الفصل السابع
في العام الذي وُلدتُ فيه، اشترى والداي منزلًا صيفيًّا في مدينة صغيرة تدعى «غازيان»، تقع في الجانب الآخر من جسر يمتد من «بندر بهلوي» على ضفاف بحر قزوين، حيث كانت الحياة الهادئة المزهرة. ومع أن امتلاك منزل صيفي على ضفاف بحر قزوين كان دليلًا على الثراء في ذلك الوقت، فإن عائلتي لم تكن ثرية. كان والدي يحب الهدوء والجمال اللذين يتميز بهما شمال طهران، حتى إنه قرر شراء المنزل الصيفي هناك بدلًا من أن يشتري منزلًا في طهران. ولكنه لم يكن يملك أموالًا كافية، فاشتراه مناصفة مع أحد أصدقائه، وهو رجل روسي أرمني مرح جهوري الصوت، اسمه بارتيف، يملك مصنعًا للصلب في طهران. لم يكن العم بارتيف — كما كنت أدعوه — متزوجًا، وكان مشغولًا طوال الوقت، ولم يكن يأتي إلى المنزل الصيفي إلا نادرًا، وهكذا احتفظنا به لأنفسنا معظم الوقت.
كان المنزل يقع في منتصف قطعة أرض كبيرة محاطة بالأشجار خلف الميناء في شارع هادئ يؤدي إلى الشاطئ، وكان مالكه الأول طبيبًا روسيًّا وصديقًا مقربًا لوالدي، وبناه بنفسه مستخدمًا الخشب الروسي المتين. كان يضم أربع حجرات نوم وحجرة للمعيشة ومطبخًا صغيرًا وحمامًا؛ جدرانه الخارجية مدهونة باللون الأخضر الفاتح، وبه اثنتا عشرة سلَّمة حجرية تؤدي إلى الباب الأمامي.
كانت الرحلة من طهران إلى المنزل الصيفي تستغرق نحو خمس ساعات بالسيارة. كنا نتجه غربًا ونواصل سيرنا في الأراضي المنبسطة حتى نصل إلى مدينة قزوين، ثم ينعطف الطريق نحو الشمال باتجاه جبال «ألبرز» التي تبدو سدًّا منيعًا يفصل بين صحاري وسط إيران وبحر قزوين. كنا نمر بأنفاق وممرات ضيقة شديدة الانحدار ومنعطفات مقفرة يتخذها الطريق عبر سلسلة الجبال متبعًا وادي «النهر الأبيض»، حيث تغطي الغاباتُ الكثيفة التلالَ، وتهبُّ الرياح حاملة شذا حقول الأرز.
كان سور معدني شفاف مدهون باللون الأزرق السماوي ويفوق طوله طول أخي يحيط بمنزلنا. وعند وصولنا كان أبي يوقف سيارتنا الزرقاء من طراز أولدزموبيل عند البوابة، وأخرجُ من السيارة وأفتح البوابة كي تمر السيارة. كان الممر الطويل غير المرصوف يمتد نحو المنزل الصيفي ويختفي خلف أشجار القيقب والصنوبر والحور والتوت، وتحت قدمي يبرز الحصى الملون من بين الثرى ويلمع في ضوء الشمس الذي يخترق الغطاء الكثيف من الأشجار. يؤدي الممر إلى فتحة تبدو ساطعة الإضاءة دقيقة، ثم يظهر فجأة الدرج الحجري الأبيض المؤدي إلى المنزل.
كان المنزل دومًا يستقبلنا برائحة رطبة مألوفة ملأت الهواء الراكد في المكان خلال أشهر غيابنا. كانت هناك سجادة باللون الأخضر الداكن تغطي الأرض، وقبل دخولنا المنزل، تأمرنا أمي بخلع أحذيتنا وتنظيف أقدامنا حتى لا نجلب الرمال معنا إلى الداخل. أثث والداي غرفة المعيشة الصغيرة بطاقم حديدي اشترياه من مزاد متنقل. كان مطليًّا باللون الأبيض، وبه وسادات أرجوانية مخملية ومائدة ذات سطح زجاجي، أما عن غرف النوم فكانت غاية في البساطة، فلم تكن تحتوي إلا على أَسِرَّة عادية وخزانات خشبية قديمة، والستائر المعلقة في النافذة مصنوعة من القماش المزين بالورود الزاهية الألوان. وعندما أخلد للنوم ليلًا كنت غالبًا أترك النوافذ الثلاث في غرفتي مفتوحة كي تتسلل منها صيحات الديوك في الصباح. وعندما تمطر السماء يصيح البط ويلعب في البرك الموحلة، ويفوح عبق أشجار الليمون البرية من أوراقها السميكة.
كان هناك مكان خاص في المنزل الصيفي أتلو فيه الصلاة كل صباح كما علمتني جدتي. من مسافة يبدو ذلك المكان صخرة ضخمة مكسوة بالطحالب، ولكن كلما اقتربت منها تبينت أنها تتكون من العديد من الأحجار الصغيرة. بلغ ارتفاع الصخرة نحو متر، وعرضها نحو مترين، وبها قضبان معدني سميك صدئ يبرز من أحد جوانبها. تعود تلك الصخرة إلى العصور القديمة، عندما كان البحر يغطي معظم الأرض، وكانت ذات يوم مكانًا يربط فيه الصيادون زوارقهم، وبدت لي غريبة الشكل وفي غير موضعها عندما اكتشفتها في ركن مهمل من المكان. كنت أحب أن أقف عليها وأفتح ذراعيَّ للنسيم العليل وأغلق عينيَّ، وأتخيل أن البحر يحيط بي، وسطحه الشفاف يضطرم بالحياة ويمور محولًا أشعة الشمس إلى سائل ذهبي ينسلُّ نحو الشاطئ، حيث تبدو التلال الرملية كبثرات على الأرض الساخنة. أطلقت على هذا الأثر الغريب اسم «صخرة الصلاة».
كنت عادة أستيقظ مع شروق الشمس وأتجول بالخارج. نهر من الضباب يتدفق بين الأشجار ويرتفع فوق العشب الطويل ويغطي ساقي. عندما أصل إلى «صخرة الصلاة» يبدو وكأن الشمس أطلقت أنفاسها في الضباب فأكسبته اللون الوردي. كان السطح العلوي للصخرة جزيرة تستقر فوق بحر برَّاق. كنت أرقد على الصخرة وأدع أشعة الشمس تغطي جسدي وتشعرني بالخفة؛ كأني مخلوقة من ضباب وضوء.
كل صيف أقضي أنا وأمي نحو شهرين في المنزل الصيفي، لكن لم يكن باستطاعة أبي الحصول على إجازة طويلة كهذه من العمل، فلم يكن يقضي معنا سوى أسبوعين فقط، ثم يزورنا في عطلة نهاية الأسبوع. ولعدة أعوام ظللت أقضي أيامي في المنزل الصيفي ما بين ركوب الدراجة، وبناء قصور من الرمال، والسباحة، ومطاردة البط، واللعب مع الأطفال الذين يسكنون المكان. كنت أفعل ما يحلو لي بحرية طوال النهار، ولم أكن أعود إلى المنزل إلا لتناول العشاء والنوم. وبمرور الأعوام كبرت، وظلت أيامي الصيفية كما هي، فيما عدا أن مغامراتي اليومية قد اتسع نطاقها وأخذت تبعدني عن المنزل أكثر؛ ففي سن الثانية عشرة كنت أقضي نصف النهار أستكشف المدينة على ظهر الدراجة. كنت أسلك الشوارع القديمة الضيقة التي تصطفُّ على جانبيها المنازل البيضاء الصغيرة في طريقي إلى السوق. كان كعك الأرز والكعك المحشو بالجوز المفروم والسكر يقيم صلبي في الأيام العديدة التي أفوِّت فيها وجبة الغداء. كانت أسواق السمك تغصُّ بأصوات الباعة المرتفعة ورائحة السمك النفاذة وعبق الأعشاب الطازجة.
