أثرُ الأفعى
إلى الآن وفي عرضي لأرشيف المتحف الخاص بهامفري تشالونر، أخذت المُدخَلات بترتيبها، ولم أحذف إلا التفاصيل التقنية التي قد لا تكون ملائمة للقارئ العادي. أما الآن، فإنني سأتجاوز عددًا من المدخلات. فعملية الحصول على العينات أرقام ٧ و٨ و٩ تُظهِر الطرائق التي اتَّبعها تشالونر والتزم بها في العموم أثناء فترة إقامته الطويلة في شرق لندن؛ ورغم أن هناك بعض الاختلافات العرَضية، فإنَّ قصص عمليات الحصول على هذه العينات متشابهةٌ بوجهٍ عام ممَّا يجعل إعادة سردها أمرًا مضجرًا ومُملًّا. أمَّا المدخل قبل الأخير، على الجانب الآخر، فهو من بين أكثرها إثارةً للفضول والاهتمام. وبغضِّ النظر عن الأحداث المُثيرة التي يسجِّلها، فإنَّ الضوء الجديد الذي يجري تسليطُه من خلاله على هذا اللغز الذي لم يجد حلًّا حتى الآن يجعله جديرًا بسرده كله — وهو الأمر الذي سأفعله الآن — مع مراعاة عمليات الحذف اللازمة التي أشرتُ إليها أعلاه.
«الأحداث المرتبطة بحيازة العيِّنتَين رقمَي ٢٣ و٢٤ في السلسلة الأنثروبولوجية.
في محل الحلاقة الصغير الخاص بي في شارع سول بوايتشابل، كان الوقت يمرُّ عليَّ — كما بدا لي — بسرعاتٍ مختلفة. في بعض الأحيان، كانت نبضات قلبي تتسارع ودمائي تسير بسرعة في عروقي. يحدُث هذا في الأوقات التي يكون لديَّ فيها زوَّار؛ وما لبثتُ أن أضفت هيكلًا عظميًّا جديدًا أو هيكلَين إلى صندوقي الطويل في المتحف. لكن كان ثمَّة فترات طويلة من العمل المُمل والسكون المُضجر حين أقص الشَّعر — وأفحصه من خلال عدستي — يومًا تلوَ الآخر وأنا أتساءل — بشأن اختياري للحياة عوضًا عن الانتقال طواعيةً إلى استراحةٍ أبدية — إن كنت قد اخترت الخيار الأفضل في نهاية المطاف. لأنه وفي غضون كل تلك السنوات الطويلة، لم يأتني زبون واحد له شَعر حلقي. بدا أنَّ هذه المطاردة الطويلة لا تُقرِّبني من ذلك الصعلوك المجهول، قاتل زوجتي الحبيبة. كان لا يزال مُتواريًا عني بين تلك الجموع القذرة التي تموج بالأرجاء؛ أو ربما أن قبرًا بائسًا أصبح بالفعل ملاذًا أبديًّا له، تاركًا إيَّاي في مطاردةٍ متعبة ومضجرة لشبح عدوِّي.
إنني أخرج عن الموضوع. هذا السجل ليس تسجيلًا لمشاعري، بل هو تأريخ لمحتويات متحفي. دعنا نتناول العينتَين ٢٣ و٢٤ والملابسات البارزة للغاية التي حالفَني الحظ في ظلِّها للحصول عليهما. لكن أولًا، ينبغي لي أن أسرد واقعةً لم تتبيَّن أهميتها إلا ببروز هذه المناسبة، رغم أن هذه الواقعة حدثت قبل وقتٍ طويل.
ذات ظهيرة تُشجِّع على النُّعاس أتى إلى محلي رجلٌ ضئيل له مظهر رث، كان الرجل هادئًا ودمثًا، لكن مُحيَّاه كان جامدًا كالخشب، وكان هذا أمرًا غريبًا بصورةٍ خاصة؛ باختصار، كان الرجل نموذجًا لمن يُطلَق عليهم «معتادو السجون». عرفت نوعيةَ الرجل من أول لمحة؛ إذ أصبحت «ملامح مسجون الأشغال الشاقة» ظاهرةً مألوفة لي. قال الرجل إنه يريد حلاقةَ ذقنه وتغيير تسريحة شَعره الرسمية بدرجةٍ مفرطة إلى تسريحةٍ أقلَّ بروزًا؛ وبينما كنتُ أقوم بعملي كان الرجل يتحدَّث على نحوٍ ودود.
قال الرجل: «لقد رأيتُ بولينسكي قبل أسبوع أو اثنَين.»
فقلت متسائلًا: «رأيته حقًّا؟»
«أجل. في سجن بورتلاند. لقد وقع في مشكلة كبيرة. حاول أن يذهب إلى المستوصف لكنه لم يتمكن من ذلك. (قد تحتاج إلى معرفة أن «المستوصف» هو عيادة السجن.) أدركوا أنه يتمارَض. هذا هو أسلوب أولئك الأجانب الملاعين.»
«لم يستطِع خداع الطبيب إذن؟»
«كلَّا، لم يستطِع! لقد رأى الطبيب هذا النوع من الرجال من قبل. قال بولينسكي إنه يُعاني ألمًا في مَعدته، فقال الطبيب لا بد أن هذا بسبب حميَّتِه الغذائية الغنيَّة بالطعام، فقلَّل نصف حصته منه. صدِّقني، كان بولينسكي نادمًا على أنه تحدَّث.»
هنا، ولما أظهر زبوني رغبةً في الابتسام، أزحتُ شفرة الحلاقة لأسمح له بفعل ذلك. ثم استطرد هو قائلًا:
«أعرف هذا المنزل منذ سنواتٍ طويلة، قبل أن يأتي بولينسكي إليه، حين كان دردلر العجوز يملكه. اعتاد دردلر القيام بأنشطته في الطابق الثاني، وكنت أنا واثنان آخران من الصِّبية نعمل لصالحه — كنا نُخبِّئ البضائع المُزيفة كما تعلم. كان دردلر رجلًا ماكرًا وفذًّا بحق. كان هو مَن صنع ذلك الباب المنزلق في الجدار في واجهة الطابق الثاني.»
وهنا انتبهتُ بشدة لحديثه هذا. «باب منزلق؟ في هذا المنزل؟»
فصاح زبوني: «يا للعجب! أتريد أن تقول لي إنك لا تعرف بأمر هذا الباب؟»
أكدتُ بشدة للرجل بأنني لم أسمع به من قبل.
فغمغم قائلًا: «لا بأس، لا بأس. هذا الباب نافع جدًّا. اعتاد دردلر أن يحتفظ بأشكال تصميماته وبقية أشيائه بالأعلى، ثم وحين تكون هناك حملةٌ من رجال الشرطة، كان يُمررها عبْر الباب إلى المنزل المجاور — كانت السيدة جاكوب تستأجر الغرفة بالمنزل المجاور — ثم تأتي الشرطة ويُفتِّشون المكان، لكنهم بالطبع لا يجدون شيئًا. كان الباب يُمثِّل طريقةً منتظمة لخداع الشرطة. ويكون نافعًا أيضًا حين تكون مطاردًا. إذ يُمكنك اجتيازُ المحل وصعود الطابق الثاني وتجاوز الباب ثم تهبط الدَّرج بالمنزل المجاور وتخرج إلى الشارع عبْر الباحة الخلفية. لقد فعلتها بنفسي. مَن يستأجر واجهة الطابق الثاني الآن؟»
أجبته: «أنا. أنا أستأجر المنزل بأكمله.»
