الفصل الرابع

هدايا الصُّدفة

ينبغي بترتيبات الوصاية للأشخاص الذين يتميزون بغرابة الأطوار أن تحيل للموصَى لهم من وقتٍ لآخر ملكية بعض الأشياء العجيبة جدًّا. أذكر هنا رجلًا نبيلًا عجوزًا وهب لقريبٍ له من بعيدٍ ما جمعه طوال حياته بصورة عشوائية؛ اشتملت القائمة على مدفع ميداني عتيق، وجَمل مُحنط، وديدان شريطية معبَّأة في زجاجات، وسيارة إطفاء ومنبر كنيسة وتجهيزات حانة فندق صغير. ويُمكنني كذلك ذِكر مواقف أخرى مشابهة. لكن من المؤكد أنه لا يُوجَد موصًى له وجد نفسه يمتلك إرثًا أعجبَ مما أوصى به لي صديقي الراحلُ تشالونر حين نقل لي ملكيةَ رفات نحو دزينتَين من المُجرمين المَيِّتين.

كانت هذه الوصية ستصبح فريدةً تحت أي ظرف من الظروف، لكن ما زادها تفرُّدًا هو الحميمية الغريبة التي ترسَّخت بيني وبين هؤلاء الموتى. بالنسبة للمراقب العادي، فإنَّ هيكلًا عظميًّا في صندوقٍ بمتحف أو بإحدى مدارس الفن لا ينقل أيَّ إحساسٍ حي بالإنسانية. فهو لا يرى إلا بشكلٍ مُبهم أن هذا الجسم العظمي كان فيما مضى شخصًا حقيقيًّا، مثله، كان يسير بالشوارع ويرتدي الملابس، يُحب ويكره، ويفرح ويحزن، وله أصدقاء وأحباب ووالدان وربما كان له أطفال، أي باختصار أنه كان على قيد الحياة. فهذا الشيء مجرد عيِّنة عظمية؛ مجرد عمل تشريحي.

أما هذه الهياكل الخاصة بتشالونر فهي مختلفة إلى حدٍّ كبير. فعندما كنتُ أسير بطول الغرفة الطويلة وأنظر في تلك الصناديق الكبيرة، أواجه أشخاصًا حقيقيِّين. كان الهيكل رقم ١ رجلًا يُدعى جيمي آرتشر، الذي حاول سرقة «الإبريق اللعين». وكان الهيكل رقم ٣ هو اللص فريد؛ إذ يُمكنني تمييزه من خلال الشق الموجود في ضلعه الخامس الذي أحدثته الرصاصة التي أطلقها صديقه. وكان الهيكل رقم ٢ هو الرجل الذي أطلق تلك الرصاصة، والهيكل رقم ٤ هو جو الذي «قُتل في الظلام». كنت أعرفها جميعًا. كان أرشيف المتحف العجيب قد أخبرني كل شيءٍ عنها؛ وأمَّا بقية هذه المجموعة الرهيبة التي كانت لا تزال غريبة لديَّ فإنَّ ذلك المُجلَّد المكتوب بدقةٍ وإتقان والمجلَّد بجلدٍ روسي الذي تركه لي تشالونر، سيُخبرني عنها أيضًا.

مرَّت بضعة أيام قبل أن أتمكَّن من استكمال قراءتي لذلك الكتاب الصغير المُثير للعجب، وكان ذلك في أمسيةٍ كنت متفرِّغًا فيها. إذ ارتديتُ خفيَّ بعد أن دقَّت الساعة معلنةً العاشرة، وضبطتُ الإضاءة وسحبتُ كرسيًّا بمسندَين بالقرب من مدفأة المكتب وفتحت الكتاب على الموضع الذي يحمل مظروفًا كنت قد وضعته في آخر مرة قرأته فيها. كان عنوان الصفحة «الملابسات المصاحبة للحصول على العينتَين ٥ و٦»، وجاء السرد كالآتي:

«عند وضع الخطط المدروسة بعناية فائقة موضعَ التنفيذ، فمن المُحتمل اكتشاف عيوب غير متوقَّعة. ولم تكن خطَّتي الدقيقة للإيقاع باللصوص استثناءً من ذلك. إنَّ فكرة توظيف خَدَم غير أمناء بصورة واضحة كطُعمٍ لإغراء اللصوص للإتيان إلى منزلي كانت فكرةً مُمتازة وتُلبي كل توقُّعاتي. لكنها كانت تنطوي على عيبٍ لم أنتبه له. فاللصوص أنفسهم حين يُختزلون إلى حالةٍ مناسِبة لعرضهم في صندوق عرض، يكونون غير مؤذين تمامًا. فلا يُخشى منهم أن يُدلوا بتصريحات طائشة. لكن بالنسبة للخَدَم — والنسوة منهم بصفة خاصة — كان الوضع مختلفًا تمامًا. فقد انطلقوا من تحت سقف بيتي لينشروا الشكَّ والريبة بشأني في أماكنَ ينبغي أن تسودها عني الثقة التامة والمِصداقية. وكم كان هذا السهو مؤسفًا للغاية! أما الآن وقد فات الأوان، فقد رأيت بوضوح تامٍّ أنه ما كان ينبغي لهؤلاء أن يُفارقوني أبدًا. كان حريًّا بي أن أُضيفهم هم أيضًا إلى المجموعة.

لم يمرَّ وقتٌ طويل حتى بدت عواقبُ هذا الخطأ واضحة وجلية. إذ كنتُ قد استبدلت امرأتَين خائنتَين للأمانة، خيانة لا يرقى إليها الشكُّ، بالطاهية والخادمة السابقتَين، وكنتُ أعقد عليهما آمالًا عظيمة بالطبع. لكن لم يحدُث شيء. كنت أسمح لهما بالتعامُل بحرية مع الأواني الفضية، وكنتُ أعطيهما مفتاح الخزنة من وقتٍ لآخر، ولمَّعتُ الأساور والقلائد المُزيَّفة أمام أعينهما، وما زلت لم أحصل على أي نتيجة. صحيح أنَّ عدد الملاعق الفضية كان يتقلَّص وأن الشمعدانات أو رشَّاشات الملح كانت «تعلن عن غيابها» بين الحين والآخر؛ وأن فواتير التجَّار كانت تصير غير معقولة، وأن الشاي الذي نستهلكه في أسبوع كفيلٌ أن يضعضع قدرة كلِّ من في بيت فرسان الهيكل الصالحين المُناصرين للامتناع عن شرب الخمر على الهضم. لكن كان هذا هو كل ما يحدُث. فلم يكن يظهر أي أحدٍ من الطامحين إلى الحصول على التكريم بالمتحف. وقد صار المربات مُغبَّرًا من قلة الاستخدام؛ وبقِيَت الخزنة التي في غرفة الطعام مهملةً ولا يمسُّها أحد، وأمَّا جهاز الإنذار ضد اللصوص، فكنت أضطر إلى الوقوف عليه بنفسي بعد مرور فتراتٍ زمنية محدَّدة لضمان أنه يعمل.

كنت قد قرَّرت بالفعل التخلُّص من هاتَين المرأتين حين وفَّرتا عليَّ عناء الأمر. إذ أمرتهما أن تَصحباني إلى المختبر لتنظيف الفرن، فوجدت منهما رفضًا قاطعًا وقد صارتا شاحبتَين؛ ورأيتهما بعدها بنصف ساعة تُسلِّمان متعلقاتهما إلى رجلٍ معه عربة يد خارج المنزل. من الواضح أن أحدهم أخبرهما شيئًا عن ممارساتي.

أما الطاهية والخادمة اللتان كانتا خلَفًا لهما فكانتا سجينتَين فيما مضى ببساطةٍ ووضوح. كانتا حقيرتَين ومُخادعتَين وكسولتَين وسكِّيرتَين في بعض الأحيان. لكن بالنسبة لوظيفتهما الفعلية، فلم يكن هناك طائل من ورائهما. كانتا تشربان الويسكي الخاص بي، وتلتهمان مئونتي وتوزعان منها، وتسرقان منقولاتي، وذات مرة أدركتهما تتجوَّلان في المتحف حين تركتُ بابه مفتوحًا في غفلة مني؛ لكنني لم أجد منهما أيَّ منفعة بشأن خُطتي.