من بين أماكني المفضلة ذلك الجسر الذي يصل بين جانبَي الميناء. كنت أقف على الجسر، وأشاهد القوارب والسفن وهي تعبر المياه، والمياه الزرقاء تمتد نحو الأفق، والسفن الضخمة تشقُّ سطح المياه مخلِّفة وراءها الزبد الأبيض، بينما الهواء المشبع بالمياه المالحة يملأ رئتيَّ. كنت أحب الضباب على وجه التحديد، فهو يضفي هيئة حالمة غير حقيقية على الميناء. عندما يكون الضباب كثيفًا يمنعني من الرؤية، كنت أسمع صوت مجاديف الزوارق وهي تشق عباب المياه، ثم يظهر الزورق نفسه كأنه وُجد من العدم.
عندما كنت في سن العاشرة من العمر اشترت خالتي زينيا منزلًا صيفيًّا يبعد نحو أربعة أميال عن غازيان، ويقع في منطقة سكنية حديثة مجهزة بملاعب التنس وكرة السلة، والمطاعم، وحمامات السباحة. كانت المنازل باهظة الثمن محاطة بحدائق خلابة وأسوار معدنية بيضاء يبلغ ارتفاعها الخصر، تلمع بطلاء حديث الدهان، والأطفال يركبون دراجاتهم في شوارع نظيفة.
لم تكن خالتي زينيا تشبه أحدًا من عائلتنا، فهي شقراء ذات عينين زرقاوين، وكل ما لديها كان كبيرًا؛ فلديها منزل كبير في طهران، وسيارة كبيرة، بل وسائق كبير أيضًا. كان زوجها الذي توفي في حادث سيارة بعد وفاة جدتي بعامين يملك مصنعًا للحوم المصنَّعة في مدينة «رَشت» التي تبعد اثنين وعشرين ميلًا عن منزلنا، وبعد وفاته تولت خالتي إدارة شئون العمل، وقامت بها على خير وجه. كانت ابنتها التي تدعى مارينا أيضًا، ويناديها الجميع باسم ماري، أثيرة عند أمي. كانت تكبرني بعشرين عامًا، وكانت ضئيلة الحجم، يبدو عليها التوتر دائمًا عند وجود أمها بالقرب منها. كانتا عنيدتين صعبتي المراس، تتشاجران باستمرار على كل شيء.
عام ١٩٧٨ وعندما كنت في الثالثة عشرة، قضت ماري وزوجها فترة الصيف بأكملها في منزل خالتي الصيفي، وكنت أنا وأمي نزورهما كل يوم تقريبًا. لم تكن خالتي زينيا تمكث في المنزل إلا لمامًا، وكانت تقضي معظم وقتها إما في المصنع، حيث أعدت مكانًا صغيرًا مريحًا للسكن، أو في منزلها بطهران.
أثناء رحلاتي اليومية بالدراجة لاحظت أن المراهقين يقضون وقتهم في أحد ملاعب كرة السلة، وكل يوم يجتمعون نحو الخامسة مساءً، حيث يلعب الفتية كرة السلة بينما تجلس الفتيات في الظل يثرثرن ويشجعنهم. قررت ذات يوم أن أقترب منهم. كانت نحو خمس عشرة فتاة يجلسن على العشب في مجموعات من اثنتين أو ثلاث. تركتُ دراجتي بجوار شجرة ودنوت منهن، ولكن بدا أن أحدًا لم يلاحظ وجودي. وقعت عيناي على فتاة تجلس بمفردها فوق مائدة رحلات، وجلست بجوارها، فنظرتْ لي وابتسمت. كان شعرها البني الفاتح الناعم يصل حتى خصرها، وترتدي سروالًا أبيض قصيرًا، وقميصًا أبيض بلا أكمام. بدا وجهها مألوفًا، فقدمتُ نفسي لها، واتسعت عيناها ترحيبًا بي. اكتشفنا أننا كنا نذهب إلى نفس المدرسة، ولكنها تكبرني بعامين، ولم نتبادل الحديث من قبل قط. كانت خالتها تملك منزلًا صيفيًّا في الجوار مثلي، وتقضي بعض الوقت هي وأسرتها مع خالتها. كان اسمها جيتا.
أحرز أحد الفتية هدفًا، فصفقت الفتيات وهللن، واستدار الفتى ينادي فتاة تجلس بجوارنا: «نيدا، هلا أحضرت لي زجاجة من الكولا؟ أكاد أموت عطشًا.»
كان الفتى يبلغ من الطول نحو مائة وستين سنتيمترًا، ذا عينين سوداوين تعلوان عظمتَيْ خدٍّ قويتين، وشعره الأسود الناعم يتطاير وهو يجري. وقفت نيدا على مضض، ونفضت العشب العالق بسروالها الأبيض. كان شعرها البني الذي يصل إلى كتفيها مدسوسًا خلف أذنيها.
نادت نيدا على الفتيات: «من ستأتي معي؟» فانضمت إليها بعض الفتيات، وسرن إلى الجانب الآخر من الشارع الضيق حيث مطعم الوجبات السريعة «موبي ديك».
أشارت جيتا إلى شاب يقف في الجانب الآخر من الملعب. كان طوله نحو مائة وثمانين سنتيمترًا، ويزن نحو تسعين كيلوجرامًا، ويبدو في العشرين من عمره على الأقل. لم تكن الفتاة الشقراء ضئيلة الحجم التي تقف بجواره تصل ولو إلى كتفه. أخبرتني جيتا أن اسمه رامين، وأنه أكثر الرجال الذين رأتهم وسامة.
قالت: «سوف أحظى به يومًا ما، إنه لي.»
كانت صديقاتي دومًا يماثلنني في العمر، وخبرتي مع الفتيان محدودة؛ لم أفكر يومًا في أن «أحظى» بفتى.
ارتفع صوتٌ من خلفنا: «مرحبًا جيتا. ألن تعرِّفينا بصديقتك الجديدة؟»
كانت هذه نيدا، وقدمتنا جيتا إحدانا للأخرى. اكتشفت أن نيدا لها ابنة عم أعرفها جيدًا، فهي تذهب إلى نفس مدرستنا. وفي نهاية حديثنا، دعتني نيدا إلى حفل عيد ميلادها في اليوم التالي.
•••
كان لديَّ الفستان المناسب لحفل عيد ميلاد نيدا، فمنذ بضعة أشهر كانت أمي قد قررت أن تطلب بعض الملابس لنفسها من أحد الكتالوجات الألمانية، وعرضت عليَّ أن تطلب لي بعض الملابس معها. اخترت فستانًا أبيض ليس باهظ الثمن ولكنه جميل. كانت فتحة عنقه كبيرة، وقماشه حريري خفيف. كانت خطة حفل عيد ميلاد نيدا تقتضي أن نذهب للسباحة أولًا، ثم نذهب إلى منزلها لتناول العشاء والرقص، وطلبتْ مني جيتا أن أرتدي ثوب السباحة تحت ملابسي العادية، وأن أحضر فستاني معي.
في يوم الحفل استيقظت مبكرًا عن المعتاد، وقضيت ساعات في دورة المياه أجرب ارتداء كل ثياب السباحة التي أملكها، وكل مرة كنت أحدق في صورتي في المرآة منزعجة من العيوب التي أراها، فذراعاي نحيفتان، وفخذاي ممتلئتان، وصدري مستوٍ للغاية. وأخيرًا قررت أن أرتدي ثوب السباحة الأبيض ذي القطعتين الذي أهدته لي ماري. كانت ماري قد ذهبت في رحلة إلى أوروبا واشترت لنفسها مجموعة من أثواب السباحة الجديدة، وأعطتني مجموعتها القديمة. لففت حذائي الأبيض في كيس بلاستيكي، ووضعت كل شيء في حقيبة بحر مصنوعة من الخيش. كانت الساعة العاشرة صباحًا، ونحن نذهب إلى منزل ماري نحو الساعة العاشرة والنصف في أغلب الأيام. لم تكن أمي تجيد القيادة، ودائمًا كنا نستقل سيارة أجرة عندما لا يكون أبي موجودًا. كان بوسعي أن أسمع صوت أمي وهي تعبث بالأشياء في المطبخ، وهو أمر غريب، فهي لم تكن تدخل المطبخ في هذا الوقت من اليوم.
قلت لها وأنا أقف عند باب المطبخ وأحمل حقيبة البحر في يدي: «أمي، أنا جاهزة.»
كان الجو يعبق برائحة السمك، وأمي تغسل لوح تقطيع كبير، ونظرت لي بطرف عينها.
– «جاهزة لأي شيء؟ لن نذهب لأي مكان اليوم.»
