الهيكل العظمي رقم ١
قمتُ بأُولى زياراتي الدورية لتفقُّد منزل صديقي الراحل هامفري تشالونر بعد أكثر من أسبوع من جنازته. كنت أنا الصديق الحميم الوحيد لذلك الرجل المنعزل المُكتفي بذاته، ولم يجعلني فقط المُنفِّذ الوحيد لوصيته، بل جعلني أيضًا وريثه الأول. فباستثناء مبلغٍ من المال يُمنح لمعهد الأنثروبولوجيا الجنائية، جعلني صديقي تشالونر وريثَ أملاكه بأكملها، بما في ذلك متحفه. ولم تكن وصيته الأخيرة تلك مرتبطةً بأي شرط. إذ بإمكاني الاحتفاظُ بالمجموعة على ما هي عليه، أو بيعها بأكملها، أو تفكيكها وتوزيع العينات كما يتراءى لي؛ لكني كنتُ أعرف أنَّ رغبة تشالونر التي يُعبِّر عنها كانت أنني ينبغي أن أحتفظ بها، بهدف تشكيل نواة لمجموعةٍ من العينات ترتبط بالمعهد.
كان عصرًا رماديًّا من أيام الخريف حين دلفتُ إلى المنزل. ولم يكن بالمنزل أحدٌ عدا قيِّمةٍ عليه، وقد بدا المتحف الموجود في جناحٍ مُنفصل منعزلًا وصامتًا بدرجةٍ غريبة. وبينما أحدث قُفل الباب العملاق من طراز ييل طقطقةً وهو يقفل من خلفي، شعرت أنني قد انعزلتُ تمامًا عن العالم، وقد كنتُ كذلك بالفعل. إذ تغلغل في المكان سكونٌ غامض كسكون القبور، وحين دخلتُ الحجرة الطويلة وجدت نفسي أخطو ومن دون وعيٍّ مني بخطواتٍ خفيفة كي لا أُعكِّر صفو الصمت؛ كما قد يفعل المرء لدى دخوله إحدى حجرات الدفن المصرية القديمة المُختبئة في قلب أحد الأهرامات.
توقَّفت في منتصف الحجرة الطويلة وأخذتُ أنظُر فيما حولي، ولا أجد غضاضةً من الاعتراف بأنني شعرتُ بقشعريرة واضحة. لم يكن السبب هو الهيكل العظمي للحوت المُعلَّق من فوقي بابتسامته العريضة السمِجة؛ ولم يكن السبب كذلك الهيكل العظمي ذا السيقان المُقوَّسة للجَمل الكسيح، ولا هيكل الأرخص، ولا هياكل القردة وبنات آوى والشياهم في الصناديق الزجاجية الأصغر حجمًا؛ ولا كذلك الجماجم التي أخذت تبتسِم ابتسامةً عريضة إليَّ من الصندوق الموجود في آخر الغرفة. بل كان السبب هو صف الهياكل العظمية البشرية الطويل الذي شغل الصندوق الجداري الكبير، الذي كل هيكل فيه مُنتصبٌ على ركيزته الصغيرة: إذ كانت رفقةً صامتة وجامدة من المترصِّدين العظمِيِّين، يقفون في اطمئنانٍ وابتساماتهم ثابتة يشوبها الكآبة ويبدون وكأنهم في انتظار شيء. كان هذا هو ما أثار اضطرابي.
أنا لستُ من نوعية الرجال الشديدة الإحساس المرهفة العواطف؛ وباعتباري ممارسًا للطب، فمِن نافلة القول أن أقول إن العِظام لا تُصيبني بالخوف. إذ ما زلت أحتفظ في غرفة نومي بالهيكل العظمي الذي كنتُ أعمل عليه حين كنتُ طالبًا، ولم أكن أعيره اهتمامًا أكثرَ من الاهتمام الذي أعيره للوحات كتاب جراي «تشريح جسم الإنسان». كان بإمكاني النوم بارتياح في متحف جون هانتر للتشريح — إن كانت الظروف الأخرى مواتية؛ وما كان الهيكل العظمي الكبير للعريف أوبرايان — الذي يزيِّن المجموعة — وهيكل رفيقه القَزَم الصغير الغريب ليُسبِّبا لي ولو أدنى قدرٍ من الإزعاج. لكن الأمور كانت مختلفة هنا. إذ راودني إحساس — كما راودني من قبل — بأن هناك خَطْبًا غريبًا بشأن متحف تشالونر هذا.
سرتُ متمهلًا أمام الصندوق الكبير الذي بطول الجدار، أنظر إلى العينات؛ وقد بدت جميعها تحت الضوء الخافت وكأنها تنظر إليَّ وأنا أمرُّ بها، ويعلو وجهها تعبيراتٌ مُتسائلة في محاجر عيونها المُظلمة، وكأن كلًّا منهم يريد أن يسألني: «أتعرف مَن كنت؟» وقد أصابني هذا بالاضطراب إلى حدٍّ كبير.
كانت هناك خمس وعشرون عينة. وقفَت كل عينةٍ على ركيزة صغيرة سوداء، طُبع على كلٍّ منها باللون الأبيض رقمٌ وتاريخٌ؛ عدا عينة واحدة في آخر الصف، كان لها ركيزة قِرْمِزية وكُتبت الأرقام عليها باللون الذهبي. كانت العينة رقم ١ تحمل التاريخ ٢٠ سبتمبر لعام ١٨٨٩، في حين كانت تلك التي رقمها ٢٥ (أي، تلك ذات الركيزة القِرْمِزية) تحمل التاريخ ١٣ مايو لعام ١٩٠٩. نظرتُ إلى تلك العينة الأخيرة باهتمام وفضول؛ جسم كبير تظهر عليه آثارُ قوة عضلية كبيرة، ورأس عريض منغولي الشكل له وجنتان كبيرتان ومَحْجِرا عينَين مُربَّعان. حتمًا كان الرجل عظيمَ البنية؛ وحتى في حالته هذه، كان الوجه العريض المُربَّع الشكل يبتسِم إليَّ من الصندوق بوحشيةٍ ابتسامةً عريضة.
صرفتُ وجهي عنه وأنا أرتجِف. فأنا لم آتِ إلى هنا لأشعر بالانزعاج. كنت قد أتيتُ من أجل يوميات تشالونر، أو كما أُطلِق عليها «أرشيف المتحف». كانت المجلَّدات في الخزانة السِّرية في نهاية الغرفة وكان عليَّ أن أزيل اللوح القابل للإزالة من أجل الحصول عليها. لم يُمثِّل هذا صعوبةً تُذكر. إذ وجدتُ الزهيرتَين اللتين تُحرِّكان المزالج وأزلتُ اللوحَ في طَرفة عين. كانت الخزانة بارتفاع خمس أقدام وبعرض أربع، وفي قعرها تجويف له غطاء، رفعتُ الغطاء، ولدهشتي وجدتُ التجويف مُمتلئًا بالمسدسات الدوارة والمسدسات الأوتوماتيكية والهراوات والبُرجُميَّات وغيرها من الأسلحة، وكلٌّ منها يحمل وسمًا صغيرًا — مطبوعًا عليه رقم وتاريخ — مربوطًا فيه بإحكام. وضعتُ الغطاء ثانيةً بسرعة؛ إذ كان ثمَّة شيء مشئوم بشأن هذه المجموعة من الأدوات القاتلة.