صحيح أنني قد جاءني زائر واحد أثناء فترة خدمتهما، وهو مُحتالٌ صغير وضيع وكالح، تسلَّل إلى منزلي من نافذة غرفة الغسيل؛ لكنني أعتقِد أنه ليس بينه وبينهما صلة، وإلا كان سيدخل منزلي بطريقةٍ مناسبة أكثرَ وكان سيستخدِم مفتاحًا مزيفًا بدلًا من العتلة ليفتح الخزنة. كان مخلوقًا ضئيلًا وبائسًا، وعملية الإيقاع به غير مُثيرة للاهتمام إلى حدٍّ كبير؛ لأنه بعد أن عضَّني مرتَين، انهار كدُمية مُهترئة وحملتُه إلى الخزان وكأنه قرد.

رغم هذا لا ينبغي لي أن أُبالغ في احتقاره بغير وجه حق؛ لأنه كان حتى ذلك الوقت العيِّنة الوحيدة التي تُمثِّل «سِمات الإجرام» التقليدية. كان شَعره كثًّا ووجهه غير مُتماثل بصورةٍ بارزة، وكانت أُذناه مثل تلك التي أشار لومبروسو إلى أنها شائعة في المُجرمين؛ بارزتَين ولهما نتوءات داروينية كبيرة وتكادان تخلوان من الشحمات.

مع ذلك، وأيًّا كانت الجوانب المُثيرة للاهتمام فيه، كان الرجل يمثِّل صيدًا ضالًّا. فقد قادته المصادفة كما قد تقود الآخرين من نوعيتِه على مدار السنوات. لكن هذا لن يُحقق أغراضي. كانت الأرقام هي ما أريد وما خطَّطت له؛ وأدركت بإحباط شديد وعميق أن خطتي قد أخفقت. فقد انتهت مصادر إمدادي بالتجهيزات الأنثروبولوجية. باختصار، «هزمني» مجتمع المُجرمِين.

لم تكن هزيمتي هذه مجرد ظنٍّ مني. إذ حصلتُ على أدلة مباشِرة وغريبة جدًّا عليها بمجرد أن انتهيت من تجهيز العينة رقم ٥. كنتُ عائدًا إلى المنزل ذات مساء وكنت أقترب من مُحيط المنزل حين انتبهت إلى رجلٍ ضئيل رثِّ الهيئة بدا وكأنه يتبعني. فأبطأت خطواتي قليلًا لأسمح له بأن يتجاوزني أو يمرَّ بجواري، وحين كنت على بُعد خطواتٍ قليلة من الباب الجانبي (مدخل المتحف) حاول الاقتراب منِّي وخاطبني بصوتٍ أجشَّ.

«يا هذا.»

فتوقَّفتُ ونظرت إليه بإمعان؛ فوجدته قد اضطرب. فسألته: «هل تُحدثني؟»

اقترب أكثر، لكنه لم ينظر لي في عيني، ثم أخذ يتلفَّت يمينًا وشمالًا، ثم أجاب: «نعم، أُكلمك يا هذا.»

فسألته: «ماذا تريد؟»

اقترب أكثرَ من ذي قبل وقال بنبرةٍ خشنة خفيضة: «أريد أن أعرف ما حدث وما فعلتَ بابن خالتي بيل.»

فقلت: «ابن خالتك بيل. هل هو أحدٌ أعرفه؟»

فكان ردُّه: «لا أعلم إن كنت تعرفه، لكني رأيتُه يدخل إلى منزلك ولم أرَه يُغادر قط مرة أخرى، وأريد أن أعرف ما حدث وما فعلتَ به.»

والآن كان هناك شيء مُثير للاهتمام. كنت قد لاحظت بالفعل شيئًا مألوفًا في وجه الرجل. وقد فسَّر لي سؤاله ما رأيت. من الواضح أن ابن خالته بيل هو العيِّنة رقم ٥ في السلسلة الأنثروبولوجية. في واقع الأمر، كان وجه الشبَه بارزًا للغاية. كان النموذج الواقف أمامي الآن — مثل ابن خالته بيل — كائنًا ناقص النمو، له الأنف المُعوجُّ نفسه، والوجه غير المُتماثل نفسه وأذنان مُشابهتان لأذنَيه؛ أذنان كبيرتان مُسطَّحتان بارزتان من رأسه كمقبضَي أمفورة، لهما نتوءات داروينية ملحوظة وإطار عديم الشكل وشحمة غير مُكتملة. كان لومبروسو سيُحبه كثيرًا. وكانت صورة الرجل ستُمثِّل مصدرًا مبهجًا لأغراض الشرح والتوضيح، كما أنه — كما تراءى لي فجأة — سيمثِّل عيِّنة مرافقة مُمتعة للغاية للعيِّنة رقم ٥.

قلت له وهذه الفكرة الجديدة في رأسي: «ابن خالتك بيل هذا. أهو ابن أخت أمك مباشرةً؟» (بعض التفاصيل الخاصة بالوراثة تُضيف كثيرًا لقيمة العينة وقُدرتِها على أن تكون أداة تعليمية.)

«وبافتراض أنه كذلك. ماذا بعدُ؟ أريد أن أعرف ما حدث وما فعلتَ به.»

فسألته: «ما الذي يجعلك تعتقِد أنني فعلتُ به شيئًا؟»

«عجبًا، لقد رأيته وهو يدخل منزلك لكنني لم أرَه قط وهو يخرج.»

فاعترضت قائلًا: «لكن أيها الرجل الطيب، هذا منطقٌ في غاية السوء. إن كنت رأيته حين دخل، فثمة افتراض منطقي أنه دخل و…»

قاطعني صاحبنا قائلًا: «رأيته بأمِّ عيني»، وكأن هناك وسائل أخرى للرؤية.

لكنني استطردت: «لكن حقيقة أنك لم ترَه يخرج لا تؤسِّس لافتراض أنه لم يخرج. فربما خرج دون أن يُلاحظه أحد.»

«كلَّا، لم يخرج. لم يخرج البتة. رأيته يدخل و…»

«لقد قلت هذا من قبل. أيُمكنني أن أسألك عن طبيعة عمله؟»

أجاب صديقنا بشيءٍ من التردُّد: «طبيعة عمله كانت خاصة.»

«فهمت. هل دخل المنزل من الباب الأمامي؟»

«كلا، لم يفعل. لقد دخل من نافذة غرفة الغسيل.»

«في المساء بلا شك، أليس كذلك؟»

فكانت إجابة الرجل: «الثانية صباحًا.»

فقلت: «آه! دخل المنزل من نافذة غرفة الغسيل في الثانية صباحًا لعملٍ خاص به. هكذا الأمر إذن! في الواقع وكما ترى، المنطق السليم في هذا الموقف يقول بأنه إذا دخل ولم يخرج، فلا بد وأنه لا يزال في الداخل.»

فوافقني الرجل قائلًا: «هذا ما أعتقده تمامًا.»

«لا بأس إذن. في هذه الحال، ربما ترغب أن تدخل وتُلقي نظرةً وترى إن كنت تستطيع أن تجده.» وأخرجتُ مفتاحي وأشرتُ له نحو باب المتحف أدعوه للدخول.

فصاح الرجل وهو يتراجع بسرعة إلى الشارع: «كلَّا لن تفعل. لن تُدخلني إلى هناك، أرفض ذلك مباشرة.»

«إذن ماذا تريدني أن أفعل؟»

ردَّ قائلًا: «أريد أن أعرف ما حدث وما فعلتَ بابن خالتي بيل. رأيته يدخل و…»

فقاطعته وقد نفد صبري: «أعرف. قلت هذا من قبلُ.»

أضاف الرجل: «اسمَع يا هذا. من أين حصلتَ على كل تلك الهياكل العظمية؟» لا شك أن أحدهم تحدَّث إلى هذا الصعلوك الضئيل.

أجبته: «لا يُمكنني التطرُّق إلى أسئلة من هذا النوع.»

فردَّ قائلًا: «كلَّا، لا أعتقد أنك تستطيع؛ لكنني سأُخبرك بما أظن أنه حدث وما فعلتَ ببيل. لقد أدخلته إلى منزلك وقضيتَ عليه. هذا هو ما أعتقد. وأخبرك أن الأمر لن يمرَّ. حين يدخل رجل إلى منزلٍ ليُنجز عملًا غير عنيف، فإنه يتوقَّع أن يلقى القبض عليه إذا ما صادفته الشرطة. لكنه لا يتوقَّع أن يُقضى عليه. هذا ليس عدلًا، ولن أقبل به.»

«إذن ماذا تقترح أن نفعل؟» هكذا تساءلتُ ببعض الفضول.

فأجاب ذلك المُتشرِّد الضئيل بغطرسة: «أقترح أن أدَعَ القانون يأخذ مجراه. سأُطلِع الشرطة على هذا الأمر.»

