أتباع الخادمة
من المُثير كثيرًا للفضول ملاحظةُ التباين بين الشكِّ واليقين. فحين سرتُ في متحف صديقي الراحل تشالونر ونظرتُ إلى المجموعة الكبيرة من الهياكل العظمية البشرية التي يَحويها، ساورَني شعورٌ بالشك أنَّ هناك خطْبًا ما بشأنها، وقد جعلني هذا الشعور منزعجًا إلى حدٍّ كبير. والآن، وبعد قراءة أوَّل ما كتب، صرتُ أعرف أمرها كلَّه. كانت تلك هياكل لمُجرمين أُمسِكَ بهم مُتلبِّسين واحتُفِظ بها من أجل العلم. بذلك تحقَّقت من صحة كل شكوكي، ورغم ذلك، وعلى قدْرِ ما قد يبدو الأمر غريبًا، فقد زال عني ارتياعي منها مع حضور اليقين. فلم تَعُد الرءوس الصغيرة التي تُشبه الدُّمى تُثير فيَّ إلا قشعريرة عابرة. إذ أفسحت هذه الرهبة الغامضة والخرافية المجالَ أمام الاهتمام العلمي.
اغتنمتُ فرصةً مُبكِّرة لتجديد تعرُّفي على «أرشيف المتحف» المُذهل والشنيع. وكان السرد الثاني مُعنونًا ﺑ «السلاسل الأنثروبولوجية ٢، و٣، و٤». وكان يعرض النظرةَ الفردية نفسَها كما الأول، فأوضح أن المُجرم بالنسبة لتشالونر لم يكن بشرًا على الإطلاق، بل مجرَّد نموذج أدنى من البشر، مُشابهٍ للبشر من الناحية التشريحية.
استهلَّ السرد بقوله: «حصولي على العينة رقم ١ شغلَني كثيرًا على الصعيدَين الجسدي والذهني. فبينما كنتُ أعمل يوميًّا على تجهيز الهيكل العظمي للراحل جيمس آرتشر لجعلِه ملائمًا لعرضه في صندوقٍ بالمتحف، كنت أتأمَّل المُستقبل الذي حمَّلَتْني إيَّاهُ الأحداث الراهنة. كنت منساقًا مع تيار الدهر، إن جاز التعبير. لقد مات هذا الشخص دون قصد، وقد ألقت الحادثة على عاتقي عبءَ التخلُّص من رفاته. وقد حلَلْتُ هذه المعضلة بتحويل القتيل إلى عيِّنة بالمتحف. لا بأس حتى الآن، لكن ماذا عن المستقبل؟
لقد قُتِلت زوجتي على يدِ مجرم. وسأقضي ما بقِي لي من حياتي — التي أتمنَّى أن تكون قصيرة — في مطاردته. لكنَّ الفخ الذي نصبتُه للإيقاع به سيوقِع على الأرجح مُجرمين آخرين أولًا، وحيث لا يُمكنني تطبيقُ الطريقة المتاحة لتحديد الشخصية على العينات المُحرَّزة حديثًا بينما هم على قيد الحياة، يترتب على ذلك أنني سيتعيَّن عليَّ وضْعُ كلٍّ منها في وضعٍ يُمكِّنني من تحديد هُويتها. وإن ثبَتَ بالفحص أن العينة المُحرَّزَة ليست للِّص المنشود، فسأُضيفها إلى المجموعة وأُعيد نصْبَ الفخ. بدا لي أنَّ هذه هي الخطة الوحيدة المُمكنة.
لكن وقبل الشروع فيها كان عليَّ التفكير في الجانب الأخلاقي. فالوضع القانوني لها ليس عليه نزاع. الأمر مخالف للقانون. لكن هذا لا يعني شيئًا. فهناك هياكل عظمية بشرية حديثة العهد في متحف التاريخ الطبيعي؛ كما أنَّ كل مدارس الفن في البلاد لديها أحد الهياكل العظمية، وكذا الحال مع العديد من المدارس التي تُديرها مجالس إدارة. فما الوضع القانوني لمُلَّاك هذه الرُّفات البشرية؟ لن ينالهم التحقيق. وأما بخصوص متحف ويليام هانتر للتشريح، فالأمر مجرَّد إرث لنبَّاش قبور. ومن بين الحقائق التاريخية المعروفة أن الهيكل العظمي للعريف أوبرايان قد تم الحصول عليه من خلال نبشٍ صارخ للجثة، ولكنها حقيقة تاريخية يتغاضى عنها القانون على نحوٍ مُبرَّر للغاية. من الواضح أن الموقف القانوني غير جدير بالتفكير فيه.
لكن ماذا عن الجانب الأخلاقي؟ بدا لي الأمر مُرضيًا إلى حدٍّ كبير، وإن كان مخالفًا بوضوح للمعايير المقبولة. ذلك أن موقف المجتمع تجاه المُجرمين يبدو أنه موقف جماعة من المخابيل. ففي واقع الأمر، يُخاطب المجتمع المجرم المحترف بدرجةٍ ما على النحو التالي:
«أنت ترغب في امتهان الجريمة، تريد أن تكسب عيشك بالاستيلاء على أملاك الأبرياء والكادحين وأموالهم — سواء عن طريق العنف أو غيره من الطرق. لا بأس، يمكنك فِعل ذلك تحت شروطٍ مُعيَّنة. إن كنت بارعًا وحذرًا فلن يُضايقك أحد. قد تتسبَّب بالإزعاج والخسارة الكبيرة والخطر للأبرياء، بينما أنت آمِن، إلا إن كنتَ أخرقَ وغير حذِر؛ وفي هذه الحال سيُلقى القبض عليك. إن حدَث، فسنقبض عليك ونحتجزك لأشهُر أو سنين كثيرة. وفي غضون ذلك، ستقطن في أماكنَ أفضل من تلك التي اعتدتَها؛ وستظل غرفة نومِك دافئةً ومريحة في كل حالات الطقس؛ وسنمدُّك بملابسَ أفضلَ مما ترتدي في الغالب؛ وسيكون لديك وفرةٌ من الطعام الفاخر؛ وسيتلقى مسئولون أجورًا عالية ليتولَّوا مسئوليتك؛ وسنستبقي فئةً مختارة من الأطباء للاعتناء بصحتك؛ وسيتولَّى قسيسٌ تلبيةَ حاجاتك الروحية وأمين مكتبة إمدادك بالكتب. وسيدفع الكادحون الذين تكسب عيشك من سرقتهم ثَمن كل هذا. باختصار، من اللحظة التي ستمتهِن فيها الجريمة، سندفع نحن كلَّ نفقاتك، سواء كنتَ في السِّجن أو طليقًا.» هذا هو موقف المجتمع؛ وأُكرِّر أن هذا الموقف هو موقف مُجتمع من المجانين.