أما المجلدات وعددها سبعة فكانت على الرفِّ العلوي، وهي مجلَّدة بجلد موحَّد من الجلد الروسي وتحمِل ثلاثة منها أسماءَ «صور»، و«بصمات أصابع» و«فهرس» على التوالي، في حين تحمِل الأربعة الأخرى اسم «أرشيف المتحف». وكنتُ على وشْك أن أمدَّ يدي إلى الفهرس حين وقعَت عيني على كومة الصناديق الصغيرة الموجودة على الرفِّ التالي. كنتُ أعرف ما تحويه هذه الصناديق وتذكَّرتُ مُضطربًا الانطباعَ الغريب الذي خلَّفته محتوياتها في نفسي؛ لكنَّ نوعًا من الإغواء جعلني أُنزِل الصندوق العلوي منها — الذي يحمل ملصقًا كُتب عليه «السلسلة ب٥» — ورفعت غطاءه. لكن إن كنتُ قد وجدتُ رءوس الدُّمى المُرعبة تلك غريبةً وخارقة للطبيعة حين أراني تشالونر إيَّاها، فإنني الآن أجدها مُروِّعة على نحوٍ لا يقبل الجدل. فبقدرِ ما كانت صغيرة الحجم — لم تكن بحجم قبضة امرأةٍ مثلًا — كانت تُوحي بأنَّ فيها حياة، أو بالأحرى وكأنَّ فيها موتًا، حتى إنها لم تكن أكثر شبهًا بأي شيءٍ سوى رءوس بشرية يُنظَر إليها من العدسة الخاطئة في التلسكوب. كان ثمَّة خمسة رءوس في هذا الصندوق، كلٌّ منها في مقصورة منفصلة مُبطَّنة بمُخْمَل أسود ومُميَّزة بملصق أسود عليه كتابة بيضاء؛ عدا الرأس الذي في المنتصف، حيث كان يستقرُّ على مُخْمَل قِرْمِزي، وله ملصق أحمر مطبوع عليه بكتابة ذهبية «١٣ مايو، ١٩٠٩».
رحت أنظر إلى ذلك الرأس الصغير في مُحيطه القِرْمِزي بافتتانٍ وارتجاف. كان له وجه صغير شنيع؛ وجه عريض صارم يعود إلى التارتار؛ وشَعْر يختلط لونه بين البُني والرمادي، وهو لون ليس معتادًا بالنسبة لشَعْر البشر، أما الشارب الخشن المنتصِب كشارب القط فقد أضفى على الرأس هيئةً توحي بأنَّ نصفه كان لحيوانٍ ونصفه الآخر كان لشيطان. وضعتُ الغطاء على صندوقه وأعدتُ الصندوق إلى رفِّه، وهُرعت إلى خارج المتحف بعد أن أخذتُ المجلد الأول من مجلدات «الأرشيف».
في تلك الليلة وبعد أن أنهيت عمل اليوم بتناول وجبة عشاء طيبة، عُدت إلى مكتبي وسحبتُ كرسيًّا نحو المِدفأة وفتحتُ المجلد. كان المجلد غير مألوف. في البداية لم أستطِع أن أفهم علاقةَ المحتوى بالعنوان، ذلك أنَّه بدا كسردٍ ليوميات تشالونر الخاصة؛ لكني بدأتُ أرى العلاقة لاحقًا، فأدركتُ كما قال تشالونر أنَّ المجموعة التي عمل عليها لم تكن أكثرَ من تعليقٍ مرئيٍّ على نشاطاته اليومية وتوضيحٍ لها.
بدأ المجلد بسردٍ عن مقتل زوجته والمُلابسات التي أدَّت إليه، وقد كُتِب السرد بنبرةٍ جافة وتفصيلية وجدت أنَّها مثيرة للشفقة بصورةٍ لا نهائية. كانت نبرة باردة المشاعر بصورةٍ قهرية لرجلٍ قوي ينفطِر قلبه. لم تكن هناك تعليقاتٌ، ولا عبارات انفعالية؛ مجرَّد سرد صارم للحقائق، سرد شامل وموضوعي ومحدَّد. ولست في حاجةٍ لأن أقتبس منه هنا لأنه يُعيد تكرار القصة التي أخبرَني بها وحسب، لكنني سأبدأ مقتطفي من النقطة التي توقَّف عندها. كما سنرى، أسلوب السرد مُستمر، ومن الواضح أنَّه مأخوذ من مفكرة يوميات، وحيث نتقدَّم معه مُنبِّهين إلى مرور الوقت، نجد أنَّ الأسلوب الجاف يفسح المجال أمام أسلوبٍ أكثرَ حيوية ويتفق أكثرَ مع طباع الكاتب.
«حين فرغتُ من دفن زوجتي الغالية، انتظرتُ لأرى ما ستفعله الشرطة. ولم يكن لديَّ آمال عريضة. فالنظام الشرطي الإنجليزي يلائم التعامُل مع الجرائم المرتكَبة ضد المُمتلكات أكثرَ من الجرائم المرتكَبة ضد الأشخاص. ولم يُسرَق شيء؛ لذا لا يُوجَد شيء يمكن تتبُّعه؛ كما كانت الأدلة واهيةً للغاية بكل تأكيد. ثم سرعان ما اتَّضح لي أنَّ السُّلطات تخلَّت عن القضية. لم يقدِّموا لي أيَّ أملٍ في أنه سيجري تحديد هوية القاتل يومًا ما؛ وفي واقع الأمر، كان من الواضح أنهم شطبوا القضيةَ باعتبارها ميئوسًا من حلِّها وتوقَّفوا عن متابعة أحوالها.
بالطبع ما كنتُ لأقبل بهذه الفكرة. لقد قُتِلَت زوجتي. ولم يكن هناك تبرير للقتل. فقد ارتُكبَت الجريمة باستهتارٍ ولامبالاة من أجل التغطية على سرقة زهيدة. وصحيح أنه لا يمكن التعويض عن جريمة القتل. لكنَّ ثمة عقابًا مناسبًا ينبغي توقيعه؛ وإن أخفقت السُّلطات في توقيعه، فإنَّ هذه المهمة تقع على عاتقي أنا. عِلاوةً على ذلك، فإنَّ الشخص الذي يرتكب جرائمَ القتل بهذا القدْر من الاستهتار أثناء تأديته لعملِه لا يصلح لأنْ يعيش في مجتمع مع البشر. كان من الجلي أنَّ واجبي باعتباري مواطنًا صالحًا هو التخلُّص من هذا الشخص الخطير.
وكان ما وجدتُ يُمثِّل اكتشافًا مذهلًا بحقٍّ. كان الشَّعر حلقيًّا. فمظهره الرمادي لم يكن سببُه الاختلاط المعتاد بين الشَّعر الأسود والأبيض، بل يعود إلى حقيقةِ أن كل شَعرة منفصلة تتميَّز بحلقاتٍ متبادلة من الأبيض والأسود. ويشيع وجودُ الشَّعر المُرقَّط في الحيوانات الدنيا التي يكون هناك نمط على فرائها. فالقط العتَّابي يقدِّم مثالًا شائعًا ومألوفًا على ذلك. لكن في البشَر، يندُر تمامًا وجود هذه الحالة؛ لذلك أصبح من الواضح أنني أمتلِك وسائلَ ناجعة لتحديد هوية القاتل، بامتلاكي لتلك البصمات والشَّعرات. لكن تحديد هُوية الشخص تنطوي على أن يكون هذا الشخص بحوزتك. وهنا تكمُن الصعوبة. فكيف سأتغلَّب على هذا؟
إنَّ المجرمين كالهوام. فهم يتمتَّعون بنفس خصائصها؛ نشاط غير مُثمر مقترن بقدرة كبيرة على الإفساد والتدمير. وكما سيقرض الجُرَذ لوحةً من لوحات هولباين أو ينخر المخطوطة الفاتيكانية من أجل أن يصنع لنفسه وكرًا، فإنَّ المجرم المُحترف سيُذيب الأواني النفيسة من العصور الوسطى ليبيعها بالجملة مقابل بضعة شلنات. التشابُه هنا واضح.