كانت طاولات المطبخ مغطاة بأوعية وقدور ومقالٍ مختلفة الأحجام.
– «ولكن …»
– «من دون اعتراضات! خالك إسماعيل وزوجته قادمان من طهران لزيارة ماري، وخالتك زينيا هنا أيضًا. وسوف يأتون جميعًا لتناول الغداء والعشاء ولعب الورق معنا اليوم، وربما يبيتون معنا الليلة.
– «لكني مدعوة إلى حفل عيد ميلاد اليوم!»
– «حسنًا، لا يمكنك الذهاب.»
– «ولكن …»
استدارت كي تواجهني، وشعرت بغضبها يملأ المكان.
– «ألا تفهمين معنى كلمة «لا»؟»
استدرت، وذهبت إلى غرفتي، واستلقيت على فراشي. كان بإمكاني أن أستقل سيارة أجرة بمفردي، فقد كنت أملك النقود اللازمة، لكن أمي لم تكن لتسمح بذلك. ربما كان بوسعي أن أتسلل من المنزل، لكن سيتعين عليَّ أن أعود قبل حلول الظلام، وأنا ممنوعة من التأخر خارج المنزل ما لم تكن أمي على علم بالمكان الذي أكون فيه. سمعت صوت سيارة تتوقف أمام منزلنا وإطاراتها تصدر صريرًا على الرمال المبتلة. نظرت من النافذة فرأيت مرتضى سائق خالتي زينيا — وهو رجل مهذب في أواخر العشرينيات من العمر — يفتح الباب الخلفي لسيارتها الشيفروليه الجديدة. أسرعت أمي إلى الباب الأمامي، وهبطت الدرَج، وعانقت شقيقتها. فتح مرتضى صندوق السيارة وأخرج حقيبة صغيرة، ثم توجهوا جميعًا إلى المنزل. ظللت بجوار النافذة وقلبي يخفق من شدة الإحباط.
سمعت خالتي زينيا تقول لأمي بصوتها الحاد الآمر: «عزيزتي، أحضري لي كوبًا من الماء البارد. ذهبت ماري مع إسماعيل وكامي إلى المدينة، وسيأتون بعد قليل. أين مارينا؟ لقد أحضرت لها مفاجأة.»
– «إنها هنا. لا بد أنها عابسة في غرفتها.»
انفتح باب غرفتي فجأة.
– «ما الأمر يا مارينا؟ ألن ترحبي بخالتك؟»
تقدمت نحوها، وعانقتها وقبَّلتها، ومع أن بشرتها كانت رطبة مبللة بالعرق، فإنها كانت تفوح بعطر «شانيل رقم ٥». عانقتني عناقًا حارًّا، ووجدت نفسي أغرق في أحضانها. وعندما أطلقت سراحي أخيرًا، أخرجت سوارًا جميلًا من حقيبتها ألبستني إياه. كانت دومًا تهديني هدايا جميلة. مسحتُ عيني بظهر يدي.
– «كنت تبكين؟ لماذا؟»
– «أنا مدعوة إلى حفلٍ الليلة، ولا أستطيع الذهاب.»
ضحكت وقالت: «ولمَ لا تستطيعين الذهاب؟»
– «الأمر …»
– «لأني هنا؟»
أطرقت برأسي، وقلت: «نعم.»
– «ربما أكون كبيرة في السن، لكنني كنت صغيرة يومًا ما. كنت صغيرة وجميلة. وما زلت أذكر ذلك الشعور.»
كتمت أنفاسي.
– «سوف يصطحبك مرتضى إلى ذلك الحفل ويعيدك مرة أخرى.»
– «حقًّا؟»
– «نعم أيتها السندريلا. يمكنك الذهاب، ولكن عودي إلى المنزل قبل منتصف الليل.»
•••
شكرتُ مرتضى عندما أقلني إلى منزل نيدا، ووعدته أن أكون في انتظاره عند منتصف الليل، ولوَّحت له وهو يبتعد. خطوت على الأحجار الرمادية الناتئة بين العشب في الفناء الأمامي لمنزل نيدا، ووجدتها تقف في الشرفة المحيطة بالمنزل ذي الطابق الواحد تتبادل الحديث مع فتاتين. كان الجانب الخلفي من المبنى يواجه البحر، واستطعت سماع صوت الأمواج وهي تضرب الشاطئ الرملي، وسرعان ما وصل الجميع. تركتِ الفتيات حقائبهن في غرفة نيدا، وترك الفتيان حقائبهم في غرفة أخيها، واندفعنا جميعًا نجري نحو الشاطئ. لعبنا المسَّاكة وكرة الماء حتى تضوَّر الكل جوعًا، ثم عدنا إلى المنزل. عندما فتحت حقيبتي في غرفة نيدا كي أرتدي فستاني، أدركت أنني لم أحضر معي ملابس داخلية. سوف أظل مرتدية ثوب السباحة. لا مشكلة في ذلك؛ فمع أنه مبتلٌّ قليلًا، فهو أبيض اللون ولن يظهر.
بعد أن تناولنا العشاء المكون من اللحوم الباردة والخبز الطازج والسلطات، نحَّينا كل قطع الأثاث الموجودة في غرفة المعيشة جانبًا، وانطلقت موسيقى «بي جيز» في المكان. رقصت نيدا مع أرام، وهو لاعب كرة السلة الوسيم الذي طلب منها أن تحضر له زجاجة الكولا عندما قابلتها لأول مرة. بدا جسد نيدا البرونزي جميلًا في فستانها الأبيض، ولاحظت أن أرام همس بشيء ما في أذنها جعلها تضحك. وسرعان ما انقسم الجميع إلى ثنائيات، ووجدت نفسي أجلس وحيدة في أحد الأركان أحتسي زجاجة من الكولا. وعندما فرغت، شغلت نفسي بفتح زجاجة أخرى وملء طبق برقائق البطاطس. استمرت الأغاني واحدة تلو الأخرى، والتهمت الكثير من البطاطس حتى آلمتني معدتي، ولكن لم يدعُنِي أحد للرقص. رقصت جيتا مع رامين؛ ذلك الفتي ممتلئ الجسم من ملعب كرة السلة، ورأيته يمرر يده على ظهرها فتورَّد وجهها خجلًا. نظرت في ساعتي فوجدتها العاشرة. أقف هكذا منذ ساعة دون أن يوجِّه أحدهم لي كلمة واحدة. شعرت بالعزلة والارتباك والحرج والحزن في آنٍ واحد، وأردت أن أخرج من الغرفة.
كان الباب المؤدي إلى الشرفة الخلفية يبعد عني خطوة واحدة، ففتحته وألقيت نظرة أخرى على الغرفة، ولكن لم يُبدِ أحدهم أي رد فعل، فخرجت من الغرفة. كان الهلال قد نشر أشعته الفضية على البحر، والجو دافئ، وكنت بحاجة لفعل شيء. ربما بإمكاني أن أسبح قليلًا، فالسباحة تجعلني دائمًا في حال أفضل، وقد مارست السباحة ليلًا عدة مرات من قبل. في ضوء القمر يتحد البحر مع السماء ويتحول إلى كتلة فضية دافئة من الظلام. هبطت الدرج الذي يصل بين الشرفة وفناء المنزل وبدأت أخلع فستاني، ولكنني جفلت عندما فاجأني صوت أحدهم والفستان ينزلق على الأرض: «ماذا تفعلين؟»
رأيت شابًّا يقف بجوار كرسي الحديقة في أحد جوانب الفناء ويغطي عينيه بيديه.
قلت وقلبي يخفق: «لقد أخفتني! لماذا تختبئ هكذا؟»
– «لست مختبئًا. كنت جالسًا هنا على هذا المقعد أشم بعض الهواء النقي، وفجأة أتت فتاة وبدأت تخلع ملابسها أمامي!» المضحك في الأمر أنه بدا مذعورًا أكثر مني. كان يبدو على الأكثر في السادسة عشرة، ولا يزال يغطي عينيه بيديه.
– «هل ارتديت فستانك؟»
– «ماذا دهاك؟ أنا لست عارية، بل أرتدي ثوب السباحة، وسوف أسبح قليلًا.»
