»
أمسكت بالحبل، وتبعته عبر مدخل.
– «السلام عليكم أختاه. صباح الخير. لديَّ سجينة جديدة تدعى مارينا مرادي بخت، وها هي الأوراق.»
فردت امرأة: «صباح الخير أخي. أشكرك.»
أُغلق الباب محدثًا صوت خافتًا. كانت الغرفة معبأة برائحة الشاي الطازج، وأدركت أنني أتضور جوعًا.
قالت المرأة بلهجة آمرة: «مارينا، اخلعي العصابة.» فأطعت الأمر. كانت تبلغ من العمر نحو خمسة وعشرين عامًا، وأطول مني بنحو ربع متر، ذات عينين سوداوين واسعتين وأنف كبير وشفتين رفيعتين؛ صفات اجتمعت معًا كي تكوِّن وجهًا شديد الجدية. كانت ترتدي شادورًا أسود، وسألت نفسي: هل ابتسمت في حياتها من قبل؟
كان المكان أشبه بغرفة مكتب مساحتها نحو أربعة في ثلاثة أمتار ونصف، وبها مكتب وأربعة مقاعد معدنية، بالإضافة إلى طاولة معدنية مستوية مغطاة بأكوام من الورق. ومن خلال النافذة ذات القضبان الحديدية، تسللت شمس الصباح لتغطي أرضية الغرفة.
قالت المرأة: «مارينا، أنا الأخت مريم. أخبرني الأخ عليٌّ عنكِ.» أوضحتْ لي أن المبنى الذي كنا فيه والذي يحمل رقم «٢٤٦» مكون من طابقين؛ الطابق الأول به ست غرف، والطابق الثاني به سبع غرف، وأني سأقيم في الغرفة «٧» بالطابق الثاني. ثم نادت اسمًا في مكبر الصوت، وبعد بضع دقائق دخلت فتاة في مثل عمري المكتب، وقدمتها لي الأخت مريم على أنها سهيلة. كانت سجينة مثلي، ومندوبة عن الغرفة «٧».
كانت سهيلة فتاة ذات شعر بني قصير، ترتدي سترة زرقاء وسروالًا أسود، ولم تكن ترتدي الحجاب. خمَّنتُ أنه لمَّا كان مبنى «٢٤٦» للنساء فقط، فليس لزامًا علينا ارتداء الحجاب طوال الوقت. كانت أبواب حجرة المكتب تطل على ردهة خالية يبلغ طولها نحو سبعة أمتار ونصف، وعرضها أقل من ثلاثة أمتار، وبينما كنا نعبرها لاحظتُ السلم المؤدي إلى الطابق الأسفل. ظللت أعرج خلف سهيلة حتى تأخرت عنها، فتوقفتْ ونظرتْ خلفها وحدَّقتْ إلى قدمي ثم قالت: «آسفة، لم أدرك ذلك. ضعي ذراعك على كتفي، وسوف أساعدك.»
وصلنا إلى باب معدني مدعم بقضبان حديدية، دفعته سهيلة، ثم دلفنا إلى ممر ضيق. كانت هناك فتيات في كل مكان. مررنا بثلاثة أبواب، وتبعنا الممر مع انعطافه بزاوية قائمة، ثم مررنا بثلاثة أبواب أخرى، ودخلنا الباب الأخير الذي يحمل عنوان الغرفة ٧. نظرت حولي، فرأيت مساحة الغرفة نحو سبعة أمتار ونصف في خمسة أمتار، والأرض مغطاة بسجادة مهترئة بنية اللون. وفوق مستوى نظري بقليل رف معدني بعرض الحائط وُضعت فوقه أكياس بلاستيكية ممتلئة بالملابس وحقائب أصغر منها معلقة بواسطة خطاطيف تحتها. كان الطلاء البني الفاتح الذي يغطي الجدران والأبواب المعدنية رقيقًا متسخًا، وفي أحد الأركان فراش ذو طابقين. كانت البرطمانات والأوعية مختلفة الأشكال والأحجام تغطي الطابق الأول من الفراش، والأكياس البلاستيكية الممتلئة بالملابس تملأ الطابق الثاني. وفي ركن آخر بجوار النافذة المدعمة بقضبان حديدية، كانت البطاطين العسكرية الرمادية مكدسة بعضها فوق بعض حتى كادت تصل إلى السقف. كانت الغرفة نظيفة مرتبة على نحو يثير الدهشة. رأيت نحو خمسين فتاة يجلسن على الأرض في مجموعات مكونة من ثلاثٍ أو أربعٍ يتجاذبن أطراف الحديث. كنَّ كلهن في مثل عمري تقريبًا، ونظرن إليَّ بفضول عندما دخلت الغرفة. لم تقوَ قدماي على حملي أكثر من ذلك، فسقطتُ على الأرض.
صاحت سهيلة وهي تنحني إلى جواري: «أيتها الفتيات، افسحن لها مكانًا كي تستريح.» ثم قالت لي: «أعلم كم تؤلمك قدماك، لكنك ستكونين بخير. لا تقلقي.»
أومأت برأسي والدموع تملأ عيني.
هتف صوت مألوف: «مارينا!»