والآن كيف نتعامل مع الهوام — مع الجُرَذ على سبيل المثال؟
أندخُل إلى وكره ونحاول التواصلَ معه بالمنطق؟ هل نسعى جاهدين إلى السمو ببوصلته الأخلاقية؟ كلَّا على الإطلاق. بل نستدرِجه للخروج. وحين يفعل، نحرص على ألا يعود. باختصار، ننصب له فخًّا. وإن لم يكن الجُرَذ الذي سنُمسك به هو المنشود، فإننا نُعيد الكرَّة.
هكذا بالتحديد. تلك هي المقاربة الأفضل.
كانت خادمتي قد فرَّت من المنزل وقتَ وقوع الجريمة؛ لا شكَّ أنها كانت متواطئةً مع القاتل. وكانت طاهيتي قد غادرت في اليوم نفسه، وذلك بعد أن راعَها ما شهدت من حدثٍ مُرعب. ومنذ ذلك الحين وقد استبدلت بهما خادمة نهارية. لكنني سأحتاج إلى وجود خادمة وطاهية، وإن تصرَّفت على نحوٍ حكيم في مسألة فحص خلفية المتقدِّمين، فقد أتمكَّن من الحصول على نوعية الأشخاص الذين سيكونون عونًا لمُخطَّطي. ذلك أن هناك جرذانًا إناثًا كما أن هناك ذكورًا.
لكن كان ثمَّة تدابير أولية عليَّ اتخاذها. كان يتعيَّن عليَّ الانتباه إلى حالتي الجسدية. عندما كنتُ شابًّا، كنتُ رياضيًّا من الدرجة الأولى، وحتى الآن، ما زلتُ أتمتَّع بالقوة والنشاط الكبيرَين. لكن يتعيَّن عليَّ ممارسة التدريبات الرياضية واستعادة مهاراتي في المصارعة والملاكمة. ثم بعد ذلك يتعيَّن أن أُنصِّب أجهزة إنذار ضد السرقة، وأُعِدَّ بعض اللوازم الصغيرة وأُوفِّر لنفسي أداةً مناسبة للتعامل مع «الطريدة».
وقد باشرتُ أمرَ هذه الأخيرة على الفور. إذ أتيت بقرن وحيد قرنٍ طوله قرابة قدمَين وثبَّتُّ في طرفه كُعبُرة من الرصاص تزن رطلين. ثم غلَّفت الكعبُرة بطبقةٍ سميكة من شَعر الخيل المُضفَّر، وعليها ربطت غطاءً من الجلد القوي؛ وحين أضفْتُ رباط مِعصم، أصبحت أداةً صالحة للاستخدام فعلًا. وكان الغرض منها معروفًا. كانت الأداة شكلًا مطوَّرًا من تلك الأداة البسيطة المُسمَّاة بكيس الرمل التي يستخدِمها المجرمون لإحداث ارتجاجٍ بالمخ من دون إصابة الجمجمة بكسور. يُمكنني أن أُسميها المِربات.
وكانت التدابير الأولية تمضي قُدمًا باطراد. فاشتركت في صالة رياضية مدة أسبوعَين تحت إشراف البروفيسور سنايب، الهرقل البافاري؛ وتدرَّبت على أكثر «الضربات القاضية» شيوعًا التي يعرفها مُدرِّبي، الملاكم الشهير ميلتشيزيديك كوهين (المشهور باسم كوهين «المراوغ»)؛ وخصصتُ ساعةً في اليوم للتدرُّب على استخدام المِربات بمساعدة كرة اللكم؛ كما كانت أجهزة الإنذار جاهزةً للتثبيت والتركيب، حتى إنني حصلتُ على عنوانِ خادمةٍ شائنة السمعة، وذلك حين حدث أمرٌ غير متوقَّع. تسنَّت لي فرصة تجربة كل ذلك قبل الشروع بتنفيذ المُخطط. إذ دلف أحدهم إلى الفخِّ من دون حتى أن يُحمِّلني عناء نَصبِه.
وقد وقع الأمر على النحو التالي. كنتُ قد ذهبت إلى الفِراش في وقتٍ مبكِّر ورُحت في النوم على الفور، لكن عند الواحدة ليلًا تقريبًا استيقظتُ وكنت في حالة وعيٍ تامٍّ تُنذِر بأن أجفاني لن تذوق النوم مرةً أخرى ليلتها. فأشعلت شمعةَ المصباح وبحثتُ حولي عن الكتاب الذي كنت أقرؤه في المساء، وحينها تذكَّرت أنني تركته في المتحف. وكان هذا الكتاب قد أثار اهتمامي بشدة. إذ كان يحوي أوضحَ وصفٍ وقَعتْ عليه يدي عن قبائل موندوروكو الهندية وطريقتهم المُثيرة للفضول في حفظ رءوس أعدائهم المقطوعة؛ وفيها يجري تقليصُ حجم الرأس — بعد نزع العِظام عنها — حتى يُصبح الرأس في حجم قبضة اليد.
نهضتُ وأخذت مفاتيحي ومصباحي وتوجَّهتُ إلى جناح المتحف الذي كانت حجرة الطعام تُفضي إليه. وقد وجدتُ الكتاب، لكن وبدلًا من أن أعود على الفور، تباطأت قليلًا في المتحف ورحتُ أنظر في أرجاء الغرفة الكبيرة وإلى المجموعة غير المُكتملة وأتذكَّر في كآبةٍ الذكريات التي تثيرها. كان المتحف هديةً من زوجتي. إذ كانت قد أنشأته والمُختبر الكبير بعد وقتٍ قصير من زواجنا وقد قضينا فيه معًا ساعاتٍ مبهجة ومُمتعة كثيرة، نُرتِّب العينات الجديدة في صناديقها. لم أكن أسمح لها بالعمل في المختبر الكريه الرائحة، لكنها كانت تملك مجموعةً خاصة بها من الصَّدف الأرضي أو الخاص بالماء العذب (التي كان التعامل معها أكثرَ نظافة من التعامل مع العظام)؛ سحبتُ بعض الأدراج من الخزانة الخاصة بها، وبينما كنت أقلِّب بصري بين الصَّدف وأنا أفكِّر في الأيام السعيدة التي قضيناها ونحن نتجوَّل على ضفاف النهر أو في الأراضي الأخرى بحثًا عنها، انتبهتُ إلى صوت حركة خافتة مصدره غرفة الطعام.
تقدَّمت بخطواتٍ خفيفة في الرواق المؤدي إلى غرفة الطعام وأنصتُّ السمع. كان الباب الواصل بين المتحف والحجرة مغلقًا، لكن من خلفه تمكَّنت من تمييز صوتِ شخصٍ يتحرك في الأرجاء وبين الحين والحين كنتُ أسمع قرقعةَ معادن. فهُرعت إلى المتحف — إذ كان خُف النوم ذو النعل المصنوع من اللباد لا يُحدِث أيَّ صوت — وأخذتُ المِربات من الدُّرج الذي كنت قد أخفيتُه فيه ودسستُه في حزام رداء النوم الخاص بي. ثم تسللتُ عائدًا إلى الباب.