وهنا استدار بسرعةٍ واندفع يمشي مُبتعدًا وهو يُجرجر قدمَيه بالطريقة المعهودة من أبناء فئته. ودخلت أنا إلى المتحف من الباب الجانبي وتقدَّمتُ لأفحص العينة رقم ٥ باهتمام متجدِّد. فقد كان التشابُه بينهما لافتًا. كان بالإمكان تتبُّع التشابُه بينهما حتى في الجمجمة وفي مقاسات الهيكل العظمي بصفةٍ عامة، في حين كان التشابُهُ بينهما في الرأس الجاف الصغير واضحًا بصورة بالغة. أسِفتُ كثيرًا على عدم قبوله لدعوتي بالدخول. إذ كان سيُصبح فائقَ القيمة باعتباره عيِّنةً مرافقة توضِّح التشابُه الجسدي في العائلات الإجرامية.

انشغلتُ كثيرًا بالتفكير في محادثته وتهديده المُثير للسخرية. بالنسبة له، يمثِّل الهجوم على المنازل لسرقتها ممارسةً رياضية مشروعة تحكمها قوانينُ مُعينة. لاعبوها هم اللص وصاحب المنزل على الترتيب، يُخاطر فيها الثاني بمُمتلكاته والأول بفترةٍ مُعينة من حريته الشخصية؛ وقواعد اللعبة مُلزِمة لكليهما على حدٍّ سواء. كان هذا مفهومًا أجدرَ أن يُجسَّد في أوبرا كوميدية؛ ومع ذلك، ورغم أن الأمر قد يبدو غير قابلٍ للتصديق، فإنَّ هذا المفهوم عن الجريمة هو المقبول في يومِنا هذا وهو الذي يتصرَّف المجتمع على أساسه.

كان التهديد الذي نطق به صاحبنا الضئيل له وقْعُ المسرحيات الهزلية الكبرى، ومن ثمَّ يُمكنني أن أقرَّ بأنني أخذت أتدبَّره. فكرة أن يتقدَّم اللص بشكوى ضد صاحب المنزل لإعاقته عن تنفيذ مهامِّه الخاصة قد يتفتَّق عنها ذهن الكاتب الراحل دبليو إس جيلبرت الغريب الأطوار. فانقلابُ الأمر الغريب رأسًا على عقب جعلني أضحك كثيرًا حين تذكَّرت لقائي بالرجل في الأيام القليلة التي تلته؛ لكن بالطبع، لم أتخيَّل قطُّ أن يُحاول الرجل فعليًّا أن يُنفِّذ تهديده.

يمكنك إذن أن تتخيَّل دهشتي حين أدركتُ أنه لم يتقدَّم بالشكوى وحسب، بل وتحرَّكت عناصر إنفاذ القانون — على الأقل بصورة مبدئية.

نزلت عليَّ تلك المفاجأة كالصاعقة بعد ثلاثة أيامٍ من لقائي بالرجل ابن خالة العينة رقم ٥. كنت جالسًا في مكتبي أقرأ كتاب تشيفرز بعنوان «الجرائم في حق الأشخاص» حين دخلت عليَّ الخادمة ومعها بطاقة زيارة. «رجل نبيل يرغب في رؤيتي ليُحدثني في أمور علمية خاصة.»

نظرت إلى البطاقة. كانت تحمل اسم «السيد جيمس رامتشايلد»، وهو اسمٌ لم يكن مألوفًا لي. كان الأمر غريبًا للغاية. فلو كان الرجل زميلًا من الأوساط العلمية لراسَلَني ليُحدِّد موعدًا ولأطلعني على هدف الزيارة. فنظرتُ إلى البطاقة ثانية. كانت مطبوعة بحروفٍ مطبعية وليست عن طريق الحفر، كما هو معتاد، وكانت تحمل عنوانًا في طريق كيننجتون بارك. كانت تلك معلوماتٍ مهمة ومُثيرة للريبة بدرجة طفيفة. وشعرت وكأنني أشم رائحة مسافرٍ أتى عابرًا الأطلنطي؛ مسافرٍ له ميول تجارية.

قلت للخادمة: «رافقي السيد رامتشايلد إلى هنا»، فخرَجَت وعادت بعد فترة قصيرة وبرفقتها رجل طويل ضخم الجسم يبدو عليه الطابع العسكري إلى حدٍّ ما.

كان من الممكن أن أرفع صوتي بالضحك، لكنني لم أفعل. إذ لم يكن من الحكمة فعل هذا، وبالتأكيد لم يكن ليُعَدَّ من الأدب أيضًا. لكنني ضحكتُ في نفسي بينما أعرض على زائري الجلوس. «الخبرة تُعلِّم!» كنت قد رأيت عددًا من ضباط الشرطة ذوي الثياب المدنية في الشهور القليلة الماضية، والرجل الذي يقف أمامي يُمثِّل عينة مثالية منهم حتى ولو كان من دون الحذاء الطويل الذي يرتديه. فتجهَّزت لشيءٍ مُمتع.

شرع زائري يقول: «لقد سمحتُ لنفسي بزيارتك يا سيد تشالونر لأطرح بعض الأسئلة بشأن … الهياكل العظمية.»

فأومأت بجِدية وكتمت ضحكةً بداخلي. كان الرجل بسيطًا، هذا المدعو رامتشايلد. «بشأن الهياكل العظمية!» يا له من تعبير يستخدِمه رجل عِلم! إنه مخلوق ساذج بكل تأكيد! ذو طبيعة طفولية بحق، إن جاز التعبير.

وأكمل يقول: «فهمتُ أنك تملك مجموعةً شهيرة من … الهياكل العظمية.» فأومأتُ له ثانية. بالطبع لم أكن أملك شيئًا من هذه الشاكلة. فمجموعتي كانت خاصة وصغيرة. لكن لم يكن لهذا أي أهمية. واختتم الرجل كلامه قائلًا: «لذا جئتُك أسألك إن كنت تسمح أن أراها.»

فسألته: «كيف سمعتَ عن مجموعتي؟»

«أتى صديقي السيد … السيد وينتربوتوم من كامبريدج على ذكرها.»

فقلت: «آه، أذكر وينتربوتوم جيدًا. كيف حاله؟»

أجاب المُحقِّق: «إنه بأفضل حال، شكرًا لك»، وقد بدا عليه الاندهاش الشديد؛ ولم يكن اندهاشه هذا من دون سبب، فقد رأيت أنه ارتجل هذا الاسم من دون شكٍّ وأنه وليد اللحظة.

«هل هناك فرع مُعيَّن من فروع المجال تهتمُّ به بصفة خاصة؟» هكذا سألته، عامدًا ألا أمنحه زمام المبادرة.

أجابني: «لا. لا، ليس على وجه الخصوص. الأمر أني فكَّرت في الشروع بجمع مجموعة خاصة بي إن لم يكن الأمر باهظ الكلفة. لكنك تملك مُتحفًا دائمًا هنا، أليس كذلك؟»

«بلى. تعالَ وألقِ نظرة.»

نهض الرجل بخفَّة ورشاقة وتقدَّمتُه عبْر حجرة الطعام إلى جناح المتحف، ولاحظتُ أنه حريص جدًّا على ملاحظة التفاصيل الإنشائية للمنزل، ولو لم يكن يعرف الكثير بشأن عِلم العظام. وقد نظر إلى الخزنة نظراتٍ طويلة؛ إذ أخفق خشب الماهوجني المُغلَّف لواجهتها في إخفاء طبيعتها عن العين الخبيرة، وانتبه إلى الباب الهائل الحجم الذي يُمثِّل مدخل جناح المتحف، وإلى قُفل ييل الذي يوصده. وفي المتحف أخذت عينه تتقلَّب بين الهياكل العظمية البشرية الخمسة الموضوعة في الصندوق الكبير بطول الجدار، لكنني اقتدتُه في الاتجاه المعاكس نحو الصندوق الذي يحوي مجموعتي المُثيرة للفضول من عينات هياكل الحيوانات الأدنى العظمية المشوَّهة وغير الطبيعية.

ثم قلت في إعجابٍ وانشراح: «هاكَ هو كنزي الصغير. أهناك عيِّنة تود أن نخرجها وتفحصها؟»

نظر الرجل بلامبالاة في الصندوق وغمغم قائلًا إنَّ «العينات كلها مثيرة للاهتمام بشدة»، ولاحظتُ مرةً أخرى عينَه وهي تتقلَّب نحو الصندوق الكبير عند الجهة المقابلة. وكنتُ أمدُّ يدي إلى شيهمٍ يُعاني تصلُّبَ مِفصل الركبة حين استجمع هو شجاعته ليقول مباشرة: «في الواقع، أنا مُهتم في الأساس بالهياكل العظمية البشرية.»