صاح صاحبنا الذي عرفت أنَّ اسمه تاولر: «بحق السماء! أنت ميسور الحال كثيرًا. أتريدني أن أريك هذا الباب؟»
عبَّرتُ عن سروري كثيرًا بذلك، ومن ثمَّ حين انتهَينا من الحلاقة والتشذيب، وخبَّأت أنا عينةً من شَعر السيد تاولر من أجل فحصها لاحقًا، صعدنا إلى واجهة الطابق الثاني وأراني هو الباب الخفي.
«إنه في هذا الدولاب، تحت صفِّ المشاجِب هذا. هذا المِشجب الجانبي هو المقبض. تمسك به هكذا، ثم تسحبه جهة اليمين.» كان فِعله يُساير قوله، وقد انزلق الثلث الأوسط من ظهر الدولاب نحو اليمين محدثًا صريرًا مرتفعًا، فظهرت فتحةٌ مربَّعة أبعادها قرابة ثلاث أقدام، خلفها كان ثمة لوح صلب المظهر به مِقبض صغير على الجانب الأيسر منه.
همس تاولر قائلًا: «هذا هو الجزء الخلفي من دولاب في المنزل المجاور. لو سحبت هذا المقبض نحو اليمين، فسينزلق الباب مثلما انزلق هذا. لكنني أعتقد أن هناك أحدًا في الغرفة المجاورة.»
كافأت السيد تاولر بنصف سفرن، وقد عدَّ هذا جُودًا كبيرًا من جانبي، ثم رحل وهو جذِل. بعد ذلك بفترةٍ قصيرة عرفت أنه «قُبض عليه ويقضي عقوبة» لعلاقته ﺑ «عملية» وقعت في كامبرويل؛ ثم اختفى الرجل تمامًا. لكنني لم أنسَ أمرَ الباب الجرَّار. لم يكن هناك استخدامٌ بعينِه يلوح أمامي، لكن الإمكانات التي يُمثِّلها الباب كانت واضحةً جدًّا حتى إنني قرَّرتُ أن أُبقيَ انتباهي الشديد على واجهة الطابق الثاني للمنزل المجاور.
ولم أُضطر إلى الانتظار كثيرًا. إذ سرعان ما أصبح الطابق بأكمله معروضًا للإيجار بفعل بطاقة عُلِّقت على الباب الأمامي، واستغللتُ أنا فرصةَ هدوء يوم الأحد لأستكشف المكان وأقوم بالترتيبات اللازمة. فتحتُ الباب المُنزلِق من جهتي ثم سحبتُ المقبض الثاني وفتحت الباب الآخر. أحدث كِلا البابَين صوتًا مرتفعًا لدى انزلاقهما وكانا يتطلَّبان رعايةً متأنِّية. دلفتُ عبْر الفتحة المربَّعة إلى الغرفة الخالية ونظرتُ في أرجائها، لكن لم يكن هناك الكثير، وإن كان المكان يعجُّ بالكثير من الروائح، ذلك أن النوافذ كانت مُغلقة بإحكام وفي مكان المدفأة كان ثمَّة موقد مُغلق يمنع أي إمكانية للتهوية. كان المكان لا يزال يعبق برائحة المستأجرِين السابقِين.
عدتُ من خلال الفتحة وشرعتُ في عملي. في البداية، نظَّفت بفرشاة خشنة حزوزَ البابَين من الأعلى ومن الأسفل. ثم طليتُ كلَّ حزٍّ بطبقةٍ سميكة من الطلاء المُكوَّن من الشحم والرصاص الأسود بعد أن خلطتُهما معًا وسخَّنتهما. وبتحريك الألواح للأمام والخلف مراتٍ كثيرة، توزَّع المُزلِّق وأصبح الرصاص الأسود يلمع حتى إنَّ الأبواب صارت تنزلق من دون أي صوت وبسهولة تامة. وكنتُ راضيًا بالنتيجة التي وصلت إليها حتى إنني فكَّرتُ في استئجار الغرفة بالمنزل المجاور، لكن قد يتسبَّب هذا في إثارة الشكوك — حيث إنني أملك بالفعل منزلًا كاملًا — فأحجمتُ عن ذلك؛ وبعد فترة قصيرة استأجرَت الطابَق أسرةٌ يهودية بولندية زادت من دخلِها عن طريق تأجير جزء من الطابق تأجيرًا مفروشًا.
والآن أتخطَّى فترةً من الوقت وأتطرَّق إلى ملابسات إحدى أكثر تجاربي حماسةً وإثارةً للاهتمام. في ذلك الوقت كان ثمَّة نغل ميكانيكي ابتكر المُسدس ذا المشط الأوتوماتيكي، ومن ثمَّ أتاح نوعيةً جديدة ورديئة من الإجرام. ولم يمرَّ وقت طويل حتى قام أحد المُجرمين باستخدام السلاح. مشهد الظهور الأول هو توتنهام، حين حاول اثنان من الروس البولنديين تنفيذَ عملية سرقةٍ غبية في الشارع وأخفقا. جرَت محاولة السرقة في وضح النهار وفي الشارع، وبعد أن أخفق النذلان، هربا وهما يُطلقان النار على كل إنسانٍ يلقيانه. في نهاية المطاف وقعا كلاهما قتلى — وكان أحدهما قد قتل نفسه — لكن بعد أن قَتلا شرطيًّا شجاعًا وطفلًا صغيرًا مسكينًا وجرَحا ما يربو عن اثنَين وعشرين شخصًا.
قرأت تفاصيل الأمر في الجريدة باهتمامٍ بالِغ وكان لديَّ قناعة بأن هذه ما هي إلا بداية. كان هذان الفاسدان المَسعوران ينتمِيان إلى نوعيةٍ من المُجرمين شائعة كثيرًا؛ نوعية المُجرمين السلافيِّين الذين لا يتمتَّعون بالعقل بما يكفي لأن يأخذوا حِيطتهم ولا بشجاعة كافيةٍ لتحمُّل تبِعات النزاعات المسلحة. كنت أشعر بثقةٍ تامة أن المُسدس الأوتوماتيكي سيُخرج النذل إلى العلن؛ ولم أكن مخطئًا.
فذاتَ ليلة، لدى عودتي من جولةٍ للتفتيش عنه، قابلتُ حشدًا صغيرًا مضطربًا يرافِق ثلاثًا من عربات الإسعاف الخاصة بالشرطة. التحقتُ بالجمع وسرعان ما انعطفنا إلى طريقٍ عامٍّ صغير ومسدود وجدْنا فيه حشدًا صغيرًا آخرَ يبدو عليهم الاضطرابُ، وبعضَ رجال الشرطة المُرتبكِين. وكانت هناك عدة نوافذ مهشَّمة، وعلى الأرض ترقد ثلاثة أجساد. كان أحدهم ميتًا، والآخران مُصابين بإصاباتٍ بالغة، وكان ثلاثتهم أعضاءً في القوة الشرطية.
شاهدت سيارات الإسعاف وهي تُغادر حاملةً الضحايا، ثم التفتُّ لأسأل عن المعلومات من أحد المارَّة. لم يكن يعرف الكثير، لكن فحوى قصته — التي أكَّدتها الجرائد بعد ذلك — كان كالآتي: حدَّدت الشرطة موقعَ عصابة من اللصوص المُشتبه بهم، وأتى ثلاثة رجال شرطة إلى المنزل لإلقاء القبض عليهم. طرق رجال الشرطة البابَ الذي انفتح لهم بعد برهةٍ قصيرة. ثم أطلق أحدُ مَن كانوا بداخل المنزل النارَ على الفور على شرطي من الثلاثة فقتلَه، وهُرعت العصابة بالكامل وكانوا أربعةً أو خمسة إلى الخارج وهم يُطلقون النار على رَجُلي الشرطة الآخرَين من المسافة صفر، ثم جرَوا في الشارع وهم يُطلقون النار في جميع الاتجاهات كالمجانين. أصيب عددٌ من الناس، ومما يؤلِم أن عصابة الأوغاد بكاملها استطاعت الهروب في الأحياء الفقيرة المُحيطة.