قال وهو يرفع يديه عن عينيه: «هل جننتِ؟ تريدين أن تسبحي في منتصف الليل في تلك المياه المظلمة؟»
– «ليست مظلمة تمامًا، ثم إن القمر بازغ!»
– «لا، لا، سوف تغرقين، ولن أسامح نفسي أبدًا.»
– «لن أغرق.»
– «لكني لن أسمح لك بالذهاب.»
كان قد اقترب مني، فلم يعد يفصلنا سوى نحو نصف متر.
قلت وأنا أرتدي فستاني: «حسنًا، لن أذهب.»
نظر إليَّ بعينين داكنتين واسعتين تعلوان عظام خدِّه الناتئة قليلًا. كان فمه الطفولي الصغير متناقضًا مع بقية قسمات وجهه التي تشي بالقوة، وكان أطول مني بنحو خمسة سنتيمترات، وشعره بني قصير. أدهشتني نظرة عينيه التي جعلتني أشعر بأنني مميزة، واستثنائية، وجميلة. كان اسمه أراش.
قررت أن أجلس في الخارج ما دمت لا أستطيع السباحة، فجلست على أحد كراسي الحديقة الوثيرة، لكني كنت مع أراش بكل حواسي، حتى إنني كنت أسمع صوت أنفاسه. بعد نحو عشر دقائق نهض واقفًا، فوثبت فزعة من مكاني.
– «هل تستمتع بإخافتي؟»
– «آسف، لم أقصد ذلك، ولكن عليَّ أن أذهب. لا تسبحي بعد أن أرحل، اتفقنا؟»
– «اتفقنا.»
راقبته وهو يبتعد ويدخل المنزل، وبعد دقيقة خرجت نيدا وطلبت مني الدخول لأنها ستقطع كعكة عيد ميلادها.
•••
بعد الحفل ببضعة أيام كنت أركب دراجتي متجهة إلى الشاطئ كي أقابل جيتا، وكانت هناك بعض الرمال في الطريق نظرًا لأعمال البناء، فانعطفت بسرعة كبيرة، فما كان من الدراجة إلا أن انزلقت على أحد جانبيها وسقطت على الأرض. تمكنت من الوقوف، لكن وجدت أن الدماء تسيل من ركبتيَّ ومرفقيَّ. كانت الساعة نحو الثانية ظهرًا، والجو شديد الحرارة، ولذلك كان الشارع خاليًا. على الأقل لم يَرَني أحد وأنا أسقط هكذا. وبينما كنت أحاول جذب دراجتي بعيدًا عن الطريق شعرت بأحدهم يقف خلفي، فاستدرت. رأيت أراش، وبدا مندهشًا مثلي.
سألته: «هل تظهر دائمًا على حين غرة؟»
فضحك وهو يتفحص جروحي، وقال: «وهل أنت رعناء؟ علينا أن نطهر جروحك. هذا منزل عمتي.» وأشار إلى منزل صيفي في جانب الطريق.
حمل أراش دراجتي وتبعته. كانت جروحي تؤلمني، واغرورقت عيناي بالدموع، لكني أخذت نفسًا عميقًا ولم أفتح فمي بالشكوى؛ إذ لم أكن أرغب في أن يظنني فتاة ضعيفة.
قال: «كنت جالسًا في الشرفة أراقب الطريق، ثم أتيتِ أنتِ بسرعة هائلة ووقعتِ. من حسن حظك أن عنقك لم ينكسر.»
كست الزهور الوردية وزهور الكوبية الزرقاء حوائط المنزل البيضاء، ولامست الأغصان الخضراء الفضية لشجرة صفصاف عملاقة السقف الأحمر.
فتح أراش باب المنزل، ودخلت. كانت رائحة الكعك الطازج تنبعث من المكان.
صاح أراش: «جدتي، لدينا ضيفة.»
دخلت عجوز حسنة المظهر ذات شعر أشيب الحجرة آتية من المطبخ. كانت ترتدي فستانًا أزرق اللون وتجفف يديها المبللتين بمئزرها الأبيض، وتبدو شديدة الشبه بجدتي.
نظرتْ إليَّ ولاحظت الدم، فسألت بالروسية: «ماذا حدث؟» لم أصدق أذني؛ كانت تتحدث مثل جدتي تمامًا. أخذتني من ذراعي وقادتني إلى المطبخ بينما كان أراش يخبرها بما حدث. كانت تهتم بأدق التفاصيل مثل جدتي، وسرعان ما أدركتُ أنها طهرت الجرح وعقمته وضمدته. بعدها بقليل وضعت فنجانًا من الشاي وكعكة أعدتها بنفسها أمامي على المائدة.
قالت بالفارسية ولكن بلكنة روسية واضحة: «تفضلي.»
أجبتها بالروسية: «شكرًا.»
اتسعت عيناها دهشة، وقالت بابتسامة عريضة: «فتاة روسية! هذا رائع! لديك الآن حبيبة، وليست حبيبة عادية، بل فتاة روسية جميلة!»
احمرَّ وجه أراش خجلًا.
– «جدتي! يكفي هذا! إنها ليست حبيبتي!»
فضحكْتُ.
قالت جدته: «قل ما تشاء، لكنه أمر لطيف للغاية. عظيم جدًّا. سأترككما وحدكما.» ثم رفعت صوتها وهي تبتعد عن المطبخ: «يا له من أمر رائع!» عدة مرات.
قال أراش: «رجاءً أن تعذري جدتي، فهي عجوز، وفي بعض الأحيان تختلط عليها الأمور.»
صاحت جدته من غرفة أخرى: «هل أريتها نايَك؟»
تغيَّر لون وجه أراش مرة أخرى.
– «أي ناي؟»
– «لا تشغلي بالك، فأنا أعزف على الناي من أجل التسلية فحسب.»
– «لم يسبق لي أن تعرفت على شخص يعزف على الناي من قبل. هلا عزفت من أجلي؟»
أجابني: «بالطبع.» لكن دون أن يبدو عليه الحماس.
اتبعته إلى غرفته حيث أخرج نايًا فضيًّا من صندوق أسود مستطيل ومرر أصابعه على الآلة الملساء، وسرعان ما امتلأ المكان بصوت أغنية حزينة. جلست على فراشه واتكأت على الحائط، ووقف أمامي يتحرك جسده مع الموسيقى كأنها جزء منه. حدقت عيناه إلى الأمام كأنه يحلم، ويرى ما لا يستطيع أحد غيره رؤيته. تراقصت الستارة القطنية البيضاء أمام النافذة المفتوحة، محدثة دوامات يمتزج فيها ضوء الشمس بالظل. لم أستمع إلى موسيقى عذبة هكذا من قبل. نظر في عيني عندما انتهى، لكني لم أقل شيئًا. عرفت أنه قد كتب تلك المقطوعة الموسيقية بنفسه، لكنه كان شديد التواضع بشأن ذلك الأمر. سألني هل أستطيع العزف على أي آلة موسيقية، فأجبت بالنفي. ثم سألني عن عمري، وصدم عندما أخبرته بأنني في الثالثة عشرة، فقد كان يظن أني في السادسة عشرة على الأقل، ودهشت عندما علمت أنه في الثامنة عشرة.
راقت لي الطريقة التي ينظر بها إليَّ عندما أتحدث معه، فقد كان يجلس مسترخيًا في مقعده مستندًا بمرفقه على ذراع المقعد، واضعًا يده أسفل ذقنه ويبتسم، وعيناه تنظران لي باهتمام شديد. توقُّفه لحظات قبل أن يجيب عن أسئلتي كان يشعرني بأن حديثنا مهم له. عرضت عليه أن يذهب معي في نزهة سيرًا على الأقدام في الصباح التالي، ووافق.
•••
في الصباح التالي لوَّحت لنا جدته من شرفة المنزل.
– «إنها تدفعني نحو الجنون، فهي ما زالت تظن أنك حبيبتي وترغب في دعوتك على الغداء اليوم.»
– «بكل سرور إذا لم تكن لديك مشكلة.»
نظر لي بعينين متسائلتين.
– «أعني أنه إذا كانت دعوتي فكرة جدتك وحدها وأنت لا ترغب في حضوري، فبإمكانك أن تخبرني بذلك.»
– «بالطبع أود أن تأتي.»
– «عظيم، لأني أريد سماع عزفك على الناي مرة أخرى.»