كانت الأصوات الآن قد توقَّفت. فاستنتجتُ أنَّ اللص — ذلك أنه لا يمكن أن يكون أحدًا آخر — قد ذهب إلى حجرة المؤن حيث تتواجَد خزانة الأواني الفضية. هنا أدرتُ مزلاج ييل، وفتحتُ الباب في هدوءٍ شديد. كان من عادتي أن أحافظ على تزليق كل الأقفال والمُفصَّلات بالزيت، ومن ثمَّ انفتح الباب من دون أن يُحدِث أيَّ صوت. لم يكن هناك أحد في غرفة الطعام؛ لكن كان أحد مشاعل مصباح الغاز موقدًا، وكان ثمة العديد من الأواني الفضية على الطاولة، تمامًا كما كانت حين قُتلت زوجتي. فواربتُ باب المتحف — لم أستطِع أن أُغلقه بسبب الصوت الذي كان المزلاج الزنبركي سيُحدثه — وانسللتُ خلف حاجزٍ ذي تصميم ياباني كان بالقُرب من باب حجرة الطعام. لم أكد أستقر في مكاني حتى بدأت تقترب خطواتٌ مُتسللة مصدرها الرَّدهة. دلفتِ الخطوات الغرفة ثم جاء صوت قرقعة خافت. نظرت خلسةً وبحذَر من خلف الحجز، فوقعَت عيني على ظهر رجل كان واقفًا بجوار الطاولة التي وضع عليها عددًا من الملاعق والشُّوَك والشمعدان من دون أن يُحدِث أي صوت. ورغم أن ظهره كان باتجاهي، فإنني استطعتُ رؤيةَ وجهه بوضوح من خلال مرآة كانت على الجدار المقابل؛ كان وجهه جامدًا وخاليًا من التعبير، وكانت هذه هي الأوصاف التي ربطتُها بمعتادي الإجرام من الإنجليز؛ وجوه الأشخاص الذين حُكِم عليهم بالأشغال الشاقة.
كان الرجل حَذِرًا في عمله. إذ كان يقلِّب كل قطعة ويُمعن النظر فيها، ويزنها في يده ويولي انتباهًا خاصًّا إلى الدمغة عليها. وبينما أنا أرقُبه، واتتني فكرة أنه ربما يصدِف أن يكون هذا هو الحقير نفسه الذي قتل زوجتي، وأنه عاد ليستوليَ على بقية الغنائم التي تَعيَّن عليه أن يتركها حينها. كان هذا الاحتمال قائمًا، بل وكان مُرجحًا، فدبَّت الدماء في وجهي من هذه الفكرة، واجتاحتني متعةٌ غريبة وشعواء لم أعهد مثلها من قبل. كان من المُمكن أن أرفع صوتي بالضحك، لكنني لم أفعل. وكان بإمكاني أيضًا أن أُرديَه بسهولةٍ وهو واقف، لكنني لم أفعل. فلماذا لم آتِ على فعل ذلك؟ أكان هذا إحساسًا غامضًا بداخلي بتحري الإنصاف؟ أم كان أقربَ إلى غريزة القط، التي تدفعني إلى التلاعُب بطريدتي؟ لا تسعني الإجابة على وجه التحديد. كل ما أعرفه أن فكرة توجيه ضربةٍ له من خلفه لم ترُق لي.
بعد ذلك ذهب الرجل (الذي كان يرتدي خُفَّين من القماش) ليُحضر المزيد من الغنائم. حينها خرجتُ من مخبئي بدافعٍ من المزاح، وجمعتُ عددًا من الملاعق والشُّوَك وملَّاحةً وشمعدانًا وطبقَ تقديم رئيسيًّا وعُدت مرة أخرى خلف الحاجز. ثم عاد صاحبنا ومعه المزيد من الأشياء؛ وبينما هو يُطالع القِطع الجديدة بلهفة، تسللتُ في صمتٍ وخرجت من الجهة الأخرى من الحاجز، وخرجتُ من الباب المفتوح وتقدَّمت في الرَّدهة حتى وصلتُ إلى غرفة المؤن. كانت هناك شمعة مُشتعلة تضيء المكان فرأيت خزانة الأواني مفتوحة وقد فرغ نصفها، وكان هناك عدد من الأواني على طاولة جانبية. وبسرعة وهدوء، أعدتُ الملاعق والقطع الأخرى التي جمعتُها إلى الخزانة، ثم تسللتُ عائدًا إلى مكاني خلف الحاجز وعاودتُ مراقبة الرجل.
كان ضيفنا منهمكًا بشدةٍ في مُهمته. وكانت له عادة — أعتقد أنها شائعة بين «مرتادي السجون» — أنه كان يتحدَّث إلى نفسه؛ وكانت محادثته لنفسه بائسة جدًّا، رغم أنها كانت أفضل من قُدرته على الحساب، حيث فهمتُ من محاولاته أنه كان يحسب وزن الغنيمة. وسرعان ما عاد الرجل ليأتيَ بحفنةٍ أخرى من الأواني، ومرةً أخرى خرجت من مخبئي وجمعتُ بعضَ ما جاء به؛ وحين عاد محملًا بالمسروقات، ذهبتُ أنا كما ذهبتُ من قبل ووضعتُ الأشياء في خزانتها.
كرَّرتُ هذه الحيلةَ عددًا كبيرًا من المرات. حتمًا كان الرجل شديدَ الحماقة، وهذا اعتقادي بشأن معظم المُجرمين المُحترفين. كان افتقاره إلى الملاحظة مثيرًا للذهول. والواقع أنه بدأ يشعر بالاستغراب والحيرة. حتى إنه قال: «يبدو أنَّ هناك الكثير والكثير من تلك الأشياء»؛ وأصبحت جودة عملياته الحسابية والتعبير عنها بالألفاظ بَشِعَين على حدٍّ سواء. أظنُّ أنه كان سيستمر في فعله حتى بزوغ النهار إن لم أحاول أن ألفت انتباهه كثيرًا باستخدام إبريق شاي يعود إلى الملكة آن. كان ذلك الإبريق بتصميمه البارز الذي يتَّخذ شكلَ جرَّة هو ما نبَّهه في النهاية إلى واقع الأمر. كنتُ قد عُدت للتوِّ من إرجاعه إلى الخزانة للمرة الثالثة حين لم يجده الرجل؛ وقد أعلن عن اكتشافه باختفاء الإبريق بسيلٍ من الألفاظ غير الضرورية على الإطلاق والبذيئة إلى حدٍّ بعيد.
صاح بعنف: «ما الأمر؟! أين ذهب ذلك الإبريق اللعين؟ اللعنة! لقد وضعتُ ذلك الإبريق اللعين مع طبق التقديم — وأين ذهب ذلك الطبق؟ اللعنة، لقد اختفى هو الآخر!»
وقف الرجل إلى جوار الطاولة يحكُّ شَعره الخشِن وقد بدت عليه أمارات الحيرة المُثيرة للسخرية. أخذت أرقبه وأنا أُفكِّر إن كان عليَّ استغلال الفرصة فأُرديه. لا شكَّ أن هذا كان هو التصرُّف السليم. لكنني لم أستطِع حمل نفسي على فعله. إذ استحوذ عليَّ إحساس جارف بالرغبة في إلحاق الأذى؛ شعور غريب وغير مألوف بالابتهاج ورغبة كاسحة في المشاكسة أرغماني على الإتيان بحِيَلٍ جنونية وعجيبة. لقد كانت تلك ظاهرة فريدة. بدا لي فجأةً أنني اكتشفتُ ازدواجية مجهولة في شخصيتي لم أكن أعرفها حتى الآن.