كنت مهتمًّا للغاية بهذا الأمر وأشعر حتى بالإثارة لعدة أسباب. في المقام الأول، المجرمون الذين حدَّد سِماتهم لومبروسو يُوجدون هنا في نهاية المطاف، أولئك المجانين الأدنى من البشر، الفارغون من كل إدراكٍ ومن أدنى بصيصٍ للحسِّ الأخلاقي، الذين لا يصلحون لشيءٍ إلا لغرفة الإعدام بالغاز؛ والذين يبدو «معتادو الإجرام» الإنجليزُ بالنسبة لهم رجالًا نُبلاء متحضِّرين. من دون وجود عينةٍ أو اثنتَين من هذه النوعية، لن تكتمِل مجموعتي. ثم يأتي أمرُ قابلية التطبيق الواضحة لطرائقي على هذه الفئة من الجناة الآثمين؛ طرائق الاجتثاث الهادئة التي لا تتسبَّب في جلبة أو فوضى عامة ولا تنطوي على مجازفةٍ بالأرواح الغالية لرجال الشرطة. لكن وفيما يتجاوز هذه الأسباب، كان هناك سبب آخر لاهتمامي. كانت جريمة قتْل زوجتي جريمةً لا غايةَ من ورائها ولا ضرورةَ للقيام بها، ارتكبها نذل خسيس ينظر لحياة البشر على أنها شيء ليس له وزن أو قيمة. وكان ثمَّة تشابُهٌ في الملابسات التي بدت أنها تربط تلك الجريمة بهذا النوع من المُجرمين. بل كان من الممكن حتى أن يكون أحد أولئك الأوغاد هو الشخص الذي أسعى خلفه منذ وقتٍ طويل.
خلقَت تلك الفكرة بداخلي روحًا جديدة من الحماس. فرُحت على الفور أتتبَّع المسار المُحتمَل لأولئك الهاربين، فجُلت بأعدادٍ لا تُحصى من الشوارع والأزقة، وكنت أُمعِن النظر في الأفنية البائسة، فكان الكثير من المُتسكعين ذوي المظهر المثير للريبة يجرون ويختبئون عند أقرب زاوية. بالطبع كان بحثي غير مُثمر. إذ لم يكن معي أيُّ دليلٍ ولم أكن حتى أعرف أولئك الرجال. كنت أُبدِّد انفعالي واهتياجي بالمشي.
رغم ذلك، وفي كل ليلةٍ بعد أن أُغلق محلي، كنت أنطلق في رحلة استكشافية، مدفوعًا بكمٍّ هائل من الضجر ونفاد الصبر؛ وفي أثناء النهار كنت أستمع باهتمامٍ إلى أحاديث زبائني باللغة اليديشية — وهي لُغة من المُفترَض أنني كنتُ جاهلًا بها تمامًا. لكنني لم أصِل إلى شيءٍ ولم أعرف شيئًا. فإما أن الهاربين كانوا مجهولين، أو أن التكتُّم الطبيعي الذي يتَّبِعه سكان المجتمع المحلي الأغراب هؤلاء يمنع أيَّ إشارةٍ إليهم، حتى ولو كانت فيما بينهم؛ وفي تلك الأثناء وكما ذكرت، كنت أجول بالشوارع كل ليلةٍ وحتى ساعات الصباح الباكر.
وذات ليلة، ولدى عودتي من واحدة من تلك الرحلات الاستكشافية في وقتٍ أبكرَ من المعتاد، وجدتُ مجموعة صغيرة من رجال الشرطة وحَفنة من العاطِلين مجتمِعين أمام المنزل المجاور لي. لم يكن هناك حاجة لأسأل عمَّا يحدث. كان اضطراب رجال الشرطة الملجوم ومُسدساتهم الدوَّارة في أحزمتهم يَشِيان بالقصة كلها. ستحدث مجزرة أخرى؛ وعلى الأرجح أني تأخَّرت على لعب أي دورٍ سوى دور المتفرج.
كان باب الشارع مفتوحًا ويتم إخلاء المنزل بهدوءٍ من ساكنيه من البشر. خرج السكان واحدًا تلوَ الآخر وهم يرتجفون ويتذمَّرون ومعهم أشياء صغيرة هي ممتلكاتهم التي تمكَّنوا من جمعها على عجل، واجتمعوا في مجموعةٍ صغيرة وبائسة على الرصيف. ففتحت باب محلي ودعوتهم ليدخلوا ويستريحوا بينما ذهب رسلٌ لهم يبحثون عن مأوًى لهم؛ لكنني ظللتُ بالخارج لأرى ما سيُثمر عنه الأمر.
وحين خرج آخر المُستأجرين، برز رقيب شرطة وأغلق باب الشارع بهدوء. أما بقيةُ رجال الشرطة فاتخذوا مواضعَ تُئويهم عند أبواب البيوت بعد تحذير المتفرجين أن يتفرقوا، ثم التفتَ إليَّ الرقيب.
وقال: «والآن يا سيد فوسبر، من الأفضل أن تبقى بالداخل إن كنتَ لا تريد أن تتعرض لإصابة. الأمور على وشْك أن تسوء.» ثم دفعني برفقٍ إلى داخل المحل وأغلق الباب.
وجدتُ المستأجِرين الذين تم إخلاؤهم يتحدَّثون وهم مُضطربون وكانوا في غاية التعاسة. لكنهم لم يكونوا متمردين. كان معظمهم من اليهود، واليهود شعبٌ حمول ومُستكين. فغليتُ بعض الماء في الإبريق الصغير الخاص بي وصنعتُ لهم قهوة — تناولوها شاكِرين — في أقداح الحلاقة؛ حيث كانت الآنية الفخارية التي أملكها محدودةً للغاية. وفي غضون ذلك أخذوا يُثرثرون وأخذتُ أنا أستمع.
قالت سيدة يهودية عجوز بلكنة يديشية: «أتساءل كيف عرفَت الشرطة أن هؤلاء الرجال يسكنون لديَّ. لا بد أن أحدًا قد أخبرهم بذلك.»
قال أحد المُستأجرين المُبعَدين وكانت مهنته تُثار حولها الشكوك: «أجل، لا بد أن أحد جواسيس الشرطة أوشى بهم. لا بأس بهذا. ليس من الصواب أن تُطلَق النار على الشرطة بهذا الشكل. فللشرطة عملٌ ينبغي لهم القيام به، مثلنا تمامًا. أنتِ تعرفين هذا يا سيدة كوسمنسكي، أليس كذلك؟»
قالت المرأة اليهودية: «بلى، هذا صحيح؛ لكن كان بإمكانهم السماح لي بأخذ أشيائي. غدًا هي ليلة الألعاب النارية. والآن خسرتُ أنا أموالي.»