سرنا حتى وصلنا مكانًا هادئًا منعزلًا من الشاطئ. من بعيد كنت أرى عددًا من الناس مستلقين على الرمال وآخرين يسبحون. كانت الأمواج البيضاء ترتفع وتنكسر على الشاطئ، فخلعت حذائي وتركت مياه البحر تتخلل أصابع قدميَّ. كانت المياه لطيفة وباردة. طلبت منه أن يخبرني المزيد عن عائلته، فأخبرني أن والده رجل أعمال ووالدته ربة منزل، وأنهما يذهبان إلى أوروبا كل صيف، بينما يأتي هو وشقيقه وجدته كي يقيموا مع خالته في منزلها الصيفي. وذكر لي أن شقيقه الذي يصغره بعامين يدعى أرام.
قلت وقد أخذتني المفاجأة: «لا بد أنك تمزح! أرام شقيقك؟»
– «نعم، هل تعرفينه؟»
– «نعم، لقد قابلتُه. يبدو اجتماعيًّا، فهو دائمًا يخرج بصحبة الفتيان الآخرين، أما أنت فلم أرَك قبل حفل عيد ميلاد نيدا. أين كنت مختبئًا؟»
أخبرني أنه ليس منبسطًا مثل شقيقه، فهو يفضل قراءة الكتب أو العزف على الناي، وأنه أتى إلى حفل عيد ميلاد نيدا لأنها كانت جارته في طهران ولأنها صديقة شقيقه فحسب.
كان أراش من المتفوقين في المدرسة الثانوية، وقد أنهى للتو عامه الأول في كلية الطب بجامعة طهران. أخبرته أنني متفوقة أيضًا، وأنني أرغب في دراسة الطب مثله، ودعوته للسباحة معي، ولكنه أخبرني بأنه يفضل الجلوس على الشاطئ والقراءة.
كانت جدته إيرينا قد أعدت وليمة للغداء، وكان الجو جميلًا، فوضعت المائدة في الفناء الخلفي تحت شجرة الصفصاف متهدلة الأغصان. كانت المائدة مغطاة بمفرش أبيض مكوي بعناية. راقبتها وهي تصب عصير الليمون في كأسي بينما نسيم البحر يداعب خصلات شعرها الفضي، ثم ملأتْ طبقي بالأرز طويل الحبة والسمك المشوي والسلطة متجاهلة اعتراضاتي.
– «عليك أن تكثري من تناول الطعام يا مارينا، فأنت نحيفة جدًّا. يبدو أن والدتك لا تطعمك جيدًا.»
منذ أن اكتشفت إيرينا أنني أتحدث الروسية، لم تتفوه معي بكلمة واحدة بالفارسية. كانت مثل جدتي معتدة بنفسها، ومع أنها تعرف الفارسية، فقد كانت ترفض الحديث بها إلا عند الضرورة القصوى. لم أعد أجيد الروسية كما كنت من قبل. فمع أن والديَّ يتحدثان الروسية في المنزل، فإني رفضت استخدامها منذ وفاة جدتي، لأني شعرت أنها شيء خاص نتشارك فيه أنا وهي، ولم أكن أرغب في مشاركته مع أحد غيرها. لم تكن مهارات أراش اللغوية أفضل مني كثيرًا، وهكذا لم أكن أشعر بالحرج، وشعرت بالسعادة لاستخدامي الروسية مرة أخرى في الحديث مع إيرينا التي كانت تذكرني بأيام طفولتي المبكرة.
بعد الغداء ذهبت إيرينا كي تغفو قليلًا، وذهبت أنا وأراش إلى المطبخ كي نغسل الأطباق. ملأت الحوض بالأطباق المتسخة بينما أراش يضع بقايا الطعام في أوعية بلاستيكية داخل الثلاجة. عندما انتهى من حفظ بقايا الطعام وقف بجواري وفي يده قماشة لتجفيف الصحون. وعندما ناولته أول طبق انتهيت من غسله كي يجففه التقت أعيننا، وقاومت الرغبة الملحة بداخلي في أن أمد يدي وألمس وجهه.
•••
أخبرني أراش ذلك المساء ونحن جالسان في الفناء الخلفي لمنزله: «عليَّ أن أصلِّي قبل غروب الشمس.»
– «أيمكنني مشاهدتك؟»
قال لي: «يا لأفكارك الغريبة!» لكنه وافق، وراقبته دون أن أتفوه بكلمة. توجه نحو القبلة وشرع يؤدي الصلاة، فأغلق عينيه، وتمتم بأدعية باللغة العربية، ثم ركع، ووقف، ولمس حَجَر الصلاة بجبهته.
سألته بعد أن انتهى من صلاته: «لماذا أنت مسلم؟»
قال وهو يضحك: «أنت أغرب من قابلت في حياتي!» لكنه أوضح لي أنه مسلم لأنه يعتقد أن الإسلام بإمكانه أن ينقذ العالم.
سألته: «وماذا عن روحك؟»
فوجئ بسؤالي، وأجابني: «بالطبع سوف ينقذ روحي أيضًا. هل أنت مسيحية؟»
– «نعم.»
– «لماذا؟ هل لأن والديك مسيحيان؟»
أوضحت له أن والديَّ ليسا مسيحيين ملتزمين.
أصر على سؤاله: «لماذا إذن؟»
أدركت أنني لا أعرف الإجابة تحديدًا. أخبرته أني درست الإسلام ولم أجده مناسبًا لي، ولست أدري لِمَ راودني هذا الشعور. ربما كنت أعرف عن محمد أكثر مما أعرف عن المسيح، وقرأت من القرآن أكثر مما قرأت من الإنجيل، لكن المسيح كان أقرب إلى قلبي، كان وطنًا لي. ابتسم أراش. أعتقد أنه كان يتوقع مني حجة قوية، لكنه لم يجد شيئًا. كان الأمر في نظري مسألة عاطفية.
سألته هل والداه متدينان، فأخبرني أن والده ينحدر من عائلة مسلمة ويؤمن بالله، لكنه لا يؤمن بالرسل سواء محمد أم المسيح أم غيرهما. أما جدته إيرينا فتنحدر من عائلة مسيحية، لكنها ليست متدينة على الإطلاق، وزوجها الذي توفي منذ عامين كان ملحدًا، وهو جده لوالدته المسيحية التي كانت تصلي في المنزل ولم تذهب إلى الكنيسة قط. كنت أرغب في معرفة رأي عائلته في معتقداته الدينية، فأخبرني أنه يحرص على أداء الصلوات بانتظام منذ أن بلغ الثالثة عشرة، لكنهم ما زالوا يعتقدون أنه يمر بمرحلة عابرة سوف تنقضي.
وفي مساء اليوم التالي جلست على السلالم الحجرية المؤدية إلى منزلنا الصيفي كي أشاهد الغروب. تحولت السحب في الأفق إلى اللون الأحمر لمَّا مرت بها الشمس، ثم تحول اللون الأحمر إلى أرجواني حالم مع اقتراب الليل. لم أتوقف عن التفكير في أراش. كنت أشعر بالسعادة عندما يكون معي؛ سعادة دافئة مبهجة تسمو على كل ما عداها وتجعل العالم بأسره يبدو ضئيلًا تافهًا. أغلقت عيني وأنصتُّ إلى صوت الليل، سمعت رفرفة أجنحة الخفافيش وهي تبحث عن عشائها وبوق سفينة في الميناء. كان أراش قد قرأ لي بعض الأشعار، وصوته الرخيم الرقيق جعل أشعار حافظ وسعدي والرومي تبدو أكثر روعة مما لو قرأتها بنفسي. كان يلقي الشعر بثقة كأنه شعره، كأنه صاغ كل كلمة فيه مثل لحن رائع. ربما يكون هذا هو الحب؛ ربما أحببته.
أردت أن يرى أراش الصخرة التي أصلي عليها، فدعوته إلى منزلنا ذات صباح.
سألني ونحن نجتاز البوابة باتجاهها: «لماذا تطلقين عليها «صخرة الصلاة»؟»
– «لأني صليت هناك مرة عندما كنت طفلة صغيرة، وراودني شعور مميز للغاية، فعاودت المجيء، وأصبح مكاني المفضل.»
وسرعان ما بلغنا الصخرة. لم أكن قد أريتها لأي شخص من قبل، وللحظة لم أكن على يقين مما إذا كنت قد فعلت الصواب، فالمكان في النهاية ليس سوى مجموعة غريبة من الصخور المكسوة بالطحالب.
