الفصل الخامس

نواتج فرعية

الإدخال التالي في «أرشيف المتحف» أظهر صديقي هامفري تشالونر في ملابسات كانت غير معقولة تمامًا لي. فحين أتذكَّر ذلك الرجل المُتعلِّم والمثقَّف كما كنت أعرفه، أجد من المُستحيل أن أتخيَّله وهو يعيش في التخوم الحقيرة والبائسة بدرجة لا توصَف لحي اليهود في لندن، وهو مُستأجِر لمحلٍ بائس وصغير في شارع جانبي من شوارع منطقة إيست إند. لكن يبدو أن هذه كانت حاله في وقتٍ ما — دعني أقتبس ما كتب بكلماته الخاصة، التي لا تحتاج إلى تعليقاتٍ من جانبي لإبرازِ ما بها من غرابة.

«الأحداث المرتبطة بحيازة العيِّنات رقم ٧ و٨ و٩ في السلسلة الأنثروبولوجية:

نحن مخلوقات تصنعها الظروف. فالصدفة البحتة التي قادت ذلك الخسيس المجهول إلى منزلي وسط سكون الليل وأفضت بزوجتي إلى حتفها على يدَيه الأثيمتَين دفعت أيضًا ذلك المجرم الآخر (رقم ٦ من السلسلة الأنثروبولوجية) لأن يتعقَّبني حتى منجم الطباشير المنعزل، وكان سيقتُلني لولا أنني ولحُسن الحظ توقَّعت نواياه. وهكذا وبالصدفة أيضًا، وجدت نفسي صاحب محلٍّ في أحد الشوارع الخلفية لمنطقة وايتشابل.

لنتتبَّع روابط الأحداث.

أول رابط كان زيارةً قمتُ بها في شبابي إلى موسكو ووارسو، حيث مكثت طويلًا بما يكفي لأكتسب معرفةً جيدة باللغتَين الروسية واليديشية. أما الرابط الثاني، فكان إخفاقَ خُطتي في جذب قاتل زوجتي — وكذلك مُجرمِين آخرين — إلى منزلي. إذ فاحت رائحة الفخ الذي نصبتُه لا بين المُجرمين وحسب، بل وبين رجال الشرطة أيضًا، حيث زارني أحدُهم في متحفي وقد بدا عليه شكٌّ واضح جدًّا فيما يتعلَّق بطبيعة عيناتي.

بعد زيارة المُحقِّق، كنتُ متفرغًا إلى حدٍّ كبير. وذلك الصعلوك المجهول كان لا يزال طليقًا. ينبغي أن يُعثَرَ عليه، وينبغي بي أن أجِده أنا، بما أن الشرطة لا تستطيع ذلك. لكن كيف يمكن تحقيق هذا؟ كان المُحقق قد خرَّب كل خططي تمامًا، ولبعض الوقت، لم أستطِع وضْعَ أي خططٍ أخرى. ثم بعد ذلك جاء ذلك النذل القذِر الذي حاول قتلي في منجم الطباشير؛ ومن كلماته الهجينة، التي كانت بلهجة كوكنية تشوبها لهجةٌ أجنبية، واتتني لمحة غامضة. إن لم يكن بإمكاني إغواءُ المُجرمين إلى عالمي، فكيف سيكون الحال إن أنا استطلعتُ عالمَهم؟ كنت أعرف المنطقة الأجنبية في لندن معرفة تامَّة؛ لأنها بدت دومًا مُثيرة للاهتمام منذ زيارتي إلى وارسو، واستنادًا إلى تقارير الشرطة، بدَت ميدانَ صيدٍ حقيقيًّا ومفرِحًا لصيد الضليعِين في الإجرام.

من ثمَّ قادني شعوري بالجزع إلى التجوُّل بصورةٍ يومية تقريبًا في تلك المنطقة الغريبة شرقِي ألدجيت، التي تَبرُز فيها أسماء أجنبية وغير مألوفة على واجهات المتاجر، والتي كُتب فيها أيضًا كل إشعارٍ عام أو خاص بحروف عبرية. كنت أرتدي أكثرَ ثيابي رثاثةً وأتجوَّل ساعةً تلوَ الأخرى ويومًا تلوَ الآخر عبر الشوارع والأزقة الرمادية والكئيبة، أُطالع عيونَ المارِّين الأوروبيين الشرقيين الصغيرة اللامعة ووجوههم العريضة وأتساءل في نفسي إن كان أيٌّ منهم هو الرجل الذي أبغي.

وذات مساء، وبينما أنا عائد نحو المنزل عبْر المنطقة التي تقبع في الجزء الخلفي من شارع ميدلسكس، انتبهتُ إلى بطاقةٍ كبيرة مُعلَّقة على باب محلٍّ مغلق. كان ثمَّة عمود قذِر خاص بالحلاقين يشي بطبيعة العمل الذي كان يجري في هذا المكان، أما البطاقة فكانت تحمل التفاصيل — التي كانت مكتوبة بحروف عبرية جميلة بل وأكاديمية حتى. كنت قد توقفت لقراءة البطاقة، وقد وجدت شيئًا من الاستمتاع في التعارض بين الكتابة الشرقية العسيرة الفهم والإشارات العملية ﻟ «الموقع الممتاز» و«تجهيزات المحل واسمه»، وذلك حين خرج عليَّ من داخل المحل رجلان. كان أحدهما يُمثِّل صورة مثالية لليهودي الإنجليزي؛ إذ كان أنيقًا ومُمتلئ الجسم ويبدو عليه الثراء؛ أما الآخر فكان أجنبيًّا بلا شك.

وقف الرجلان جانبًا ليُتيحا لي أن أستمرَّ في قراءتي، وبينما كنتُ على وشْك أن أنصرف، خاطبَني أكثرهما أناقةً وكان بلسانه لثغة.

«هذه فرصة جيدة يا سيدي. محل صغير لن يُكلِّف شيئًا. لن يجري حسابك على اسم المحل أو تجهيزاته. إنه عمل تجاري جاهز، ولن تدفع شيئًا سوى الإيجار.»

وتدخَّل الرجل الثاني في الكلام قائلًا: «أجل، هذا المحل يُعتبر منجمَ ذهب صغيرًا؛ والمقابل الذي ستدفعه زهيد.»

كان الموقف عبثيًّا. وكنتُ قد بدأت أهزُّ رأسي وأنا أبتسِم حين استطرد اليهودي بحماس:

«صدِّقني يا سيدي، هذه فرصة نادرة. هذا عملٌ تجاري من الدرجة الأولى ولن تتكلَّف شيئًا مقابل اسم المتجر.» ثم أضاف وهو يحاول حملي على القَبول: «تعالَ وألقِ نظرةً في الأرجاء.»

أظن أنني فضوليٌّ بطبيعتي. على أي حال، أنا واثق أن الفضول لرؤيةِ ما يبدو عليه أحد الأماكن في وايتشابل هو وحدَه ما دفعني لاتباع الرجلَين والدخول إلى المحل المُظلم ذي الرائحة العفنة. لكن بمجرد أن وقعت عيناي على التجهيزات والملحقات الحقيرة، لمعت في ذهني فكرة نيِّرة حقًّا.