وقف اللص برهةً يُغمغم في بلاهة، ثم انتقل إلى حجرة المؤن. فخرجتُ وتبِعته إلى داخل الرَّدهة المُظلمة ثم وقفتُ خلف ستارة وانتظرت عودته. عاد بعد قليل، ورأيت من خلال بريق الضوء الآتي من الباب المفتوح أنه أتى بالإبريق وطبق التقديم. كان مُستأجرٌ قديم للمنزل قد زوَّد باب حجرة الطعام بمزلاجين خارجِيَّين؛ لم أستطِع أن أتخيَّل سببًا لذلك؛ لكن وسوست لي نفسي في ظلِّ الظروف الحالية أن أستخدمهما. فبمجرد أن دلف اللصُّ من الباب، تسلَّلتُ وأغلقت الباب بهدوء، وأوصدت المزلاج الأول.
أثار هذا حفيظةَ صديقنا. إذ هُرع إلى الباب وأخذ يهزُّه بعنف كالمجنون؛ وأخذ يسبُّ بطلاقةٍ مذهلة ووجَّه لي كلامًا لا تكفي صفةُ الوقاحة لوصفه. ثم أغلقت المزلاج السفلي في صمتٍ وفتحت الأعلى بصوتٍ مسموع. فظنَّ صاحبنا أنني فتحت المزلاج، وحين وجد أنني لم أفعل، أصبح سِبابه لا يُوصَف.
كان ثمَّة باب آخر لغرفة الطعام يُفضي أيضًا إلى الرَّدهة على الجانب الآخر. وقد بدا أن أسيري تذكَّر وجودَ هذا الباب فجأة، فقد جرى نحوه بسرعة. لكنني جريت أنا أيضًا نحو الباب، وحيث لم يكن هناك في الرَّدهة أثاث يُعيق حركتي، وصلت إلى الباب قبله وأوصدت المزلاج العلوي. أخذ يحاول اقتلاعَ مِقبض الباب بعُنف ونعتني بأوصافٍ غريبة وغير لائقة. فكرَّرتُ حيلةَ التظاهر بفتح الباب، وابتسمتُ حين سمعته وهو ينتفض من شدةِ ما به من حنق. بدا الأمر مُسليًا للغاية في ذلك الوقت، وإن كنت أراه الآن سخيفًا وأنا أتذكَّره بأثر رجعي.
وفجأة، توقَّفت جميع محاولاته وسمِعته وهو يتراجع. فعُدت إلى الباب الآخر، لكنه لم يحاول مجددًا أن يفتحه. أنصتُّ ولمَّا لم أجد صوتًا، تذكَّرت باب المتحف المفتوح. على الأرجح أنه ذهب إلى المتحف ليبحث عن مخرج. لا يُمكنني السماح بهذا. لم أكن أهتم لأمر الأواني الفضية إطلاقًا، لكن عيِّنات المتحف كانت أمرًا مختلفًا تمامًا؛ وقد يُلحِق بها اللص الضرر لمجرد تعمُّد الأذى.
ففتحتُ مزلاجَ الباب ودخلت الحجرة وأوصدت البابَ ثانية من الداخل ووضعت المفتاح في جيبي. ولم أكد ألتفت حتى ظهر الرجل عند باب المتحف، يرمقني بحذرٍ ويُحاول إخفاء ارتدائه لبرجمية في يده اليسرى. كنت قد لاحظتُ أنه ليس أعسرَ، فرُحْت أستنتج ما يريد صاحبنا أن يفعل بيمناه. وقفنا بضع ثوانٍ في مواجهة بعضنا البعض، ثم بدأ هو يتحرك نحو الباب. فانسحبت أنا جانبًا وهُرع هو نحو الباب وأدار مقبضه. وحين وجد أنَّ الباب كان موصدًا، أصابه حَنَق شديد. تقدَّم الرجل نحوي وهو يُهددني بيسراه المقبوضة، لكنه بعد ذلك تراجع. على الأرجح أنه أُصيب بالرهبة حين رآني أبتسِم وقد فعلتُ به ما فعلت. أظنُّ أنه اعتقد أنني مخبول؛ في الواقع، أشار صاحبنا إلى ذلك بكلماتٍ فظَّة لم يُحسِن اختيارها. لكن كلماته كانت محدودة للغاية، وإن كانت طريفة.
تبادلنا بعضَ الكلمات، لكنني رأيتُ أن نبرتي لم تكن تروق له. كانت رؤية البرجمية قد غيَّرت حالتي المزاجية. إذ لم أعد أشعر بالرغبة في المشاكسة. لقد أعادني إلى غايتي الأولى. وقد عبَّر الرجل عن رغبته في مغادرة المنزل وأن يعرف «ما أريد». أجبتُه بأنني أريده هو، وأنه صار في المصيدة، وهنا جرى نحوي وسدَّد ضربة قوية إلى رأسي بيسراه المُسلَّحة بالبرجمية التي لو وصلت إلى هدفها لأفقدتني وعييَ على الفور. لكنها لم تُصِب الهدف. إذ اتَّقيتُها بسهولة، وسدَّدت له ضربة مضادة أرسلته للخلف وهو يلهث.
استشاط الرجل غضبًا. فأتى نحوي كحيوانٍ ضارٍ يفغر فاه وقد رفع قبضته المسلَّحة وكأنه قد أراد سحقي. حاولت التعامُل معه بأسلوب السيد كوهين المراوغ، لكن من دون طائل. فالرجل لم يكن ملاكمًا، كما كان مسلحًا بالبرجمية. ومن ثمَّ التحمنا كقردَين يتصارعان، وحاول كلٌّ منَّا إلحاق إصاباتٍ عنيفة بالآخر. أخذ الرجل يُصارعني ويتلوَّى ويهدر ويركل، بل إنَّه حتى حاول أن يعضني؛ في حين حاولت أنا قدْر استطاعتي السيطرةَ على مِعصمَيه متحينًا فرصتي. كان العراك شديد العنف. إذ رحنا نتهاوى على بعضنا مقبلَين ومدبرَين، وكلٌّ منا يمسك بخناق الآخر؛ واندفعنا بهمجيةٍ في أرجاء الغرفة؛ فأسقطنا الكراسي واصطدمنا بالطاولة وصدم كلٌّ منَّا رأس الآخر في الجدران؛ وطوال الوقت، وبينما كان خصمي يَهدِر فاغرًا فاه وقد بدت أسنانه ككلبٍ بريٍّ، كنت أنا أشعر بإحساسٍ غريب بالاستمتاع الجسدي كالذي يجده المرء حين يُمارس لعبة شاقة. بدا أنني اكتسبتُ شخصيةً جديدة وغير مألوفة بالنسبة لي.