فسألتها: «كيف ذلك سيدة كوسمنسكي؟»
«لأنني لن أتمكَّن من بيع تلك الأشياء التي اشتريتُها لأجل ليلة الألعاب النارية، الألعاب النارية والأقنعة والخشخيشات وأشياء أخرى للأطفال. لقد أنفقت عليها خمسةً وعشرين شلنًا. إنها في حجرتي بالطابق الثاني. طلبتُ من الشرطة أن أحضرها لكنهم رفضوا؛ لأنني بذلك سأُنبِّه الرجال في الحجرة الأمامية. لذا سأخسر أموالي لأنني لن أتمكن من بيعها.» وهنا انفجرت المرأة التعيسة الحظ في البكاء وتأثرتُ أنا كثيرًا بمحنتها حتى إنني عرضتُ على الفور أن أشتري كل شيء مقابل جنيهين، ولمَّا سمِعَت ذلك أخذت تنوح وتبكي أكثر، لكنها أخذت الثَّمن بسرعةٍ وتأهُّب ودسَّته في جيب داخلي عميق، وأظهَرَت وهي تدسُّ المال طبقاتٍ كثيرة للغاية من الملابس فكانت تبدو كماسحة قلمٍ عتيقةِ الطراز.
«آهٍ يا سيد فوسبر! أنت كريم للغاية مع كل المساكين، رغم أنك أنت أيضًا مسكين. لكنَّ المساكين هم أصدقاء المساكين»، وفي عرفانها هذا كانت على وشْك أن تُقبِّل يديَّ لولا أنني حرصت على دسِّها في جيبَي بنطالي.
وجاء رسول يقول إنهم وجدوا مأوًى لهم يُئْويهم في هذه الليلة، فرحل ضيوفي وهم يشكرونني كثيرًا ويدعون لي. ولمَّا نظرتُ إلى الشارع، بدا هادئًا ومهجورًا عدا من رجل أو رجلَي شرطة طوَّافين، كان من الواضح أنهما سئما الاختباء في أماكنهما فقرَّرا الخروج والطواف خِلسة. لم أمكث لأراقبهما؛ لأن تعليق السيدة كوسمنسكي أطلق في ذهني سلسلةً من الأفكار التي يجِب تنفيذها على وجه السرعة. من ثمَّ دخلت ورُحت أجول بالمحلِّ الفارغ.
كنت أعتقد أن الشرطة تنتظر ضوءَ النهار من أجل مهاجمة المنزل. كانت تلك فكرةً مجنونة لكنني كنتُ مقتنعًا أنهم لا يملكون خطةً غير هذه. وحين يدخلون إلى المنزل في مواجهة وابل من طلقات تلك المُسدسات الأوتوماتيكية، ستصير مذبحة هائلة! كان من المريع تصوُّر الأمر. لماذا يسمح القانون بتصنيع وبيع هذه الأدوات الوضيعة والجديرة بالازدراء؟ إن المُسدس هو السلاح الوحيد الذي ليس له استخدام مشروع. فالفئوس والسكاكين — وحتى البنادق، كلها أسلحة لها وظائف مشروعة. بيْدَ أن المسدس أداة تُستخدَم لقتل البشر. وليس له أي استخدامٍ آخر. إننا حين نجد أدواتٍ لاقتحام المنازل في منزل أحدهم فإننا نعتبر أنه لص. وبالتأكيد حين نجد رجلًا يحمل مُسدسًا فإنه يُدين نفسه بنيَّةِ قتلِ أحدهم.
لكن ربما كانت هناك خطةٌ معقولة أخرى تتَّبِعها الشرطة. كان هذا أمرًا ممكنًا، لكنه بعيدُ الاحتمال. إن رجل الشرطة البريطاني رجل رائع، فهو مِقدام كالأسد وعلى استعدادٍ لأن يسير إلى داخل فوَّهةٍ من الجحيم إذا ما اقتضى الواجب. لكن ينقُصه الوعي التكتيكي. وتكاد شجاعته نفسُها تنقلِب عيبًا، مما يجعله مُستهترًا بتوخِّي الحذَر اللازم. شعرتُ أن حُماتنا سيضحُّون بأنفسهم مرةً أخرى في مواجهة هؤلاء المَقِيتين. وكان هذا أمرًا شاقًّا ومفزعًا. فهذه خسارة فظيعة للأرواح الغالية. ألا يمكن فِعل أي شيءٍ لمنع وقوع هذا؟
طبقًا لكلام السيدة كوسمنسكي، فإن «الرجال» كانوا في واجهة الطابق الثاني — في تلك الحجرة التي بها الباب المُنزلق. إذن يُمكنني على الأقل أن أراقبهم. سرتُ ببطءٍ إلى الطابق العلوي وأنا أصِرُّ على أسناني من شدة الغيظ والانزعاج. هذه التضحية غير ضرورية بالمرة. يُمكنني التفكير في عدة طرائق للتخلُّص من هؤلاء الصعاليك من دون المُخاطرة ولو بشعرةٍ واحدة من رأس إنسانٍ محترم. وها هم أولاء رجال الشرطة تحت تصرُّفهم كلُّ الموارد العلمية وفترة غير محدودة من الوقت ليعملوا على خُطتهم لكنهم يفكِّرون في القتال مع وجود كل هذه الاحتمالات ضدَّهم!
تسلَّلتُ إلى واجهة الطابق الثاني وباستخدام ضوءٍ من عود ثقاب، وجدت الدولاب. انزلق اللوح الداخلي — وهو الاسم الذي سأُطلقه على اللوح الذي من جهتي — من دون أي صوت. لم يَعُد الآن بيني وبين الغرفة المجاورة سوى اللوح الثاني، وقد تمكَّنت من سماعِ غمغمةِ مَن بالغرفة وصوتِ تحركاتهم بوضوح. لكنني لم أستطِع أن أُميِّز ما يقولون؛ وحيث كان سماعي لما يقولون مُهمًّا للغاية، فقد قررتُ فتْحَ اللوح الثاني. فأمسكت بالمِقبض وسحبته بإحكام وبالتدريج، وشعرت باللوح ينزلق في صمتٍ تقريبًا لبضع بوصات. على الفور أصبحَتِ الأصوات مُميَّزة وواضحة، كما أتت هبَّة هواء كريه وخانق عبر الفتحة، وتسرَّب شيءٌ من الضوء؛ فعرفتُ أن الدولاب من جهتهم مفتوح بصورة جزئية على الأقل.
جاء صوت أحدهم يقول بالروسية: «اسمع يا بيراجوف، لا داعيَ لهذا القلق. الشرطة تبحث عنا، لكنهم لا يعرفون شكل أي أحدٍ منَّا. يُمكننا المغادرة بأمان.»
فأجابه شخص آخر، وعلى الأرجح أنه كان صوت بيراجوف: «لستُ واثقًا تمامًا. قد يبوح ذلك الغبي الذي أجَّر لنا المنزل بالمزيد؛ ومَن يدري، بعض قومِنا قد يخونوننا. وأظنُّ أن تلك المرأة المدعوة كوسمنسكي نظرت إلينا نظراتٍ مُريبة.»
فصاح الآخر: «هراء! تعالَ واستلقِ يا بيراجوف. سنُغادر هذا المكان غدًا ونتفرَّق. وسنغيب لبعض الوقت حتى ينسَوا أمرنا. ضعْ مزيدًا من فحم الكوك في الموقد ودعنا نخلد إلى النوم.»
أتعجَّب بشدةٍ من مجموعة العوامل التي تُفضي إلى تطوُّر سببية الأحداث. تلك الكلمات الأخيرة التي نطق بها الشرير المجهول بدَت طفيفةً ولا يُؤبه لها؛ ومع ذلك، شكَّلت إطار شهادة وفاته. أنا نفسي لم أُدرك هذا بالشكل الكامل في حينها. فبينما أغلقتُ اللوح المنزلق وتراجعت، كنتُ مُدركًا أن سلسلةً من الأفكار النافعة كانت قد بدأت تنطلِق في ذهني. «ضعْ مزيدًا من فحم الكوك في الموقد ودعنا نخلد إلى النوم.» أجل؛ كانت هناك صلة واضحة بين فكرة «الموقد» وفكرة «النوم»، النوم الأبدي. هناك يكمُن حلُّ المشكلة.