سألت: «لماذا رحل آخِر مَن استأجر المحل؟»

فأمسك اليهودي بتلابيب معطفي وهتف يقول:

«كان آخِر المُستأجِرين أحمقَ. لقد تورَّط مع المُجرمين. أعدَّ طاولة روليت في القبو وسمح لهم بالمجيء والمقامرة بغنائمهم. من الغباء فِعلُ هذا، لكن لعلمك، لقد أبلى بلاءً حسنًا قبل أن ينتهي أمره. أترى، ستحصل على ذلك من دون مقابل.» وكانت نبرته متعاطفة.

فسألت: «وما الذي حدث في نهاية المطاف؟»

«أغارت عليه الشرطة. فقد وشى أحدهم به.»

فقلت: «ربما كانت واحدة من النسوة هي مَن وشت به.»

فاندفع الرجل الآخر يقول بنبرة حادة: «أوه! هذا صحيح! بالطبع كانت واحدة من النسوة! هن السبب دائمًا. أولئك النسوة الملعونات، هنَّ سبب كل مصيبة!» ثم ضرب على الطاولة بقبضته، وبعد أن وقعت عينه على عين الرجل اليهودي، تراجَع فجأة وصمت على الفور.

وانتقلنا من المحل إلى الغرفة الصغيرة في الجهة الخلفية، وكان بالغرفة باب يُفضي إلى القبو الكبير عبر مجموعةٍ من درجات سُلَّمٍ حجري غاية في الخطورة. كان القبو مضاءً بنافذة شبكية من الباحة الخلفية، التي تتصل أيضًا بالقبو من خلال مجموعةٍ من الدَّرجات وباب. بعد ذلك استعرضنا الباحة نفسَها، التي كانت عبارة عن حيِّز مُغلق صغير ومرصوف له باب يُفضي إلى زقاق، وفي الوقت الراهن كان بها برميل جَعة فارغ، وعربة يد ذات عجلتَين تخصُّ بنَّاءً، وقطة ميِّتة.

سألني الرجل اليهودي قائلًا: «أترغب في رؤية الحجرات بالطابق العلوي؟» وقد فهمتُ أن اسمه ناثان. فأومأت في شرودٍ وتبِعته على الدَّرج، وقد انتابني انطباعٌ عام بأن القذارة مُتفشِّية في المكان. وكانت الحجرات العُليا لا تُثير اهتمامي بعد الذي رأيته بالأسفل.

قال السيد ناثان حين عُدنا مرة أخرى إلى المحل: «والآن، ما رأيك؟»

لم أُجِب عن سؤاله مباشرةً. فلو فعلت، لسبَّبتُ له صدمة. لأنني أظنُّ أن المكان مثاليٌّ تمامًا بالنسبة لأغراضي. تأمَّل إمكانياته وحسب! كنت أبحث عن مُجرم يُمكنني تحديد هويَّته من شَعره. وها هو ذا محل حلاقة في قلب حيٍّ يعجُّ بالمُجرمين، وكان هذا المحل يُمثِّل مؤخَّرًا مأوًى لهم. من المؤكد أن هؤلاء المُجرمين سيعودون. حينها يُمكنني فحص شَعرهم على مهل — ثم هناك القبو. أكرِّر أن المكان كان مثاليًّا تمامًا.

فقلت: «أظن أن المكان يُناسبني.»

فابتسم لي السيد ناثان ابتسامةً عريضة. وقال: «بالطبع ستكون هناك حاجة للمراجع، أو لإيجار مقدَّم.»

فأجبته: «أعتقد أن إيجارَ عامٍ مقدَّمًا سيفي بالغرض، أليس كذلك؟» وحينها كاد السيد ناثان يطير من الفرح. وقد غادرتُ بعد ذلك بدقائق قليلة وأنا المُستأجر من السيد صامويل ناثان (باسمٍ مستعار هو سايمون فوسبر)، على أساس أن أدفع الإيجار المقدَّم نقدًا وأن يُنظِّف هو المكان ويضع على واجهة المحل اسم فوسبر.

أتممتُ سريعًا استعداداتي للأنشطة الجديدة التي سأتطرق إليها. فعيَّنت لمنزلي في بلومزبيري قيِّمًا وهو رقيب أول متقاعد، وكان الرجل صموتًا صمتًا لا يُقارن. وأوصدتُ أبواب جناح المتحف واحتفظت بالمفاتيح. وأخذت عدة دروس في الحلاقة من أحد الحلاقين في منطقة إيست إند. ودفعت الإيجارَ المقدَّم، وأرسلت مجموعةً من أثاث حجرة النوم إلى مكاني الجديد في شارع سول بوايتشابل، ولم أحلق ذقني لعشرة أيام أو نحو ذلك، ثم تسلَّمت ملكيَّة المحل.

في البداية كانت زيارات الزبائن قليلة ومتباعدة. كان خضريٌّ متجول أو سائق عربة خيول يأتي إليَّ بين الحين والحين، لكن في معظم الأحيان كان المحل ساكتًا وفارغًا. لكن هذا الأمر لم يُصبني بالجزع. إذ كان لديَّ الكثير من التجهيزات التي عليَّ القيام بها وكذلك الخُطط التي عليَّ تنفيذها. على سبيل المثال، كان هناك الدَّرج الخاص بالقبو؛ وهو مجموعة من الدَّرج الحجري الشديد الانحدار الذي لا يوجَد به درابزين يحمي سالكه. كان ذلك الدَّرج في غاية الخطورة. لكنني حين علَّقت حبلًا في السقف واستخدمتُه في قطع الدَّرج أصبحت قادرًا على نزول مجموعة الدَّرج بأكملها بأمان. وتعلَّقت الاستعدادات الأخرى بوضع خزنة حديدية في الغرفة الخلفية (وفوقها مرآة صغيرة) وشراء صفيحة من شحم العربات الصلب وبعض البراميل الكبيرة. وقد اشتريتُ هذه البراميل من صانع براميل في شكل ألواحٍ وأطواق، وجمعتها في شكل براميل في القبو أثناء أوقات فراغي المطوَّلة.

وقد ازدادت أعداد زبائني تدريجيًّا في تلك الأثناء. فتباينوا من الخضري المتجول والعامل، غير المؤذِين، إلى الزبائن الأكثرِ صلةً بمجالي؛ في واقع الأمر، لم أكن قد أكملتُ استعداداتي كلها بعدُ حين حصلتُ على أول المكاسب غير المتوقَّعة.

كان الوقت هو مساء يوم أربعاء. وكنت أكاد أنتهي من حلاقة ذقن عامل ضخم الجسم يبدو عليه من مظهره أن له خلفيةً عسكرية، وذلك حين انفتح الباب بهدوءٍ شديد ودلف رجل في منتصف العمر رثُّ الثياب وجلس. كانت حركاته صامتة — بل تكاد تكون خفيَّة ومستَرَقة؛ وحين جلس، أمسك بجريدة، استطعتُ أن أراه من خلفها وهو يسترق نظرات ماكرة ومُريبة إلى الرجل الذي يجلس على كرسي الحلاقة. وبعد أن انتهيتُ من حلاقة ذقن الرجل، نهض هو ليرحل، فاختفى الوافد الجديد تمامًا خلف جريدته.