فأعدتُ الشيهم إلى مكانه وسرتُ إلى الصندوق الكبير عند الجدار. وقلت معتذرًا: «يؤسِفني أنني ليس لديَّ المزيد لأريك إياه. ما هذه إلا باكورة المجموعة، كما ترى؛ لكن لا تزال هذه العينات موضع اهتمامٍ كبير. ألا تجدها مثيرة للاهتمام؟»

من الواضح أنه كان يجدها مثيرةً للاهتمام، ذلك أنه أخذ يتأمَّل التواريخ المدونة على الركائز الصغيرة باهتمامٍ عميق وعلَّق في النهاية قائلًا: «أرى أنك دوَّنت تاريخًا على كل عينة منها. فإلامَ يُشير ذلك؟»

أجبته: «هذه تواريخ حصولي على هذه العينات.»

«أوه، بالفعل.» وأخذ يتأمَّل العينة رقم ٥ تأملًا طويلًا. اعتقدت أنه يحاول تذكُّر تاريخٍ أمدَّه به ابن خالة العينة رقم ٥ وأنه يرغب في الاطلاع على مفكرته.

فقلت: «تفاصيل العينات أطولُ من أن أتمكن من تدوينها على هذه البطاقات، لكنني دوَّنتها بالتفصيل في الفهرس.»

فسألني الرجل بحماس: «أيمكنني الاطلاع على هذا الفهرس؟»

«بكل تأكيد.» ثم أتيت بكتاب صغير مخطوط باليد — ليس الفهرس المرفق بالأرشيف، بل نسخة زائفة أعددتُها في حال طرأ أمرٌ ما كما حدث في هذه الحالة — وأعطيته له. فتح الرجل الكتاب بتوقٍ شديد، وذهب إلى مدخلات العينة رقم ٥ على الفور، وبدأ يقرأ الوصف بصوتٍ عالٍ وقد بدا عليه الإحباط.

«رقم ٥. هيكل عظمي لذَكَرٍ ذي أصلٍ تيوتوني يُظهِر علامات بارزة على التخلُّف. الجمجمة غير مُتماثلة وإلى حدٍّ كبير متطاولة.» (كرَّر الرجل المقابل الإنجليزي للكلمة الأخيرة ثم سكت فجأةً وقد احمرَّ وجهه. فهي كلمة طويلة ونطقها يبعث على الشعور بالإحراج.) ثم قال وهو يغلق الفهرس: «حسنٌ، مثير جدًّا للاهتمام، ولافت جدًّا. بل لافت إلى أقصى حدٍّ. أرغب كثيرًا في هيكل عظمي كهذا.»

فعلَّقت قائلًا: «أنت أفضل حالًا بالهيكل العظمي الذي تملكه.»

فعاجلني بالرد: «أوه، لم أقصد ذلك. بل قصدت أني أرغب في امتلاك عينةٍ مثل الرقم ٥ هنا من أجل مجموعتي المقترحة. والآن كيف يُمكنني الحصول على مثلها؟»

فقلت وأنا أُمعن التفكير: «في الواقع، هناك عدةُ طرق.» ثم توقَّفت عن الحديث ونظر هو إليَّ مُترقِّبًا. فأكملت ببطءٍ: «يمكنك على سبيل المثال أن تتزوَّد بوَهَقٍ وتقوم بنزهة في شارع وايتشابل هاي ستريت.»

فصاح الرجل بانفعال: «يا إلهي، أتقصد حقًّا أن تقول …»

فقاطعته: «بكل تأكيد. ستجد الكثير والكثير. أمَّا أنا، وحيث إنني لا أتمتَّع بمِثل هذا القوام الرائع بصفة استثنائية الذي تتمتَّع أنت به، فعليَّ أن أتَّبع خُطَّة أبسط ومكلفة أكثر وهي شراء عيناتي من التجار.»

فقال يوافِقني: «هكذا الأمر إذن، واضح جدًّا.» وكان محبَطًا بصورة عميقة ويميل إلى الاستياء والغضب. «بالطبع كنتَ تمزح بشأن الوَهَق. لكن هل تُمانع أن تُعطيني عنوان التاجر الذي حصلتَ منه على هذه العيِّنة؟» ثم أشار مرة أخرى إلى عينة بيل.

ظنَّ الرجل أنه حاصرني؛ وكان هذا سيحدُث بالفعل لو كنت أقل حرصًا وحذرًا. فباركت لنفسي على التمتُّع بالحكمة والتبصُّر اللذَين جعلاني أقتني هذه الهياكل الزائفة. والآن كنتُ أملك زمام الأمر برُمَّته.

سألته: «تلك العيِّنة؟» وأنا أُطالع التاريخ على الركيزة؛ ثم أضفت: «أظنُّ أنني حصلتُ عليها من هامرستاين. لا شكَّ أنك تعرف متجره في حي سيفن دايلز. إنه رجل ذو أعمال واسعة. لقد حصلتُ على معظم العينات العظمية منه.» ثم أحضرتُ ملف الفواتير وقلَّبت الصفحات على مهل، بينما أخذ هو يقضم شفتَه في تلهُّف. وأخيرًا وجدتُ الفاتورة المُسدَّدة وقرأها هو بصوتٍ عالٍ وبتعبيرٍ عن الإحباط يُثير السخرية.

«مجموعة كاملة من العظام البشرية الفاخرة، مفاصلها مربوطة بأفضل الأسلاك النحاسية والمسامير اللولبية، مع توفير زنبركَين للفك السُّفلي، وقضيب دعم قوي من الحديد. كل العظام مضمونة لتكون من نفس الشخص. ٥.٣.٤ جنيهات إسترلينية.»

كان عنوان الفاتورة يقول: «أوسكار هامرستاين، تاجر عظام، شارع جريت سانت أندرو، لندن، الرمز البريدي، دبليو سي»، ومؤرَّخة بتاريخ الرابع من شهر فبراير لعام ١٨٩١.

دوَّن المُحقِّق الاسم والعنوان في مفكِّرة لها جلد أسود وتبدو رسمية، وقارن التاريخ بالآخر المكتوب على الركيزة الخاصة ببيل واستعدَّ للرحيل.

فقلتُ له وأنا أتوقَّع أن يزور صديقنا هذا السيد هامرستاين: «هناك شيء واحد ينبغي أن أوضِّحه لك؛ عندما تحصل على العينات من التجار، فإنَّها لا تكون دائمًا بحالةٍ تسمح بعرضها بالمتحف فيما يتعلَّق باللمسات الأخيرة. فلونها عادةً ما يكون سيئًا وربما تكون عليها بقعٌ من الشحم. إن كان هذا هو الحال، فسيتعيَّن عليك تفكيكها وتنظيفها بالبنزول، وإذا لزم الأمر، نقعُها وتبييضُها»، ثم اختتمتُ بنبرة جادة وأضفت: «لكن بغض النظر عن كل ذلك، كن حذرًا عند استخدام الصودا المكلورة وإلا فستفسد مظهر العظام وتجعلها هشَّة. وداعًا!» ثم صافحتُه كثيرًا ورحل هو عابسًا وخائب الأمل.

وطوال المدة التي قضاها معي، تسبَّبت عبثية الموقف في إحياء تلك الروح اللعوب بداخلي — إذ كانت هذه هي حالتي المزاجية العادية حتى وقعَتْ على رأسي المُصيبة الكبرى التي حلَّت بي. لكن رحيله تركني مكتئبًا بعض الشيء؛ لأن زيارته كانت بمثابة علامةٍ على انهيار مُخططي في نهاية المطاف. فحتى إن كان المجرمون يرغبون في إمداد مجموعتي الأنثروبولوجية، لا يكون بإمكاني تنفيذُ طرائقي تحت عيون الشرطة المُتيقظة والمستنكرة.

إذن ما الذي ينبغي فِعله؟ كان هذا هو السؤال الذي أخذتُ أكرِّره على نفسي. بالطبع لم تُواتِني مطلقًا فكرة أن أتخلَّى عن نشاطاتي. فقد ظللتُ على قيد الحياة من أجل غاية واحدة: ألا وهي البحث عن الرجل الذي قتل زوجتي وانتزاع ما يجب عليه دفعه. في البداية كانت المجموعة التي أجمعها مجرَّد حصيلة ثانوية؛ ورغم أنها كانت تستحوذ عليَّ تدريجيًّا حتى إنها أصبحت غاية في حدِّ ذاتها، فإنها كانت لا تزال غاية ثانوية. فاكتشاف مكان هذا الصعلوك هو قِبلتي التي لا ينبغي لأي عقبات أو صعوبات أن تصرفني عنها.