نزلت الدَّرج ببطءٍ وأنا أتتبَّع الصِّلة بين فكرتَي «الموقد» و«النوم». كان الهواء المُثير للغثيان الذي تسرَّب من الغرفة المجاورة يُشير بإشاراتٍ واضحة إلى النوافذ الموصدة والتهوية المُنعدِمة. وكانت الليلة شديدة البرودة والقتلة يَقشعرُّون من البرد. من شأن تيار هوائي خلفي في ماسورة الموقد أن يملأ الحجرة بالغازات السامَّة ومن ثمَّ يختنق هؤلاء الأوغاد ببطءٍ وهدوء. لكن كيف سأفعل هذا؟ فكَّرتُ لحظةً في التسلُّق إلى السطح وسدِّ المِدخنة من الأعلى. لكن كانت هذه خطة سيئة. إذ قد يراني رجال الشرطة ويرتكبون خطأً فادحًا بمُسدساتهم الدوَّارة. هذا بالإضافة إلى أن هذه الخطة ستفشل على الأرجح. فتوقُّف التيار الهوائي قد يُطفئ النار وتُنبِّه أبخرة الفحم الحادة أولئك الأشرارَ إلى الخطر الذي يُداهمهم. أخذت أتتبَّع سلسلة الأفكار وأنا أدلف إلى حجرة النوم وأُشعل المصباح الغازي؛ والتفتُّ أنظر في أرجاء الغرفة؛ ثم فجأةً وجدتُ حلَّ المشكلة.
في المدفأة كان ثمَّة موقد نحاسي صغير روسي الصنع؛ مجرَّد موقد صغير، أصغر من أن يحترق فيه أي شيءٍ سوى الفحم النباتي؛ لكني كنتُ قد اشتريتُ الفحم النباتي ووضعتُه فيه حيث إن الحصول عليه في شرق لندن كان أمرًا يسيرًا. حين تكون الحجرة جيدةَ التهوية، يكون استعمال هذا الفحم آمنًا تمامًا، وإلا فإنه يكون في غاية الخطورة؛ لأن أبخرة الفحم النباتي لا تُقدِّم أيَّ تحذير، فهي تتكوَّن من غاز ثاني أكسيد كربون خالصٍ وهو عمليًّا عديم الرائحة.
كانت خُطتي الآن واضحة تمامًا. كان الموقد له مقابض مصنوعة من الأسبستوس؛ وكان ثمة صندوق من الفحم النباتي بالقُرب من المدفأة، وفي الزاوية كان ثمة قطعة طويلة إضافية من ماسورة الموقد لم أكن أجد لها استخدامًا. صرتُ الآن أعرف فيمَ سأستخدِمها.
أوقدتُ الفحم النباتي في الموقد، وبينما هو يَحمَى، حملتُ قطعةَ ماسورة الموقد وصندوق الفحم إلى الطابق العلوي. ثم عُدت إلى الموقد، وكان الفحم النباتي الآن قد بدأ يتوهَّج. ثبتُّ قطعة الماسورة الإضافية ومددتُ يدي أتحسَّس دفق الهواء الساخن — أو بالأحرى دفق غاز ثاني أكسيد الكربون الساخن — وهو ينبعث من الفوَّهة. وضعتُ قطعةَ الماسورة أمام الفتحة ووجدت أنها ستُصبح ثابتة عند الحافة السفلية؛ ثم وبحذرٍ وبطءٍ شديدَين، سحبتُ اللوحَ المنزلق قرابة ستِّ بوصات. كان الأشرار لا يزالون يتنازعون على الموضوع نفسه؛ لأنني سمعت أحدهم يصيح:
«لا تكن أحمقَ يا بيراجوف. ستجذب الانتباهَ إلينا وحسب إن أنت أحدثتَ جلبة بالطابق السفلي.»
فكانت إجابته: «لا أعبأ؛ إنني قلق. لا بد أن أنزل وأرى أن كل شيءٍ هادئ قبل أن أخلد إلى النوم.» وهنا توقَّف الجدال بسبب صوت انفتاح الباب ثم انغلاقه، عدا سيلٍ من السِّباب واللعنات أطلقه الشخصان الآخران الباقِيان في الغرفة. لكن في غضون لحظاتٍ قليلة انفتح الباب بقوة وصاح بيراجوف:
«اخرُجا الآن! اخرُجا على الفور! المنزل فارغ! لقد تعرَّضنا للغدر.»
صاح الرجلان من الفزع استجابةً لذلك. إذ انفجرا في فورة هي مزيج من النحيب واللعن، وسمعتهما يتحركان في أرجاء الغرفة باهتياجٍ في خضم فورة الرعب التي تملَّكتْهما.
كرَّر بيراجوف يقول: «هيا! سنقتلهم جميعًا! سنقتل أولئك الخنازير، سنقتلهم جميعًا! سيتمكَّن بعضنا من النجاة. هيا!»
فقال أحد رفاقه مُتذمِّرًا: «ليس هناك طائل يا بيراجوف. إنهم في داخل المنزل. إنه كمين.»
صاح الرجل الثالث: «أجل، الأمور كما يقول بوريس. المنزل مُظلم وهم مختبئون بالداخل. أَوصدِ الباب ودعْهم يأتون إلينا؛ حينها سنقتُلهم — سنُبيدهم! — سنُهلكهم! — سنُدمرهم!» وانتهى الرجل إلى صيحةٍ حادة وفورة من النحيب الهيستيري.
فقال بيراجوف: «سأهرب أنا. هناك فرصة للهرب.»
صاح به الآخر: «ليس ثمة فرصة. عُد أيها المجنون!»
ثم أُغلِق الباب بقوة، وجاء صوت استدارة المفتاح في قُفله وصوت انغلاق ترباس ثقيل. فأغلقتُ اللوح المنزلق بهدوء وجريتُ إلى النافذة المفتوحة بالحجرة الأمامية من الطابق الأول.
بدا الشارع فارغًا إلا من رَجُلَي الشرطة اللذَين وقفا عند زاويةٍ ما يحدِّثُ أحدهما الآخرَ بنبرةٍ خفيضة. أطبقَ على المكان صمتٌ ثقيل — صمت غير عاديٍّ كما بدا! — برزت منه غمغمةُ رَجلَي الشرطة لا تكاد تُسمع. نظرت إلى الخارج في قلق وترقُّب، أنازع نفسي إن كان عليَّ أن أُحذِّر هذَين الحارسين الغافلَين حتى ولو على حساب إفشال خُططي. فجأة رنَّ صوت طلقتَين في تتابُع سريع من الأسفل؛ فسقط كِلا رَجلي الشرطة، ثم اندفع شخصٌ خارج الباب وأخذ يجري في الشارع كالمجنون.