أما خُطتي، فكم هي أفضل وأكثر أخلاقيةً في المقام الأول! إنني أدعو المجرم ليأتي إلى البهو في منزلي. فيدخل وهو يُمثِّل مصدرَ إزعاج وخطر للناس؛ ويخرج في شكل عينةٍ مهيَّأة للعرض في متحف وذات قيمة تعليمية دائمة.
هكذا فكَّرت ورسمت مسارَ عملي وأنا أعمل على ما يُمكنني أن أطلق عليه العيِّنة التأسيسية لمجموعتي. وقد ظللتُ منشغلًا بهذه العينة طوال أيام كثيرة، لكنني سُررت للغاية بالنتيجة حين انتهيت منها. إذ كان لون العظم وبنيته جيدَين، وكان الشرخ الذي أصاب الجمجمة خفيًّا إلى حدٍّ كبير بعد أن لصقته بالغراء السمكي، أمَّا الرأس المُجفَّف الصغير، فقد تجاوز توقُّعاتي تمامًا. فبمقارنته مع الصور التي أخذتها بعد الوفاة، سرَّني أنني وجدت أن سِمات الوجه بل وحتى تعبيراته كانت محفوظة بصورة تكاد تكون مثالية.
كان يومًا مهمًّا بصفةٍ خاصة حين وضعت العينة رقم ١ في الصندوق الزجاجي الكبير بعد أن أخرجتُ منه الهيكل العظمي الذي اشتريته من التاجر. فلم أعُد في حاجةٍ إلى البديل، ومن ثمَّ فكَّكته وتخلَّصت منه على مراحلَ في الفرن، وسحقت العِظام المكلَّسة إلى شظايا لا يمكن تَعرُّفها.
في تلك الأثناء، كنت أقطع أشواطًا كبيرة في استعدادي للمزيد من الطرائد. فثبتُّ خزنةً لها واجهة من الماهوجني في حجرة الطعام لتحويَ الأواني الفضية، وركَّبت نظامَ تحذيرٍ من اللصوص تحت الأرضية أمام الخزنة وأوصلته بنقارةٍ احتفظت بها (مع المربات وبعض الأدوات الأخرى) في خزانة معلَّقة عند رأس سريري، جاهزة ليتم تشغيلها ووضعها تحت وسادتي في الليل. واشتريتُ سرًّا بعضَ المجوهرات المزيَّفة — من أساور وتيجان وقلائد وما شابه من أشياءَ زهيدة متلألئة — وحين أصبح كل شيءٍ جاهزًا استقدمتُ خادمتَين جديدتَين لهما سوابق مشبوهة. في البداية كان الشكُّ يُساورني قليلًا بشأن الطاهية، لكني كنتُ واثقًا من أمرِ الخادمة منذ البداية. فقد اتضح ذلك تمامًا من سُمعتها التي حدَّثني عنها مُشغلها السابق القس العطوف، الذي حثَّني باعتباري رجلًا مسيحيًّا (وهو لم يكن صحيحًا) أن «أعطيَها فرصة أخرى».
وقد أعطيتُها فرصةً أخرى بالفعل، لكن ليس من النوعية التي كان يقصدها ذلك الرجل النبيل المُوقَّر. فبعد يومَين من وصولها وجَّهتها لأن تُنظِّف الأواني الفضية وسلَّمتها مفتاح الخزنة، الذي لديَّ أسباب تدفعني لأن أعتقد أنها طبعَتْه على قطعةٍ من العجين. كانت المجوهرات المُزيَّفة محفوظة في قسمٍ مُنفصل من الخزنة، لكنني أريتها إيَّاها بأن أخرجتُها في وجودها ونشرتها على الطاولة، ورحت مُتباهيًا أُنظِّف أُطُرها الذهبية بفرشاةٍ ناعمة. كانت تلك المجوهرات متلألئة ومتألِّقة بكل تأكيد. إذ لم يكن باستطاعتي أن أُفرِّقها عن المجوهرات الحقيقية؛ أمَّا سوزان سلودجر — وهو اسم خادمتي — فقد جحظت عيناها من الجشع.
مرَّ أقلُّ من أسبوع بعد هذا ووقعت الحادثة التالية. كنت أرقد في السرير، وأغفو على فترات، لكنني لم أغطَّ في نومٍ عميق. كانت جودة نومي سيئة في ذلك الوقت؛ فقد كانت الذكريات التي أتلافاها بالنهار تتكالَب عليَّ في الظلام. كنت أفكِّر في سعادتي المفقودة، وفي زوجتي الحبيبة الفقيدة، وفي ذلك الصعلوك الذي أنهى حياتها الرقيقة بلامبالاة وكأنها حشرة لا قيمةَ لها؛ وكانت الأفكار تملؤني إما بحزنٍ لا يُوصَف يمنعني من النوم أو بغضبٍ شديد يحثُّني للسعي إلى العدالة والقصاص.
كانت الساعة الطويلة على الدُّرج قد أعلنت دقَّاتها عن الثانية حين انطلقت النقَّارة الموضوعة تحت وسادتي في نقرٍ مطوَّل. أحدهم كان يقف الآن أمام الخزنة في غرفة الطعام. نهضتُ بهدوء من الفراش، وأطفأت النقَّارة وأعدتُها إلى الخزانة المُعلَّقة، وبعد أن أخذتُ منها المربات وحقيبة جلدية صغيرة مملوءة بكُرات معدنية صغيرة ومربوطة ببكرة خيطِ صيدٍ طويلة، نزلت الدَّرَج في هدوء شديد. وفي منتصف الدَّرج عند فاصل الطابقَين وضعتُ الحقيبة وفككتُ بكرةَ خيط الصيد وأنا أهبط الدرجات التالية. ثم توقَّفتُ في الرَّدهة قليلًا لأتسمَّع. كان كِلا بابَي حجرة الطعام مُغلقًا، لكنني استطعتُ أن أسمع أصواتًا خافتة تأتي من الداخل. اقتربتُ من الباب الأبعد عن الباب الأمامي للمنزل ووضعتُ يدي على مِقبضه بحذَر. كنت أعرف أن الأقفال والمزالج مزيَّتة جيدًا؛ لأنني كنتُ أتولَّى أمر تزليقها يوميًّا مع كل الأبواب الأخرى في الجزء السُّفلي من المنزل. أدرتُ المِقبض ببطءٍ وضغطتُ على الباب بلطف، فأخذ الباب ينفتح من دون أن يُحدِث صوتًا. ولما انفتح الباب سمعتُ غمغمة خافتة، وميَّزتُ كلمات مهموسة تقول: «من الأفضل استخدامُ فاتح الأقفال أولًا يا فريد.»
إذن هناك أكثر من لصٍّ واحد على أي حال.
