الباعث
ببعض التردُّد، سأُشارككم أخيرًا الحكايةَ الغريبة التي أمدَّني بها صديقي الراحل هامفري تشالونر. ذلك أنَّ رؤية الراوي غير عادية بالمرَّة، ومعاييره الأخلاقية مختلفة عن المعايير الراهنة والمعتادة، حتى إنَّ سيرة حياته ووقائع أفعاله قد لا تُخفِقان وحسب في اكتساب تعاطف القرَّاء معه، بل حتى إنهما أيضًا يمكن أن تُثيرا في نفوسهم بعضَ النفور الأخلاقي. لكن مَن كانوا يعرفونه ويعرفون سخاءه مع الفقراء، وخاصة أولئك الذين يُجابهون منهم مِحنًا غير مُستحقَّة، سيُمثلون ادعاءً مضادًّا تجاه قسوته وحتى ضراوته تجاه أعداء المجتمع.
كان هامفري تشالونر عالمًا جليلًا أفسدته الثروة المفاجئة. حين عرفته كان قد أصبح مجرَّد هاوٍ؛ أو على الأقل هذا ما كنتُ أظنُّ عنه في ذلك الوقت، رغم أنَّ ما حدث وما تكشَّف بعد ذلك جعلاني أراه بطريقةٍ مُغايرة تمامًا. كان يتمتَّع بشيءٍ من الشهرة كعالِم أنثروبولوجيا جنائية، وكان فيما مضى يشتهر بكونه عالِم تشريح مقارَن، لكن حين تعرَّفت إليه بدا مُهتمًّا، على نحوٍ رئيسي، بإضافة المزيد والمزيد من العيِّنات إلى متحفه الخاص. تلك المجموعة التي لم أستطِع قطُّ فهْمَها. فقد كانت تتألَّف في الغالِب من هياكلَ عظمية لبشر وثدييات أخرى، وكانت جميعها تُمثِّل انحرافًا صغيرًا عن المألوف؛ لكنني لم أستطِع فهْمَ الغاية منها — وذلك حتى وفاته؛ وحينها، في واقع الأمر، كان ما تكشَّف لي أمرًا مذهلًا بحق.
تعرَّفت في بداية الأمر إلى تشالونر بصفتي المِهَنية. كان يَستشيرني بشأن بعض الاضطرابات والاعتلالات الطفيفة فراقَ كلٌّ منَّا للآخر. وكان هو رجلًا مثقفًا، وقد تداخل عِلمُه مع تخصُّصي؛ لذا كان بيننا الكثير من الأشياء المشتركة. كما أثارت شخصيته اهتمامي بقوة. إذ كان يُثير في نفسي انطباعًا بأنَّه رجل نشيط وودود وذكي بطبيعته، وأنَّ كمدًا عظيمًا أتلف حياته. كان الرجل في أغلب الوقت حزينًا وذا أسلوب جادٍّ، لكنه كان يكشف عن لمحاتٍ من روح دعابة تتميز بالتجهُّم والغرابة التي كانت تُمثِّل مفاجأةً سارَّة، مما يُظهر كيف كانت أحواله من قبل، وكيف أنَّه ما زال يتمتَّع ربما ببعض ذلك، لولا تلك المأساة التي كان يُشير إليها في بعض الأحيان. وكانت رقَّة فؤاده الشاملة تتميز بالدَّماثة والتعاطف والسخاء، لكن شابَها استثناءٌ واحد مُثير للفضول: كان سلوكه تجاه مَن اعتادوا مخالفةَ القانون يتميَّز بالانتقام والشراسة.
ولم تكن أحواله الصحية مطمئنةً عندما ذهبت لقضاء إجازة الخريف. لم يشتكِ الرجل شيئًا، بل إنَّه قال إنَّه على ما يُرام؛ لكنَّ تغييرًا مُحددًا ومبهمًا في مظهره جعلني قلِقًا بعض الشيء. لم أحدِّثه بشيءٍ عن الأمر، وإنما طلبتُ منه فقط أن يُبقيني مطلعًا على حالته أثناء غيابي، لكنني غادرتُ وأنا قلقٌ عليه.
من شأن الأحوال في المجتمع اللندني أنْ تُمكِّن المُستشارين من أخذِ إجازة مُدتها جيِّدة إلى حدٍّ بعيد. فغبت ستة أسابيع، وحين عُدتُ وعرَّجت على تشالونر، أصابتني الصدمة لِما رأيته. لم يكن هناك الآن أدنى شكٍّ بشأن خطورة حالته. بدا أنَّ رأسه قد تضاعف حجمُه تقريبًا. وكان وجهه مُتورِّمًا، وصارت ملامحه غليظة، وأصاب الانتفاخ جفنَيه وجحظت عيناه. وقد وقف الرجل يتنفَّس بصعوبة من الجهد الذي بذله في اجتياز الغرفة ومدَّ يدًا ليسلِّم عليَّ كان من الواضح أنَّها منتفخة من الورم.
وقال بابتسامة غريبة مشوَّهة: «حسنًا، أخبرني يا وارتون، كيف تجِدُني؟ ألا تظنُّ أني بصحةٍ جيدة؟ بحقِّ السماء، إنني أنمو كيقطينة! لقد غيَّرت حجم ياقات قمصاني ثلاث مرات في غضون شهر، وها هي ذي الياقات الجديدة قد صارت ضيقة جدًّا بالفعل.» وضحِك تشالونر — كما تحدَّث — بصوتٍ غليظ ومكتوم، وحاولت أنا الابتسام إلى حدٍّ ما كردِّ فعلٍ على التشوُّه الشنيع في وجهه.
وأكمل الرجل حديثه بنبرةٍ مرحة وبابتسامة مريعة أخرى: «يبدو أنَّك لا تُحب التجديد يا صغيري. لا يروق لكَ ما طرأ على صورتي التقليدية من وهنٍ، أليس كذلك؟ في الواقع، أنا أقرُّ بأنَّ ما طرأ ليس لطيفًا، لكن، فليباركنا الله، ما أهمية ذلك في هذا الوقت من حياتي؟»
نظرت إليه في ارتياعٍ وفزع وهو واقفٌ يتنفَّس بسرعةٍ وتلك الابتسامة غير المألوفة على مُحيَّاه المنتفِخ. ولم تُجدِ محاولتي كتْم رأيي بشأن حالته شيئًا؛ وقد كان هذا فعلًا غير احترافي من جانبي، ولا شك. كان ثمَّة شيء في صدره يضغط على أوردة رقبته وذراعَيه. وكان هذا الشيء إمَّا تمددًا في الأوعية الدَّموية أو كتلة ورم صلبة. وبعد فحصٍ مُقتضب انصاع هو له بلامبالاة وابتهاج، تبيَّن أنه ورم مُتصلِّب، وقد أخبرتُه بذلك. كان مُطَّلِعًا على شيءٍ من علم الأمراض، كما كان بالطبع عالِم تشريح مُتميِّزًا، وهكذا لم نتفادَ الخوض في شرحٍ مفصَّل للحالة.