رقد أحد رَجُلَي الشرطة جثةً هامدة؛ أما الآخر فأمسك بفخذه بإحدى يدَيه وبالأخرى أخذ يُطلق النار مرارًا من مُسدَّسه الدوار على القاتل الهارب، لكن بدا أن كل الطلقات أخطأته. وفي غضون ثوانٍ جاء رقيب ورَجل شرطة آخران يُهرعان عند الزاوية، وانطلقت صافرات الشرطة مطلقةً التحذيرات في كل الاتجاهات؛ وتلاشى الصمت الذي كان يُطبِق على المكان وأفسح المجال أمام ضجيجٍ وجلبة كبيرَين. لكن بيراجوف كان قد استدار عند مُنعطفٍ ما قبل أن يصل الرقيب، واستنتجتُ من الصخب المُستمر للصفارات أن القاتل تمكَّن من الهرب في الوقت الراهن على الأقل. فأشحتُ بوجهي عن النافذة. تفلَّت بيراجوف من يدي، وشعرتُ مما رأيت بضرورةٍ مُلحَّة لمنع المزيد من سفك الدماء.
ولمَّا فتحتُ اللوح المُنزلق مرة أخرى، جاءني صوتا الصعلوكين بالداخل حامِلَين مزيجًا غريبًا وبشعًا من اللعنات والسبِّ والنحيب الهستيري. كانا يَسُبَّان بيراجوف والشرطة ويكيلان اللعنات وأماني الموت لكل رجلٍ وامرأة وطفل في هذه الأمة من الخنازير؛ وبين سِبابهما ولعنهما كانا ينتحِبان ويتحسَّران. كنتُ قد أغلقت خانقَ هواء الموقد قبل أن أنزل إلى الأسفل، لكنَّ الفحم النباتي كان لا يزال مشتعلًا وإن كان بدرجةٍ طفيفة. فوضعت الموقد في مكانه وأرخيتُ الماسورة الطويلة على الحافة السفلية للفتحة بحيث يكون طرفها موجَّهًا إلى داخل الغرفة المجاورة ببضع بوصات؛ كنتُ أتحرك في صمتٍ تامٍّ وقد ساعدتني الجلبة بالخارج والضوضاء التي يُحدِثها الشرِّيران الجبانان. وحين أتممتُ الأمر، فتحت خانق الهواء فشعرتُ على الفور لمَّا وضعت يدي على فوَّهة الماسورة بتيارٍ قوي من الغاز الساخن يخرج. سيبرد هذا الغاز بسرعةٍ حين يختلط بالهواء البارد، ثم سينزل إلى الأرض ويجتمع عليها بفعل ثقله.
كان جهازي الآن يعمل كاملًا، وليس أمامي فِعل شيء سوى الانتظار. خبَت الضوضاء في الشارع قليلًا، لكنَّ الجبانَين لم يُظهِرا أيَّ إشارة على أنها سيهدآن. كانا مشغولَين الآن بتحصين الباب بحيث لا يمكن فتحه إلا لبضع بوصات؛ أي ما يتيح لهما إطلاقَ نيرانهما على مهاجميهما. كنتُ مَدينًا لهما كثيرًا. فحركاتهما ستساعد في نشر الغاز ومنعه من الاستقرار بكثافةٍ على الأرض. كما أن الجهد الذي سيبذلانه سيجعلهما يتنفَّسان بعُمق أكثرَ ومن ثمَّ يقعان بسرعةٍ أكبر تحت تأثير السُّم.
مرَّ الوقت ببطءٍ؛ ولم يصدُر عن رجال الشرطة أيُّ إشارة؛ واستراح القاتلان من عملهما الجهيد، فكانا في بعض الأحيان يتحدَّثان بحماس، وفي بعض الأحيان يصمتان دقائقَ طويلة، وفي أحيانٍ أخرى يتثاءبان بشدة وكثرة. وطَوال هذا الوقت كان التيار غير المرئي للغاز الثقيل والمُميت يتدفَّق من ماسورة الموقد ويتسرَّب خفيةً على الأرض. من المُفترَض أن يكون الغاز الآن قد شكَّل دوَّامة عند أقدام هذين القاتلَين وفي طريق صعوده إلى الأعلى. ليت رجال الشرطة يظلُّون ساكنِين ساعةً أو اثنتَين أخريَين، حينها سيكون الخطر قد زال.
مرَّت ساعات الليل الشتوية ثقيلةً وبطيئة. لكنها لم تصبني بالسَّأم. لأنني كنت أكاد أقف على أطراف أصابعي من الترقُّب وأنا ساهر بالقرب من الماسورة وأُغذِّي الموقد بين الحين والآخر. في كل لحظة تمرُّ كنت أخشى أن أسمع أصوات تكسير الباب الكارثية التي من شأنها أن تنذر بمجزرة جديدة؛ ومع مرور الدقائق وسكون كل شيء، أخذ الأمل يزداد بداخلي. في بعض الأحيان كنت ألمح طريدتَيَّ عبر الفتحة في باب دولابهما؛ لأنني كنتُ قد فتحت اللوح المُنزلق من جانبي مسافة قدم كاملة، وذلك حين وجدتُ أن الملابس المعلَّقة على الشماعات ستجعلني محجوبًا عنهما، حتى ولو لم تكن الظلمة التي من جهتي تُوفِّر لي هذا الحجاب. رأيتُ أحدهما يجلس على كرسي منخفض وينحني وهو يرتجف على موقد الفحم، في حين أخذ الآخر يطوف بالغرفة في قلق.
ظل تيار الغاز المُميت يتدفَّق دون توقُّف من الماسورة.
وبعد برهةٍ نهض الرجل الأول وتثاءب بشدة. وغمغم قائلًا: «سحقًا! لقد تعِبت. سأستلقي قليلًا. إن أخذني النوم يا بوريس، فهلَّا تتولَّى الحراسة وتُوقظني حين تسمعهم قادِمين.»
مددتُ عنقي عبر الفتحة فاستطعتُ أن أرى لمحةً من الرجل وهو يُلقي بنفسه على مرتبة على الأرض. واستمر الرجل الآخر يذرع الحجرة لبعض الوقت؛ ثم جلس على كرسي ومدَّ ذارعَيه نحو الموقد وهو يُغمغم في نفسه. أخذت أراقبه قدْر استطاعتي من خلال الفتحة في الدولاب بمساعدة الضوء الخافت الصادر من مصباح البارافين العطن؛ كان صعلوكًا بائسًا وشاحبًا وغثًّا وأشعثَ؛ وأخذتُ أفكِّر كم سيبدو لافتًا للنظر وهو في شكل مُستحضرٍ جافٍّ ومتقلِّص.
لكن كان هذا مُستحيلًا. كنت أعمل الآن لصالح الشرطة وحسب. وبقدْر ما يبدو الأمر باعثًا على الأسى، فإنَّ عليَّ أن أُسلِّم هاتَين العينتَين إلى الطبيب الشرعي وإلى التُّرَبي. هذا هدرٌ للمواد يبعث على الأسف، لكن لا يمكن تفاديه — حتى ولو ثبَت أن أحدهما هو عدوِّي اللدود الذي أبحث عنه منذ وقتٍ طويل.
جفلتُ لمَّا واتتني هذه الفكرة؛ وفي تلك اللحظة أطلق الرجل الراقد على المرتبة نخرةً غريبة وحادة. فنظر برويس المجرم حوله ونهض من فوق الكرسي واتَّجه إلى المرتبة وحرَّك الرَّجُلَ الآخر بقدمِه. ثم صاح بغضب: «لويس! لويس! لماذا تصنع هذه الضوضاء؟»
نهض الرجل الآخر مترنحًا وهو يصيح من الرعب والمُسدس في يده. وقال: «آه! هذا أنت يا بوريس! كنت أحلُم. ظننتُ أنهم أتَوا.» ثم جلس على المرتبة وأخذ يتثاءب. وأضاف: «هراء! ما زلتُ أشعر بالنعاس. لا بد أن أستلقي مجددًا. تولَّ الحراسةَ لفترةٍ أطول يا بوريس.»