وحين أصبح الباب مفتوحًا بما يكفي لأن أُدخِل رأسي، نظرت في الداخل. كان أحد مشاعل مصباح الغاز مُوقدًا بنارٍ خافتة جدًّا، رغم ذلك كان مضيئًا بما يكفي لأن أرى ثلاثة رجالٍ واقِفين أمام الخزنة. كان وجود ثلاثة من اللصوص أكثرَ مما يُمكنني تولِّيه. إذ كنتُ قد بذلت الكثير من الجهد مع اللص رقم ١ وحدَه، في أثناء القبض عليه وبعده. ربما يكون التعامُل مع ثلاثة لصوص أمرًا يفوق قدراتي. رغم هذا، فإنهم سيُشكِّلون إضافةً رائعة إلى مجموعتي إن استطعتُ تولِّي أمرهم. راقبتُهم وأخذتُ أفكِّر في وسائل وطُرق التعامُل معهم. كان جوهر استراتيجيتي يتطلَّب أن أفصلهم عن بعضهم فأتعامَل مع كلٍّ منهم على حِدة. لكن كيف سأفعل هذا؟
رأيتُ الرجال الثلاثة وقد اقتربت رءوسهم بعضهم من بعض وهم ينظرون بداخل الخزنة. كان باب الخزنة مفتوحًا على مصراعَيه، وكان ثمَّة مفتاح به فتبيَّن لي ما حدث. وكان أحدهم يُمسك بمصباحٍ كهربائي يُخرج ضوءًا مسلَّطًا، وكان ضوء المصباح مسلَّطًا على ثُقب مفتاح مقصورة المجوهرات، وكان أحدهم قد وضع فيه بالفعل مفتاحًا هيكليًّا.
في تلك اللحظة، التفتَ ثالثُهم. رأيت من خلال الضوء الخافت أنَّه ينظر باتجاهي وقد علت وجهه تعبيراتُ ذهولٍ واضحة؛ في الواقع، كنت أنظر إليه في عينَيه؛ لكنني ظللتُ ثابتًا بلا حَراك لأني أعرف أنني مُستتر في ظل الباب.
همس الرجل بصوتٍ أجشَّ قائلًا: «فريد، الباب مفتوح.»
فالتفت الرجلان الآخران بحدَّة وقال أحدهما — على الأرجح أنه فريد — بفظاظة: «اذهب إذن وأغلِقه. ولا تُحدِث أي جلبة.»
تحسَّس الأخير جَيبه وتقدَّم خلسةً عبْر الغرفة. كان يرتدي خُفَّين من القماش، وكانت خطوته عديمة الصوت. وبينما هو يتقدَّم، تراجعتُ أنا وأمسكت بعمود أسفل الدَّرج وجذبته بحدة، فأحدثت أعمدة الدَّرج الأخرى صريرًا عاليًا. ثم دسستُ نفسي خلف الستارة التي تفصل الرَّدهة جزئيًّا، وأمسكتُ بالمربات كما يُمسك لاعب الجولف بمضربه، وجمعت في يدي خيط الصيد.
ظهر رأس اللص في شكل صورةٍ ظليَّة بفعل الضوء الخافت المُنبعث من داخل الغرفة. تنصَّت اللص لحظةً ثم اشرأبَّ برأسه داخل الرَّدهة المُظلمة. وبدت الفرصة سانحة، إن كان باستطاعتي إغراؤه للخروج أكثر قليلًا. فعلى أي حال، لا ينبغي أن أسمح له بالعودة وإغلاق الباب.
جذبتُ خيطَ الصيد جذبةً مُنتظمة. فانزلقت الحقيبة على البساط على الدَّرج بالأعلى مُحدِثةً صوتًا يُشبه كثيرًا صوت خطوات خافتة.
رفع اللص نظره للأعلى بحدَّة ورفع يدَه؛ فرأيتُ ظلَّ مُسدس دوَّار موجَّه على جدار حجرة الطعام المُضاء بدرجةٍ خافتة. يبدو أن مُمارسة حمل الأسلحة النارية تزيد كثيرًا في أوساط المُجرمين، على الأرجح لزيادة عدد المُجرمين الأمريكيين الذين يزورون البلاد. على أي حال، ينبغي التعامُل مع هذا الأمر قانونيًّا من خلال التشريعات الملائمة.
وقف اللص ينظر ومُسدسه مصوَّب نحو أعلى الدَّرج. وكنتُ على وشْك جذب خيط الصيد مرةً أخرى حين أتى صوت صرير من الأعلى. وأعتقد أن هذا طمأن صاحبنا إلى حدٍّ ما؛ لأنني سمِعتُه يغمغم بأنه يعتقد «أنهما هاتان الفتاتان اللعينتان». تقدَّم اللص بحذَر بضع خطوات خارج الباب، ثم دسَّ يده في جيبه وأخرج كشَّافًا كهربائيًّا صغيرًا وسلَّط ضوءه تجاه أعلى الدَّرج.
كانت الفرصة مواتيةً تمامًا. إذ برز رأسُه قاتمًا ومُميَّزًا أمام دائرة الضوء التي أخرجها كشافه، وكان ظهره في مواجهتي، وقد وضحت أُذن ناتئة التفاصيل البنائية لشكل الرأس المُسطَّح والقاتم.
أزحتُ الستارة بيدي اليُسرى في صمتٍ وحدَّدتُ هدفي بعناية. وتذكَّرت ما حدث مع العينة رقم ١، فانتقيتُ البارزة الجدارية اليُمنى التي يقلُّ، مع ضربها ضربةً مائلة، احتمالُ إصابة قاعدة الجمجمة بجرحٍ أكثرَ من الضربة العمودية. إلا أنني وضعتُ قوَّتي كاملة في تسديد الضربة، وحين هوى الثِّقَل المُبطَّن على البقعة التي انتقيتُها، تلوَّى اللص وكأن صاعقةَ برق قد أصابته.
كان صوت اصطدام المربات بجُمجمته مكتومًا بما يكفي، لكنَّ الرجل سقط سقطة مدوِّية، وقد طار المُسدس الدوَّار والكشاف من يدَيه وسقطا على أرضية الرَّدهة مُحدثَين ضوضاء عالية. وفي اللحظة التي سدَّدتُ فيها الضربة، جريتُ بخطواتٍ خفيفة على طول الرَّدهة وأدرتُ مِقبض الباب الآخر. لحُسن الحظ، كان الرجلان اللذان بالغرفة مَفزوعَين كثيرًا لئلَّا يُهرعا خارج الغرفة إلى الرَّدهة، وإلا لرأوني بمساعدة أضواء كشافهما. لكنهما كانا في غاية الحذَر. وقد أقحمت رأسي من الباب واستطعتُ أن أرى وأنا في الطرف المُظلم من الغرفة أنهما يشرئبَّان برأسَيْهما خارج الباب الآخر ويُصغيان بعناية. وبعد لحظاتٍ تسلَّلا على أطراف أصابعهما إلى الخارج في الرَّدهة واختفيا عن نظري.