فقال وهو يُغلق أزرار مِعطفه: «أرى أنني سرعان ما أُصاب بتمدُّد الأوعية. وهذا المرض يتَّسم بشيءٍ من الحسم. إنه يقدِّم لك مهلةً منصِفة من أجل أن تسوِّي شئونك، ثم فجأةً ينتهي كل شيء. كم سيستغرق هذا الأمر؟»
بدأتُ أهمهِم وأتلعثم في الكلام في قلقٍ، لكنه قاطعني قائلًا: «الأمر لا يعنيني، كما تعلم، إنَّما أتساءل بدافع الفضول، ولا أنتظر منك أن تُحدِّد لي تاريخًا. لكن، أهي مسألة أيام أم أسابيع؟ أرى أننا لا نتحدَّث هنا عن شهور.»
فقلت بصوتٍ أجشَّ: «أظن أنَّ أمامنا يا تشالونر أربعة أسابيع وربما خمسة — على الأكثر.»
فقال بابتهاج: «ها! هذا يُناسبني تمامًا. لقد أنهيت عملي وسوَّيت شئوني عامةً؛ لذا أنا مُستعد متى وقع الأمر. لكن أشعل غليونك وتعالَ لتلقيَ نظرة على المتحف.»
وحيث إنني كنتُ أعرف (أو هكذا ظننت) كلَّ عينةٍ في المتحف تمامَ المعرفة، وجدتُ هذا الاقتراح منه في غاية الغرابة؛ لكن لمَّا وجدتُ أن عقله ربما كان يُعاني بعض الاضطراب من احتقان الأوعية الدموية بصفةٍ عامة، تبِعتُه من دون أي تعليق. اجتزنا ببطءٍ الممرَّ الذي يفضي إلى «جناح المتحف»، ومررنا بالمعامل الكريهة الرائحة (لأن تشالونر كان يُحضِر عظام الحيوانات بنفسه، وإن كان يحصل على الهياكل العظمية البشرية من المُتاجِرين فيها، وذلك لأسبابٍ واضحة)، ثم دلفنا إلى الحجرة الطويلة التي يحتفظ فيها بالمجموعة الرئيسية.
هناك توقَّفنا، وبينما كان تشالونر يلتقط أنفاسه، أخذتُ أطالع المشهد المألوف من حولي. كان هناك هيكل عظمي لحوتٍ يتعذَّر على المرء ألا يراه — حوت عنبر صغير — إذ يتدلَّى من السقف على دعاماتٍ حديدية عملاقة. أما جانب الغرفة الأقرب إلى الباب فكان به صندوق زجاجي طويل مملوء بهياكل عظمية لحيواناتٍ كانت كلها إمَّا غير طبيعية أو مُصابة باعتلالات أو تشوُّهات. وعلى الأرض تحت الحوت، انتصب هيكلان عظميَّان لجَملٍ ولأُرخُص. كان الجَمل يعاني الكساح، أما الأُرخُص فكان يعاني عدةَ أعْرانٍ أو ما يُسمَّى بالأورام العظمية. وفي أحد أطراف الغرفة كان ثمَّة صندوق كبير من الجماجم، كلها مشوَّهة أو غير مُتماثلة؛ وفي الطرف الآخر كان ثمَّة طاولة طويلة ووحدة أدراج مسطَّحة قليلًا؛ في حين كان الجزء الطويل الباقي بالغرفة يمتلئ على امتداده بصندوقٍ زجاجي طويل يصل ارتفاعه إلى حوالي ثماني أقدام، وكان يحوي عددًا من الجماجم البشرية، كلٌّ منها مُكتمِل ويقف على قاعدته الخاصة.
كان هذا الصندوق الطويل دائمًا ما يُمثِّل لي لغزًا بعضَ الشيء. إذ كانت محتوياته تختلف عن العيِّنات الأخرى في شيئَين. الأول أنَّه وبينما تحمل كل الجماجم والهياكل العظمية الأخرى تسمياتٍ وصفية كاملة، فإنَّ هذه الهياكل البشرية تتميَّز فقط برقمٍ وتاريخٍ مكتوبَين على القاعدة؛ والثاني أنَّه وبينما كانت كل العينات الأخرى تُشير إلى مرضٍ أو اعتلالٍ من نوعٍ ما، فإنَّ هذه الهياكل البشرية كانت على ما يبدو طبيعيةً إلى حدٍّ بعيد أو لا تظهر إلا بعض التشوُّهات الطفيفة. كانت مُهيَّأة جيدًا ومبيَّضة بدرجة بياض العاج، لكنها عدا ذلك لم تكن مثيرة للاهتمام، ولم أستطِع أن أفهم قط غايةَ تشالونر من جمعِ هذا العدد من العينات المُتشابهة.
قال تشالونر، وكأنه يقرأ أفكاري: «تظنُّ أنك تعرف هذه العيِّنات تمامَ المعرفة.»
وقد أجبته: «أعرفها تمامَ المعرفة، كما أظن.»
فردَّ: «أنت لا تعرفها مُطلقًا.»
فقلت: «كيف هذا؟! يُمكنني أن أصنع قائمةً بها من ذاكرتي.»
فضحِك تشالونر. وقال: «يا صديقي العزيز، أنت لم ترَ الكنوز الحقيقية لهذه المجموعة من قبلُ. لكني سأُريك إيَّاها الآن.»
ثم مرَّر ذراعه فعقدها بذراعي ورُحنا نجتاز الغرفة الطويلة ببطء؛ وبينما نحن نسير، رمق الهياكلَ الموضوعة في الصندوق الكبير بنظرةٍ صاحبَتْها ابتسامةٌ خافتة ومُريعة للغاية على وجهه المُنتفخ. وعند آخر الصندوق توقَّفت وأشرتُ إلى آخر هيكل فيه.
وقلت: «أريدك أن تشرح لي يا تشالونر سببَ تمييزك لهذا الهيكل بقاعدة مختلفة عن البقية.»