ثم سألني حين خرج: «مَن هذا الرجل؟»

فأجبته: «لا أعرفه، لكن استنادًا إلى يده، أرى أنه عامل.»

فقال زبوني: «يبدو أقرب إلى شرطي.» ثم اتخذ مجلسه على الكرسي الخالي وقال باقتضاب: «سأقص شَعري»، وبعدها انطلق لسانه أكثر.

فقال: «هل أخذتَ مكان بولينسكي؟»

أومأتُ له في المرآة التي أمامنا (إذ كان بولينسكي هو السابق عليَّ) وأردف هو يقول: «إنه يقضي عقوبة الآن، أليس كذلك؟»

كنت أعلم أنه في السِّجن فوافقتُه، بعدها سألني صاحبي:

«هل عرَّج عليك بونجو بعدُ؟»

لم أكن قد سمعتُ ببونجو من قبلُ بطبيعة الحال، لكني شعرتُ أنني لا ينبغي أن أبدوَ بمظهر مَن لا يعلم. كان من الأفضل أن أبتكر شيئًا.

فقلت وأنا أطيل التفكير: «بونجو، بونجو. أهو الرجل الذي كان مع جو بارتلز في تلك العملية … تلك العملية كما تعلم؟»

فقال صاحبنا: «كلا، لا أعلم. ومَن هو جو بارتلز هذا؟»

«أوه، كنت أظنك تعرفه؛ لكن إن كنتَ لا تعرفه فمن الأفضل ألا أبوح بالمزيد. فأنا لا أعرف مَن تكون أنت.»

«أنت لا تعرف مَن أكون. سأُخبرك إذن. أنا سبوتي بامبر، من سبيتالفيلدز، هذا هو أنا. الآن ها أنت ذا بتَّ تعرفني.»

حاولت حفْظَ اسمه في ذهني (وكانت بشرة السيد سبوتي تُشير إلى أن اسمه الأول ينطبق عليه إذ كانت كثيرة البقع)، ولا بد أن انتباهي زاغ قليلًا؛ إذ صاح زبوني فجأة: «تبًّا! ما هذا؟! لم آتِ لأحلق شَعري تمامًا. لقد أتيتُ لأقصَّ شعري.»

اعتذرتُ له وعُدت بالمحادثة إلى بولينسكي.

قال بامبر: «كان الرجل ماكرًا. كان ماكرًا أكثرَ من اللازم. لم يشبع وأراد المزيد. أراد الحصول على كل شيءٍ مقابل لا شيء. هذا هو سبب الوشاية به …» وهنا التفَت سبوتي وهو يهزُّ رأسه قائلًا: «لماذا تنظر إليَّ بهذا الشيء؟ رأسي ليس صغيرًا بهذا الشكل.»

كان «ذلك الشيء» هو عدسة كودينجتون المكبِّرة، كنت أفحص شَعر كل زبون من أجل تحديد هُويته. لكنني لم أخبر السيد بامبر بهذا الأمر. وكان تفسيري مبهمًا وملتبسًا، لكن بدا أنه اقتنع به.

وقال: «في الواقع، أنت رجل مُريب. كما أنك تتحدَّث كرجلٍ من طبقة رفيعة.» فنبَّهت نفسي إلى ذلك الأمر وعزمتُ على دراسة اللهجة المحلية. وفي خلال ذلك شرحت له قائلًا: «لم أكن حلاقًا طوال حياتي.»

أجابني سبوتي وهو يلوي رقبته لينظر إلى قفاه في المرآة وقال: «أعتقد هذا فعلًا. تبدو كمن يُطلق عليهم المرء هاويًا.» ثم وقف ونظَّف نفسه وقدَّم نصف كراون، فأخذتُ أفحصه بعنايةٍ قبل أن أُعطيه الباقي. حينها أخرجتُ من جيبي حَفنة من العملات المعدنية المُتنوِّعة، اثنين سفرن، وبضع عملات فضية وأخرى نحاسية. أنا عادةً لا أحمل نقودي مختلطة بهذه الطريقة المُهملة، لكنني تبنَّيتُ هذه العادة منذ وصولي إلى المحل لخدمة غاية محدَّدة؛ وقد وجدتُ الآن مبررًا لِما فعلت في نظرة الجشع الشديد التي أضاءت وجه سبوتي لدى رؤيته للعملات في يدي.

انتقيت الباقي من بين العملات على مهل وسلَّمته له، ووقف هو ثوانيَ قليلة كان من الواضح أنه يُفكِّر فيها تفكيرًا طويلًا. وفجأةً دسَّ يده في جيبه وقال: «أعتقد أيها السيد أنك لا تملك ورقةً نقدية بخمسة جنيهات يُمكنك أن تُعطيني إياها مقابل خمسة سفرنات؟» ثم أخرج خمسة سفرنات، فأخذتُها منه ورُحت أفحصها بعناية.

فقال سبوتي: «أوه، إنها سليمة»، بينما أنا أقلِّبها وأزنها في يدي. وكانت كذلك فعلًا.

قلت له: «أعتقد أنَّ بإمكاني إعطاءك ورقةً نقدية من فئة خمسة جنيهات إذا ما انتظرت لحظات»، وحين التفتُّ لأدخل إلى الغرفة الخلفية، جلس سبوتي في الكرسي في شيء من التباهي.

وقد واربتُ البابَ خلفي ولكن لم أُوصِده. كان هناك مصباح غازي صغير في الغرفة الخلفية وعلى ضوئه فتحتُ الخزنة، وأخرجت منها دُرجًا، وأخذت من الدُّرج حَفنة من الأوراق النقدية ورُحت أقلِّب فيها؛ فعلت كل ذلك بتمهُّل بينما عيني على المرآة المُعلَّقة فوق الخزنة. كانت المرآة تعكس الباب من خلفي. كما كانت تعكس صورتي أيضًا، لكن وحيث كان الضوء في ظهري، كان وجهي مُستترًا في الظلمة. وبمجرد أن فتحت الخزنة، انفتح ببطء وهدوء الباب من خلفي بضع بوصاتٍ وظهرت عينُ أحدهم. اخترت ورقةً من بين حَفنة الأوراق، وأعدتُ الباقي إلى الدُّرج وأغلقت الخزنة وعُدت ببطءٍ إلى الباب. وحين عاودتُ دخول المحل، كان سبوتي جالسًا في الكرسي كما تركته، وكأنه تمثال مصري منحوت من الحجر.

ليس لديَّ أدنى شكٍّ أن سبوتي بامبر قهقه من البهجة حين خرج من عندي. يروق لي هذا الرأي، وأن أرى أن السعادة كانت متبادلة. فأنا لن يفهم مشاعري سوى صياد صبور رأى بعد طول صبر غير مُثمر:
طوف صنارته أو فلينتها يغوص في الماء
مع عضات حماسية من سمك الفرخ النهري أو السمك الأبيض أو سمك الدايس.