كان هناك حاجزٌ ياباني كبير له أربعة ألواح بالقُرب من الباب الآخر. وكنت قد احتميتُ وراءه في مغامرتي السابقة، ففكَّرت أن أختبئ وراءه أيضًا هذه المرة، حيث كان اللص المُلقى على الأرض ممددًا على بُعد عدة ياردات من الباب، وعلى الأرجح كان زميلاه يفحصانه. ومن ثمَّ تقدَّمت بخطوات خفيفة عبر الغرفة واتخذتُ موضعًا لي خلف الحاجز بين ثنايا ألواحه. من الواضح أن اللصَّين لم يُلاحظا حركتي، ومكَّنني موضعي الجديد من النظر خلسةً إلى الرَّدهة — مع المُجازفة بأن يُكشَف أمري — وأن أستمِع لكلِّ ما يُقال.
ظللتُ لحظاتٍ لا أسمع شيئًا سوى خشخشةٍ خافتة من الرجلَين وصريرٍ يأتي بين الحين والحين من أعلى الدَّرج. لكن بعدها سمعتُ همسًا أجشَّ.
«يا للعجب! يبدو أنه قد مات.»
فوافقه الآخر: «أجل؛ يبدو كذلك»، ثم أضاف على نحوٍ متفائل: «لكن ربما أُغمِي عليه وحسب.»
فجاء رد الآخر عليه ضجِرًا: «تبًّا! أقول لك إنه ميت — إنه ميت بلا شك.»
ساد الصمت لحظاتٍ أخرى، ثم وبهمسٍ مُنخفض أكثر، سأل أحدهما:
«أتظنُّ أن أحدهم قتله يا فريد؟»
فأجابه فريد: «لا أرى أيَّ أثر، كما أنه لا يُوجَد أحد هنا. ماذا؟! ما هذا؟»
كان هذا صريرًا عاليًا من مكانٍ ما بالقُرب من بسطةِ دَرج الطابق الأول، لا شكَّ أنها الآنسة سلودجر أو الطاهية. لم أشكَّ أن تلك الأصوات التي تنمَّ عن حركة خفيةٍ كانت مُربكة كثيرًا للصوص، خاصة في ظلِّ الظرف الراهن. وقد تحقَّق ظنِّي، ذلك أن اللص الآخر أجاب بهمسٍ ينمُّ عن الخوف الواضح: «هناك شخصٌ ما على الدَّرج يا فريد. لنرحل من هنا. هذه العملية لا تسير على ما يُرام.»
فجاء رد الآخر ساخطًا: «ماذا تقول؟! أنرحل ونترك كل هذه الأشياء؟ لن أفعل هذا! ولن تفعله أنت أيضًا. هناك أشياء أكثر مما يمكن لواحدٍ منَّا فقط أن يحمِلها. دعْ هذا الشيء من يدِك وإلا أطلقتَ النار منه وأحضرتَ الشرطة إلينا. أتسمعني؟»
همس الآخر عابسًا: «أخشى أن أُقتَل في الظلام كما حدث لِجو. إنْ نزل أحدهم إلى هنا، فسأهاجمه.»
في تلك اللحظة جاء من الأعلى صريرٌ آخرُ مسموع بوضوح، ثم سرعان ما تبِعته سلسلة من الأحداث التي تبينتُها فيما بعد، لكنها وقعت وقتَها وسط حالة من الارتباك التام. ما حدث في واقع الأمر أن فريد كان قد بدأ يصعد الدَّرج في جسارةٍ مُتفاديًا بطريقةٍ ما خيطَ الصيد، وتبِعه عن كثَب رفيقُه الأكثر شعورًا بالقلق. علِقت قدمُ هذا الرفيق لسوء حظه في الخيط، فتعثَّر وانجذب الحبل لتعثُّره فانجذبت الحقيبة الثقيلة وأخذت تسقط على الدَّرج. سمِعت صوت تعثُّره، تبِعه صوتُ ضربةٍ مكتومة، وكان هذا صوت الحقيبة وهي تسقط، وكان يُشبه صوت خطوات أقدام رجلٍ بَدينٍ حافي القدمَين ينزل من فوق الدَّرج. ثم تبِع ذلك صوت طلقتَين ناريتَين في تتابُع سريع، ثم هطل رذاذ من الجص، ثم صرخة غليظة، ثم سقوط ثقيل، ومن الأعلى جاء صوتُ تنازُع تبِعه صوت إغلاق بابٍ بقوة ثم صوت دوران مفتاح؛ ثم فاصل قصير من الصمت، وبعدَها همسٌ يُخالطه الارتجاف.
«أنا لم أُطلق النار عليك يا فريد، أليس كذلك؟»
لم يجِد سؤاله أيَّ ردٍّ سوى تأوُّهٍ وغرغرة. فخرجتُ من مكان اختبائي ومررتُ بالباب المفتوح وتقدَّمتُ في الرَّدهة في صمت، مُسترشدًا بصوت الناجي وهو يُخلِّص نفسه من رفيقه المُصاب. وقفتُ على بُعد خطواتٍ منه وفي يدي المربات وعلى استعداد لأن أُسدِّد الضربة، وأخذت أستمع لصوت اضطرابه وجرجرته قَدمَه. وفجأةً جاء ضوء ساطع. كان اللص قد وجد كشافَ فريد الكهربائي، ومن الغريب أن السقوط لم يُعطبه (إذ كان له فتيل معدني، وذلك بحسب ما تبيَّن لي فيما بعدُ).
كان الضوء يرتجف لارتجاف يد حامِله، وقد عانق ضوء الكشاف جثةَ اللص المُصاب وهو مكوَّم عند أسفل الدَّرج وكان لا يزال ينتفض بين الحين والحين. ولم يكن المنظر سارًّا لرفيقه. فقد تبدَّى وجه الرجل، الذي كان لونه بين الأبيض والأخضر وكانت عيناه شاخِصتَين وشفتاه مُلطَّختَين بالدماء، جليًّا تحت الضوء في مقابل الظُّلمة من خلفه وكأنه تمثال شمعي ذو ملامح حادة يُثير في النفس الرعب.