وبالصدفة البحتة، جاءتني الإشارة التي أرشدتني في نهاية المطاف إلى التطرق إلى أصعدة جديدة للبحث. فبعد أيامٍ قليلة من زيارة المُحقِّق تلقيتُ خطابًا من أحد الأصدقاء القليلِين المُتبقِّين لي، اسمه الدكتور جرايسون، وكان فيما سبق يزاول الطب في لندن، لكنه عاد إلى موطنه الأصلي بفعل التقدُّم في العمر والشيخوخة، وهي قرية شوم بالقُرب من روتشيستر. طلب مني جرايسون أن أقضيَ معه يومًا، حيث سيتسنَّى لنا التحدُّث عن بعض الأمور التي كان كِلانا يُبدي اهتمامًا بها؛ وحيث كنت الآن متفرغًا، قبِلت دعوته لكنني رفضتُ أن أبيت ليلتي بعيدًا عن منزلي ومجموعتي.

كان الأمرُ الهامُّ في ذلك الوقت أنني فكَّرت قبل الذهاب في نوعية السلاح الذي سأحمله معي. قبل ذلك، ما كنتُ لأفكر في تسليح نفسي من أجل رحلةٍ بسيطة بالقطار؛ لكن الآن، وجود القطار يعني وجودَ لص — مثل واقعة ليفروي والسيد جولد المسالم جدًّا — ويمكن للنفَق الطويل الذي يقطعه القطار بالقُرب من قرية سترود أن يكون مسرحًا لفاجعةٍ تقع في القطار. وكان اختياري للسلاح في نهاية المطاف أمرًا مُثيرًا للاهتمام أيضًا. إذ كنت أرفض تمامًا فكرةَ حمل مُسدس دوَّار. فهو سيُحدِث ضوضاء لا محالة. ونزاعي مع المُجرمين هو نزاع شخصي لا ينبغي لأي أحدٍ من الخارج أن يتدخَّل فيه. وكنتُ أميل إلى المربات الذي كنت قد اكتسبتُ الآن مهارةً في التعامُل معه، لكن كان من الصعب التنقُّل به، وفي نهاية المطاف وقعَ اختياري على عصًا مُسيَّفة رفيعة جدًّا، ومعها برجمية آلت إليَّ من أحد عملائي بعد أن جرَّبها على رأسي.

وفي نهاية المطاف، لم يقع أيُّ خَطْب. إذ دلفت إلى عربةٍ فارغة من الدرجة الأولى، وحين كان القطار على وشْك المغادرة، اندفع رجل قويُّ البِنية إلى داخل العربة وأغلق الباب بعُنف، فرمقتُه بنظرات يُخالطها الارتياب وانتظرتُ ما ستئول إليه الأحداث. لكن لم يحدث شيء. فقد جلس الرجل متكومًا في زاويةٍ من العربة، وأخذ يُراقبني وقد أبقى تركيزه على مِقبض جرس الإنذار فوق رأسه؛ لكنه لم يأتِ على فِعل أي شيء. وحين خرجنا من النفَق الطويل كان الرجل شاحبًا كالأشباح، وقفز من القطار على رصيف سترود تقريبًا قبل أن يبدأ القطار في إبطاء سرعته.

أنزلتُ حقيبتي من على الرفِّ وخرجتُ خلفه وأنا أبتسم من رعونتي. كان تفكيري في المُجرمين يتحوَّل إلى هوسٍ يتحتَّم عليَّ أن أحذَر منه ما لم أُرِد أن أنهيَ أيامي في مأوًى للمجانين؛ وكانت تلك حقيقة قد غُرِست في ذهني أكثرَ حين رأيتُ رفيق العربة — الذي كان قد رآني لتوِّه — «يُهرع» على رصيف المحطة ويتقدَّم بسرعة وينظر خلفه في قلق. ولمَّا قرَّرتُ أن أُخرِج هذا الموضوع من رأسي، رحتُ أسير ببطءٍ في المدينة الصغيرة وذهبتُ إلى طريق لندن؛ ورغم أنني، وأنا أمرُّ بحانة فالستاف واجتزتُ جادز هيل، واتتني ذكرياتٌ عابرة عن الأميرِ هنري والرجال الذين يرتدون البقرم، مع اقتراحاتٍ لاحقة عن عربةٍ تجرُّها خيول تكافح لصعود التل في الظُّلمة ورجالٍ مُلثَّمين يتسلَّلون على طول الضفتَين نحو الطريق الغائر، فقد حافظت على هدوئي. وكانت الحقيبة ثقيلةً بعض الشيء — إذ كانت تحوي طردًا كبيرًا من المصابيح التي أتيتُ بها من منطقة كوفنت جاردن التي كان جرايسون قد طلبَها مني — ورغم هذا، استحسنت الانحراف عن الطريق السريع والشرود في الحقول واتِّباع السُّبل والمسارات التي أذكرها جيدًا. كان كلُّ ما حولي مألوفًا لي؛ لأنني كنت آتي أنا وجرايسون قبل سنواتٍ حين كان لا يزال يزاول الطب، إلى ضيعته الصغيرة في إجازاتِ نهاية الأسبوع، وعادةً ما كنتُ أمكث أنا أسبوعًا أو نحو ذلك أتجوَّل في الريف بمفردي. ومن ثمَّ كنتُ أعرف كلَّ شِبر في هذه الأرجاء، وكنت شغوفًا للغاية بإحياء درايتي بها لدرجةِ أنني تأخَّرتُ عشرين دقيقة على موعد الغداء.

وقد قضيت يومًا سارًّا بحقٍّ بصحبة جرايسون (الذي كان عاكفًا على دراسةِ الجوانب التاريخية لبعض الأمراض)، وكنتُ سأمكثُ لساعةٍ متأخرة أكثر. لكن بحلول الثامنة والنصف تقريبًا — كنَّا قد تناولنا العشاء في السابعة — بدأ جرايسون يتململ وفي النهاية قال مُعتذرًا:

«لا تأخذك الظنون بأني لا أحتفي بزيارتك يا تشالونر، لكن إن كنتَ لن تبيت ليلتك فمن الأفضل أن تذهب الآن. ولا تتَّبع طريق جادز هيل. بل سِرْ حتى هايم والحَقْ بالقطار من هناك.»

فسألته: «وما خَطْب طريق جادز هيل؟»

«ليس به أيُّ خَطْب بالنهار، لكنه خطير للغاية في الليل. لطالما كان ذلك الطريق غيرَ آمِن، وهو كذلك بصفةٍ خاصة في هذه الأيام. إذ انتشرت مؤخرًا حوادثُ كثيرة للسطو على الطريق السريع. بدأت تلك الحوادث حين كانت عربات البضائع هنا في الخريف الماضي، لكن يبدو أنَّ بعض أولئك البلطجية من منطقة إيست إند قد استقرُّوا في الجوار. لقد رأيتُ أشخاصًا أشكالهم غريبة للغاية، حتى في هذه القرية؛ هم أغرابٌ على ما يبدو، من النوع الذي قد تُصادفه عند ستيبني ووايتشابل.

والآن، كن صالحًا واذهب إلى هايم، قبل أن يُخيِّم الظلام تمامًا على الأرجاء.»

لستُ في حاجة إلى أن أقول إنَّ وجود الغرباء لا يخيفني، لكن ولأن جرايسون كان متململًا بحق، لم أُبدِ اعتراضًا وانطلقتُ في سبيلي على الفور. لكنني لم أتوجَّه إلى هايم مباشرة. كان القمر ساطعًا، وبدت القرية جذَّابة فعلًا. وقد صنعت الأشجار وفوَّهات المداخن وسقوف الجملون والسقوف المصنوعة بالقش أشكالًا داكنة سائغة للناظر أمام السماء الصافية، وسقطَتْ بَقَعٌ من الضوء الفضي بعرض الطريق على الحواجز الخشبية والواجهات المقاوِمة للطقس. رحتُ أسيرُ على طول الشارع الصغير، أحمل الحقيبة التي صارت الآن فارغةً وخفيفة وأتبادل التحيات مع القرويِّين المُتناثِرين، حتى وصلتُ إلى السكة التي تنعطف باتجاه طريق لندن. فتوقَّفت هنا عند بقعةٍ خضراء مثلَّثة الشكل، ونظرتُ بصورة تلقائية في ساعتي وقد رفعتها نحوي تحت ضوء القمر. وكنتُ على وشْك أن أعيدها مكانها حين جاء صوتٌ يسألني:

«كم الساعة أيها السيد؟»

فرفعتُ عيني بسرعة. كان الرجل الذي حدَّثني يجلس على ضفة الطريق تحت الوشيع وفي مكانٍ مُظلم جدًّا حتى إنني لم ألحظ وجوده. ولم يكن بإمكاني كذلك رؤيته جيدًا الآن، وإن كنتُ قد لاحظت أنه يتناول شرابًا مرطِّبًا من نوعٍ ما؛ لكنَّ صوته لم يكن يُوحي بأنه مِن كِنت، ولا بأنه إنجليزي حتى؛ بدا أن الصوت يُرسِّخ لنبرةٍ جشَّاء وغير مألوفة، من لهجة مَن يقطنون شرق لندن.