لقد ابتلع سبوتي الطعم. سيعود ثانيةً، ولن يكون وحيدًا … أو هكذا كان رأيي على الأقل. ذلك أن فحصي العاجل لشَعره أقنعني بأنه ليس الرجل المجهول الذي أسعى في إثره؛ ورغم أنه سيُمثِّل إضافة جيدة إلى مجموعة العينات في الصندوق الطويل في المتحف، فإنني كنت مُهتمًّا أكثرَ بالرفقة التي أعتقد أنه سيُحضرها معه. وكانت الغبطة التي انتابتني إزاء هذه الزيارة الثانية شديدةً لدرجة أنني أغلقتُ المحل من فوري وأمضيتُ بقيةَ المساء أتدرَّب على استخدام المربات وعلى القفز من فوق دَرَج القبو باستخدام الحبل الكبير الذي علَّقته.

لم أنم تلك الليلة إلا قليلًا. وكإجراءٍ احترازي خاصٍّ ضد الإخفاق، تركت الباب الخلفي غيرَ مُوصَد وأحجمتُ عن غلق باب القبو الخارجي كذلك؛ غير أنَّ ذلك لم يَنتج عنه سوى أنني استيقظتُ في الواحدة صباحًا بفعل رجل شرطةٍ متطفِّل وبَّخني بشدَّة على إهمالي. بخلاف ذلك، ظللتُ وحيدًا ولم يأتِ أحد ليُبدِّد عُزلتي. ومضت الليلة الثانية بنفس الطريقة المُملة، فصرتُ منزعجًا وجزعًا؛ ولمَّا مضت الليلة الثالثة من دون ظهور إشارة على إتيان أحدِهم للزيارة، أصبحتُ مضطربًا بشدة.

كان اليوم الرابع هو يوم سبت، وفي وقتٍ متأخِّر من المساء — حيث كانت نهاية عطلة السبت — تحوَّل محلِّي إلى أرض جوشان. وقد استمتعتُ بالمحادثات التي كانت تدور بين الزبائن والتي كان مُعظمها باللغة اليديشية — والتي تظاهرتُ بأنني جاهل بها تمامًا — حتى شارف موعد الإغلاق. حينها وبينما كان المحل يفرُغ من زبائنه، بدأت آمالي ومخاوفي تعودان إلى الحياة معًا.

كنتُ على وشْك البدء في إغلاق المكان حين انفتح الباب بهدوءٍ وتسلل رجل إلى المحل. فقفز قلبي في صدري من الابتهاج. كان الرجل هو سبوتي بامبر.

ولم يكن وحيدًا. لم يكن وحيدًا على الإطلاق. إذ دلف رجُلان آخران إلى المكان بنفس الطريقة المُتسللة، وبعد أن نظر كلٌّ منهم إلى الآخر وجالوا في أرجاء المكان بأعيُنهم، نظروا جميعًا إليَّ. بالنسبة لي، رُحت أنظر إليهم باهتمامٍ عميق، خاصة إلى شَعرهم. بدَوا جميعًا وكأن عبارة «معتاد الإجرام» قد كُتِبت على وجوههم. كانوا من النوع المُمتاز باعتبارهم مادةً أنثروبولوجية.

افتتح السيد بامبر المحادثةَ بينما تتردَّد نظراته عليَّ وعلى الباب.

وقال: «اسمع، يا سيدي، لقد أتَينا من أجل شيءٍ صغير. أنت تعرف أن بولينسكي كان يقوم ببعض الأعمال؟»

أجبته: «أجل، والآن هو يقضي العقوبة.»

ردَّ سبوتي: «أعرف، لكن ينبغي بالمرء أن يقبل بالأمر حلوِه ومُرِّه. لن تكون اللقمة سائغةً دائمًا. وأنت تعرف أن بولينسكي كان شديد الحماقة.»

وقال أحد الرجُلَين الآخرَين وهو يقترب مني: «الأمر كما سأطرحه عليك الآن. أيمكنك أن تتعرَّف إلى الشيء المُزيف الذي قد يبدو مثل الشيء الأصلي لكنه ليس كذلك؟»

وحيث إنني لم أكن أملك أدنى فكرة عما يقصده ذلك الرجل، أخذت أُماطل.

فقلت له: «لم أرَ شيئًا بعد.»

فنظر الرجل خلسةً نحو الباب ثم دسَّ يده في جيبٍ داخلي وأخرج ساعةً ذهبية بها سلسلة كبيرة مربوطة بها، أراني إيَّاها للحظةٍ ثم أعادها إلى مكانها.

وقال: «هذا هو الشيء الصغير، وقبل أن تُقدِّم سعرك، يمكنك الاطلاع عليه ورؤية إن كان أصليًّا. لكن ليس في الخارج هنا كما تعلم. إننا نقوم بأعمالنا في الداخل حيث لا يمكن لشُرطي أن يرانا من النافذة.»

كشفتُ خطَّتهم في لحظة، وعمومًا وافقت عليها، وإن كان وجود ثلاثة في وقت واحد يُعَدُ أكبر مما كنت أرغب فيه. إذ سيتطلب التعامل معهم قدرًا كبيرًا من الحذر.

فقلت له: «سأدخل وأنظر إن كانت الأمور على ما يُرام»، ثم انسحبت إلى الغرفة الخلفية وأوصدت الباب من خلفي في هدوء.

بمجرد أن دخلت، أسرعت في إنجاز استعداداتي البسيطة. فبعد أن وضعت المربات في سلةٍ أسطوانية طويلة بالقُرب من باب القبو، فتحت باب القبو وعقدتُ الحبل في موضع يُمكنني منه إمساكُه بسهولة. ثم أخرجتُ من الخزانة صفيحةَ الشحم وباستخدام سكينٍ كبير نشرت طبقةً سميكة من الشحم على الدرجات الأربع العُليا من سُلَّم القبو. وبينما أنا مُنهمك فيما أقوم به، أخذت أتأمَّل خُططي بسرعة ولكن بقدْر كبير من الرِّيبةِ أيضًا. فالاحتمالات أكبر مما كان ينبغي بي القبول بها. كما أنني ليس لديَّ أدنى شكٍّ بشأنِ ما تنطوي عليه نيَّة هؤلاء الرجال. فأنا أعرف بامبر، وهو لن يُجازف بأن يترك لي فرصةً لأُبلغ عنه. ونيَّة هؤلاء الرجال كانت «القضاء عليَّ»، كما كانوا سيُعبِّرون عنها، وكان سؤالي الجوهري الآن هو: كيف يُخطِّطون للقضاء عليَّ؟ على الأرجح أنهم سيتفادون استخدامَ الأسلحة لِما تُسبِّبه من ضوضاء، لكن إن حملوا عليَّ حملةً واحدة ومعهم سكاكينهم فستكون فرصة نجاتي مُتناهية الصِّغر.