فصاح به بوريس: «ولماذا أتولَّى الحراسة؟ سيُحدِثون ما يكفي من الضوضاء لدى فتحهم هذا الباب. سأستلقي قليلًا أنا أيضًا.»
ثم ألقى بنفسه إلى جوار رفيقه، لكنه انتفض بعد دقيقةٍ أو اثنتَين وهو يشهق بعُمق. وصاح يقول: «يا إلهي! لا أستطيع التنفُّس وأنا راقد. أشعر وكأني سأختنق. وأنت أيضًا يا لويس؛ أنت تنخر كالخنازير. انهض يا رجل.»
ثم هزَّ الرجل المُمدَّد بخشونة، لكن لم يُثمر ذلك سوى إطلاق رفيقه بعضَ اللعنات الناعسة، فقام وعاود المشيَ في أرجاء الغرفة وهو قلِق. لكن لم يدُم ذلك وقتًا طويلًا. وعرفت من تكرار تثاؤبه أن الغاز قد أصبح في مجرى دمه بالفعل؛ وأشار الغطيط المُرتفع للرجل الآخر بوضوحٍ إلى حالة الهواء في الجزء السفلي من الغرفة. بعد وقتٍ قصير توقَّف بوريس عن مشيه في أرجاء الغرفة، وجلس إلى جوار الموقد وهو يُغمغم كما في السابق. ثم سرعان ما أخذ يُومئ؛ ثم كاد ينكبُّ على وجهه على الموقد. في نهاية المطاف قام الرجل متثاقلًا، وأخذ يترنَّح وهو يتَّجه إلى المرتبة وألقى بنفسه ثانيةً عليها.
اعتدلَتْ أنفاسي أكثرَ، رغم أن الغاز الآن كان قد انتشر جزئيًّا في الجزء الأعلى من الحجرة إلى نحو مستوى الفتحة وأخذ يتسرَّب عبْرها إلى جانبي من المكان. انتظرتُ دقيقةً أو اثنتَين وأنا أتسمَّع أنفاس المُجرمين وهي تزداد غطيطًا وتقطُّعًا، ثم وبعد أن عبَّأت الموقد، نزلتُ إلى الطابق الأول وجلست برهةً إلى جوار النافذة المفتوحة لأتنفَّس شيئًا من الهواء النقي.
كانت الأمور هادئة تمامًا في الشارع. لا شكَّ أن رجال الحراسة قد جاءهم دعم، لكنني لم أُعاين المكان. كما أنني لم أكن لأرى شيئًا في تلك الساعة من الصباح. وبينما أنا جالس إلى جوار النافذة، فكَّرتُ في الرجُلَين الراقدَين في تلك الغرفة المُهلكة. شعرتُ بالندم يعتصِر قلبي أن تضيع هاتان العينتان على العلم. لكن لم يكن هناك شيء يُمكنني فِعله. حتى لو كنتُ قد قررتُ أن أحصل عليهما، لم أكن سأستطيع فِعل ذلك، لأنني ومن سوء حظي كنتُ قد استنفدت البراميل وأغفلت الحصول على مخزونٍ جديد منها. علاوةً على ذلك، كانت الشرطة بالطبع تعلم بوجودهما في المكان.
استرحتُ نصفَ ساعة أو نحو ذلك، ثم صعدت إلى الطابق العلوي لأرى كيف تسير الأمور. لم يكن هناك ضوء يأتي الآن من الفتحة في الجدار؛ لأن مصباح البارافين كان إما قد انطفأ أو أن الغاز المُتراكم أخمد ناره. فرحتُ أُصغي باهتمام. كان هناك صوتُ دقَّات معدنية مزعجة لساعةٍ أمريكية رخيصة يُمكنني سماعه بوضوح، بل كان الصوت جائرًا؛ وسوى ذلك، لم يكن هناك أي صوت يصدُر من حجرة الموت هذه.
فتحتُ اللوح المُنزلق وأزحت الملابس المُعلَّقة جانبًا ودلفتُ إلى الدولاب ثم فتحت الباب الآخر. وبفعل ضوء خافت يأتي من الشارع استطعتُ رؤيةَ المرتبة على الأرض وجُثتَين قاتمتَين مُمدَّدتَين عليها. اجتزتُ الغرفة بسرعة وأنا أتنفَّس بأقلِّ ما يُمكنني من هوائها الملوَّث الذي لا يُوصف، وأشعلت عودًا من أعواد ثقاب الشمع. اشتعل العود مضيئًا إضاءةً خافتة يَشوبها الدخان، لكنه أظهر لي جثتَي المُجرمَين ممدَّدتَين بوضعيةٍ مسترخية، وكان وجهاهما يحملان أمارات الغضب والشحوب. وحين أخفضت عود الثقاب تقلَّصت شعلتُه وتحوَّلت إلى اللون الأزرق، وعلى بُعد ثماني عشرة بوصة من الأرض، انطفأتِ الشُّعلة كأنما غُمس العود في الماء. لا بد أن الغاز الثقيل كان نقيًّا عند ذلك المستوى. كانت الغرفة أشبَهَ فعلًا ﺑ «كهف الكلاب».
انحنيتُ بسرعة وأنا أكتم أنفاسي ثم تحسَّست نبضَ الرجُلَين كليهما. كانت جثتاهما باردتَين ولم يكن بإمكاني الشعورُ بأي نبض. فهززتُهما بقوة، لكنني لم أفلح في استثارة أي استجابة. كانا مُرتخيَين وهامدَين، ولم يكن لديَّ أدنى شكٍّ أنهما قد فارقا الحياة. لقد أنجزتُ عملي. صار رجال الشرطة بأمانٍ الآن بغضِّ النظر عن الحماقات التي يمكن أن يرتكبوها؛ ولم يتبقَّ لي سوى إزالة آثار العرَّابة التي كدحَت طوال الليل لتُنقذهم من فداحة بسالتهم الفياضة.
وبعد أن عُدت أدراجي واجتزتُ الفتحة في الجدار، أزلت الماسورة التي أصبح وجودها الآن غيرَ ضروري، وأغلقتُ اللوحَين المنزلقَين، وحملت الموقد الصغير معي إلى حجرة نومي. ونظرتُ إلى الفِراش المرتَّب — وهو الجماد والشاهد البليغ على أنشطة ليلة أمس — فقررتُ كإجراءٍ تحوُّطي أن أضفيَ عليه مظهرًا يدلُّ وكأنَّ أحدهم نام عليه، فخلعتُ حذائي وانسللتُ بين الأغطية. لكنني لم أكن أشعر بالنُّعاس ولو بدرجة بسيطة. بل على العكس تمامًا. كنت أشعر بحماسٍ شديد لأرى نهاية العرض الكوميدي الذي اضطلعت فيه بالدور الرئيسي من دون عِلم أحد؛ ومن ثمَّ وبعد أن أخذتُ أتقلَّب على الفراش بضع دقائق نهضتُ منه ولبستُ حذائي، وملأتُ حوضًا بالماء لأغتسل فيه وأنعش نفسي.