أخبرت الرجل بالوقت وسألته إن كان الطريق — وكنت أشير إلى طريق الحيد — سيؤدي بي إلى هايم أم لا. كنت أعرف بالطبع أن هذا الطريق لن يقودني إلى هايم، ولم يكن لديَّ أدنى فكرة عن سبب سؤالي هذا له. لكنه أجاب بسرعة كافية قائلًا: «أجل. على طول هذه الطريق مباشرة. أتريد الذهاب إلى المحطة؟»

فرددتُ عليه بالإيجاب، وأضاف هو: «سِرْ مباشرةً على هذه الطريق مسافةَ ميل ونصف الميل وسترى المحطة أمامك مباشرةً.»

كان هذا توجيهًا خاطئًا واضحًا من جانبه. ويبدو أنه مقصود أيضًا؛ لأن ملابسات الأمر تنفي إمكانية وجود خطأ. كان الرجل يُرسلني عمدًا — وأنا الغريب كما يبدو — في طريقٍ جانبي مُنعزل يؤدي إلى قلب الريف. فماذا كان هدفه؟ لم أكن أشكُّ في هدفه كثيرًا، فسرعان ما ستتأكد صحة هذا الشك.

شكرتُ الرجل على المعلومة وانطلقتُ في الطريق بوتيرةٍ مُتمهِّلة؛ لكن حين قطعتُ مسافة صغيرة، باعدتُ بين خطواتي من أجل زيادة سرعتي من دون التأثير على إيقاع خطواتي. وبينما أنا أسيرُ، رحتُ أفكر في نوايا صاحبنا واعتقدتُ باهتمامٍ وشيءٍ من الاندهاش أنني لستُ خائفًا منه. كنت أشتبه أنه قاطع طريق، فردٌ من العصابات التي حدَّثني عنها جرايسون، وكان عليَّ أن أتقدَّم على هذا الطريق غير المطروق بدافع الفضول المجرَّد لأرى إن كان قاطعَ طريق فعلًا أم لا.

وصلتُ إلى بوابةٍ عند مدخل طريقٍ ترابي، وهنا توقَّفت أتسمَّع. جاء صوت وقْع أقدام على الطريق من خلفي؛ خطوات سريعة لكنها ليست حادة ولا متعجِّلة؛ بل تميل لأن تكون منتظمة ومُختلسة. تسلَّقتُ البوابة بهدوء واتخذت موقعًا خلف جذع شجرة دردار وسط الوشيع. واقتربت الخطوات بسرعة. ثم سرعان ما ظهر شخصٌ عند منعطف الطريق تحت إضاءة ضوء القمر، شخص يتقدَّم بسرعة ويلازم الظلال. راقبتُه من خلال الوشيع الكثيف وهو يقترب ويتكشَّف رجلًا ذا مظهر غير طبيعي ويحمل عصًا غليظة لها مِقبض.

وقف الرجل في مقابل البوابة، واستطعت من خلال ظلِّه أن أرى أنه نظر عبْر الحقول الفضيَّة الممتدة على طول الوادي وأخذ يستمع، لكنه لم يفعل ذلك أكثر من بضع لحظات. ثم أكمل تقدُّمه مرة أخرى بوتيرة بين المشي السريع والعدْوِ البطيء.

وبمجرد أن غادر الرجل، خرجتُ من مكاني وشرعت أسيرُ على الطريق الترابي. ولا بد أنَّ جسمي كان بارزًا بوضوحٍ أمام الحقول الجرداء ومرئيًّا من طريق الحيد. لكنني لم أُسرِع المشي. تقدَّمتُ بهدوء على المنحدر السهل لمسافة ثلاثمائة ياردة تقريبًا حتى شعرتُ بالأرض تزداد انحدارًا من تحتي؛ وهنا توقَّفت ونظرتُ خلفي قبل أن أهبط مع الطريق.

كان ثمَّة رجلٌ يجتاز البوابة.

رحتُ الآن أسير بسرعةٍ أكبر حتى اعتليتُ قمة تلٍّ آخر، ثم نظرت خلفي مرة أخرى. فوجدت جسم الرجل بارزًا عند الحافة العلوية للتل، وقد بدا داكنًا في مواجهة السماء المضاءة بنور القمر. والآن كان الرجل يتقدم مسرعًا في ملاحقةٍ صريحة.

فأسرعتُ في خُطاي ونظرتُ من حولي. كان الليل ساكنًا وبهيجًا، وكانت الحقول غارقةً في ضوء فضي والظلال الرمادية الخافتة تكتنِف المرتفعات المُشجَّرة، ومن قلب تلك المرتفعات التمعت نافذة وحيدة مضاءة، بدَت كبقعةٍ من الحميمية المتورِّدة. ومن مزرعةٍ نائية جاء صوت نُباح كلب حراسة خافتًا بفعل المسافة، وفيما بعد ذلك بمسافة كبيرة، جاء صوت باخرةٍ كانت تتسلَّل في النهر نحو المرسى المُتلألئ.

ثم وصلتُ إلى بقعةٍ ينقسِم فيها الطريق. كان أحد قسمَيه مسارًا مطروقًا بكثرة يؤدي إلى ممرٍّ يُفضي في نهاية المطاف إلى طريق لندن؛ وكنت أعرف أن القسم الآخر منه مطروقٌ بدرجةٍ أقل، ويؤدِّي إلى منجم طباشير قديم، تستريح فيه عربات المزارع أثناء شهور الشتاء في كهوف غامضة. توقَّفت هنا برهةً وكأن بي تردُّدًا. كان الرجل خلفي الآن بمسافة تقلُّ عن مائة ياردة وكان يسير بأسرعِ ما يُمكنه. فاستدرت ونظرت إليه، وبدا أنه تردَّد، ثم بدأتُ الجري على الطريق المؤدِّي إلى منجم الطباشير.

لم تَعُد نية الرجل مُستترة الآن. إذ بمجرد أن انطلقتُ في الجري، جرى هو الآخر يتبعني لكنه لم يُنادِ عليَّ لكي أتوقَّف. فافترضتُ أنه يعرف إلى أين يؤدي هذا المسار. لكن إن كانت غايته مُحددة، فغايتي أنا أيضًا كذلك. وانتبهت مرةً أخرى بشيءٍ من الاندهاش إلى أنني لا أشعر بعصبية. فاحتكاكي بطبقةِ المُجرمين لم يدَع فيَّ سوى شعور بالازدراء والعداء. ولم يَرِد في بالي قطُّ أنَّ قتْلَ أحدِهم إياي قد يُمثِّل إمكانية عملية. لم أكن مُهتمًّا سوى بإغوائه ليُقدِّم لي ذريعة مناسبة لأن أقتُله. لذا جريت وأنا أتساءل إن كان مطاردي له شَعر حلقي؛ وأتساءل إن كان من المُمكن أن أجد ضالتي في هذا المكان المنعزل وبهذه الطريقة الجزافية؛ وكنتُ واعيًا بمشاعر السرور الحادة واللعوب التي تنتابني دائمًا عندما أخرج لصيدِ أعداءِ جنسي. لأنني كنتُ الآن أصطاد الرجل الذي يجري خلفي، ويظن هذا الشيطان أنه هو مَن يصطادني.

وحين اقترب المسار من منجم الطباشير، كان به منحدرٌ مفاجئ. فجريتُ بين كتلتَين من الأجمات في مساحةٍ نمَت فيها الحشائش في القعر مُجتازًا صفَّ الكهوف التي كانت العربات مُستترةً فيها حتى هذا الوقت، ثم أكملت طريقي حتى انتهى المسار إلى نطاقٍ من التلال الصغيرة عند خليجٍ مِن نوعٍ ما يُحيط به جرفٌ خلَّف الزمن عليه آثاره. هنا التفتُّ ووضعتُ حقيبتي ووقفت مواجهًا لمُطاردي.