ينتابني الآن شعورٌ بأنني فاضلتُ بين هذه الاحتمالات بصورة موضوعية إلى حدٍّ كبير، وكأنني كنتُ مجرَّد مُتفرِّج. وكان هذا هو الحال بالفعل. الأمر أنني تخلَّيت عن فكرة الانتحار منذ وقتٍ طويل، لكنني ظللتُ على قيد الحياة من أجل مبدأ لا بدافع رغبةٍ شخصية مني. فكان اعتراضي على أن يُقضى عليَّ هو مجرد اعتراض نظري على قتلِ أي عضوٍ جدير بالمجتمع على يد تلك الهوام البشرية. لكن إن كانت هناك حاجة لأن يُقتَل ذلك الشخص، فإنني لا أُبالي إن كان مَن سيقع عليه الفعل هو أنا أو أي شخصٍ آخر. لم يكن لي مصلحة شخصية بالمسألة. ومن ثمَّ حين فتحتُ الباب وأشرت إلى الرجال الثلاثة ليدخلوا إلى الغرفة، لم أكن أُعاني أيَّ إحساسٍ بالعصبية أو القلق، وإن كنتُ مرتابًا من المسألة.

كانت الأفضلية التي منحني إيَّاها عدمُ انفعالي على هؤلاء الحقراء الثلاثة واضحةً للغاية حين دلفوا إلى الغرفة؛ لأنهم كانوا جميعًا يرتجفون ويختلجون لشدةِ ما بهم من انفعالٍ وإثارة. ولا عجب في ذلك. فالرجل الذي تُهمُّه حياتُه أكثرَ من أي شيء آخر على وجه هذه الأرض يُمثِّل له دخولُه حجرةَ المقصلة مشكلةً كبيرة. وبمجرد أن دخل ثلاثتُهم، قام أحدهم، وكان قريبَ الشبَه إلى كونه يهوديًّا بولنديًّا، فأوصد الباب؛ ثم اجتمعوا من حولي وكأنهم قطيعُ ضباع.

تراجعتُ أنا نحو الزاوية بالقُرب من باب القبو، وكنتُ أتحدَّث إلى ثلاثتهم واحدًا تلوَ الآخر أثناء تراجُعي؛ ثم تقدَّم اليهودي على طول الجدار شيئًا فشيئًا ليأتيَ خلفي. فأدركتُ أن عليَّ أن أنتبِه إلى هذا الرجل، ورحتُ أرقبه؛ لم أكن أنظر إليه، بل جعلته في هامش مجال رؤيتي. إذ، كما هو معروف، المنطقة المُحيطة بشبكية العين شديدة الحساسية إلى انطباعات الحركة وإن كانت بليدةً تجاه انطباعات الشكل.

وقد مثَّلت تعليقاتي عن الخطورة التي ينطوي عليها تعامُل الرجال المحترمين مع الأشياء المسروقة إشارةَ بدءِ السيد بامبر بالكلام.

فزمجر الرجل قائلًا: «أشياء مسروقة. مَن قال شيئًا عن وجود أشياء مسروقة؟ ماذا تقصد أيها الحلَّاق اللعين!» ثم تقدَّم نحوي متوعدًا وذقنه ممدَّد نحو الأمام وعلى وجهه أمارات عبوس شديد.

في اللحظات القليلة التالية، حصدتُ ثمارَ تدريباتي الشاقَّة في صالة الألعاب الرياضية على فنون الجوجتسو والملاكمة بالأسلوب الفرنسي. كان تقدُّم بامبر بمثابة الإشارة بالنسبة لي. وكنتُ قد رأيت يد اليهودي تنسلُّ تحت ذيل سُترته. ثم أتى على حركة سريعة — وكذلك فعلتُ أنا. إذ التفتُّ بحركةٍ خاطفة ورشيقة وأمسكت بمعصمِه بطريقةٍ تسبِّب خلْعَ مِفصل مرفقه، وبينما أستدير، ضربتُ صدر سبوتي بامبر برجلي ضربةً في غاية العُنف. أدهشتهم جميعًا حركاتي السريعة. صرخ اليهودي وألقى بالسكين، وأخذ يترنَّح بشدة على باب القبو الذي عاد إلى وضعه بفعل مفصَّلاته المزيَّتة جيدًا. وقد طار بامبر نحو الخلف وكأنه كرة قدم مركولة، وبينما هو يتَّجه نحو الرجل الثالث مثل كرة مدفع، اصطدم كلاهما بالآخر وهوى كلٌّ منهما على الأرض. فدفعتُ اليهودي عبْر الباب المفتوح، وأطلقتُ معصمه، ثم تبِع ذلك صوت انزلاق مصدره سُلَّم القبو وانتهى بصوت سقوطٍ خفيض.

لقد تغيَّر الموقف تمامًا في تلك اللحظات القليلة. عرفت أن اليهودي أصبح مستبعدًا من القتال، وأصبحت الاحتمالات الآن معقولة. فبالنسبة للرجُلَين الآخرين، ومع أنهما وقفا بسرعةٍ على أقدامهما مرةً أخرى، فإنهما ظلَّا على مسافة منِّي، وكان بامبر بصفةٍ خاصة يُعاني بعضَ الصعوبة في التنفُّس. فأمسكتُ بالمربات ووقفت مواجهًا لهما. ولو كنت سريعًا بما يكفي، لأجهزتُ عليهما من دون أن أجد صعوبة. لكنني لم أفعل. إذ أدركتُ مرةً أخرى تلك الحالة الذهنية الفريدة التي أشرتُ إليها في مواضعَ أخرى والتي تنتابني في وجود مُجرِمَين عنيفَين؛ المتعة القوية التي أجدها في العراك الجسدي، والتي لا أستطيع فهمُها تمامًا حين أكون في حالتي الذهنية الطبيعية. اندفع الدم في أرجاء دماغي بفعل تلك المُتعة القوية حتى أخذت أذناي تطنَّان؛ ومع ذلك ظللتُ محافظًا على رباطة جأشي، فكنتُ منتبهًا ومتيقظًا وهادئًا.

ومن ثمَّ، حين حاول المُجرم الثالث أن يجريَ نحوي ومعه سكين كبير له غمد، طرحتُ يدَه جانبًا باستخدام المربات وأخرجته من نطاق حركاتي بضربة قوية من قبضتي اليسرى. لكن في تلك اللحظة لاحظتُ بامبر يحاول باهتياجٍ أن يسحب شيئًا من جيبه الخلفي؛ شيئًا لم يكن سكينًا بالتأكيد. وكان الوقت قد حان لتغيير الأسلوب. فقبل أن يتمكَّن النذل الثالث من الاقتراب مني ثانيةً، انطلقت كالسهم نحو الباب المفتوح وأمسكتُ بالحبل، وفي لحظةٍ كنت أتأرجح فوق الدَّرج ونزلت إلى ظلمة القبو.

أثناء تأرجُحي كنت قد درتُ نصف دورة حول نفسي، وبينما أنا أنزل، رأيت الرجل وهو مُمسك بسكينٍ في يده وقد أتى عبر الباب يُطاردني. كان أكثر شجاعةً من سبوتي، لكنه كان أقلَّ منه حكمة. ففي أثناء فورة المطاردة، اندفع الرجل من فوق العتبة على الدرجة العُليا الزلِقة، وفي لحظةٍ كان يتهاوى على الدَّرج وكأنه جوال بطاطس مقلوب. سقط الرجل على اليهودي المُمدَّد، وبينما هو يقوم ويُعدِّل نفسه وكان مذهولًا مما حدث له، هويتُ بضربةٍ بالمِربات على رأسه مع الأسف. كانت نهاية قتالي معه فاترة، لكن كان لا يزال هناك مُسدس بامبر الدوَّار الذي عليَّ التعامل معه.