وبينما أنا أتحدَّث، جُلتُ بعينيَّ على صفِّ الهياكل النحيلة التي ملأت الصندوق. كان كل هيكلٍ يقف على ركيزةٍ مصنوعة من الخشب المُسودِّ كالأبنوس وقد طُبع عليها باللون الأبيض رقمٌ وتاريخ، عدا الهيكل الأخير، الذي كانت ركيزته مطليةً بالمينا القِرْمِزية والرقم والتاريخ مطبوعان عليها بأرقامٍ ذهبية.
فقال تشالونر بتمعُّن: «تلك العينة هي الأخيرة في المجموعة. هي ما أكملت المجموعة. لذا ميَّزتها بركيزةٍ مختلفة. ستفهم كلَّ شيء حين تتولَّى أنت المسئولية. والآن تعالَ لتُلقيَ نظرةً على كنوزي.»
ثم سار إلى خلف خزانة الأدراج ووقف مواجهًا الجدار المُغطَّى بألواح الماهوجني. كان كل لوحٍ بعرض أربع أقدام وبارتفاع خمسٍ تقريبًا، ويحفُّه صفٌّ من الزهيرات المنحوتة ويفرُقه عن اللوحَين المتاخمَين له عمودان جداريَّان.
ثم قال: «والآن ارقُبني يا وارتون. أترى هاتَين الزهيرتَين بالقرب من أسفل اللوح؟ اضغط عليهما بإبهاميك، هكذا؛ ثم أدِرْهما نصفَ دورة. من شأن هذا أن يدير مزلاجًا. ثم افعل هكذا.» أمسك بالعمود الجداري من كِلا جانبي اللوح، وجذبهما جذبةً خفيفة، فبرز العمودان واللوح من أماكنهما كقطعةٍ واحدة، وكشف هذا عن خزانةٍ بحجمٍ متوسط. أسرعت أحمل عنه اللوح، وحين التقط أنفاسه، شرع يُبيِّن محتويات هذا المخبأ العجيب.
فقال لي: «صفُّ الكتب هذا ستحوز عليه وتُطالعه حين أموت. أنتَ الأمينُ والوصيُّ على مُمتلكاتي وستئول ملكية هذه المجموعة لك لتفعل بها ما تشاء، سواء قرَّرت الاحتفاظ بها أو التبرُّع بها أو تدميرها. تتألَّف الكتب من ألبومٍ لبصمات الأصابع، وآخر للصور، بالإضافة إلى قائمةٍ بمحتويات هذه المجموعة وبيانات تاريخية عنها. ستجدها كلَّها مُثيرة للاهتمام إلى حدٍّ كبير. والآن سأريك أثمنَ ما في الأمر إن أنت وضعت هذه الصناديق على الطاولة.»
فعلتُ ما طلب؛ إذ أخذت كومةَ الصناديق الصغيرة ووضعتها على الطاولة إلى جوار بعضها البعض بتوجيهٍ منه. ولما أصبحَت مرتَّبة كما يريد، أزال عنها أغطيتَها في شيءٍ من الزهو، وأطلقتُ أنا صيحةً من الدَّهشة.
كانت الصناديق مملوءةً برءوس الدُّمى؛ أو على الأقل، هكذا بدَت لي. لكن يا لها من دمًى! لم أرَ في حياتي قطُّ شيئًا مثلها. شديدة الواقعية، لكنها رغم ذلك مصطنَعة للغاية! لا يسعني أن أصِف ما أثارته في نفسي إلا باستخدام كلمة «عجيب» التي كثيرًا ما نُسيء استخدامها. كانت هذه الدُّمى مثيرةً للعجب إلى أقصى حدٍّ، بحيث تُوحي لمن يراها أنها رءوس مقطوعة لمجموعة من الأقزام الغريبة ذوي المنظر البشع. دعني أصِفها لك بالتفصيل.
كان كل رأسٍ بحجم رأس قردٍ صغير، أي، يصل طوله إلى أربع بوصات تقريبًا. وبدا أنه مصنوع من جلدٍ ممتاز أو من جلود الكتابة الرقيقة، وكان اللافت للنظر أنَّ ملمَسه يبدو كملمَس جلد البشر. وكان الشَّعر في كل منها طويلًا طولًا مفرطًا وفي غاية الكثافة؛ لذا بدا الرأس وكأنه فرشاة دهان. لكن لا شكَّ أنَّ هذا الشَّعر كان بشريًّا. كما كانت الحواجب كثيفة وطويلة أيضًا بصورةٍ غير طبيعية، وكذلك كانت الشوارب واللِّحى في الرءوس التي كان لها شوارب ولحًى؛ حيث كانت تلك اللحى والشوارب تتكوَّن — كما رأيت — من شَعرٍ بشري حقيقي بطولٍ كامل ومجموعٍ بعضه إلى بعض بصورة وثيقة. بعض هذه الرءوس كان مصنوعًا ليُمثِّل رجالًا حليقي الذقن، وبعضها حتى كان يبيِّن نموَّ لحيةٍ بعد مرور يومَين أو ثلاثة على الحلاقة؛ وكان الشَّعر الذي يُمثِّل هذه المرحلة طويلًا بدرجةٍ مفرطة وكثيفًا كثافةً غير طبيعية. وكانت العيون في كل الرءوس مغلقة، كما شكَّلت الرموش فرشاةً كثيفة وبارزة. لكن بغضِّ النظر عن العلاج غير الطبيعي للمناطق المُشعرة، كان لهذه الرءوس الصغيرة مظهر هو الأكثرُ واقعيةً وإثارة للذهول، وكانت — كما قلت — مثيرةً للعجب بإفراط وللروع إلى حدٍّ بعيد. وعلى الرغم من انغلاق العينين وسكون الملامح، كان لكل رأس تعبيرٌ خاصٌّ به وسماتٌ مميزة له؛ في الواقع، بدا كل رأس صورةً طبقَ الأصل ومفعمة بالحيوية لفردٍ بعينه. كان عددها يتجاوز العشرين، وكانت جميعًا لذكور، وجميعها كان يُمثِّل رجالًا من النوع الأوروبي. كان كل رأس يرقد في مقصورة صغيرة مبطَّنة بالمُخْمَل، وكل منها يتميَّز بعلامة يحملها تتكوَّن من رقم وتاريخ.
رفعت نظري إلى تشالونر فوجدته يُطالعني بابتسامةٍ غامضة وشنيعة.
فقلت له: «هذه أشياء غير عادية يا تشالونر. ما هذه الأشياء؟ وممَّ صُنِعت؟»
فأجابني: «ممَّ صُنعت يا صديقي العزيز؟ في الواقع، صُنعت هذه ممَّا صُنِعتُ أنا وأنت منه، بالتأكيد.»