وقلت بنبرة حادة: «تراجَع! لماذا تتعقَّبني؟»

فتوقف الرجل ثم أخذ يتقدَّم نحوي ببطء. وقال: «اسمع يا سيد، لا أريد أن أوذيك. لستَ في حاجة لأن تخافني.»

فقلت: «إذن، ماذا تريد؟»

فقال بنبرة واثقة: «سأُخبرك. أنا رجل مسكين، صحيح؛ ليس لديَّ ساعة، ولا أموال، ولا أستطيع العمل. وأنت رجل ثري. لديك ساعة جميلة جدًّا — لقد رأيتها — وأقول إنك لديك ما هو أكثر منها بكثيرٍ في المنزل. أعطني تلك الساعة هديةً، هذا ما ستفعله؛ وأي مبلغ صغير معك. افعل هذا وسأدَعك تمضي بسلام.»

«وماذا إذا لم أفعل؟»

«إذن سيجد بعض أولئك الفلاحين رجلًا ميتًا في منجم الطباشير. لا تحاول أن تصرخ. فليس هناك أحد في هذا المكان لمسافة ميل. لذا ناوِلني تلك الساعة وأفرغ جيوبك اللعينة.»

فقلت: «هل أفهم من هذا أن …» لكنه قاطعني بوحشية قائلًا:

«أوه، أطبِق فمك وسلِّمني أشياءك! أتسمعني؟» ثم تقدَّم نحوي مُهدِّدًا، وهو يُمسك بهراوته من طرفها الأصغر، لكن حين أصبح على بُعد بضع خطوات مني، دفعتُه بالطرف السفلي من عصاي دفعةً مفاجئة في مَعِدته عند منطقة الضفيرة الشمسية. اندفع الرجل نحو الخلف وهو مشدوهٌ ويعوي — فأطلق صيحةً من أعماق حنجرته — ووقف يلهث ويفرك بطنه. وبينما هو يتعافى من أثرِ الضربة، انطلق في نوبةٍ من السِّباب والشتم، وأخذ يُحاوطني بحركاته في حذَرٍ ويحاول أن يستجمِع توازن هراوته استعدادًا لتوجيه ضربة قوية.

وقال وهو يتحيَّن الفرصة: «انتظِر حتى أفرغ منك. سأُعاقبك على هذا. سأقتلك. سأُشوِّه خلقتك حين أنتهي منك — أأأه!» كان سبب الصيحة الأخيرة التي أطلقها أنني أصبتُه بالطَّرف السفلي لعصاي في صدره، وقد ارتدَّ نحو الخلف مُبتعدًا وهو يصيح.

حافظ الرجل على مسافةٍ كبيرة بيني وبينه، لكنه ظلَّ يدور حولي ويكيل لي السِّباب. لكنه لم يكن يملك أدنى فكرة عن كيفية استخدام نوع العِصي الذي أستخدِمه، في حين أنني اكتسبتُ المهارة من التدرُّب على المَغاوِل في صالة الألعاب الرياضية. بين الحين والحين، كان الرجل يرفع هراوته ويُهاجمني، لكنني كنتُ أسدِّد له ضربةً حادة تحت ذراعه المرفوعة في الهواء، فأُرسله متقهقرًا ومبتعدًا بينما يصيح صيحته المعهودة.

كان افتقاره إلى المهارة يُجرِّد عراكنا من كثيرٍ من الإثارة. وأظنُّ أن الرجل نفسه شعر بهذا؛ لأنني رأيته يسترق النظر حوله وكأنه يبحث عن شيء. ثم وقع بصره على حجر صوان كبير غير مُحدَّد الملامح وكان على وشْك أن يلتقِطه؛ لكن وبينما كان ينحني ليلتقِطه، أرسلتُ عصايَ بقوة كبيرة باتجاهه فولَّى وهو يصيح من الألم.

أدركتُ الآن فجأةً أنه قد نال كفايته. أدركتُ هذا في الوقت المناسب لأقف حائلًا بينه وبين مدخل منجم الطباشير. كان لا يزال يُهاجم بوحشية شديدة، لكن أعصابه كانت قد انهارت. فأخذ يبتعِد عني، وبينما تبِعته عن كثَب حاول عدة مرات أن يُراوغني ويدخل فتحة المنجم.

ثم قال أخيرًا: «اسمع أيها السيد، ألقِ لي بأشيائك وسأدعك تذهب بسلام.»

«تدعني أذهب!» أخذتُ أضحك ساخرًا، لكنني ظللتُ راسخًا في مكاني. ورغم هذا كان الموقف غير مُريح. إذ لا يمكن الاستمرار في إلحاق الأذى برجلٍ مهزوم، ومن الصَّعب أن أرفض استسلامه. على الجانب الآخر، لم تكن مسألة أن أُخلي سبيل هذا الرجل مطروحةً للنقاش أو مُمكنة. فقد أتى إلى هنا مُستعدًّا لقتلي من أجل ساعة بائسة وبعض الفكَّة. إنَّ العدالة وواجبي تجاه رفاقي البشر يُحتِّمان عليَّ تصفيته. أضِف إلى ذلك، إذا تركته يهرب، ما الذي سيحدث؟ كانت الحقول من حولي مليئة بأحجار الصوان الكبيرة. من المؤكَّد منطقيًّا أنني لن أُغادر هذه الأرجاء وأنا على قيد الحياة.

وبينما أقف مُترددًا، أثبتُّ ما كنتُ أخاف منه بطريقةٍ عملية. إذ ارتد الرجل للخلف، ثم انحنى فجأةً وأمسك بحجر صوان كبير، ورغم أنني راوغتُه بسرعة وهو يلقي بالحجر نحوي وتفاديتُ أن يُصيبني بكل قوة، فإنني صدمتُ جانب رأسي، فلم أجد بُدًّا من أن نصل بسرعة إلى تسويةٍ لهذا الموقف. فجريتُ نحوه وحملته على التقهقر حتى ثبَّتُّه في مدخل أحد الكهوف مقابل إحدى العربات. وهنا غيَّر الرجل تكتيكه فجأة. إذ أدرك أخيرًا أن هراوته التي لا يستطيع العِراك بها لن تُجدي نفعًا في وجه عصًا أستخدمها أنا بمهارةٍ وأضرب بها كالمِغْوَل، فألقى الرجل هراوته من يده وفجأةً لمع ضوء القمر على نصل سكينٍ عريض. كانت المسألة هنا قد اختلفت. إذ أصبح الرجل الآن حذرًا ومُتيقظًا وسكينه في يده، بينما يده اليُسرى ممدودة وعلى استعدادٍ لأن ينتزع مني عصاي. كانت تلك خُطَّة أكثر فاعلية بكثير؛ لكنه لم يكن يعلم أن عكازي القوي يشمل على نصل سيفٍ قوي مصنوع في مدينة طليطلة الإسبانية.

ضغطتُ بإصبعي على الزرِّ القابل للضغط في عصاي المُسيَّفة ورُحت أرقبه. بين الحين والآخر كان الرجل يُهاجمني بسكينه، وحين أنكزه فأُبعده عني، كان يحاول انتزاع العصا. وكرَّر محاولاته مراتٍ ومراتٍ وكاد يُفلح، لكنني كنتُ أسرع منه قليلًا، فسقط على العربات وهو يشهق ويُطلق السِّباب واللعنات. ثم وقعت النهاية بفجائية محتومة. إذ اندفع الرجل نحوي شاهرًا سكينه. فأوقفته بوخزة قوية في صدره؛ لكن قبل أن أتمكَّن من سحب العصا بسرعةٍ مرةً أخرى كان قد أطبق عليها بيدِه وهو يصرخ من الفرح. فدفعتها دفعة أخرى وضغطت على الزر تاركًا غمد السيف في يده. وقبل أن يُدرك الرجل ما حدث، انطلق نحوي وهو يلوِّح بسكينه، حتى أصبح عند نصل السيف. لا بد وأنني اندفعتُ للأمام، رغم أنني لم أكن واعيًا بذلك، لأنه حين ارتد نحو الخلف كان مقبض السيف في صدره.