لكي أكون منصفًا بشأن السيد بامبر، لم يكن الرجل متهورًا. في الواقع، كان الرجل متواريًا عن الأنظار حتى إنني بدأتُ أخشى أن يكون قد هرب، وحيث لم يكن من الأمان أن أذهب نحو الأعلى وأتحقَّق بنفسي، بدأتُ أتظاهر ببعض الأشياء التي من شأنها أن تُشجِّعه على الخروج.

رحتُ أصيح: «أوه! اتركني! اترك يديَّ وإلا سأتصل بالشرطة!»

وكان لهذا التظاهر التأثير المرغوب. إذ ظهر سبوتي بامبر عند الباب الذي كان مضاءً بإضاءة خافتة، يحمل مُسدسه مصوَّبًا ويُحدِّق بحذَر في الظلمة.

عاودت التظاهُر، ثم انسحبت إلى أظلم الزوايا وأخذت أعبثُ بالأرضية المصنوعة من الطوب مُحدِثًا جلبة.

فتساءل بامبر المُحتاط قائلًا: «هل أمسكتَ به يا ألف؟» وكان يميل نحو الأمام ويخطو فوق العتبة. ظللتُ أتظاهر وأزيد من الضوضاء في زاويتي وأخذتُ أصنع أصواتَ نخرٍ ولُهاث وأنا أصيح: «أقول لك دعني!» «أها! هل تستطيع الإفلات؟» ونحو ذلك. فتقدَّم بامبر خطوةً أخرى نحو الأمام ومدَّ عنقه ونادى يقول: «أرسِله إلى هنا يا ألف حتى أستطيع أن …»

ولم يكمل الرجل جملته. كنت أراه وقد طارت ساقُه فجأة من تحته، ثم وقع المسدس الدوَّار مُحدثًا قرقعةً على الأرض، وبعد أن سقط سبوتي نصف الدَّرج، هوى على حافة الأرضية المرصوفة بالطوب.

وبينما هو ينهض ويتنفَّس بصعوبة، وضعتُ المِربات في الجيب الكبير لمئزري وقفزت عليه. صاح الرجل صيحةَ ذُعر وأخذ يكافح كالمجنون ليُحرِّر نفسَه من قبضتي، في حين اقتدتُه بعيدًا عن المسدس الذي يُمثِّل خطرًا كبيرًا. في البداية كان به من القوة ما مكَّنه من القتال معي لبعض الوقت، ثم وبينما نحن ندور في أرجاء القبو، يجرُّ بعضنا بعضًا ونتدافع ونتراكل ونتصارع، وجدتُ أن ذلك العراك العضلي القاسي مُبهجٌ بدرجةٍ غريبة. من الواضح أن هناك بعض الوجاهة في فكرة «الحياة البسيطة» الموجودة في المُجتمعات البدائية التي يكون فيها كل رجلٍ هو المسئول عن حماية نفسه والدفاع عن حقوقه.

لكن نوبة التحفيز الجسدية هذه انتهت فجأةً. إذ سرعان ما انتهى بنا الحال بالقُرب من سفح السُّلم، وهنا تعثَّر سبوتي في جثة الرجل الثالث المُنبطح على الأرض. فتهاوى نحو الخلف بضعَ خطوات وأطلق صيحةً قوية، ثم وقعْنا معًا فوق الرجل اليهودي. فأجهز هذا الأمر على ما به من قوة. لقد انهارت أعصابه وأصبح مذعورًا بصورةٍ مُطلقة لمَّا رأى الجُثتَين الهامدتَين. توقَّف الرجل عن القتال وأخذ ينشج طالبًا الرحمة.

لم يكن الأمر سارًّا. فما دام القتال حاميًا ومُتقدًا، كذلك بقي دمي حاميًا بفعل الغرائز المُنتعشة من الأسلاف البدائيِّين المَنسيِّين منذ فترة طويلةٍ. لكن ومع أول صيحةٍ طلبًا للرحمة، خبا كل انتعاشي وابتهاجي وبدأتِ المشاعر المُتحضِّرة تُعلن عن وجودها. سأخسر لو تردَّدت. شعرت مع كل غمغمةٍ بائسة منه بأنني أصير أضعف. كان ثمة شيء واحد فقط عليَّ أن أفعله، وقد فعلته — باستخدام المربات.

يتَّسم الوصف بالكلمات بالبطء في مقابل الحركة في الوقت الفعلي. حيث لم يستغرق كلُّ ما وصفته لك من أحداث إلا دقائق قليلة. وحين فتحت باب الغرفة الخلفية ووجدتُ عامل حفر يغلب على شكله النُّعاس وينتظر ليحلق ذقنه، أدركت باندهاش كبير كم كان مقتضبًا وسريعًا ما حدث.

قلتُ وأنا أتوق لأن أعرف إن كان الرجل قد سمِع أيَّ شيءٍ غير اعتيادي: «آمُل أنك لم تنتظر طويلًا.»

فأجاب الرجل: «كلَّا، لقد دلفتُ لتوي. لم أكن أتوقَّع أن أجد أبوابك مفتوحة.»

وجلس الرجل على الكرسي وأكثرتُ أنا من الرغوة على وجهه، فصرتُ أستمتع بالتعامُل مع تلك الرغوة النظيفة. وقد أدهشتني حماقة زُوَّاري الراحلِين أنهم تركوا باب المحل مفتوحًا، وتبيَّن لي مجددًا كم يتحلى العقل الإجرامي بالضَّعف. كانوا قد افترضوا أن الأمر كلَّه سينتهي في لحظات، ولم يتَّخذوا أيَّ تدابير وقائية تجاه ما هو غير مُحتَمل. هؤلاء هم «معتادو الإجرام» الذين لا تستطيع آلة القانون المُكلَّفة التعاطي معهم! لا ريب أن هناك حمقى طيبين كُثرًا إلى جوار الحمقى المُحتالين!

أغلقتُ المحل بعد أن رحل زبوني، واستغرقت وقتًا في الاستحمام وتناوُلِ وجبة عشاء كبيرة. إذ إن أمامي الكثير من العمل الذي ينبغي أن أُنجزه قبل أن أخلد إلى الفراش. كان لدي ستة براميل ذات حجمٍ مناسب، كان اثنان منها على شكل براميل مكتملة والبقية على شكل ألواحٍ وأطواق. كان ينبغي أن أصنع من تلك الألواح والأطواق برميلًا واحدًا على الفور، حيث من الضروري أن تجري تعبئة العيِّنات قبل أن يُصيبها «تصلُّب الموت» فيُصبح من الصعب التعامُل معها. ومن ثمَّ، انكفأت على العمل بعد تناول العشاء باستخدام المِطرقة والأداة العريضة الشبيهة بالإزميل التي يُدفع بها الطوق، ولم أتوقَّف حتى تحولَتْ حُزمة الألواح إلى برميلٍ مكتمل باستثناء الطوق العلوي ورأس البرميل.