سألته: «هل تظنني مجنونة؟»
– «كلا، بل أعتقد أنك في أمس الحاجة مثلي إلى القرب من الله، وبينما أستخدم الناي وسيلة لذلك، فأنت تصلين على هذه الصخرة.»
قلت: «دعنا نصلي معًا. ربما يراودك نفس شعوري. إنها أشبه بنافذة تفتح على السماء.»
تسلقنا الصخرة ورفعنا أيدينا نحو السماء، وردَّدت جزءًا من المزمور الثالث والعشرين من مزامير داود: «الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء. في مراعٍ خضر يربضني. إلى مياه الراحة يوردني. يردُّ نفسي. يهديني إلى سبل البر من أجل اسمه. أيضًا إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرًّا لأنك أنت معي. عصاك وعكازك هما يعزيانني.»
قال عندما انتهيت: «جميل! ما هذا؟»
أوضحت له أن مزامير داود جزء من الإنجيل. لم يكن قد سمع عنها من قبل، فأخبرته أن جدتي كانت تقرؤها لي، وبأن ذلك المزمور هو المفضل لدي.
جلسنا على الصخرة وأمعن أراش النظر إلى الأمام، ثم سألني: «هل تساءلتِ من قبل عما يحدث لنا بعد الموت؟»
أجبت بالإيجاب، فأخبرني بأن الموت لغز لا يمكن حله، فهو المكان الوحيد الذي لو زرناه لن نتمكن من رواية ما جرى لنا فيه، ولا أحد يمكنه الفرار منه.
قلت: «أكره موت مَن نحب، فألم فراقهم لا ينقطع.»
– «الواقع أني لم أفقد أحدًا من قبل، فقد توفي جدي وأنا صغير، ولا أذكر أي شيء عن ذلك.»
– «لكني أتذكر وفاة جدتي.»
رأيت الدموع تترقرق في عينيه، ومرة أخرى راودتني الرغبة في أن أمسَّ وجهه وأتحسس خطوطه بأصابعي، بل راودتني الرغبة في تقبيله. غمرني هذا الشعور، فنهضت واقفة، ووقف هو الآخر، وللحظة تلاقت شفاهنا، ثم تباعدنا كأن صاعقة برق ضربتنا.
– «أنا آسف.»
– «علامَ؟»
– «من المخالف للشريعة أن يمس رجل امرأة هكذا ما لم يكونا متزوجين.»
– «لا مشكلة.»
– «كلا، هناك مشكلة. أريدك أن تعلمي أنني أخاف عليك وأحترمك، ولم يكن عليَّ فعل ذلك، ثم إنك أصغر مني كثيرًا، وعلينا أن ننتظر.»
– «هل تقصد أنك تحبني؟»
– «نعم أنا أحبك.»
لم أفهم تحديدًا سبب شعوره بالذنب بسبب تلك القبلة، لكني أدركت أن للأمر علاقة بمعتقداته الدينية. كنت قد رأيت في ذلك الصيف بعض الشباب والفتيات يتبادلون القبلات في أماكن هادئة، وطالما تساءلت عما يشعرون به. لو كان الأمر بيدي لقبَّلته مرة أخرى، ولكنني لم أُرِد أن أرتكب خطأً أو أن أغضبه. كان هو الأكبر سنًّا والأكثر خبرة، وكنت أثق به.
•••
قضيت تلك الليلة أنا وأمي في منزل خالتي زينيا. استيقظت في السادسة صباحًا وتسللت على أطراف أصابعي إلى المطبخ كي أعد لنفسي كوبًا من الشاي. حملت الكوب في يدي وتوجهت إلى غرفة المعيشة، لكني فوجئت بوجود خالتي زينيا تجلس على مائدة الطعام وقد اختفت خلف كومة من الأوراق. تقدمت قليلًا نحوها. كانت ترتدي ثياب نوم وردية قطنية مطرزة تناسب فتاة صغيرة وليس امرأة كبيرة في الستينيات من عمرها، وكانت منشغلة بالكتابة في مفكرتها الصغيرة. ترددت في إلقاء تحية الصباح عليها، إذ بدت مستغرقة تمامًا فيما تفعله.
سألتني بصوت مرتفع حتى كدت أُسقط الشاي: «لماذا استيقظت مبكرًا هكذا يا مارينا؟ أهو الحب؟»
تمتمت: «صباح الخير خالتي زينيا.»
قالت دون أن تتوقف عن الكتابة: «أيبدو هذا صباح خير لك!» ثم سألتني: «هل تنوين الخروج؟»
– «نعم.»
– «أين؟»
نادرًا ما كانت أمي تسألني إلى أين أذهب.
– «في الجوار.»
– «هل تعرف أمك أنك تخرجين مبكرًا هكذا؟»
– «لا أدري.»
نظرت إليَّ بعينيها الزرقاوين الشاحبتين، ثم قالت: «الأمر عسير، لكنك أهل له.»
نظرت إليها بنظرة متسائلة.
– «لا تتظاهري بالغباء، ولا تنظري لي هكذا، فأنت تعلمين قصدي جيدًا. أمك وابنتي من نفس النوعية. أحضري لي فنجانًا من الشاي.»
استدرت، وفعلت ما طُلب مني. وضعت الشاي على المائدة أمامها بيد مرتعشة قليلًا.
أمرتني أن أجلس وعيناها تتفحصني من رأسي إلى أخمص قدمي، ثم سألتني: «كم عمرك الآن؟»
– «ثلاثة عشر.»
– «ما زلتِ عذراء، أليس كذلك؟»
همست: «معذرة؟»
ابتسمتْ وقالت: «هذا جيد. إنني أفهمك أكثر من أمك، فأنا أنظر وأرى؛ أما هي فتنظر وترفض أن ترى. أظن أن هذا أول يوم أراك دون كتاب في يدك. أتريدين أن أذكر لك أسماءها؟»
– «أي أسماء؟»
– «أسماء الكتب التي قرأتِها.»
كنت أتصبب عرقًا.
– «هاملت، روميو وجولييت، ذهب مع الريح، نساء صغيرات، آمال عظيمة، دكتور زيفاجو، الحرب والسلام، وغيرها كثير. ماذا تعلمت إذن من كل هذه الكتب؟»
– «تعلمت الكثير.»
– «لا ترتكبي أفعالًا حمقاء. لستِ متورطة في تلك الثورة، أليس كذلك؟»
– «خالتي زينيا، ما الذي تتحدثين عنه؟ أي ثورة؟»
– «أتحاولين خداعي؟»
هززت رأسي نفيًا. لم يكن لديَّ أدنى فكرة عما تتحدث عنه.
– «أنا سعيدة لأنك تسمعين هذا الكلام مني، فأنا أعلم الكثير عن الثورات. والآن اسمعيني جيدًا. هناك شيء مفزع يحدث في هذا البلد؛ يمكنني أن أستشعره، فهو يفوح برائحة الدم والكوارث. هناك احتجاجات ومظاهرات ضد الشاه منذ فترة. منذ سنوات وآية الله الذي لا أذكر اسمه هذا يعارض الحكومة، وأؤكد لك أنه لا ينوي خيرًا، فسوف يرحل نظام دكتاتوري كي يحل محله نظام دكتاتوري آخر أسوأ مثلما حدث في روسيا مع اختلاف الأسماء، بل إن الأمر سيكون أكثر خطورة، لأن تلك الثورة تتخذ من الدين قناعًا تختبئ خلفه. المثقفون يتبعون آية الله هذا، بل إن ماري وزوجها معجبان به. إنه في المنفى الآن، ولكن ذلك لم يثنِهِ عن عزمه. عليك أن تبتعدي عنه. إنه يقول إن الشاه فاحش الثراء، لكن الشاه هو الشاه؛ هو ليس مثاليًّا، ولكن من منَّا هكذا؟ يقول آية الله أيضًا إن هناك الكثير من الفقراء في إيران، لكن الفقراء موجودون في كل مكان. لا تنسي ما حدث في روسيا، فقد قتلوا القيصر، ولكن هل تظنين أنهم أصبحوا أفضل حالًا الآن؟ هل تعتقدين أن أهل روسيا أصبحوا جميعًا أحرارًا أغنياء سعداء؟ الشيوعية ليست حلًّا للمشاكل الاجتماعية، ولا الدين أيضًا. هل تفهمين؟»
أومأت وأنا أشعر بالصدمة، ثم عادت خالتي تكتب في مفكرتها مرة أخرى.