فقلتُ متسائلًا: «أتقصد أن تقول إن هذه الرءوس الصغيرة مصنوعة من جلد بشري؟»
«بكل تأكيد. من جلد وشَعر بشريين. ماذا كنت تظنُّ غير ذلك؟»
نظرتُ إليه مقطبًا وقد انتابتني الحَيرة، ثم قلت أخيرًا، إنني لا أفهم ما يرمي إليه.
فسألني: «ألم تسمع من قبلُ بقبائل موندوروكو الهندية؟»
هززتُ رأسي نافيًا. وتساءلت: «ما شأنهم؟»
«ستجد سردًا عنهم في كتاب بيتس «عالِم تاريخ طبيعي في منطقة حوض الأمازون»، وثمَّة إشارة إليهم في كتاب جولد وبايل الذي بعنوان «العجائب».»
ساد الصمت لحظة، رحت أنظر خلالها إلى الصناديق المفتوحة ولم يَغِب الروع عني. وأخيرًا نظرت إلى تشالونر وسألته: «وماذا بعد؟»
«حسنًا، هذه نماذج من أعمال قبائل موندوروكو.»
نظرتُ ثانيةً إلى الصناديق، وينبغي بي أن أقرَّ بأن رجفةً من الرعب تسلَّلت إليَّ بينما تنقلت عيناي بطول صفوف الوجوه الجامدة ولاحظتُ الملامح المتقنة الشديدة الصِّغر، والآذان الصغيرة والشَّعر المنتصب والحواجب المقطِّبة — التي تعارضت بشدة مع التعبيرات الهادئة والعيون المُغلقة بسلام. كان الأمر برُمَّته غيرَ واقعي للغاية، وغير طبيعي بالمرَّة، ويوحي بأنَّ هذه الأعمال أسحارٌ شيطانية. نظرت إلى مضيِّفي نظراتٍ حادة.
وتساءلت: «من أين حصلت على هذه الأشياء يا تشالونر؟»
بانَت ثانية على وجهه المنتفخ تلك الابتسامةُ الغريبة الغامضة.
وقال: «ستجد سردًا كاملًا عنهم في أرشيف المتحف. كلُّ عينة ترِد فيه بوصف كامل وبتاريخ الحصول عليها وأصلها بالتفصيل. إنَّها أشياءُ صغيرة مثيرة للاهتمام، أليس كذلك؟»
فأجبته وأنا شارد الذهن: «جدًّا»؛ ذلك أنني كنت في تلك اللحظة أفكِّر في التعارض بين مظهر الرءوس وأصلها المفترض. في نهاية المطاف تمكَّنت من تحديد وجه التباين.
«لكنَّ الهنود الذين تتحدَّث عنهم لم يَعِدُّوا قط هذه الرءوس.»
«ولمَ لا؟»
«لأنها جميعًا لأوروبيين؛ في الواقع، يبدو معظمها لرجال إنجليز.»
«ثم ماذا؟ ما الخَطْب في ذلك؟» بدا تشالونر مستمتعًا بهدوء بما أنا فيه من حَيرة، لكن في تلك اللحظة انتبهت عيني إلى تفصيلةٍ أخرى جعلتني أرتجِف رعبًا مرةً أخرى — وأنا لا أعرف سبب ذلك.
فقلت له: «اسمع يا تشالونر. لماذا يتميَّز هذا الرأس عن البقية؟ جميع الرءوس موضوعة في مقصورات صغيرة مبطَّنة بمُخْمَل أسود وعليها علاماتٌ سوداء مدوَّن عليها أرقامٌ وتواريخ باللون الأبيض؛ أمَّا هذا الرأس فهو في مقصورةٍ مبطَّنة بمُخْمَل أحمر وعليه علامةٌ حمراء مدوَّن عليها رقم وتاريخ بحروف ذهبية، تمامًا مثلما هو الحال مع هذا الهيكل الأخير.» ثم وجهتُ نظري إلى الصندوق فأدركتُ سريعًا أنَّ الرقم والتاريخ متطابقان عليهما كليهما.
ورأى تشالونر أنني لاحظتُ ذلك فأجابني: «الأمر في غاية البساطة يا صديقي العزيز. لقد حصلتُ على هذا الرأس وهذا الهيكل في اليوم نفسه، وبحصولي عليهما اكتملت مجموعتي. كانا هما العينتَين النهائيتَين، ولم أُضِف أيَّ عينات منذ حصلتُ عليهما. لكن بشأن الرأس، كان هناك سببٌ إضافي لجعله في مقصورة مميزة، وهو أنه يُمثِّل جوهرةَ هذه المجموعة. انظر فقط إلى الشَّعر. خُذ عدستي وافحصه.»
أعطاني تشالونر عدسته فأخذت الرأس من مقصورته القِرْمِزية — وكان خفيفًا مثل الفلِّين — وقرَّبته إلى عيني. ثم ومن دون أن أستخدم العدسة حتى، رأيت ما كان تشالونر يرمي إليه. كان الشَّعر يُمثِّل حالةً شاذة غايةً في الندرة؛ كان الشَّعر يُمثِّل ما يُعرَف باسم «الشَّعر الحَلقي»، أي إنَّ كل شَعرة تتَّسم بمناطقَ باهتةٍ وأخرى داكنة في مواجهة الضوء المنعكس.
سألته: «أتقول إنَّ هذا شَعر بشري بحق؟»
«بكل تأكيد. بل وهو مثال رائع جدًّا على الشَّعر الحلقي؛ إنها الحالة الوحيدة التي رأيتها من قبلُ إذا جاز لي القول.»
فقلت: «لم أرَ عينةً كهذه من قبل»، وأنا أضع الرأس الصغير في مكانه، ثم أضفتُ: «ولم أرَ أو أسمع كذلك بمثل هذه الأشياء الغريبة. ألن تُخبرني من أين حصلتَ عليها؟»
أجابني تشالونر: «ليس الآن. ستعرف كلَّ شيءٍ عنها من «الأرشيف»، وستجد أنَّها مُثيرة جدًّا للاهتمام. والآن سنضعها في أماكنها.» ثم وضع أغطيةَ الصناديق في أماكنها، ولما رتَّبت الصناديق في الخزانة، جعلني تشالونر أعيد اللوحَ إلى مكانه وأنتبِه بصفة خاصة إلى مكان التثبيت من أجل الاستخدام المستقبلي.