كنتُ أتقدَّم في العمل بصورة منهجية. فصببتُ في أحد البراميل ربع جالون من الماء ورحتُ أبلل الجزء الداخلي منه جيدًا، وذلك من أجل أن ينتفخَ الخشب فتُسدَّ جميع الثغرات. ثم وضعت فيه اليهودي، في وضعية جلوس، وشعرتُ بالارتياح لمَّا رأيت أن العينة تشغل حيزها بصورةٍ جيدة. لكن عقبة صغيرة أعلنت عن نفسها هنا. إن مركز جاذبية البرميل المملوء بمادة مُتجانسة يتطابق مع مركزه الهندسي. أمَّا البرميل الذي يحوي يهوديًّا قتيلًا، فإن مركز الجاذبية سيكون مختلفَ المركز. هذا البرميل لن يتدحرج بصورةٍ متماثلة؛ ويمكن لهذا الأمر أن يؤدي إلى فتح تحقيق. رغم ذلك، كان الحل بسيطًا. كان صاحب المحل السابق معتادًا أن يُغطيَ أرضية المحل بنشارة الخشب، وقد قادتني عادات زبائني الغريبة إلى الاستمرار في تلك المُمارسة. كان ثمة سلة كبيرة في زاوية من القبو، وكان ما بها يُمثِّل وسيلةً لإكساب محتويات البرميل تماثلًا مصطنعًا. فعبَّأت كمية من نشارة الخشب حول العينة، ووضعتُ غطاء البرميل وأنهيت التعبئة عبر ثقب السدادة. ولمَّا وضعت السدادة في مكانها، جرَّبت دحرجة البرميل على أرضية القبو ووجدت أنه يتحرك من دون شذوذ ملحوظ في حركته.

كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل حين انتهيتُ من العمل وأصبحت البراميل الثلاثة جاهزة للنقل. وبعد استحمامٍ طويل آخر، ذهبتُ إلى الفِراش، وبفضل العمل الجسدي الشاق حظيتُ بنومٍ هانئ.

في اليوم التالي كان هناك بعض التأخير لأنه يوم الأحد، حيث سيكون من الحماقة لفتُ الانتباه عن طريق دحرجة البراميل في الشارع في حين أنَّ الناس كلهم في إجازة وراحة. رغم ذلك، عرَّجتُ على منزلي في بلومزبيري وأوعزت إلى الرقيب الأول أن بعض الطرود قد تكون في طريقها للوصول في اليوم التالي. وأضفت: «وعلى الأرجح أنني سأكون في المُختبر أُنجز بعضَ الأعمال يوم غد، فإذا سمعتني أتحرَّك في الأرجاء فاعلم أنه أنا وأنَّ كل شيءٍ على ما يُرام.»

لمس الحارس قبَّعته — وكان دائمًا ما يرتدي قبعةً في داخل المنزل — من دون أن ينطِق بكلمة. كان الرجل أقلَّ مَن رأيت في حياتي كلامًا وفضولًا.

وحين تجوَّلتُ قليلًا في أرجاء المختبر وقمتُ ببعض التجهيزات، رحلت بعد أن خرجتُ من مدخل المتحف. أردتُ من ذلك أيضًا أن يعتاد الحارس على هذه الزيارات والاختفاءات العرَضية غير المُعلن عنها. ثم رجعت إلى وايتشابل في سيرٍ بطيء وأنا أتأمَّل خُططي لنقل البراميل. في البداية كنتُ قد فكَّرت في أخذها إلى مكتب تسلُّم بضائع بيكفورد. لكن كان الأمر ينطوي على بعض الخطر، وإن كان يُعَدُّ بعيدَ الاحتمال. فإذا ما سقط أحد البراميل بطريق الخطأ، لا شك أنه سينفتح، ثم … لم أكن أعارض أن أُقتَل بصفةٍ خاصة، لكنني كنتُ أعارض بشدة أن أُرسَل إلى مستشفى برودمور للأمراض العقلية. لذا قرَّرتُ أن أنقلها بنفسي بمساعدة عربة البنَّاء التي كنتُ قد سمحتُ لمالك المكان بالإبقاء عليها في باحتي. لكن هذه الخطة كانت تشتمل على التنكُّر بشكلٍ ما؛ سيكون كافيًا لو تنكَّرتُ بشكلٍ طفيف؛ لأنَّ الهدف من التنكُّر هو مجرَّد منع الغرباء من التعرُّف عليَّ عرَضًا.

والآن، كنت قد وجدتُ بين حاجات بولينسكي السابقِ عليَّ مجموعةً من مساحيق الألوان والطلاءات الشحمية ومعجون للشَّعر ومادة صمغية كحولية وموادَّ أخرى سلَّطت الشكوك على طبيعة نشاطاته. ولدى عودتي إلى المحل أجريتُ بعضَ الاختبارات باستخدام تلك المواد وذُهلت لمَّا وجدت أن تعبيرات الوجه تعتمِد على علاماتٍ فارقة بسيطة. على سبيل المثال، اكتشفتُ أنَّ وضْع شريط لاصق من الحرير على منتصف الجبهة — بحيث يمكن إخفاؤه تحت القبَّعة — والمستخدم في إخفاء الهالات وعيوب البشرة يُغيِّر زاوية الحواجب ويُغيِّر تعبيرات الوجه تمامًا، وأن لمسة خفيفة من اللون الأرجواني على الأنف من شأنها أن تغيِّر من ملامح الوجه كليًّا. كان هذا الأمر مثيرًا للاهتمام بحق؛ وحيث كان يساعدني على التخلُّص من مشكلة واحدة فقط، ترك لي وقتًا لتأمُّل بقية خُططي، وقد ظللتُ على هذا الحال حتى توقَّعت كل أمر طارئ وأعددتُ له.

وفي وقتٍ مبكر من صباح يوم الإثنين خرجت واشتريت أربعة ألواح تحميل خشبية قوية — اثنين طويلَين واثنين قصيرَين — ولفَّة حبل، ورافعة مكوَّنة من بكرتَين تُعرف في أوساط البحارة باسم «هاندي بيلي»، وزوجًا من مقابض البراميل. وباستخدام الألواح الخشبية والحبل صنعتُ مزلجتَين للبراميل، فاستخدمتُ المزلجة الطويلة في القبو والقصيرة في تحميل البراميل على عربة اليد. وبعد أن وضعتُ المزلجة الطويلة في مكانها، زيَّتُّها بالزيت وعلَّقت الرافعة فوق طرَفها العلوي، وأضفت المقابض إلى البراميل وسرعان ما رفعتُ البراميل الثلاثة وأصبحَتْ جاهزةً في الممر الذي يفضي إلى الفناء الخلفي. وبمساعدة المِزلجة القصيرة والرافعة، وضعتُها على عربة اليد وثبَّتُّها بإحكامٍ في مكانها باستخدام الحبل القوي ثم تخلَّصت من المزلجة والرافعة وأصبحتُ مستعدًّا للانطلاق. ثم دلفت إلى المحل ووضعت الشريط اللاصق اللازم على جبهتي ودهنتُ أنفي قليلًا، وبعد أن وضعتُ في جيبي قطعةً من الشريط اللاصق وفرشاة الطلاء، ارتديت أكثرَ معاطفي رثاثةً ووشاحًا على رقبتي واعتمرت قبَّعتي وضغطتها على رأسي حتى تُغطِّي الشريط اللاصق على جبهتي. ثم خرجت وأنا أدفع العربة في الزقاق، وبعد ذلك أوصدت البوابة الخلفية وانطلقت في رحلتي.