وقف اللص الناجي مُتحجرًا وقد مال على رفيقه وهو يُمسك بالكشاف بإحدى يدَيه المرتعشتَين، وكان لا يزال يُمسك بالمُسدس الدوَّار في يده الأخرى؛ وبينما هو كذلك، أخرج سيلًا من الشتائم غير المُترابطة بنبرةٍ خافتة مُتفجِّعة غريبة؛ يبدو أن هذا هو حال أولئك الرجال حينما يشعرون بالخوف. تقدَّمتُ في صمتٍ خلفه ونظرت من فوق كتفه إلى المجرم المُحتضِر، أحاول أن أُخمِّن ما سيفعله بعد ذلك. في تلك اللحظة كان الخوف يشلُّه، وكنتُ أميل بشدة لأن أقضيَ عليه في التوِّ واللحظة؛ إلا أن دافعًا غريبًا أعرفه من المرة السابقة أجبرَني على مُداعبته. اجتاحتني مرةً أخرى رغبةٌ جامحة وغريبة أن أكون مُتلاعبًا، كتلك التي تدفع القطِّ أو الفهد إلى التلاعُب بفريسته بِخفةٍ ولُطف برهةً قبل أن يُجهز عليها.
ظللنا هكذا بلا حَراك لأكثر من نصف دقيقة في صمتٍ لم يقطعه إلا غمغمته بالسِّباب. وفجأة، وقف الرجل وأخذ يسلِّط ضوءَ الكشاف على الدَّرج وفي أرجاء الرَّدهة حتى استقرَّ الضوء بعد فترةٍ على وجهي الذي كان قريبًا للغاية منه. ولمَّا رأى شبَحي صاح صيحةً شديدة من الفزع، وكأنه عَنْزٌ صغيرة، ثم جفل نحو الخلف. كان على بُعد لحظة واحدة من أن يرفع ذراعه التي تحمل المُسدس، لكنني تنبَّأت بهذه الحركة واستبقتُه. فبينما كانت يده ترتفع، هوى المربات على جانب ذراعه، في المنطقة بين الكتف والمرفق، تمامًا على البُقعة التي يلتفُّ فيها العصب العضلي الحلزوني حول العظام. وكان تأثير الضربة مُثيرًا للغاية. إذ نتج عن التحفيز العصبي المفاجئ انقباضُ العضلات الباسطة بنفس الدَّرجة من السرعة. فانبسط الساعد بهزةٍ عنيفة، وانتصبت الأصابع بشدة فطار المُسدس على الأرض مُحدِثًا صوتَ ارتطام.
إن للتشريح فوائده حتى في أثناء شجارٍ في منتصف الليل.
تسمَّر الرجل في مكانه على نحوٍ تامٍّ بسبب فجاءة ظهوري وسرعة ردِّ فعلي. وأخذ يُحدِّق إليَّ في ذعرٍ تامٍّ وكان يتلعثم فلا يعرف ما يقول. إلا أن ذلك لم يدُم إلا للحظات قليلة. إذ التفَت وانطلق كالسهم نحو باب المنزل.
لكنني لم أكن أنوي ترْكَه يهرب. وفي غمضة عينٍ كنت خلفه وقد أمسكت به من تلابيبه. زمجرَ الرجل بوحشيةٍ وأسقط الكشاف على البساط لتُصبح كلتا يدَيه حرةً؛ وحيث تحرَّر زنبرك زرِّ الإنارة، انطفأ الكشاف فصِرنا غارقَين في ظلامٍ دامس. صار الرجل الآن في مأزق، فأخذ يصارع بشراسة، وتمكَّنتُ من سماعه ينخر ويسبُّ وهو يحاول التملُّص من قبضتي. تعيَّن عليَّ أن أترك المربات من يدي من أجل أن أمسكه بكلتا يديَّ، وكان حسنًا ما صنعت؛ لأنه استطاع أن يُحرِّر إحدى يدَيه فجأةً ويسدِّد بها ضربة. كانت ضربة خبيثة ولولا أن مِرفقي أوقفها جزئيًّا لانتهت المغامرة بصورةٍ غير مُواتية، ذلك أنني شعرتُ بحد سكينٍ يكتسح صدري ويُمزِّق الجزء العلوي من رداء نومي ويُحدِث في صدري جرحًا صغيرًا وسيئًا إلى حدٍّ ما. هنا احتضنتُه من صدره، محاولًا تثبيت كِلا ذراعَيه بقدْر استطاعتي والحصول على السكين، في حين كافح هو بشدَّة ليُحاول تسديد طعنة أخرى.
وهكذا ظللنا مُتعانقَين هذا العناق الضروس، نتأرجح مع بعضنا جيئةً وذهابًا، ويُحاول كلٌّ منَّا جاهدًا أن يستغلَّ الميزة السريعة التي من شأنها أن تضع حدًّا للصراع. وقد جاءت النهاية على نحوٍ غير مُتوقَّع.
إذ تعثَّر أحدُنا في حافة البساط وسقطنا كِلانا مَصطدمَين بالأرض، وكان هو أسفل مني ووجهه نحو الأرض. وبينما نحن نسقط، أطلق هو صرخةً حادَّة وبدأ يتشنَّج تشنُّجات غريبة؛ لكن بعد برهةٍ صار أهدأ، وأخيرًا سكن تمامًا.
في البداية ظننتُ أنها خدعة منه حتى يأخُذني على حين غِرة، فتمسَّكت به بقوة أكبر؛ لكن سرعان ما خطر لي أمرٌ مُغاير حين رأيتُ منه رخاوةً مميَّزة في أطرافه. فككتُ قبضتي عنه تدريجيًّا وبحذَر، ولما لم يتحرك، أخذتُ أتحسَّس أرجاء البساط بحثًا عن الكشاف؛ وحين وجدتُه وضغطت الزرَّ، سلَّطت ضوءه على صاحبنا.
كان ساكنًا تمامًا ولم يبدُ لي أنَّه يتنفَّس. فقلَّبته ورأيتُ ما ساورَني به الشكُّ. كان الرجل يُمسك بالسكين مُستعدًّا لتسديد طعنة أخرى حين كبَّلت ذراعَيه. وكان لا يزال يُمسك بها حين سقطنا، فدخل طرف السكين صدره بالقُرب من الخط الناصف، بين الضلعَين الرابع والخامس، وانغرس حتى مقبضه في صدره بفعل السقطة. لا شك أنه مات على الفور.
وقفتُ وأخذت أستمع. كان المكان صامتًا كالقبور؛ هذا تشبيهٌ مناسبٌ تمامًا بالمناسبة. وكان من الواضح أنَّ الشرطة لم تسمع صوت الطلقات النارية؛ لذا لم أكن قلِقًا أن يُقاطعني أحدٌ من الشرطة؛ أمَّا الخادمتان، فقد كانتا حريصتَين أن تنأى كلتاهما بنفسها عن الأذى.
ومع ذلك، كان أمامي الكثير من العمل والقليل من الوقت. كانت الساعة الآن تُقارب الثالثة وستشرق الشمس بحلول الرابعة. ستخرج الخادمتان من مكانهما مع بزوغ ضوء النهار وينبغي أن أكون قد نظَّفتُ كلَّ شيء لدى خروجهما.