لكن البرجميَّة كانت تُمثِّل صعوبةً وأزمة؛ حيث كان يتحتَّم عليَّ أن أحذر من يده اليُمنى؛ ومع ذلك، لم أستطِع أن أترك يده اليسرى ولو لحظةً وهي مسلَّحة بذلك السلاح البائس. وهكذا ظللتُ ممسكًا بمِعصميه بينما كافح هو من أجل أن يُحرِّرهما مني، وأخذنا نجذب بعضنا نحو الأمام والخلف ودُرنا حول بعضنا بحماقة وقلة خبرة، كلٌّ يُحاول أن يُسقِط الآخر، وقد باءت محاولاتنا جميعها بالفشل. أخيرًا، وبينما جُبنا أرجاء الغرفة عراكًا، اصطدمنا بالباب المفتوح المُفضي إلى المتحف؛ وهناك سقطنا سقوطًا مُدويًا ارتجَّ له المنزل.
كان من سوء الحظ أنني سقطتُ تحته؛ لكن ورغم صدمة السقوط، تمكَّنت من الحفاظ على معصمَيه في قبضتي، وإن كنتُ قد واجهت صعوبةً في منعه من أن يعضَّ يديَّ ووجهي. ظللنا على وضعنا هذا برهةً، وكنَّا لا نزال نتلوَّى بطريقةٍ فوضوية حتى سمِعنا صوت خطواتٍ تهبط على الدَّرج. توقَّف اللص لحظةً من أجل أن يُنصت، ثم وبجهدٍ مفاجئ، حرَّر اللص يُمناه وأدخلها بسرعة في جيبه الخلفي وأخرجها وهو يُمسك بمسدس دوَّار صغير. وفي الحال سدَّدتُ ضربة بيسراي نحو أسفل ذقنه فأزحته من مكانه فوقي؛ وبينما هو يسقط، جاء وميضٌ ثم صوت طلقة نارية من مُسدَّسه تبِعهما تحطُّم الزجاج، وتلاها على الفور صوت إغلاق الباب الأمامي بقوة. فتركتُ يده اليُسرى ونهضتُ على ركبتيَّ وأمسكت بالمُسدس بيدي اليسرى، بينما أخرجت المِربات بيمناي وسدَّدت ضربةً عنيفة إلى أعلى رأسه. هوى الثِّقَلُ المبطَّن على رأسه من دون أي صوت — عدا صوت اصطكاك أسنانه — وكان تأثير الضربة فوريًّا. فنهضت وأنا ألهث وقد شعرتُ برضًا كبير تجاه كفاءة أداتي، حتى لاحظت أنَّ الرجل الذي فقد وعيه ينزف قليلًا من أذنه؛ فعرفت من هذا أنني سدَّدت ضربة شديدة القوة حطَّمت بها قاعدة جمجمته.
ومع ذلك، كان همي الأول هو التحقُّق مما إذا كان هذا الرجل هو المنشود. وفي الممر كان الظلام شديدًا فلم أستطِع أن أتبيَّن أطراف أصابعه ولا ملمس شَعره؛ لكن من شأن مصباحي ذي الشمعة بعاكِسه الإهليلجي أن يوفِّر لي ما يكفي من الضوء. فجريتُ إلى المتحف وكانت شمعة المصباح لا تزال مُشتعلة، فأمسكت بالمصباح وهُرعت عائدًا؛ وما كدتُ أصل إلى الجثة الهامدة حتى سمعتُ صوت أحدهم يفتح الباب الأمامي بقوةٍ باستخدام مفتاح. كانت الخادمة النهارية قد عادت من دون شكٍّ ومعها الشرطة.
كنتُ لا أعرف ما أريد أن أفعل. أعتقد أنه لم تكن هناك نيةٌ مُحدَّدة لما أريد القيام به، بل تصرَّفت بصورةٍ تلقائية مدفوعًا برغبتي في تحديد هُوية اللص. فما كان منِّي إلا أن أوصدتُ باب المُتحف بهدوءٍ شديد، باستخدام المفتاح، وفتحت بابَ حجرة الطعام.
دلف رجلُ شرطةٍ ورقيب وضابط يرتدي ملابسَ مدنية إلى الغرفة وتخلَّفت الخادمة في الخلفية المُظلمة.
سأل الرقيب بإلحاح: «هل هرب اللصوص؟»
فقلت له: «كان لصًّا واحدًا.»
وبمجرد أن سمعوا ذلك أسرعوا يُحاولون اللَّحاق به وقد سمعتُهم يهبطون نحو القبو. ودخلَتِ الخادمة وحدَّقت فيَّ وفي هيئتي الرَّثة بشماتة، وكانت هيئتي تحمل آثارًا من كل زاويةٍ ومكان في الغرفة.
وقالت: «من المؤسِف أنكَ نزلتَ من غرفتك يا سيدي. كان بالإمكان أن تلقى حتفَك كما حدث مع زوجتك الراحلة. من الأفضل أن تترُك مثل هؤلاء الناس وشأنهم. هذا رأيي. كما يقول القائلون، دعهم وشأنهم وهم سينصرفون.»
كان تعليقها هذا صحيحًا بدرجةٍ كبيرة، خاصةً آخر ما قالت. عبَّرتُ عن تسليمي بصحة ذلك بدرجة طفيفة، في حين راحت المرأة ترمق أرجاء الغرفة المدمَّرة في ذهول. ثم عاد اثنان من رجال الشرطة الثلاثة وباشرا التحقيقات بصحبة صفارات الشرطة البعيدة التي كان مصدرها الجزء الخلفي من المنزل.
قال الضابط ذو الملابس المدنية بابتسامةٍ خافتة: «لست في حاجة أن أسألك إن كنتَ قد رأيتَ الرجل.»
وقال الرقيب: «كلَّا، أنت محقٌّ. لقد حمل عليك حملةً شديدة يا سيدي. يبدو أنها كانت معركة حامية.» ثم رمق أرجاء الغرفة وأضاف: «كما أنه أطلق رصاصة أيضًا، كما أخبرتنا مُدبِّرة منزلك.»
فأومأتُ باتجاه المرآة المُهشَّمة لكنني لم أعلِّق، وباشر الضابط تحقيقاته بعد أن علَّق بأنني أبدو «متزعزعًا ومصدومًا». أخذتُ أشاهِد الرجلَين دون اهتمام. لم أكن مهتمًّا بهما كثيرًا. كنتُ أفكِّر في الرجل الراقد على الجانب الآخر من باب المتحف وأتساءل إن كان له شَعر حَلْقي.
بعد قليلٍ أعلن الضابط ذو الثياب المدنية أنه حقَّق اكتشافًا. فقال: «انظروا، هذه حقيبة مصنوعة من السجاد.» وأخرجها من تحت الطاولة ورفعها تحت المصباح الغازي ليفحصها؛ ثم انفجر يقهقه بصوت مرتفع ومبتهج.
فقال الرقيب: «ما الأمر؟»
«عجبًا، إنها حقيبة جيمي آرتشر.»
«أحقًّا؟!»
«أجل. لقد أراني إياها بنفسه. أعطتها إياه «جمعية إغاثة السجناء المُفرَج عنهم» ليحمل فيها أدواته. ها! ها! رباه!»
فحص الرقيب الحقيبةَ باهتمام كبير وابتسامة، وازدادت ابتسامته حين أخرج زميله مثقابًا يدويًّا وعددًا من قِطَعِه بمقاسات مختلفة وعتلة صغيرة وبعض الأدوات الأخرى. سجَّلتُ اسم اللص في ذهني، وبعدها فتر اهتمامي ثانيةً. وأخذ الضابطان يفحصان الغرفة معًا، وحاولا فتح باب المتحف ولاحظا أن أحدًا لم يعبث به؛ وفحصا الأواني الفضية وعابا عليَّ حماقتي أنني جعلتُ الوصول إليها سهلًا؛ وفي نهاية المطاف رحلا بعد أن وعداني أن يأتيَ إليَّ في الصباح مُفتش المباحث، وحتى هذا الحين تركا معي فردَ الشرطة ليحرس المنزل.