ثم سألني: «أيمكنك المكوثُ لتناول العشاءُ معي؟» وأضاف: «ما زالت تصرُّفاتي مقبولة على طاولة الطعام، وإن كنتُ لا أبتلع الطعام براحةٍ كبيرة.»
أجبته: «يُمكنني ذلك. سأمكث بكل سرور؛ فأنا لم أعُد إلى العمل بالصورة الرسمية بعدُ. ما زال هانلي مسئولًا عن أعمالي.»
ومن ثمَّ تناولنا العشاء معًا، وإن كان العشاء بالنسبةِ له قد مثَّل طقسًا فارغًا. لكنه كان مُبتهجًا جدًّا؛ بل في الواقع، بدا بروحٍ معنوية عالية، وبينما هو يُعاني بين الحين والآخر أثناء تناوله الطعام، استطاع أن يتحدَّث قليلًا بطريقته الطريفة وروح دعابته الغريبة.
ولكن مع مرور الوقت أثناء تناولنا الطعام، كانت محادثتنا مُتقطِّعة ومفكَّكة؛ لكن حين رُفِع الطعام ووُضِع النبيذ على الطاولة، أبدى هو استعدادًا لإجراء محادثة أكثر ترابطًا.
«أعتقد أنَّ بإمكاني تدخين سيجار يا وارتون؟ لن يقصِّر من عمري كثيرًا، أليس كذلك؟»
لم أكن لأُبديَ اعتراضًا على ذلك حتى ولو كان تدخينه السيجار سيقتُله من فوره. فأجبته بأن دفعتُ بالعلبة تجاهه، وحين اختار واحدًا وقطع طرَفه في تأنٍّ، رفع نظره إليَّ وقال:
«أميل لاستذكار الماضي الليلةَ يا وارتون؛ أريد أن أقصَّ عليك القليل من قصة حياتي، ما رأيك؟»
«بكل تأكيد. ستُشبع رغبتك وستُرضي فضولي في الوقت نفسه.»
«أنت رجلٌ في غاية التهذيب يا وارتون. لكنني لن أجعلك تشعر بالضجر. سأثير انتباهك كثيرًا بما سأُخبرك به؛ وستكون مهتمًّا بصفةٍ خاصة حين يتسنَّى لك التجوُّل في المتحف في ضوءِ ما ستسمع من هذه الحكاية الصغيرة. إذ حريٌّ بك أن تعلم أنَّ آخرَ عشرين سنة من حياتي كانت مكرَّسة لمجموعتي. وهذه الحكاية تُمثِّل تعليقًا على تلك المجموعة وتفسيرًا لها. هل كنتَ تعلم من قبل أنني كنتُ متزوجًا؟»
فأجبتُه بشيء من الاندهاش: «كلَّا»؛ لأنني دائمًا ما كنتُ أرى تشالونر نموذجًا للأعزب المُنعزل المكتفي بذاته.
فقال هو: «لم آتِ على ذكرِ ذلك من قبل. فقد كان الحديث عن هذا الموضوع يسبِّب لي الألم. لكنه الآن لم يَعُد كذلك. فالأذى الذي يتسبَّب به الحزن وسوء الحظ يفقد تأثيره بينما أنا على مشارف النهاية. قريبًا سأعبُر الحدود وسأرحل بعيدًا عن طائلته.»
ثم توقَّف عن الحديث وأشعل سيجاره وسحب بضعةَ أنفاس من دخانه الفوَّاح وأكمل حديثه قائلًا: «لم أتزوَّج حتى بلغتُ الأربعين. لم تكن لديَّ رغبةٌ لذلك. كنتُ رجلًا منعزلًا، مشغولًا باهتماماتي العلمية وبعيدًا كلَّ البعد عن تأثير النساء. لكن في نهاية المطاف التقيتُ زوجتي الراحلة ووجدتُها مختلفة عن بقية النساء اللائي رأيت. كانت فتاةً جميلة، أصغر مني بنحو عشرين سنة، فائقة الذكاء، مثقَّفة ومُهذَّبة ولها أملاكٌ كبيرة. بالطبع لم أكن مناسبًا لها. لم أكن وسيمًا، وكنت أبلغ من العمر ضِعف ما تبلُغ، وكنت ميسورَ الحال على نحوٍ متواضع، ولم أكن ذا مكانةٍ مرموقة، لا على الصعيد الاجتماعي ولا العملي كذلك. لكنها تزوَّجت بي، وإن جاز لي القول، لقد تزوَّجَت بي بحماسٍ وحبٍّ شديدَين؛ أعني بهذا أنها دائمًا ما كانت تُعامِل زواجنا على أنه ضربةَ حظ سعيد، وكأن كل المزايا كانت من حظِّها هي وليست من حظي أنا. ونتيجةً لذلك، كنَّا مُخلصَين تمامًا أحدُنا للآخر. كانت حياتنا تمثيلًا لكلِّ ما يمكن أن تكون عليه الحياة الزوجية السعيدة، وهو الأمر النادر. كنَّا لا ننفصِل. في الجِد والهزل، وفي كل شأنٍ وعمل، كنَّا في وئامٍ تامٍّ. كنا نكره لحظاتِ الانفصال القليلة والقصيرة، وكنا نتفادى الناس لأن كلًّا منَّا كان سعيدًا جدًّا بالآخر. كانت زوجةً نادرًا ما يجود بها الزمن؛ ولم أدرك بهجةَ الحياة إلا بعد أن تزوَّجتُ بها. بدت حياتي قبلها لمَّا نظرتُ إليها في ذلك الوقت كرقعةٍ من الفراغ التي ظللتُ خاملًا فيها مثل شرنقة عالقة بين الوجود والعدم أثناء أشهُرِ الشتاء الكئيبة.
عشنا هكذا في وئامٍ لا ينقطع، نتبادل حبًّا صار ينمو بيننا يومًا بعد يوم، حتى مرَّ عامان من العيش في سعادةٍ مثالية.
ثم حلَّت النهاية.»
هنا توقَّف تشالونر عن الكلام، واستقرَّت على مُحيَّاه البائس والمشوَّه أماراتُ كآبة لا تُوصف. راقبتُه بهاجس مُنزعج من شيءٍ كريه سيحدث في سرده بينما مدَّ يده المرتعشة والمنتفخة ليشعلَ سيجاره الذي كان قد انطفأ في أثناء ذلك.
ثم كرَّر آخِر ما قاله: «حلَّت النهاية. تحطَّمت في لحظةٍ السعادةُ الكاملة التي كان يعيشها اثنان من البشر. دعني أُبيِّن لك الملابسات.