•••
في وقت لاحق من هذا الصباح عندما شرعت أنا وأراش في نزهتنا سيرًا على الأقدام، نادانا أرام من الشرفة وسألنا إلى أين نذهب.
سأله أراش: «لماذا تريد أن تعرف؟»
أجاب أرام أنه يشعر بالملل ويرغب في أن يرافقنا، فطلب منه أراش أن يخلد إلى النوم، لكن أرام أصر على المجيء، فاستسلمنا في نهاية الأمر. وبينما كنا نسير نحو الشاطئ سأل أرام عما أفعله أنا وأراش طوال اليوم كل يوم، وهو ما أغضب أراش وأسفر عن مشادَّة بينهما جعلتني أستغرق في الضحك.
وعلى الشاطئ جاء أرام ليسبح معي، لكن أراش لم يكن يحب البحر، بل دائمًا كان يقرأ بينما أسبح. أخذت أراقبه وأنا في البحر، فوجدت أنه غير منتبه للكتاب الذي يقرؤه، ولكنه يراقبني أنا وأرام.
ظل أراش هادئًا طوال اليوم، وفي المساء ذهبنا لغرفته، وأنصتُّ إليه وهو يعزف على الناي. أغلقت عيني، لكنه توقف فجأة في منتصف مقطوعته المفضلة، ففتحت عيني ونظرت إليه في دهشة.
سألته: «ما الأمر؟»
– «لا شيء.»
أطرق برأسه متفاديًا النظر إليَّ.
– «أراش، أخبرني ما الأمر.»
جلس بجواري على الفراش وسألني: «هل تحبينني حقًّا؟»
– «نعم أحبك. أخبرني ماذا هناك.»
– «بدوت سعيدة للغاية مع شقيقي اليوم. كنت تستمتعين بوقتك، فخطر لي أنه ربما … لا أدري …»
– «خطر لك أني معجبة به.»
– «هل هذا صحيح؟»
– «من المفترض أنك تعرفني جيدًا الآن. إنه مرح، لكنه ليس النوع الذي يروق لي.»
– «ماذا تقصدين بالنوع الذي يروق لك؟»
– أنت من تعجبني وليس هو. أنا لا أحب شقيقك، بل أحبك أنت.»
– «آسف. لا أدري ماذا دهاني. طالما كان أرام يتمتع بشعبية كبيرة، وكل الفتيات يحببنه، ولا أريد أن أفقدك.»
– «لن يحدث هذا.»
ولكنه لم يبدُ سعيدًا، فسألته: «ألا تصدقني؟»
– «بلى.»
ثم وقف وتوجَّه نحو النافذة. كانت الرياح عاصفة والأمواج تهدر لتطغى على كل الأصوات الأخرى، وفجأة قال إنه يريد أن يخبرني بأمر مهم. لم يكن لديَّ أي توقعات عما يريد أن يخبرني به، فقال إن هناك حركة كبيرة ضد الشاه، وإن هناك ثورة في مهدها، وهناك العديد من الاحتجاجات والاعتقالات. أخبرته أن خالتي زينيا حدثتني عن الثورة في صباح ذلك اليوم.
سألته عن السبب الذي يدعو الناس للثورة ضد الشاه، فأوضح لي أن الشاه وعائلته وأفراد الحكومة كلهم فاسدون، وأنهم يزيدون غنًى في الوقت الذي يصارع فيه الشعب الإيراني الفقر. أخبرته أيضًا أن خالتي زينيا تعتقد أن نفس السيناريو الذي حدث في روسيا سوف يتكرر في إيران.
قال أراش: «لكن الثورة الروسية لم تستند على أسس صحيحة؛ فالشيوعية كانت الحل الخاطئ لمشاكلها، فضلًا عن أن قادتها ما كانوا يؤمنون بالله، فسرعان ما طالتهم يد الفساد هم أيضًا.»
– «إذن كيف تجزم بأن من يحل محل الشاه سيكون أفضل منه؟»
سألني هل سمعت عن آية الله الخميني.
– «أخبرتني خالتي عن شخص يدعى آية الله، ولكنها لم تكن تذكر اسمه. من يكون الخميني؟»
أخبرني أن الخميني رجل دين أمر الشاه بنفيه، وأنه يريد لشعب إيران أن يحيا وفقًا للشريعة الإسلامية، وأن توزع ثروات البلاد على الجميع، وألا تستأثر بها فئة صغيرة، وهو يقود الحركة المضادة للشاه منذ عدة أعوام.
أخبرت أراش أنني لا أشعر بالارتياح حيال تلك الثورة. على حد علمي لم تكن عائلتانا موسرتين، وآباؤنا لا يشغلون مناصب مهمة في الحكومة، لكننا نحيا حياة كريمة ونتلقى تعليمًا جيدًا مجانيًّا، وهو على وشك الالتحاق بالجامعة كي يصبح طبيبًا، فلمَ نحتاج الثورة إذن؟
أجابني متحمسًا: «لا يتعلق الأمر بنا فحسب يا مارينا، ولكنه يتعلق بمن يعانون من الفقر، فالحكومة تجني أموالًا طائلة من بيع النفط الذي هو ملك للشعب الإيراني، ثم ينتهي الأمر بمعظم تلك الأموال في الحسابات الشخصية للشاه ومسئولي حكومته. هل تعلمين أنه منذ عدة أعوام والسافاك — البوليس السري — يلقي القبض على معارضي الشاه ومنتقدي حكومته ويُخضعونهم للتعذيب، بل الإعدام؟»
– «كلا.»
– «حسنًا، تلك هي الحقيقة.»
– «كيف علمت بكل ذلك؟»
– «قابلت بعض هؤلاء السجناء السياسيين. إنهم يتعرضون لأنواع وحشية من التعذيب في السجن؛ سماعها وحده يصيبك بالغثيان.»
– «يا للبشاعة! لم تكن لديَّ فكرة عن ذلك.»
– «حسنًا، الآن أصبحت لديك فكرة.»
سألته هل يعلم والداه بدعمه للثورة، فأكد لي أنه لا يستطيع إخبارهما بذلك، لأنهما لن يتفهما الأمر.
قلت: «كثير من الناس يموتون في الثورات.»
– «سأكون بخير، عليك أن تتحلي بالشجاعة يا مارينا.»
شعرت بالقلق، ولم أكن أرغب في أن يصيبه مكروه. بدا عليَّ الشعور بالخوف، فأمسك يديَّ.
– «مارينا، أرجوك لا تقلقي. سأكون بخير، أعدك بذلك.»
حاولت أن أصدقه، وأن أتحلى بالشجاعة، غير أني لم أكن سوى فتاة في الثالثة عشرة من عمرها.
***
لم أدخل في أي نقاش سياسي مع أراش ما تبقى من الصيف. كنت أرغب في نسيان أمر الثورة. ظل أراش يعزف لي على الناي كل يوم، وظللنا نذهب في نزهات طويلة سيرًا على الأقدام، ونركب الدراجات على الشاطئ، ونقرأ الشعر ونحن جالسان على الأرجوحة في الفناء الخلفي بمنزله.
رحل أراش إلى طهران قبلي بأسبوعين. كنت أنا وأمي غالبًا ما نعود إلى طهران في بداية سبتمبر كي أتيح لنفسي وقتًا كافيًا للاستعداد للدراسة التي تبدأ في الحادي والعشرين من سبتمبر؛ أول يوم من أيام الخريف. راقبت أراش وهو يقود سيارة والده البيكان البيضاء مبتعدًا عن منزل عمته، حيث تجلس جدته في المقعد الأمامي وشقيقه في المقعد الخلفي. لوحوا لي يودعونني، فلوحت لهم بدوري حتى اختفوا عن ناظريَّ.
•••
وصلت إلى طهران يوم الخميس السابع من سبتمبر، واتصلت بأراش على الفور، وقررنا أن نلتقي في إحدى المكتبات يوم التاسع في العاشرة صباحًا.