فلم أُضِع أيَّ وقت. أخذتُ أنقل الجثث إلى المُختبر واحدةً تلوَ الأخرى ووضعتُها في الخزان الذي كانت سَعته بالكاد تتَّسع لها. وكان موت الرجل الأول المُفاجئ قد حيَّرني بعض الشيء، لكنني حين رفعته كان تفسير موته واضحًا بما يكفي. كانت الضربة القوية التي تعرَّض لها الرأس بزاوية مائلة قد تسبَّبت في خلع الرقبة من مكانها. ومن ثمَّ يتبيَّن أنَّ المربات يُعَدُّ أداة قوية في نهاية المطاف.
ثم طمستُ بحرصٍ تامٍّ كلَّ الآثار الطفيفة الناتجة عن نقل الجثث إلى المُختبر، لكنني تركت السكين الذي استخدمه الرجل الأخير منهم على البساط. ثم غيَّرت رداء نومي ونقعتُ الجزء العلوي المُلطَّخ بالدماء من رداء النوم الذي كنت ألبسه في المُختبر، وضمَّدت الجُرح في صدري وارتديتُ المبذل، ثم فتحت باب المنزل الأمامي وأغلقتُه بقوة وصعدتُ إلى الطابق العلوي ومعي شمعة.
كان باب غرفة الخادمة مفتوحًا والغرفة خاوية. فطرقت باب حجرة الطاهية، فجاءت صرخة خافتة.
وتساءل صوتٌ بالداخل: «مَن الطارق؟»
فكان ردي: «هذا أنا» — وهو ردٌّ غبي بالمناسبة، لكنهما بالطبع كانتا تُميِّزان صوتي. فُتِح الباب وخرجتِ المرأتان، وكانتا ترتديان كامل ثيابهما لكنهما كانتا في حالةٍ من الاضطراب وشاحبتَين بشدة.
سألت الخادمة: «هل هناك خَطْبٌ ما يا سيدي؟»
فأجبت: «نعم. أظنُّ أن سرقة قد وقعت. استيقظتُ في أثناء الليل وظننتُ أنني سمعت صوت إطلاق نار، لكنني أرجعت الأمر إلى أنني كنتُ أحلُم وعدتُ إلى النوم. هل سمعتْ إحداكما شيئًا؟»
فقالت الطاهية: «ظننتُ أنني سمعتُ صوت مُسدس يا سيدي، وكذلك تظنُّ سوزان. لهذا أتت إلى هنا.»
فقلت: «إذن لم يكن الأمر حُلمًا. كما أنني سمعت الآن بوضوح صوتَ الباب الأمامي وهو يُغلَق، فنزلت إلى الطابق السُّفلي ووجدتُ الموقد مُشتعلًا والخزنة مفتوحة.»
صاحت سوزان: «يا إلهي! آمُل أنه لم تتمَّ سرقة شيء.» (كانت لُغتها سيئة كثيرًا بالنسبة لخادمة تعمل في مستوًى مرموق.)
فقلت: «هذا ما أريد منكما أن تعرفاه. انزلا إلى الأسفل وانظرا في الأرجاء. لا يوجد أحدٌ الآن.»
نزلتِ الخادمتان في ابتهاج، كلٌّ منهما تحمل شمعة، ولا شك أنهما كانتا تشعران بتلهُّف لرؤيةِ ما حقَّقه أصدقاؤهما من نجاح. كانت أولى الآثار على وجود متطفِّلين هي بقعة دماء كبيرة عند أسفل الدَّرج جفلت منها سوزان كما يجفل الجواد. وكانت هناك بقعة أخرى بالقُرب من باب الشارع، كما كان هناك سكين اللص على البساط، وقد أمسكتِ الطاهية بالسكين ثم أسقطته وهي تُطلق صيحة خافتة. ففحصت السكين ووجدت أن مقبضه محفورٌ عليه الحرفان «جي بي».
فعلَّقتُ قائلًا: «يبدو أن اللصوص اختلفوا فيما بينهم. لكن هذا الأمر لا يعنينا. لنرَ ما حدث للخزنة.»
دلفنا إلى غرفة الطعام وأخذَتِ المرأتان تنظران بتلهُّفٍ إلى الخزنة المفتوحة؛ لكن ورغم أنَّ كلتيهما كرَّرتا أمنياتهما بأنه «لم تتمَّ سرقة شيء»، فبالكاد استطاعتا إخفاء خيبةِ أملهما حين رأتا أن محتويات الخزنة كانت سليمة. تفحَّصت المفتاح المزيَّف الرخيص من دون أن أبديَ تعليقًا لكنني نظرتُ إليهما نظرةً أعتقد أنهما فهمتا مغزاها؛ ثم فحصتُ حقيبتَين كبيرتَين مصنوعتَين من السجاد لم يكن بأيٍّ منهما شيء سوى الأدوات المُستخدَمة في السرقة.
قلتُ لهما (من دون أن تكون لديَّ أي نيَّة لفعل ذلك): «أعتقد أنَّ عليَّ الاتصال بالشرطة.»
فأجابت سوزان: «لا أرى فائدة من ذلك يا سيدي. فقد رحل اللصوص ولم يسرقوا شيئًا. لن تفعل الشرطة بعد أن تأتي سوى أن تقلب المكان رأسًا على عَقب وتُبدِّد وقتك من دون فائدة.»
وبهذا تكون سوزان سلودجر قد قدَّمت الاقتراح الذي كنتُ أنتظره تمامًا؛ فهي تعي وجودَ المفتاح الزائف. وبالطبع لن يُجديَ إن جاءت الشرطة إلى المنزل مرةً أخرى بهذه السرعة. فتظاهرتُ بأنني مُعجب كثيرًا بفطنتها، وفي نهاية المطاف قرَّرت أن «أدع الفتنة نائمة». لكن سوزان لم تكن تعرف كم تغرق الفتنة في نوم عميق كالموت.
وكان من الضروري أن أذهب لزيارة تاجر العظام في الصباح للحصول على ثلاثة هياكل عظمية مناسِبة أستخدِمها بدائلَ وَفْقًا لخُطتي. كان من الضروري تمامًا فِعل هذا. فالإيصال والفاتورة اللذان سأحصل عليهما منه مقابلَ الهياكل العظمية البشرية الثلاثة هما تذكرتِي نحو الأمان. إلا أنني كنتُ حزينًا لضرورة فِعل هذا. فمن المؤكد أنني بمجرَّد أن أخرج من المنزل، ستذهب إحدى الخادمتَين الحقيرتَين لتستفسر عن أصدقائها؛ وحين يُعرَف أن اللصوص مختفون، قد تحدُث مشكلة. فلا يمكن للمرء أبدًا أن يتوقَّع تصرفات النساء أو يحسب لها. وصحيح أنني لم أكن أعتقد أن بإمكان إحداهما دخول المُختبر عَنوة. لكن لا يزال الاحتمال قائمًا بأن تفعل إحداهما أو كلتاهما ذلك. فإذا ما حاولتا فِعل ذلك، فستكون الفأس قد وقعت في الرأس.