في الغالب أنا رجلٌ نومه خفيف، مثل معظم الرجال الذين يتَّسِمون بذهنٍ نشيط، لكن لا بد وأنني نِمت في تلك المرة نومًا ثقيلًا على غير المعتاد. رغم ذلك استيقظتُ وأنا مفزوع شيئًا ما وينتابني إحساس بأنَّ خَطْبًا ما قد وقع. وافتقدتُ زوجتي على الفور وجلستُ على الفِراش أتسمَّع. كان بإمكاني سماعُ صوت صرير وأصوات حركة كلها خافتة من الطابق السُّفلي، وكنتُ على وشْك النهوض واستقصاء الأمر حين صُفِق الباب، ثم دقَّ الجرس بصوتٍ مرتفع، ثم جاء دوي إطلاق نار عبْر أرجاء المنزل.
انتفضتُ من الفراش وهُرعت إلى أسفل الدَّرج. ولما وصلتُ إلى الرَّدهة، جرى أحدهم من أمامي في الظُّلمة. كان هناك وميضٌ مُبهر للبصر قريبًا من وجهي وصوتُ انفجار يصمُّ الآذان؛ وحين استعدتُ بصري، بدا أمامي لوهلةٍ جسمُ رجلٍ في شكل صورة ظليَّة باهتة في مدخل الباب الأمامي. ثم أُغلِق الباب بعُنف، فغدا الصمت والظلام يلفَّان المنزل.
أردتُ في البداية مطاردةَ الرجل، لكنَّ ذلك نبَّهني على الفور إلى زوجتي. رحتُ أتحسَّس طريقي لأدخل إلى غرفة الطعام وكنت أتسلَّل ببطءٍ نحو المكان الذي نضع فيه الثقاب، وذلك حين لمست قدمي الحافية شيئًا لينًا وكبيرًا. فانحنيت لأتفقَّده فلامست يدي الممدودة وجهًا بشريًّا.
انتفضتُ وأنا أشهق من الذُّعر وبحثتُ بحثًا محمومًا عن الثقاب. وفي غضون لحظات كنتُ قد وجدتُها فأشعلت عودًا وأنا أرتعش؛ ومع أول شعاعٍ من الضوء، تحوَّل شعوري بالخوف الشديد إلى إدراكٍ أشدَّ وطأة. كانت زوجتي ممدَّدة على بساط الموقد، ووجهها المُتجه نحو الأعلى أبيضُ كبياض الرخام، وعيناها نصف المفتوحتَين تلمعان كالزجاج. وعلى ثياب نومِها ناحية صدرها كان ثمَّة بقعة كبيرة مُحترقة لونها بنيٌّ في وسطها بقعةُ دم صغيرة.
كانت زوجتي قد ماتت. عرفتُ ذلك من الوهلة الأولى. لا بد أنَّ الرصاصة قد اخترقت قلبها تمامًا وماتت من فورها. عرفتُ هذا أيضًا. ورغم أنني ناديتُ عليها باسمها وهمستُ في أذنها بكلماتٍ رقيقة، ورغم أنني أمسكتُ برُسغَيها الهامدَين وفركتُ يدَيها اللتَين أصبحتا الآن باردتَين وشمعِيَّتي الملمَس، كنتُ متأكدًا من أنها رحلت.
كنت لا أزال راكعًا إلى جوار حبيبتي كيت، مُصابًا بالاختلال والجنون لشدةِ ما بي من حزن ورهبة، وكنت لا أزال أُمسِّد يدها البيضاء الهامدة، مُخبرًا إياها بأنها أعزُّ إنسانةٍ إليَّ، وأستجديها بسخافةٍ أن تعود إليَّ، لتكون صديقتي ورفيقتي كما كانت، وأخذتُ أُردِّد كلامي وأثرثر وأنا مخبول بحزني، حتى سمعتُ صوتَ خطواتٍ خافتة تهبط على الدَّرج. اقتربتِ الخطوات أكثرَ. ثم انفتح الباب ودلف أحدُهم إلى الحجرة على أطراف أصابعه. كانت تلك هي الخادمة هارات. وقفت هارات جامدةً بلا حراك حين رأتنا وحملقت فينا ثم أنَّت أنينًا غريبًا وكأنَّها كلب أصابه الذُّعر. ثم فجأة، التفتت وانصرفت عنَّا في صمتٍ تامٍّ كما حضرت، وسمعتها تُهرع على الدَّرج إلى الأعلى بخطواتٍ خافتة. ثم بعد برهةٍ نزلت مرةً أخرى، لكن هذه المرة مرَّت بحجرة الطعام وذهبت باتجاه الباب الأمامي. ظننتُ أنَّها ذهبت لتحضِر المساعدة، لكن الأمر لم يشغَل ذهني. فزوجتي قد ماتت. لا شيء يهمُّ الآن.
لكنَّ هارات لم تَعُد، وسرعان ما نسيتُ أمرَها. ثم زاد إحساسي أكثرَ بواقعية موت زوجتي العزيزة. وبدأتُ أنظر للأمر كواقعٍ وحقيقة. وبهذا الإدراك، برزَت مسألة موتي أنا. اعتبرتُ الأمر مفروغًا منه منذ البداية. لم أكن أحتمل عبءَ الحياة وحيدًا ولو لحظةً. كان السؤال الوحيد المطروح هو كيفية تحقيق ذلك، وأخذتُ أفكِّر في الأمر على مهلٍ، فجلستُ على الأرض ويدُ كيت في يدي. كان لديَّ مسدس بالطابق العلوي، وبالطبع كان هناك مشارط حادة في المختبر. لكن، ورغم غرابة ذلك، تدريبي في مجال التشريح عارَض في ذلك الوقت فكرةَ إحداث جروح ميكانيكية كبيرة. لكن كان هناك الكثير من السموم المُتاحة، وقد ملتُ لهذه الطريقة في الانتحار باعتبارها لائقةً وأكثر كرامةً.
ولما استقرَّ رأيي على طريقة الانتحار هذه، كنتُ على استعدادٍ للتنفيذ من فوري؛ لكن حينها برز في ذهني أمرٌ آخر. سيتعيَّن دفنُ زوجتي. سيتعيَّن أن يضعها أحدُهم بيدَيه في مثواها الأخير، ولا يمكن أن تكونا يدَي أحدٍ آخر سواي. لذا يتعيَّن عليَّ الانتظار لبعض الوقت.