كنت سأبتهج إذا ما استطعت التخلُّص من ذلك الشرطي، خاصة أنه استقرَّ في غرفة الطعام وبدا أنه يريد التحدُّث، وهو الأمر الذي لم أكن أريده. كان وجوده يَضطرني إلى الابتعاد عن المتحف. فلم أستطِع أن أفتح الباب؛ لأن اللصَّ كان يرقد خلف الباب تمامًا. كان الأمر مُثيرًا للغيظ الشديد. كنت أريد أن أطمئن إلى أنَّ الرجل مات بالفعل، وبصورة خاصة، كنت أريد أن أفحص شَعره وأقارن بصمات أصابعه بالمجموعة التي كانت بحوزتي بالمتحف. رغم ذلك، لم أستطِع فِعل أيٍّ من هذا. وفي نهاية المطاف، أخذتُ مصباحي من على نضد المائدة وصعدتُ إلى فراشي، وتركت الشرطي جالسًا على الكرسي ومعه علبة سيجار وقنينة ويسكي وسحَّاحة مياه فوارة عند مرفقه.
ظللتُ مستيقظًا فترةً طويلة أتأمَّل الوضع. هل كان الرجل الذي وقع في الفخ هو الرجل المنشود؟ هل أتممتُ مهمتي، وهل أنا الآن حرٌّ في «إنهاء» عَقد حياتي المُدمَّرة؛ بلُغة المُحامين؟ كانت تلك هي الأسئلة التي سيُجيب عنها نور الصباح؛ من جهة أخرى، كان هناك شيء واحد واضح: أنني مُلتزم بالتخلُّص من ذلك اللص الميت. لم يكن باستطاعتي إظهارُ الجثة الآن؛ وسيتعيَّن عليَّ مواراتُها بأفضلِ ما يُمكنني.
لم تمثِّل هذه المسألة أي صعوبة بالطبع. إذ كان هناك فرنٌ للطين الحراري في المختبر، وكنتُ معتادًا على التخلُّص فيه من النفايات الضخمة من مُستحضراتي. ومن شأن قنطارٍ أو نحو ذلك من فحم الأنثراسيت أن يُحوِّل الجثة إلى رماد؛ رغم هذا — في الواقع، بدا لي أنَّ مِن التبديد والسَّفه القيام بهذا. فلطالما كنتُ معارضًا لحرق جُثث الموتى وتدمير المواد التشريحية تدميرًا عشوائيًّا وغاشمًا. وها أنا ذا أقترح على نفسي الآن مُمارسةَ ما أُعارضه بشدَّة. فتأمَّلت في هذا الأمر. هذه الجثة هي عيِّنة جاءت إلى عتبة بابي، كلَّا، بل إلى مُختبري. فلماذا أُدمِّرها؟ ألا أستطيع تحويلها إلى شيءٍ يفيد تقدُّم العلم؟
تأمَّلت هذا السؤال طويلًا. هذه عيِّنة. لكن عيِّنة لأي شيء؟ أنا لستُ تاجر تحف وأشياء نادرة، ولستُ بجامع أشياء تافهة وغير ذات معنًى. ينبغي أن تكون للعينة قيمة حقيقية. والآن ما القيمة الحقيقية التي تُقدِّمها هذه العيِّنة؟ أدى طرحُ السؤال بهذه الطريقة إلى ظهور إجابةٍ له في لمح البصر.
إنَّ علم الأنثروبولوجيا الجنائية علمٌ غير مدعوم دعمًا كافيًا بالصور والعينات. إن عددًا قليلًا من الصور الفوتوغرافية البائسة والجماجم البالية لمُجرمين مَنسيين (مثل شارلوت كورديه) هي ما تُمثِّل الأساس الذي يبني عليه علماء الأنثروبولوجيا الجنائية تعميماتهم غير المُرضية. لكنَّنا هنا أمام عيِّنة أصيلة لها تاريخ حياتي يُمكن تتبُّعه. ولا ينبغي أن تضيع هذه العينة ولا يستفيد بها العلم. لن يحدث هذا.
ثم سرعان ما اتخذَت أفكاري منعطفًا جديدًا. كنتُ مهتمًّا اهتمامًا عميقًا بالسرد الذي قرأتُه عن الطريقة العبقرية التي يحفظ بها هنود الموندوروكو رءوس أعدائهم المقطوعة. لسوء الحظ كان الكتاب لا يزال في المتحف، لكنني كنتُ قد قرأت السرد كلَّه، وتذكَّرته الآن. حين يَقتل مُحارب المونودوروكو عدوًّا له، كان يقطع رأسه بسكينٍ عريض من الخيزران ويحفظه على النحو التالي: ينقع الرأس لبعض الوقت في زيتٍ نباتي غير قابل للأكسدة؛ ثم يسلخ العظام والعضلات كما يستخلص مُحنِّط الطيور الجسمَ من الجلد. ثم يملأ الرأس الذي أصبح الآن مجوَّفًا بالحصى الساخن ويُعلِّقه ليجفَّ.
وبتكرار هذه العملية الأخيرة مراتٍ كثيرة، يتضاءل الرأس تدريجيًّا وبصورة مُتماثلة حتى يتقلَّص إلى حجم قبضة اليد أو حتى أقل، لكن الملامح تبقى محفوظة كما هي تقريبًا. وأخيرًا يُزيَّن الرأس الصغير بريشٍ ألوانه زاهية — كانت قبائل الموندوروكو ماهرة للغاية في التزيين بالريش — ويُحكِم إطباق الشفتَين بخيطٍ يُعلِّق منه الرأسَ على حافة كوخه أو على عوارض دار الشورى.
كانت هذه الطريقة مبتكرة للغاية. ويبقى السؤال: هل الرءوس المحفوظة بهذه الطريقة مفيدة لدراسة سِمات الوجه؟ كنت قد نويت الحصول على قردٍ ميِّت من متجر جامراك وتجربة هذا. لكن بدا الآن أنَّ من غير الضروري الإتيانَ بالقرد إن كان باستطاعتي القيام بهذه الإجراءات من دون الإضرار بالجمجمة؛ ولم يكن لديَّ شكٌّ أنَّ باستطاعتي فِعل ذلك بالعناية والمهارة اللازمتَين.
عند بزوغ الفجر نزلت إلى حجرة الطعام. كان الشرطي مُغفيًا في كرسيه؛ وكان هناك قدْر لا بأس به من بقايا السيجار، وكانت قنينة الشراب ناقصة قليلًا. فأيقظتُ الشرطي وصرفتُه بعد أن أخذ سيجارًا آخرَ وما أطلق عليه «مُفتِّح للعينين» — نحو أونصتَين سائلتَين من الشراب. وحين انصرف، دلفت إلى رَدهة المتحف. كان اللص قد مرَّ وقتٌ على موته وبدأت جثَّته تتيبَّس. وكان هذا الأمر باعثًا على الراحة، لكن أهو الرجل المنشود؟ أخذتُ خُصلة صغيرة من شَعره وحملتها إلى المختبر حيث يقبع المجهر على الطاولة تحت غطاءٍ من الزجاج يتَّخذ شكل الجرس. فوضعتُ شعرة أو اثنتين على شريحة وعليها قطرة من الجليسرين، ووضعت الشريحة على منصَّة المجهر. وحانت اللحظة الحاسمة. نظرتُ بعيني في الجهاز ووضعت العينة تحت بؤرة الضوء.