فرفعت بصري، وللحظة لم أميز الفتاة التي تقف أمامي.
– «سارة! حمدًا لله! كم كنتُ قلقة عليكِ.»
لقد ذوى عودها، وشحبت بشرتها التي كانت فيما مضى بيضاء متوردة، وأحاطت الهالات السوداء بعينيها. تعانقنا عناقًا حارًّا حتى أُنهكت قوانا.
سألتني سارة وهي تنظر إلى قدمي: «هل أنتِ بخير؟»
– «أنا بخير، كان من الممكن أن يسوء الأمر عن ذلك.»
نزعتُ الشال عن رأسي، ومررت أصابعي بين خصلات شعري فوجدتها قد التصقت بعضها ببعض. لم أكن بمثل تلك القذارة في حياتي من قبل.
سألتني سارة: «لمَ كُتب اسمك على جبينك؟»
– «ماذا؟»
– «اسمك مكتوب على جبينك بقلم أسود.»
تحسست جبيني، وطلبت من سارة أن تحضر لي مرآة، لكنها أخبرتني أنه لا توجد مرايا هنا، وأنها منذ أن دخلت «إيفين» لم ترَ أحدًا كُتب اسمه على جبينه. لم أستطع أن أتذكَّر كيف حدث ذلك. ثم سألتني عن الكدمة في رأسي، فأخبرتها بأمر الإغماء في دورة المياه.
حدقت سارة في عيني على نحو لم أرَهُ من قبل؛ كأنها كانت تهيم على وجهها عدة أيام في فلاة بلا ماء وأني نافورة تتدفق منها المياه، وسألتْ: «مارينا، كيف حال والديَّ؟ متى كانت آخر مرة رأيتهما فيها؟»
أخبرتها عن مدى قلق والديها ومحاولاتهما لرؤيتها هي وسيرس، وسألتها هل تعلم شيئًا عن مكان سيرس وأحواله، فأجابت بالنفي، ثم سألتُها هل تعرضتْ للجلد.
في الليلة التي أُلقي القبض فيها على سارة وسيرس، أجبرها الحرس على مشاهدته وهم يجلدونه. كانوا يريدون أسماء أصدقائه، لكنه رفض أن يخبرهم بشيء. أغلقت سارة عينيها كي لا تشاهد ما يُفعل بأخيها، لكنهم ضربوها وركلوها وأجبروها على المشاهدة. ثم حلوا وثاقه، وقيدوها هي في الفراش، وأخبروا سيرس أنهم لن يجلدوها إذا أخبرهم بالأسماء، لكنه لم يتفوه بكلمة، وتعرضت سارة هي الأخرى للتعذيب. سألوها هل تعرف أصدقاءه، لكنها لم تكن تعرف أيًّا منهم، فسألوها عن أصدقائها هي.
قالت: «أخبرتهم باسمك يا مارينا … أنا آسفة … لكني لم أحتمل.»
لم ألُمها على ذلك. كنت سأخبر حامدًا بكل الأسماء التي يرغب في معرفتها إن زاد في تعذيبي قليلًا.
أخبرتها بأمر القائمة، ولم تصدق أن الحراس عذبونا كي نخبرهم بشيء يعرفونه بالفعل، وسألتني لمَ لم أخبرها بأمر القائمة من قبل، فأوضحت لها أني لم أكن أعرف الأسماء التي تضمها القائمة تحديدًا، وأني لم أكن أرغب في إثارة قلق أحد.
سألتها: «هل رأيت جيتا؟»
– «قبل أن يعذبني الأخ حامد، أخبرني أن جيتا أعطتهم اسمي وعنواني، فصدقته وغضبت منها، وظننت أنها السبب في إلقاء القبض عليَّ. بعدها جلدني حامد وانتهى الأمر بي وأنا أخبره بكل ما أعرف. كرهت نفسي لأني غضبت من جيتا.»
غطت سارة فمها بيدها كي تكتم الألم الذي لا بد أن يجد مخرجًا، فطوقتها بذراعي، وصرخت في صدري.
أخيرًا رفعت رأسها وقالت: «قبل أن يرسلني حامد إلى هنا مباشرة، أخبرني أن جيتا قد أُعدمت الليلة السابقة، وأن سيرس سيلقى نفس المصير إن لم يتعاون معهم. وهكذا تأكدت أن حامدًا كذب عليَّ عندما أخبرني بأن جيتا أخبرتهم باسمي وعنواني، فلو كانت جيتا اعترفت، لما أعدموها. لا بد أنها رفضت الاعتراف. لم يكن هذا ذنبها.»
– «جيتا ماتت؟»
أومأت سارة برأسها.
لا يمكن أن يكون ذلك حقيقيًّا.
دوى هاتف في رأسي: «ما زلتِ على قيد الحياة، وأنت لا تستحقين ذلك.»
أتذكر جيدًا اليوم الذي تعرفت فيه على جيتا. كان هذا منذ ثلاثة أعوام ونصف، في صيف ١٩٧٨، في شمال البلاد، في المنزل الصيفي الذي تمتلكه أسرتي، وهو نفس الصيف الذي تعرفت فيه على أراش.