مرَّت الساعات ولم أعرف عددها حتى بدأت خيوط النهار الزرقاء الباهتة تتدفَّق من بين شقوق المصاريع وشرعت تباري أضواءَ مصابيح الغاز الدافئة بالداخل. ثم سمعتُ صوتَ وقْع أقدامٍ أخرى على الدَّرج، ودلفت الطاهية ويلسون إلى الغرفة. ومثل الخادمة، تسمَّرت الطاهية في مكانها حين رأت جثةَ زوجتي، وأخذت للحظة تُحدِّق مذهولة وقد فغرَت فمَها. لكن ذلك لم يدُم طويلًا. ففي اللحظة التالية، هُرعتْ إلى الباب الأمامي وملأتِ الشارع بصراخها.
إنَّ قدوم الطاهية جعلني أفيق. أدركتُ أن الشرطة ستصِل عمَّا قريب، فأخذتُ أنظر حولي بصورةٍ غريزية بحثًا عن تفسير للكيفية التي وقعت بها الجريمة. كنت قد لاحظت بالفعل أنَّ إحدى يدَي زوجتي — تلك التي لم أكن أمسك بها — كانت مقبوضة، والآن لاحظتُ أنها كانت تقبض على خُصلة صغيرة من الشَّعر. فسحبتُ من يدها بضع شعرات من الخُصلة ورحتُ أنظر فيها. كان شَعرًا خشنًا، طوله ثلاث بوصات تقريبًا وله لونٌ رمادي باهت. وضعت الشَّعر على ورقة خالية كانت في دُرج الصُّوان المتعدد الاستخدامات لأفحصها لاحقًا، ثم أخذتُ أنظر في أرجاء الغرفة. كانت بداية هذه المأساة واضحةً تمامًا. كانت الأواني الفضية قد أُخرِجت من الخزانة الخاصة بها في حجرة المؤن، ووُضِعت على طرَف طاولة الطعام. كانت تلك الأواني التي لُمِّعت ملطَّخة ببصمات أصابع الحقير الذي اغتال زوجتي. فرُحتُ أنظر إلى تلك العلامات التي تَشِي بما حدث باهتمامٍ جديد ومُتزايد. في تلك الآونة، لم تكن بصمات الأصابع شائعةً بين العامة أو رجال الشرطة باعتبارها وسيلةً فعَّالة في تحديد الهُوية. لكنها كانت معروفة في أوساط العلماء، وكنتُ قد أوليتُ أنا نفسي هذا الموضوع انتباهًا لبعض الوقت. وكان لرؤية هذا الدليلِ على وقوع الجريمة تأثير فوري عليَّ؛ إذ يحوِّل مرتكب هذه الواقعة الرهيبة من مجرد فاعلٍ غامض إلى شخصٍ حي حقيقي. وفي فورةٍ مفاجئة من الإحساس بالكره والاشمئزاز، أدركتُ أنَّ هذا الحقير الصعلوك يتجوَّل الآن في الشوارع أو يختبئ في وكْره البغيض؛ وأدركتُ حينها أيضًا أنَّ هذه العلامات ربما كانت الرابط الوحيد الذي يربطه بالفعل الرهيب والشنيع الذي ارتكبه.
فحصتُ الأواني الفضية بسرعةٍ وانتقيت صينيةَ تقديمٍ وإبريقَ شايٍ كبيرًا ومكوَّرًا كانت البصمات واضحة للغاية عليهما. وضعتُ هذين الشيئين في دُرج في الصوان، وأغلقت الدُّرج بمفتاحه ثم دسستُ المفتاح في جيب لباس النوم الخاص بي. وفي تلك اللحظة، دقَّ الجرس دقًّا عنيفًا.
ذهبتُ إلى الباب وأدخلت شرطيًّا والطاهية. نظرت إليَّ الطاهية بخوفٍ وارتياع ظاهرَين، ثم قال الشرطي بطريقةٍ صارمة نوعًا ما:
«هذه الشابة تُخبرني أن ثمة خَطْبًا ما هنا يا سيدي.»
فتقدَّمتُه إلى غرفة الطعام — وظلَّت الطاهية عند الباب وأخذتْ تُحدِّق في داخل الغرفة بوجهٍ شاحب — وأريتُه جثة زوجتي. خلع الشرطي خوذته وسأل بفظاظة عمَّا حدث. فسردتُ عليه باقتضابٍ كيف وقعتِ الكارثة، ولم يُعلِّق على ذلك سوى أنه قال إن المُفتِّش سيحضُر في غضون وقتٍ قليل.
وصل المفتش في واقع الأمر في غضون دقائق من ذلك، يصحبه رقيبٌ، وأخذ الضابطان يستجوبانني بعنايةٍ وإمعان. كرَّرت عليهما روايتي للحادثة ورأيتُ على الفور أنهما لم يُصدِّقاني؛ ورأيت أنهما شكَّا في أنني قد ارتكبتُ الجريمة. لاحظتُ هذا الأمر باندهاشٍ بليد لكنني لم أنزعِج. فلم أكن أهتمُّ بما يظنَّان.
استدعى الضابطان الطاهيةَ واستجوباها، لكنها بالطبع لم تكن تعرف شيئًا. ثم أرسلاها للبحث عن الخادمة. لكن الخادمة كانت قد اختفت، كما اختفت ملابس خروجها وحقيبةُ يدٍ كبيرة لها؛ الأمر الذي أضاف المزيدَ من التعقيد على الأمر. ثم فحص الضابطان الأواني الفضية ونظرا إلى البصمات عليه. ولاحظ الشرطي خُصلة الشَّعر في يدِ زوجتي المسكينة، ولما انتبه المُفتِّش إلى لونها وأخذ ينظر إلى شَعري ويُمعن النظر فيه، حرَّز الشَّعر في ظرفٍ أزرق وضعه في جيبه؛ وأظنُّ أن هذا الظرف لم يرَ النور ثانية البتة.
بحلول هذا الوقت كان جرَّاح الشرطة قد وصل، لكن لم يكن أمامه شيء يفعله سوى ملاحظة حالة الجثة لتعيين وقت حدوث الوفاة. ثم استحوذت الشرطة على بعض الأواني الفضية لعلَّهم يُقارنون بين البصمات الموجودة عليها وبصمات القاتل إن أمسكوا به.
لكنهم لم يمسكوا به قط. لم ندنُ حتى من الوصول إلى دليلٍ على هُويته. وجرى البحث عن الخادمة، لكن لم يُعثَر عليها قط. وأصدرت هيئة المُحلَّفين المعاونة لمُحقق الوفيَات حكمًا ﺑ «القتل العمد» ضد مجهول. وانتهى الأمر على هذا النحو. ثم واريتُ زوجتي مثواها الأخير الذي سألحق بها فيه عمَّا قريب. وعُدت وحيدًا إلى المنزل الخاوي.