رغم ذلك، كان يتعيَّن عليَّ الذهاب، ومن ثمَّ انطلقتُ بعد تناول الإفطار وفي جيبي شريط القياس وورقة مُدوَّن فيها القياسات. ومن حُسن الحظ أنَّ التاجر كان قد استقبل لتوِّه شحنةً كبيرة من الهياكل العظمية من ألمانيا (الله وحدَه يعلم من أين يحصل أولئك المُورِّدون الألمان على بضاعتهم)؛ لذا كان أمامي عددٌ كبير من الهياكل لأنتقيَ منه؛ وحيث كانت الهياكل صغيرةً إلى حدٍّ ما — أظنُّ أنهم جميعًا كانوا فرنسيين — لم أجد صعوبةً في إيجاد الهياكل المناسبة لعيناتي، التي كانت جميعها دون القامة المُتوسِّطة، كما هو حال معظم المُجرمين.
لدى عودتي، وجدتُ أن الخادمة خارج المنزل، «تتسوَّق» كما أوضحت الطاهية. لكنها سرعان ما عادت، وبمجرَّد أن رأيتها عرفتُ أنها كانت «تستفسر سرًّا». فقد كان سلوكها هي والطاهية غريبًا للغاية. وكانتا في غاية القلق والاكتئاب؛ وكانتا تنظران إليَّ بنفورٍ واضح وخشيةٍ أكثرَ وضوحًا. كانتا تتنقَّلان في أرجاء المنزل، في صمتٍ وقلق؛ وأظهرتا رغبةً مُثيرة للريبة في أن تُبقياني على مرأًى منهما طوال الوقت، ومع ذلك كانتا تُهرعان خارج الغرفة التي أكون فيها حين أقترب.
كانت الخادمة هي الأكثر انزعاجًا. كانت ترمقني بعينِها على الدوام حين تخدمني على الطاولة، ويُصيبها الفزع إنْ أنا تحركتُ فجأة. وكان مما حدث أنها أسقطت وعاءَ تقديم الحساء فقط لأنني نظرت إليها بانتباه؛ وكانت تُخطئ باستمرار في صبِّ النبيذ في كأسي وتسقط نبيذ الكلاريت على مفرش الطاولة؛ وحين اختبرتُ نصل سكين تقطيع الدجاج الذي أصبح ثلمًا بدرجةٍ ما، هُرعت إلى خارج الغرفة ورأيتها تُراقبني من شقِّ الباب.
وقد أصابتها صدمةٌ قوية لدى وصول الهياكل «البديلة» من التاجر بعد ذلك بيومَين. كنتُ في حجرة الطعام حين وصلت الهياكل، وقد سمعتُ ما جرى من خلال الباب الذي كان مفتوحًا؛ ومما لا شك فيه أن الحادثة لم تمرَّ دون وقوع شيءٍ مُثير للضحك.
أتى الحمَّال إلى الباب الأمامي وإلى سوزان التي فتحت له الباب، وتحدَّث إليها بانعدام الكلفة المعتاد ممَّن يعملون في مهنته.
فقال لها: «إليكِ الصناديق الثلاثة التي طلبها سيدُك. إنها تبدو ذات مظهر غريب. لا يُصادف أن سيدك يعمل في مجال نبش القبور، أليس كذلك؟»
أجابته سوزان بحدة: «لا أعرف ماذا تقصد.»
فعاود الرجل الكلام: «ستعرفين قصدي حين ترين الصناديق. هاكِ هي الثلاثة. صناديقَ كبيرة. أين ستضعونها؟»
أتتني سوزان من أجل التعليمات، فوجَّهت أنَّ عليهما أخذها إلى المتحف، وكنتُ قد تركتُ بابَه غير موصَد لأجل هذا.
لا شك أنَّ مظهر الصناديق كان جنائزيًّا، ليس من حيث شكلها وحسب، بل ولونها أيضًا؛ ذلك أنَّ التاجر قد أمرَ بطلائها باللون الأسود، ويبدو أنه اختار توقيتًا سيئًا. وقد زاد سلوكُ الحمَّالَين المبتسمَين من حدة الأجواء الجنائزية، فقد حملا كلَّ صندوقٍ على كتفيهما كالتابوت، وتقدَّما نحو المتحف بخطواتٍ جنائزية بطيئة؛ وحين غبتُ عن أعينهما — لكن كان لا يزال بإمكاني سماعهما — سمعت الحمَّال المتقدِّم، الذي كان ظريفًا بعضَ الشيء، يُصفِّر لحنَ المسيرة الجنائزية في الأوراتوريو «سول» بصوتٍ خفيض.
في تلك الأثناء، وقفَت سوزان سلودجر في الرَّدهة وكان وجهها شاحبًا كشمعة مصنوعة من الشحم الحيواني. وأخذَت تُحدِّق في الصناديق الطويلة السوداء باندهاش يُخالطه الخوف، ولم تنبس ببنت شفة حتى حين سألها الحمَّال الظريف عن وجهة «أخينا الفقيد العزيز». إذ كانت واجمةً تمامًا.
حين غادر الحمَّالان وجَّهتها أن تأتيَ إلى المتحف وتُساعدني في تفريغ محتويات الصناديق، وقد رفضت ذلك رفضًا قاطعًا إلا إنْ ساعدَتْها الطاهية. لم يكن لديَّ اعتراض على هذا بالطبع، وحين ذهبت سوزان إلى المطبخ لتحضِر زميلتها، اتخذتُ مكانًا لي خلف باب المختبر تمامًا ووقفت أنتظر ما سيحدث. كان كل صندوق مُغطًّى بغطاءٍ ذي مفصَّلات ومُثبَّت بخُطَّاف صغير، بحيث لا يجد المرء صعوبةً في التأكد من محتويات الصندوق حين يقطع الحبال التي تربطه.
أتت المرأتان بخطواتٍ سريعة عبْر الرَّدهة، فكانت الطاهية تُثرثر بابتهاج فيما التزمت الخادمة الصمت؛ لكنهما توقَّفتا عند باب المتحف ولم تدخلاه، وصاحت الأولى قائلة: «يا إلهي! ما هذا؟»
هنا تقدَّمتُ من مكاني وقلت لهما: «هذه صناديقُ لعيناتٍ من أجل المتحف. أريد منكما أن تَحُلَّا الحبال. هذا كل شيء. وأنا سأخرِج المحتويات بنفسي.» قلت هذا وعدتُ إلى المختبر، لكن في أقل من نصف دقيقة، سمِعت سلسلةً من الصرخات، وأخذت المرأتان تسارعان نحو الرَّدهة حتى اختفتا تحت الدَّرج.