يا للأسف! كان الشَّعر ذا لونٍ واحد وله صبغة بُنِّية. لم يكن هو الرجل المنشود.
كان هذا الأمر مثبطًا للغاية. لم أكن في حاجة فعلًا لقتله، وإن كنت لا أرى شيئًا في ظلِّ الظروف الراهنة يدفعني إلى الندم على ذلك. فموته لن يذهب هباءً. حين كان على قيد الحياة، كان مجرَّد مصدرِ خطر وإزعاج للمجتمع، أما في المتحف الآن، فقد يكون ذا منفعةٍ عامة كبيرة.
تحت الطاولة الرئيسية في المختبر كانت هناك خزانة طويلة تحوي صندوقًا أو قُل خزَّانًا كبيرًا مبطَّنًا بالزنك كنت معتادًا أن أحفظ فيه العينات التي في طَور الإعداد. فأخذتُ اللص إلى المُختبر ووضعته في الخزان، وأغلقتُ الغطاء الذي يمنع دخول الهواء وأحكمت عليه بقُفل. ولمزيدٍ من التأمين أغلقت الخزانة، وبعد أن غسلتُ أرضية الرَّدهة وجفَّفتها بكحولٍ ميثيلي، كانت جميع آثارِ ما وقع ليلة أمس قد طُمِست. فإنْ أرادت الشرطة أن تُلقيَ نظرة على المتحف والمختبر، فيمكنهم ذلك.
لقد ذكرتُ أنه بدا لي أنني اكتسبتُ شخصيةً غريبة تمامًا عن شخصيتي أثناء قبضي على اللص. لكن هذا التغيير كان مؤقتًا وحسب، وقد استعدتُ تمامًا الآن شخصيتي الطبيعية، التي تتَّسم بالدِّقة واليقظة والمنهجية والتحفُّظ الشديد. ومن ثمَّ، وبينما أتناول إفطاري وأُخطط لما سأتَّخِذ من إجراءات، تبيَّنت لي حقيقة مهمة. عمَّا قريب سيُصبح لديَّ في مُتحفي هيكل عظمي بشري حصلتُ عليه بطريقةٍ لا تقرُّها الأعراف الاجتماعية ولا حتى القانون. والآن، إذا أثرتُ حالةً من شأنها تفسير حصولي على هذا الهيكل العظمي بطريقةٍ بسيطة وطبيعية فإنني سأوفِّر على نفسي تقديمَ تفسيراتٍ قد تسبِّب لي المتاعب في المستقبل.
فقررتُ اتخاذَ التدابير اللازمة من دون تأخير، وبناءً عليه، وبعد مقابلةٍ مُضجرة مع مُفتِّش المباحث (الذي صحبته في جولةٍ في أرجاء المنزل بأكمله بما في ذلك المتحف والمختبر)، أخذت سيارةَ أجرة إلى شارع جريت سانت أندرو في حي سيفن دايلز، حيث يُقيم أحدُ التجار المشهورين ذوي الصِّلة بعلم العظام. بالطبع لم أخبره بأنني أتيت لأشتري هيكلًا بديلًا للص الذي قتلته. وإنما طلبت منه فقط هيكلًا عظميًّا كاملًا سيعرض واقفًا وليس معلقًا (فالتعليق يتضمَّن وجودَ حلْقة تعليق قبيحة الشكل مُتصلة بالجمجمة). وقد بحثتُ في المجموعة التي يملكها ومعي في يدي شريط قياس من الصُّلب عن هيكلٍ عظمي له حجم مناسب — طوله ثلاث وستون بوصة — لكنني لم أبيِّن له أنَّ هذا الطول مقصود بصفةٍ خاصة. أخبرته أنني أرغب في هيكلٍ يوضِّح الصفات العِرقية، وقد ابتسم لذلك — إذ لم يبدُ متفاجئًا، فهو يعرف أنَّ الهياكل التي لديه مكوَّنة من عظامٍ متنوِّعة لها أصول غير معروفة.
انتقيتُ هيكلًا مناسبًا ودفعت ثَمنه (خمسة جنيهات)، وحرصتُ على الحصول على فاتورة سليمة تتضمَّن تفصيلًا للمُشتريات ولتاريخ الشراء وتحمل ختمًا بالسداد. ولم آخُذ ما اشتريتُ معي في طريق عودتي؛ لكن الهيكل وصلني في اليوم نفسه في تابوت، وصادف أنْ كان المُفتِّش في منزلي في ذلك الوقت فساعدني مشكورًا في تفريغه.
كان الإجراء التالي أن ألتقط مجموعةً من الصور الفوتوغرافية للقتيل، بما في ذلك صورٌ للوجه من ثلاث زوايا، وصورة مُنفصلة لكل أذن، وصورتان لكل يدٍ من الجهتَين. كما أخذت أيضًا مجموعة كاملة من البصمات. وحينها كنتُ مستعدًّا للشروع في العملية على نحوٍ جاد.»
يتَّسِم ما بقي من سرد تشالونر عن الهيكل رقم ١ بأنه تقني بدرجةٍ عالية ولا يتناسب مع ذوق القراء العاديِّين. لكن يمكن فهمُ النتيجة النهائية من خلال الاقتباس التالي من فهرس المتحف:
«عيناتٌ لتوضيح الأنثروبولوجيا الجنائية.
السلسلة أ. العظام.
١. جمجمة لص، في السابعة والثلاثين من العمر. ذكر. الطول: ٦٣ بوصة. (جيمس آرتشر.)
عينة لرجلٍ من أصولٍ إنجليزية، كان لصًّا محترفًا، له سوابق مؤكدة، ومن المرجَّح أنه قاتل — لأنه كان معتادًا حمْلَ أسلحة نارية. يبدو أن ذكاءه العام ذو مستوًى مُتدنٍّ، ومهاراته اليدوية قاصرة جدًّا (كان يمتهن تركيب وإصلاح المعدَّات التي تعمل بالغاز، لكنه لم يكن يعمل بانتظام). وكان أميًّا تقريبًا، ويعاقر الشراب أحيانًا وليس بصفة دائمة.
سَعة القحف: ١٥٩٤ سنتيمترًا مكعبًا. قياس الرأس: ٧٦٫٨.
لمطالعة البصمات، انظر الألبوم د١، ص. ١. لمُطالعة صفات الوجه، انظر الألبوم ﻫ١، الصفحات ١، و٢، و٣ والسلسلة ب (مستحضرات جافة مُتقلِّصة). رقم ١.»
•••
أغلقت المُجلدَين — الفهرس والأرشيف — وتأمَّلت القصة المذهلة التي يقصَّانها بأسلوبهما الواقعي والعملي. هل كان الفقيد تشالونر مجنونًا؟ هل كان يُعاني هوسًا محمومًا بموضوع الجريمة والمُجرمين؟ أم ربما كان بالصدفة سليمَ العقل بصورة غير طبيعية، إنْ جاز لي استخدام هذا التعبير؟ كان من الواضح أنه لا يبدو مثل معظم الرجال الآخرين. فهل كان عاقلًا، أم مخبولًا؟
لا يُمكنني الإجابة عن هذا السؤال. ربما تؤدِّي مطالعة المزيد من أجزاء الأرشيف إلى تسليطِ مزيدٍ من الضوء على الأمر.