لا داعيَ أن أذكر أنني لم أنتحر. ففي غضون ما حدث رأيت الأمورَ من زاوية جديدة. بدا لي جليًّا منذ البداية أن الشرطة لن تلقي القبض أبدًا على ذلك الشيطان. ومع ذلك كان لا بد من القبض عليه. فهو مَدين بِدَين، ولا بد له أن يقضي دَينه. لذا لم أنتحر لأحصِّل هذا الدَّين.
كان هذا قبل عشرين عامًا يا وارتون؛ عشرين عامًا طويلة من الكآبة والوحدة. كثيرًا ما حرَّقني الشوق لأذهب إليها، لكنَّ الدَّين لم يكن قد سُدِّد. حاولتُ جعْلَ الوقت يمرُّ من خلال تجميع مجموعتي الصغيرة ودراسة العينات المهمَّة فيها؛ وقد خفَّف ذلك من وطأةِ ما كنت أعانيه. لكن طوال الوقت كنت أعمل بهدف تحصيل الدَّين والتخلُّص من معاناتي.»
توقَّف تشالونر برهةً، فسألته: «وهل سُدِّد الدَّين؟»
«سُدِّد في نهاية المطاف.»
«إذن ضُبط الرجل في نهاية المطاف؟»
«أجل. ضُبط.»
فصحتُ بحماس: «آمُل أن يكون قد نال ما يستحقه؛ أقصد أن يكون قد أُعدِم على جريمته.»
فأجاب تشالونر بهدوء: «أجل، لقد أُعدم.»
سألته: «لكن كيف توصَّلَت إليه الشرطة؟»
فأجاب: «ستجد سردًا كاملًا عن الأمر في آخر مجلدٍ من مجلدات «أرشيف المتحف» …» ولمَّا لاحظ الذهول على وجهي من جُملته هذه، أضاف: «تعرف يا وارتون أن «أرشيف المتحف» هو بمثابة مذكِّرات يومية شخصية نوعًا ما؛ إذ انغمست كليًّا في المتحف وربطت كلَّ أحداث حياتي بمجموعتي. أعتقد أنك ستفهم حين تقرؤه. والآن لنترك الحديثَ عن ذكريات حياتي المُحطَّمة. لقد قصصتُ عليك قصتي؛ أردتُ منك أن تسمعها مني أنا، وقد فعلت. والآن لنتناول كأسًا من النبيذ ونتحدَّث عن شيءٍ آخر.»
نظرتُ إلى ساعتي فوجدتني قد تأخرتُ كثيرًا عمَّا كنت أظن، فنهضت لأغادر.
وقلت: «ما كان ينبغي أن أطيل عليك السهر إلى هذا الحد. كان ينبغي بك أن تكون في الفراش قبل ساعة.»
فضحِك تشالونر ضحكته الغريبة المكتومة. وصاح بي: «الفراش! أنا لا أذهب إلى الفراش في هذه الآونة. لم أستطِع الرقود طوالَ الأسبوعين المنصرمين.»
بالطبع لم يرقد الرجل. كان ينبغي لي أن أعرف هذا. فقلت: «إذن، على أي حال، دعني أريحك لتنام قبل أن أغادر. كيف تنام؟»
«أعدُّ مسندًا لرأسي على حافة الطاولة، وأسحب كرسيًّا بمسندٍ بالقُرب من الطاولة، وألفُّ نفسي في غطاء وأنام وأنا أميل نحو الأمام. سأريك. فقط أحضِر كتاب أوين «التشريح المقارَن» وكدِّس المجلدات بعضها فوق بعض بالقرب من حافة الطاولة. ثم اجعل كتاب باركر «دراسة عن حزام الكتف» في وضعٍ مائل أمامها. كتاب باركر هذا كتاب رائع. لقد استمتعتُ به كثيرًا أول ما نُشر، وهو يمثِّل مسندًا رائعًا للرأس. سأذهب وأبدِّل ثيابي وأرتدي ثيابَ النوم بينما تتدبَّر أنت الأمر.»
ثم ذهب إلى حجرةِ نومه المُتاخِمة وكوَّمت أنا المجلدات الضخمة على الطاولة وقرَّبت الكرسي. وحين عاد، دثَّرته بغطاءين ثقيلَين وهيَّأت مجلسه في الكرسي. ومدَّ هو ذراعَيه على مجلدات كتاب باركر الضخمة، وأسند جبهته عليها وغمغم بابتهاجٍ أنه سيكون مرتاحًا في هذا الوضع حتى الصباح. تمنَّيتُ له ليلةً طيبة وسرتُ ببطءٍ نحو الباب، ولمَّا فتحتُه توقَّفت لألتفت وأنظر إليه. رفع هو رأسه وابتسم لي يُودِّعني؛ كانت ابتسامته غريبة وقبيحة لكنها مليئة بالشجاعة والصبر النبيل. وهكذا تركته.
بعد ذلك كنتُ أُعرِّج عليه لزيارته كلَّ يوم، وأهيئ له مرقده كلَّ ليلة. وكانت حالته المَرضية تتقدَّم بسرعةٍ أكبر مما توقعت؛ لكنه دائمًا ما كان مشرقًا ومبتهجًا، فلم يشتكِ قطُّ ولم يأتِ على ذكر ماضيه المُضطرب ثانيةً.
وفي عصر أحد الأيام، مررتُ به في وقتٍ متأخر بقليل عن المعتاد، وحين فتحتِ الخادمة الباب سألتها عن أحواله.
فأجابت: «حالته من سيئ إلى أسوأ يا سيدي. فهو يزداد بدانة بصورة شنيعة يا سيدي؛ أقصد رأسه يزداد حجمًا.»
سألتها: «أين هو الآن؟»
«هو في غرفة الطعام يا سيدي؛ أظنُّ أنه خلد إلى النوم.»
دخلتُ الحجرة في هدوء فوجدته يرتاح على الطاولة. كان مُتدثِّرًا بأغطيته ورأسه يستند إلى مجلدات الدراسة المُحبَّبة إليه. سرتُ نحوه ونطقتُ باسمه همسًا، لكنه لم ينهض. ملتُ فوقه وأخذتُ أستمع، لكنني لم أجد منه حركةً أو نفسًا. كانت الخادمة مُحقَّة. لقد خلد إلى النوم؛ أو بعبارته هو، اجتاز دار الشقاء.