كان الأمر قد انتهى وأنا ما زلت لا أُدرك تمامًا أن المرحلة الأخيرة قد بدأت. وفي لحظة، كان ذلك البائس القاتل قد انزوى فأصبح كومةً هامدة. كان موته سريعًا ورحيمًا. وبحلول الوقت الذي انتهيتُ فيه من تنظيف النصل وإعادته إلى مكانه في غمده، كانت آخر ارتجافات جثته قد توقَّفت. وقفتُ ونظرت إليه، وشعرت بقشعريرة خيبة الأمل وانتهاء الأمر بصورة غير مُثيرة. فقد انتهى الأمر بسهولة شديدة.

والآن، وحيث وصلنا إلى الخاتمة، عادت أفكاري إلى الغاية النهائية لمساعيَّ. هل مِن الممكن أن يكون هذا الرجل هو البائس الذي أبحث عنه؟ لم يبدُ أن هذا مُرجَّح، لكن ينبغي أن أضع هذا الاحتمال في الاعتبار. كان أول ما عليَّ فِعله يتعلَّق بشَعره. فانحنيتُ فوقه وقطعتُ خُصلة كبيرة من شَعره بمقصِّ الجيب الخاص بي ووضعتُها في مظروف من أجل فحصها مُستقبلًا. ثم أخرجت دفتري الصغير وضغطتُ بأصابعه على بعض الصفحات الفارغة. إذ مثَّل جلد أصابعه بديلًا مقبولًا عن الحبر، ويمكن إتمام العمل على استخراج البصمات في المنزل لاحقًا.

ثم برزَتْ أمامي مسألةٌ أكثر صعوبة. كنت بالطبع أرغب في إضافته إلى مجموعتي؛ لكن بدا أن هذا مُستحيل. فأنا طبعًا لن أستطيع أخْذَه معي. لكنني لو تركتُه في العراء، فسيجده بعض الناس وسيدفنونه ومن ثمَّ يضيع على العلم عيِّنة مثالية. كان هناك شيء واحد فقط يُمكنني القيام به. كان وسط منجم الطباشير يُمثِّل مساحة كبيرة تُغطيها نباتات القرَّاص والأعشاب الكبيرة الأخرى. على الأرجح أن قدَمًا لم تطأ هذا المكان طَوال سنوات؛ لأن نباتات القرَّاص التي يبلُغ طولها أربع أقدام أو خمسًا تكفي لأن تُبقي الأطفال الشاردين بعيدًا. والآن كانت نباتات الربيع تزدهر بسرعة. فإن أخفيتُ الجثةَ في وسط تلك المساحة العشبية، فإن الأعشاب سرعان ما ستُغطيها وتُخفيها تمامًا. ثم تقوم العناصر الطبيعية بالجزء الأصعب من عملي. حيث ستخرج الحشرات الآكلة للجِيَف والهوام الأخرى وتُنجز العمل مع الهواء والرطوبة والبكتيريا، ويُمكنني العودة في الخريف وجمْع العظام وهي جاهزة من أجل عرضها في المتحف.

شرعتُ في تنفيذ هذه الخطة البديلة. فنقلتُ الجثةَ إلى وسط المساحة المُغطَّاة بالعشب، وغطيتُها بالقليل من الأغصان والمواد الأخرى المختلفة من القمامة. أصبحت الجثة الآن خفيةً عن الأنظار، وكنتُ على وشْك الالتفات والمغادرة حين تذكَّرت فجأةً الإعداد الجاف لرأسه، الذي ينبغي أن يكون مُصاحبًا لهيكله العظمي. من دون ذلك الرأس، لن تُصبح العينة مُكتملة؛ ومن شأن عينة غير مكتملة أن تخرِّب السلسلة برُمَّتها. فأخذتُ أفكِّر قليلًا. رأيتُ أنَّ من المُثير للشفقة أن أُخرِّب اكتمال هذه السلسلة من أجل مشكلةٍ بسيطة كهذه. وكان معي حقيبة حجمها معقول وكمية من الورق البُني المُقوَّى الذي كانت المصابيح ملفوفةً فيه. فلِمَ لا أستخدِم ذلك؟

في نهاية المطاف، قرَّرتُ أنني لا ينبغي أن أُخرِّب السلسلة. ولستُ في حاجة لوصف التفاصيل الواضحة بشأن تلك العملية البسيطة. وحين خرجتُ من منجم الطباشير بعد ربع ساعة، كانت حقيبتي تحوي المادة اللازمة لعمل رأسٍ مُحنَّط.

ثم سرعان ما اتجهت إلى المسار المألوف لي وانطلقتُ بخطوات سريعة لألحق بالقطار المتأخِّر المُتجه إلى جريفز إند. كان المسير طويلًا وباعثًا على السرور، وإن كانت الحقيبة ثقيلةً بصورة غير مريحة. وتسليتُ بالتفكير في عصابة قطَّاع الطرق التي ذكرها جرايسون. سيكون موقفًا غريبًا بحقٍّ لو أنني التقيتُ بعضهم وسرقوا مني حقيبتي. كانت الاحتمالات التي فتحتها هذه الفكرة مُسليةً كثيرًا وظللتُ منشغلًا بها حتى وصلت في الأخير إلى محطة جريفز إند، وقد أدخلني الحارس إلى إحدى عربات الدرجة الأولى حين كان القطار قد بدأ التحرك للتو. كنتُ أُفضِّل لو كنت في عربة فارغة، لكن لم يكن أمامي خيار؛ وحيث كانت الزوايا الثلاث مشغولة، جلستُ أنا في الزاوية الرابعة. وكان الرفُّ الذي فوق مقعدي يحمِل حقيبةً لها حجمٌ مُشابه تقريبًا لحجم حقيبتي، على ما يبدو أنها مِلك كاهنٍ يجلس في الزاوية المُقابلة لي، لذا تعيَّن عليَّ أن أضع حقيبتي في الرفِّ الذي فوق رأسه هو.

رحتُ أشاهده طوال الرحلة وهو جالس في مواجهتي يقرأ صحيفة «تشيرتش تايمز» وتساءلت عن كيفية شعوره إذا عرف ما تحويه الحقيبة التي فوق رأسه. على الأرجح أنه كان سيضطرب كثيرًا؛ لأن الكثير من رجال الدِّين هؤلاء يؤمِنون بأغرب الأفكار من العالم القديم. وكان الرجل على وشْك أن يعرف أيضًا؛ لأن القطار حين توقَّف في محطة هيثر جرين وكان على وشْك أن يُباشر رحلته، انتفض الرجل من مكانه فجأةً وصاح يقول: «رُحماك بروحي يا قدير!» ونتش حقيبتي من على الرفِّ واندفع خارج القطار وإلى الرصيف. فأمسكتُ أنا بحقيبته في الحال وجريتُ خلفه بينما بدأ القطار يتحرَّك، وناديتُ عليه أن يقف. «مهلًا! يا سيدي! لقد أخذتَ حقيبتي.»

فأجاب بسخط: «كلَّا على الإطلاق. أنت مُخطئ.» وبينما أنا أُمسك بحقيبته أخذ يقلِّب بصره بين الحقيبتَين، وراعَني أنه ضغط على قُفل حقيبتي وفتحها على آخرها.

كم تتسبَّب المُصادفات الصغرى في تحوُّل مُجريات الأحداث الكبرى! لولا وجود الورق البُني في حقيبتي، لتحوَّل الأمر إلى كارثة. لكن ما حدث أنه بمجرد أن وقعت عينه على ذلك الطَّرد الملفوف بالورق، أعطاني حقيبتي بابتسامةٍ متكلَّفة تنمُّ عن الاعتذار وأخذ حقيبته. لكن بعد ذلك، ظللت ممسكًا بحقيبتي حتى أصبحتُ بالقُرب من مُختبري.

كانت خيبة الأمل المعهودة بانتظاري حين فحصتُ الشَّعر وبصمات الأصابع. لم يكن هو الرجل الذي أسعى خلفه. لكنه يُمثِّل إضافةً مقبولة إلى «سلسلة الأنثروبولوجيا الجنائية» في متحفي، ذلك أنني ذهبتُ بالفعل لجمع عظامه من حقل نباتات القرَّاص الكبير في منجم الطباشير في وقتٍ مبكر من شهر سبتمبر التالي، وقد وضعتها في الصندوق الكبير الذي بطول الحائط بعد أن بَيَّضتُها وربطتها معًا على النحو اللازم. لكن كانت هذه العينة تحمل قيمةً أخرى وإن كان بصورة غير مباشرة. إذ استشفَفْتُ منه دلالةً نافعة أرشدَتْني إلى مجال بحثٍ جديد ومُثمر.

(انظر الفهرس، الأرقام ٦أ، و٦ب.)»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