وفي يوم التاسع استيقظت قبل الفجر، ولمَّا كنت أشعر بالقلق فقد خرجت إلى الشرفة. في تلك الساعة المبكرة، كان الشارع المزدحم دومًا مهجورًا، والنسيم العليل يداعب الأوراق المتربة لشجر القيقب محدثًا حفيفًا. أردت أن أتصل بأراش وأطلب منه الحضور مبكرًا، ولكن هذا الأمر كان ضربًا من الجنون. كان عليَّ أن أنتظر. ثم سمعت صوت صفير غريب، فحدقت في الظلام، ولمحت في الجانب الآخر من الشارع شيئًا يتحرك. دققت النظر، فوجدت شبحًا مظلمًا يتحرك في ضوء الشارع ويكتب شيئًا ما على الحائط القرميدي لأحد المحلات مستخدمًا علبة من الطلاء الرشاش. صرخ أحدهم: «توقف!» لم أدرِ من أين أتى الصوت، وذلك لأن الكلمة تردد صداها بين المباني. أخذ الشبح المظلم يجري، ثم سمعت صوتًا مدويًا كقصف الرعد، واختفى الشبح في الجوار، ثم ظهر شبح جنديين مسلحين، فجريت أختبئ بالداخل.
وبعد شروق الشمس عدت إلى الشرفة، فرأيت الحائط القرميدي الرمادي في الجانب الآخر من الشارع وقد كُتب عليه بحروف حمراء كبيرة: «ليسقط الشاه!»
وصلت إلى المكتبة مبكرًا عن موعدي بضع دقائق وأخذت أتصفح الأرفف، وفي العاشرة والربع أخذت أتلفت حولي. لم يتأخر أراش عن مواعيده من قبل. ظللت أنظر في الساعة باستمرار، وفي كل مرة يُفتح فيها الباب ويدخل أحدهم يراودني بصيص من الأمل، ولكنه لم يأتِ. انتظرت حتى الحادية عشرة، وظللت أؤكد لنفسي أن الأمر على ما يرام، وربما يكون الزحام المروري هو ما منعه من الحضور أو ربما تعطلت سيارته.
عدت إلى المنزل واتصلت بأراش على الفور، فأجاب أرام على الهاتف، وعرفت من صوته أن ثمة خطبًا ما. أخبرته أني كنت على موعد مع أراش في إحدى المكتبات لكنه لم يأتِ.
سألته بأقصى ما استطعت من الهدوء: «أرام، أين هو؟»
أخبرني أرام أنه لا يعرف. كان أراش قد خرج في صباح اليوم السابق، ومن المفترض أن يعود لتناول العشاء، لكنه لم يعد. اتصل والداه بكل من يعرفونه، لكنهما لم يجدا أحدًا يدلهما على مكانه. كانت هناك مظاهرة احتجاجية حاشدة ضد الشاه في ذلك اليوم في ميدان «جاله»، نظمها مؤيدو الخميني، وأطلق الجيش النار على المتظاهرين مما أدى إلى إصابة الكثيرين. أحد أصدقاء أراش أخبر والده أنه ذهب مع أراش إلى ميدان «جاله» لكنهما افترقا هناك. اتصل والدا أراش بجميع مستشفيات طهران، بل إن والده ذهب إلى «إيفين»، لكنه لم يتمكن من العثور عليه.
«السجناء السياسيون يتعرضون لأنواع وحشية من التعذيب في السجن؛ سماعها وحده يصيبك بالغثيان.» أبعدت تلك الفكرة عن ذهني، وحصلت على وعد من أرام بأن يتصل بي فور أن تصله أي أنباء.
شعرت بمسافة قاسية باردة بيني وبيني الغرفة التي أقف فيها، وكأن الحياة ذاتها قد دفعتني بعيدًا. بدت الأصوات المكتومة للسيارات وهي تسير في الطريق غريبة غير مألوفة. كنت أعرف ذلك الألم؛ إنه الحزن.
•••
في صباح اليوم التالي قرعت جرس منزل أراش، وانتظرت. فتح أرام الباب. تعانقنا طويلًا، ثم فتحت عيني لأجد إيرينا تحدق إلينا. كان عليَّ أن أتحلى بالقوة، فتركت أرام وعانقت إيرينا، ثم ساعدتها في السير إلى غرفة المعيشة والجلوس على الأريكة. دخل والد أراش وعرَّفني أرام به. كان أراش يشبه والده تمامًا.
قال لي والد أراش: «شكرًا لمجيئك. أخبرني أراش بكل شيء عنك. كنت أتمنى أن ألقاك في ظروف أفضل من هذه.»
جلست بجوار إيرينا وأمسكت يديها وهي تبكي، ثم دخلتْ والدة أراش فنهضتُ وقبَّلتها. كان وجهها باردًا وعيناها منتفختين. رأيت صورًا عائلية في كل مكان. لم أكن أملك أي صور تجمعني بأراش.
طلبت من أرام أن يريني غرفة شقيقه. كانت بسيطة للغاية بلا صور أو ملصقات على الجدران. رأيت صندوق نايه الأسود على المكتب، وبجواره علبة مجوهرات بيضاء صغيرة أخذها أرام وأعطاها لي.
قال: «لقد اشترى هذه لك منذ بضعة أيام.»
فتحت العلبة فوجدت عقدًا ذهبيًّا جميلًا بها، فأغلقتها مرة أخرى، وأعدتها مكانها على المكتب.
قال أرام وهو يناولني ورقة: «وجدت خطابًا في درج مكتبه. لم أكن أقصد التطفل على خصوصياته، ولكن كان عليَّ أن أبحث عن أي شيء يدلنا على مكانه.» تعرفت على خط أراش، وكان الخطاب موجهًا إلى والديه وجدَّته وشقيقه ولي، وكتب في الخطاب أنه مقتنع بضرورة الدفاع عما يعتقد أنه صواب، وأن عليه فعل شيء من أجل التصدي للشر، وأوضح أنه يساند الثورة الإسلامية ضد الشاه بكل ما أوتي من قوة، وأنه مدرك تمامًا أنه متورط في أمر خطير. وكتب أيضًا أنه لم يكن شجاعًا من قبل قط، لكنه يشعر الآن بضرورة تنحية خوفه جانبًا، وأنه يدرك أنه قد يفقد حياته دفاعًا عن معتقداته. وفي النهاية ذكر أن قراءة هذا الخطاب تعني أنه غالبًا قد مات، وطلب منا السماح والمعذرة لأنه تسبب لنا في الشعور بالألم.
نظرت إلى أرام، فقال لي: «لم يكن والداي على علم بتورطه في تلك الثورة اللعينة، لكني كنت أعلم، وحاولت أن أثنيه عن عزمه، غير أنك تعرفينه جيدًا؛ فهو لا يستمع إلىَّ قط، فأنا الشقيق الأصغر الذي لا يعلم أي شيء.»
جلست على فراش أراش وأعدت الخطاب لأرام. كان هناك قميص أزرق على وسادة أراش، فأمسكت به. كان أحد قمصانه المفضلة التي ارتداها مرارًا في ذلك الصيف. شممت القميص، ووجدته لا يزال يحمل رائحته. كنت أتوقع دخول أراش غرفته وعلى وجهه ابتسامته الدافئة وهو ينطق اسمي بصوته الدافئ الحنون.
كنت قد شاهدت الأخبار الليلة الماضية، ولم تكن هناك أي إشارة لمظاهرة ميدان «جاله»، فكل قنوات التلفاز مملوكة للدولة، ومن ثم تجاهلت معظم الأحداث والنكبات الأخيرة. لم أفهم لمَ قد يعطي الشاه أوامره للجيش بإطلاق النار على المتظاهرين. لماذا لمْ يستمع إلى مطالبهم ويتحدث إليهم؟
توجهت إلى النافذة ونظرت للخارج، وتساءلت هل فكَّر أراش في من قبل وهو يقف في النافذة يراقب الشارع الهادئ. وقف أرام بجواري يحدق إلى الشارع، وتمزق قلبي حزنًا لأجله. كان هو وشقيقه شديدي الاختلاف، لكن أيضًا شديدي القرب أحدهما من الآخر.
وفي غرفة المعيشة، جذبت انتباهي صورة لهما معًا: طفلان صغيران في عمر السابعة والتاسعة تقريبًا وذراع كل منهما تحيط بعنق شقيقه وهما يضحكان.