سرتُ عبْر الشوارع المزدحمة وأنا أجر العربة من خلفي، فانطلقتُ نحو الغرب متفاديًا الشوارعَ الرئيسية وما بها من زحامٍ كبير، وذلك حتى وجدتُ نفسي في طريق ثيوبالد عند نهاية شارع ريد ليون. هنا بدأت أنظر في الأرجاء بحثًا عن مَن يمكن أن ينوبني في هذا العمل؛ وسرعان ما وقعَت عيني على رجلٍ قوي البِنية كان مغتمًّا ويتَّكِئ على عمودٍ ويحاول تدخينَ غليون فارغ. كان من الواضح أن الرَّجُل ليس من معتادي التسكُّع في الشوارع. اعتقدتُ أنه عاملٌ لا يجد عملًا، ولما وجدتُ أنه سيخدم أغراضي ناديتُ عليه.

«أتريد عملًا يا أخي؟»

انتبه الرجل من فوره. «ألديك عمل يا أخي. أنا أريد عملًا. ما المهمة؟»

«أن تجرَّ هذه العربة حتى المنزل رقم ٦أ بشارع بلومزبيري وتُوصِّل البراميل.»

فكان سؤاله الحتمي: «كم ستدفع؟»

«سيُعطيك صاحب المهمة نصف كراون إذا ما طلبتَه منه.»

«وبكم سأحتفظ أنا من ذلك؟»

«أوه، لن نختلف بشأن هذا. عليَّ القيام بمهمة أخرى وإلا لكنتُ سأوصلها بنفسي. قم أنت بتوصيل البراميل … وكن حريصًا عليها. فهي مُمتلئة بالمستحضرات الكيميائية الثمينة … ولاقِني هنا عند العاشرة وسأوكل لك عملًا آخر. هل كل شيء واضح لك؟»

وضع صاحبنا الغليون في جيبه وتفل في يدِه. وقال: «أعطني تلك العربة»؛ وحين سلَّمته عمود الجر، انطلق بوتيرةٍ جعلتني سعيدًا أنني ربطتُ البراميل بحبلٍ قوي.

تركت الرجل يتقدَّم الطريق ثم تبِعته بعدها بحذَرٍ من مسافةٍ، وجعلت الرجل نصب عينيَّ حتى صار ضمن نطاق بضع مئات من الياردات من منزلي. ثم انطلقت بسرعة في منعطف جانبي، واتخذت طريقًا مختصرًا عبْر أحد الميادين، ولما وصلتُ إلى مدخل المتحف دلفتُ إليه باستخدام مفتاح قُفل ييل.

لم أستغرق سوى دقيقةٍ واحدة في إزالة قبَّعتي ومعطفي الطويل وكنزتي وإزالة الشريط اللاصق وغسل أنفي. وكنت قد جهَّزت مئزرَ العمل في المختبر وقلنسوة ضيقة مصنوعة من القطيفة ونظارة، وما كدتُ أرتديها جميعًا وأتقمَّص جِديَّة تنمُّ عن الولع بالدراسة حتى دقَّ الجرس. نظرت في مرآةٍ صغيرة معلَّقة على الحائط فشعرت بالارتياح من التغيُّر الجذري في مظهري وخرجتُ إليه بكل ثقةٍ وفتحت باب الشارع. كان الرجل يقف على عتبة الباب ولامس قبَّعته في توتُّر وهو يُطالع وجهي الجاد.

ثم سأل قائلًا: «أهذه البراميل تخصُّك يا سيدي؟»

أجبته بنبرة عميقة مُنمَّقة: «نعم، سأساعدك في إدخالها.»

أحضرنا العربة إلى الرصيف ووضعنا عمودَ القيادة على العتبة، وثبَتُّ أنا المزلجة في المكان المناسب بينما حلَّ مساعدي وثاق البراميل. وفي غضون دقائق قليلة كنا قد أنزلنا البراميل على المزلجة ورأيتها وهي في مكانٍ آمن في الرُّواق فشعرت بالارتياح. لقد انتهَت أخيرًا صعوبات النقل ومخاطره.

أعطيتُ لمساعدي نصف الكراون الذي طلبه على استحياء، وزدتُه شلنًا «لأجل الجِعة» ثم ذهب الرجل في سبيله جذِلًا. بعدها عُدت إلى المُختبر ولصقتُ شريطًا جديدًا ودهنت قليلًا من الطلاء الزيتي على أنفي وعاودتُ ارتداء ملابسي الرثَّة. وحين خرجت إلى الشارع كانت العربة قد اختفت بالفعل، فأصبحتُ في حِلٍّ لأن أذهب إلى اللقاء مع الرجل من دون أن يُلاحظني أحد، وسرعان ما قابلت صاحبنا، ثم استعدتُ العربة بعد أن أكرمته بشلنٍ آخر.

لدى وصولي عند المحل في وايتشابل، ثبتُّ رسالة على النافذة تفيد بأنني «متغيب للقيام ببعض الأعمال». ثم ارتديتُ ثيابًا لائقة وأفرغت محتويات الخزنة في حقيبة يدٍ ووضعت فيها أيضًا الإزميل، وأوصدتُ المكان وانطلقتُ إلى محطة ألدجيت. كانت غايتي الأولى هي متجر السيد هامرستاين، تاجر العظام، الذي ابتعت منه ثلاثة هياكل عظمية بشرية مُنسَّقة وحصلتُ على الفواتير المدفوعة الشديدة الأهمية؛ وبعد أن اتخذتُ كلَّ التدابير الاحترازية التي تُمليها عليَّ الحصافة والبصيرة، ذهبت إلى منزل بلومزبيري، ودلفتُ من باب المتحف ودحرجتُ البراميل إلى داخل المختبر وشرعت في تفريغ العينات.

ظللتُ منشغلًا بإتمام العمليات المبدئية حتى ساعة متأخرة جدًّا من الليل، أما بالنسبة للإجراءات النهائية فقد ظللتُ مشغولًا بها طَوال شهر؛ في تلك الأثناء كنت أعمل في محل الحلاقة طوال النهار وحتى الساعة التاسعة ليلًا، مُخصصًا وقت العمل في المختبر للاسترخاء بعد يومٍ من العمل المبتذل وغير المُمتع.

حين نظرتُ إلى الواقعة برُمَّتها، وجدتُها ناجحةً للغاية ومُثيرة كثيرًا للرضا — عدا شيءٍ واحد فقط. لم تكن أيُّ عينة من العينات تملك شَعرًا حلقيًّا. كانت هذه العينات الكاملة في نهاية المطاف مجرَّد نواتج فرعية لمَسعاي. وكان النذل الذي أسعى إليه لا يزال طليقًا ومجهولًا. كانت مجموعتي لا تزال تفتقِر إلى الجوهرة المُتمِّمة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