بعد هذا زاد الوضع سوءًا أكثرَ من ذي قبل. إذ ظلَّت هاتان المرأتان تُلازمانني ملازمةً تامة، وذلك رغم خوفهما الواضح مني. وكان هذا غير مناسب بالمرة؛ لأنني ظللتُ منشغلًا للغاية من كثرة الأعمال، وما زاد الطين بِلة هو أنني تلقيتُ من متجر جامراك ضبعًا ميتًا (من دون طلب مني — لكن تعيَّن عليَّ أن أحتفظ بالحيوان) كان مُصابًا بالتهاب العظم المُشوَّه. كانت عينة الضبع جيدة ومفيدة كونها توفِّر سببًا لانشغالي الكبير؛ لكنها أُضيفت إلى أعباء الأعمال وجعلتني لا أطيق التعطيل والمقاطعة.
وكان لجناح المتحف مدخلٌ خاص به في شارعٍ جانبي وهو مُخصَّص لتسليم الطلبات (مثل عينة الضبع هذه)، وقد أمدَّني هذا بقدرٍ من الارتياح؛ لأن باستطاعتي الخروج من الباب الأمامي للمنزل والاندساس في المتحف من المدخل الجانبي. لكن سرعان ما اكتشفَت سوزان هذا المدخل، ومنذ ذلك الحين وهي لا تتوقَّف عن الطرق على باب الرَّدهة لترى إن كنتُ بالداخل. لا أعرف ما كانت تظن. إذ كانت امرأةً جاهلةً وغبية، لكني أعتقد أنها ربطت بطريقةٍ ما عملي في المختبر باختفاء أصدقائها.
أصبح هذا التجسُّس الدائم على أموري أمرًا لا يُطاق في نهاية المطاف، وكنتُ على وشْك أن أطرد هاتين الوقحتَين حين حدثت واقعةٌ ما وضعت حدًّا للحالة الراهنة للأمور. كنت قد خرجتُ من الباب الأمامي ودخلت المتحف من المدخل الجانبي، لكن وفي غفلةٍ مُثيرة للدهشة تركتُ باب الرَّدهة غير موصد؛ وما كدتُ أرتدي مئزري لأشرع في العمل حين سمعت أحدَهم يدخل الرَّدهة. ثم جاء صوت طرق خافت على باب المختبر. لم أُعِر الأمر اهتمامًا، لكنني انتظرتُ لأرى ما سيحدث. تكرَّر الطَّرق مرتَين بصوت أعلى في كل مرة من التي سبقتها، لكنني لم أحرِّك ساكنًا. ثم وبعد برهة، سمعتُ صوتَ شيءٍ معدني يدخل في قُفل الباب.
فقرَّرتُ أن أضع نهايةً لهذا الأمر. فخبَّأت العينة التي كنت أعمل عليها في هدوء، وأخذت شبكةً كبيرة لصيد الفراشات كانت معلَّقة على مسمار (كانت زوجتي الراحلة مهتمة بحرشفيات الأجنحة). وبهدوء بالِغ تسللتُ على أطراف أصابعي إلى الباب وفتحته فجأةً. كانت سوزان سلودجر واقفة وفي يدها دبوسُ شَعر، وكانت مشلولة تمامًا لِما بها من رعب. وفي لحظة، قبل أن يتسنى لها وقتٌ للعودة إلى الواقع، كنتُ قد وضعت شبكةَ صيد الفراشات على رأسها.
أعادها فِعلي هذا إلى الواقع. فاستدارت وجرَت هاربةً في طيش وتهوُّر وهي تصرخ صرخةً حادة، حتى إنها نزعت الشبكة عن مِقبضها. رأيتها وهي تُهرع على طول الرَّدهة والشبكة على رأسها، فكانت تبدو وكأنها عروس شرقية؛ وسمعتُ صوت باب المنزل الأمامي يُغلَق بقوة، ثم بعدها وجدتُ الشبكة على البساط المفروش عند الباب. لكنَّ عيني لم تقع على سوزان سلودجر مرةً أخرى أبدًا.
كما تركت الطاهية المنزل في اليوم نفسه، وقد أخذت معها مُتعلقات سوزان. كان هذا الأمر باعثًا كبيرًا على الارتياح. فقد خلا البيت الآن لي وحدي، وكان بإمكاني العملُ من دون مُقاطعة أو من دون الشعور بالانزعاج لأن هناك مَن يتجسَّس عليَّ. أمَّا ثمرةُ عملي، فقد ذكرتُها كاملة في الفهرس؛ ومن هذه المغامرة يُمكنني أن أقول لزوَّار متحفي: «إذا كنتَ تبحث عن نصبٍ تذكاري، فانظر من حولك»، بحسب تعبير النقش المعروف.»
كان هذا هو سردَ تشالونر حول حصوله على العينات التي تحمل الأرقام ٢، و٣، و٤. وقد تطرَّق إلى أوصاف العيِّنات التي حضَّرها بتفصيل جافٍّ ودقيق في الفهرس، بحسب قوله، وكانت بعض التفاصيل مُثيرة للاهتمام بحق؛ على سبيل المثال، حقيقة أن «جمجمة العينة رقم ٤ تجمع بين تطاول الرأس بدرجةٍ كبيرة (٦٧٫٥) وسَعة قحف لا تزيد عن ١٥٢٣ سنتيمترًا مكعبًا.» بالتأكيد كان هذا هو ما قد يتوقَّعه المرء من سلوكه.
لكن بالنسبة للقارئ العادي، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف كانت حالة تشالونر الذهنية؟ أكان مخبولًا؟ أكان خبيثًا وشريرًا؟ أم مجرد أن وجهة نظره غير تقليدية؟ إنني أميل إلى الأخيرة بعد تفكيرٍ طويل. من الواضح أنه كان يرفض اعتبارَ المُجرمين بشرًا مثله، وكان يعدُّ نفسه فاعلَ خيرٍ للمجتمع بالتخلُّص منهم. وربما كان محقًّا.
أمَّا المتعة المختلَّة التي وجدَها في عملية قتل المُجرمين، فلا يسعني سوى القول إنَّ الرجال السليمِي العقل يجِدون متعةً في قتل الحيوانات البريئة — مثل الزرافة — التي ليس لهم بها حاجة؛ وهناك رجال عقلاء آخرون يسافرون خارج بلادهم ويقتلون — بطرق بربرية — رجالًا آخرين غرباء عنهم لدَيهم شخصيات لها تقديرها وليس بينهم خلاف. يُطلِقون على هذه الممارسة لفظ الحرب، ويبدو أنهم يستمتعون بها. لكنَّ القتل واحد في كل الحالات؛ ومن المؤكَّد أن حياة فلاح أجنبي أهمُّ من حياة مجرم إنجليزي.
لكن هذا مجرد قول عرَضي وعابر، ولا شك أن الكثيرين سيُعارضونه.