والآن لنلاحظ مرةً أخرى خطوط السببية غير المباشرة على نحوٍ غريب. كانت المناشف على الشماعة مُبتلَّة وغير نظيفة. فألقيتُ بها في سلَّة البياضات المتسخة، وفتحت الدُّرج الذي أحتفظ فيه بالمناشف النظيفة. كان هذا الدُّرج هو الدُّرج السفلي في خزانةٍ رخيصة مصنوعة من الصنوبر كنتُ قد ابتعتها من شارع وايتشابل هاي ستريت. وكانت تلك الخزانة ضخمة الحجم؛ إذ كان عرضُها أربع أقدام وطولها خمس أقدام، وكان كِلا الدُّرجَين السُّفلِيَّين بعُمق ثماني عشرة بوصة، وكانا أكبر بكثيرٍ مما أحتاج إليه لتخزين مخزوني المتواضِع من البياضات.
سحبتُ الدُّرج السفلي، ثم وبينما كان تجويفه العميق ينفتح أمامي، فكَّرت في شيءٍ بسيط. لا يزيد طول رأس الشخص المتوسط وجذعه عن ستٍّ وثلاثين بوصة. وبترك بضع بوصات إضافية للقدمَين والكاحلين، يمكن لتجويفٍ عمقُه ثمانٍ وأربعون بوصة أن يكون كافيًا تمامًا لاستيعاب جثة رجُل. فأخرجتُ المناشف والملاءات التي كانت بالدُّرج ثم دخلت فيه واستلقيتُ وقد رفعت ركبتيَّ إلى الأعلى. وبالطبع كانت المساحة كافية وتزيد.
كان ذلك اكتشافًا مثيرًا للاهتمام لكنه غير ذي صلةٍ بالظروف الراهنة. ومع هذا، ظللتُ أفكِّر في الأمر. وقد ذهبتُ إلى الحجرة الأمامية ونظرتُ من النافذة المفتوحة إلى الخارج. فرأيتُ أنَّ إضاءةً خافتة بالسماء المُعتمة تشير إلى بزوغ الفجر، ومن بعيدٍ جاءت همهمات تنمُّ عن بدء الحركة في شارع هاي ستريت. وكنتُ على وشْك أن ألتفتَ حين التقطت أذني صوتًا جديدًا وغير عاديٍّ يعلو على صوت الهمهمة القصيِّ؛ كان صوتَ خطواتٍ مُنضبطة يُخالطه صوتُ قرقعةِ حوافر الجياد وهدير شيءٍ معدني ثقيل. فنظرتُ إلى الخارج بشيءٍ من الحِيطة باتجاه الصوت فأصابني الذهول والدهشة. فقد رأيتُ في آخر الشارع وبمساعدة أضواء المصابيح سَريةً من الجنود يظهرون عند الزاوية ويحتلون موضعًا على الجانب المقابل من الشارع. رُحت أرقُبهم باندهاشٍ كبير. ثم وبإشارةٍ من الضابط، سرعان ما نَشَر الرجال فُرُشًا على الأرض الموحلة ورقدوا عليها، ثم ظهر عددٌ من الجياد يجرُّون مدفعًا ميدانيًّا أو سريع الطلقات فوقفوا به خلف الجنود وحلُّوه وأعدُّوه للعمل. وبعد دقيقةٍ ظهرت أشباحُ عددٍ من الجنود عند نهاية الشارع وهم يتسللون بجوار حواجز البيوت المقابلة، وقد اختفَوا خلف تلك الحواجز فلم تظهر إلا رءوسهم وفوَّهات بنادقهم.
يبدو أنني أسأتُ الحُكم على رجال الشرطة في مسألة الحِيطة والحذَر. ويكاد يكون الأمر أن الجهد الذي بذلتُه كان غيرَ ذي جدوى؛ لأن تلك الاستعدادات تُشير حتمًا إلى خطة استراتيجية مُميزة. كم سيكون الأمر صادمًا ومُخيبًا للآمال حين تجد الشرطة أن المُجرمَين المُتحصنَين قد ماتا! لكن الأمر سيكون صادمًا أكثرَ إنْ لم يجدوهما على الإطلاق!
في تلك اللحظة تقدَّم رقيب شرطة إلى منتصف الطريق ولمَّا رآني أشار إليَّ بيده أن أدخل وأبتعِد عن طريق الأذى. فأطعته وأنا مُتجهِّم وأفكِّر في تلك الصدمة العبثية؛ وبطريقةٍ ما بدأت تلك الفكرة في الارتباط بالدُّرجَين السُّفليَّين لخزانتي. لكن البراميل هي ما كانت تُمثِّل مشكلة. إن صانع البراميل الذي ابتعتُ منه تلك البراميل كان في بعض الأحيان يُبقيني منتظرًا لما يُقارب الأسبوع قبل أن يزوِّدني بما طلبت منه — لأنني لم أكن من كبار الزبائن؛ وهذا لن يجدي نفعًا أبدًا حتى في ذلك الوقت من العام. أضِف إلى ذلك أن الشرطة ستجري بحثًا صارمًا؛ ليس وكأنَّ هذا الأمر سيُهم لو كان بإمكاني إجراءُ الترتيبات اللازمة لإخفاء هاتَين العينتَين وإبعادهما عن المكان. لكن لسوء الحظ لم يكن بإمكاني ذلك. سيتعيَّن عليَّ أن أتخلَّى عن هاتَين العينتَين؛ ستُحمَل هاتان العينتان بطريقةٍ مشينة أمام القوة المحاصِرة، ستكونان هامدتَين ومُذعنتَين كتلك «الدُّمى» التي يصنعها مَن تُطلق عليهم السيدة كوسمنسكي «الأطفال». ستكون هناك مواءمة حامية وشرسة في هذه الحادثة. لأن اليوم هو الخامس من نوفمبر.
تُعَد مسألة توليد الأفكار الجديدة مسألةَ تداعٍ بالأساس. إذ شكَّلت الأفكار «الدُّمى» و«السيدة كوسمنسكي» و«الخامس من نوفمبر» فيما بينها مجموعةً نشأت عنها سلسلة جديدة ومُذهلة من الأفكار. في البداية بدت الأفكار جامحةً كثيرًا؛ لكن حين انضمَّت فكرة الدُّرجَين السُّفليَّين إلى عملية تصنيع الأفكار، بدأ مخطَّط كامل ومتَّسق يتجلَّى أمامي. واجتاحني حماس كبير، وبينما أنا أسارع على الدَّرج نحو الطابق العلوي، واتتني أفكارٌ عن تفاصيل جديدة، رافقَتْها عقبات جديدة استعرضتُها وتخلَّصتُ من بعضها. ثم فتحتُ اللوحَين المنزلقَين ودلفتُ إلى داخل الغرفة المجاورة وأنا أكتم أنفاسي واجتزتُها ورمقتُ الجثتَين الهامدتَين الممددتَين على المرتبة بنظرةٍ سريعة. ثم أزلت الكرسي المُستخدَم كحاجزٍ خلف الباب وفتحت مزلاج الباب وقُفله، ثم خرجت منه وأغلقتُه خلفي.
كانت حجرة السيدة كوسمنسكي في الجهة الخلفية من المبنى؛ كانت تعجُّ بالقذارة والأوساخ، وفيها نفايات مُكدَّسة تكاد تصل إلى السقف ولا يمكن تصنيفها. وكان جو الغرفة خانقًا حتى إنني شعرت برغبة في فتح النوافذ المستترة خلف ستار غليظ لبضع بوصات؛ وقد واتتني فكرة جديدة لما تواريتُ خلف الستار ونظرت إلى الخارج؛ إذ رأيت السقف المُسطَّح للطابق السفلي. كانت الأشياء مكوَّمة في كل مكان وجانب من الغرفة، بل وحتى تحت الفراش، ومن بينها ملابسُ وأغطية وبطانيات وأوانٍ فخارية وألعاب كلها قديمة جدًّا. وكان من بين كل تلك الأشياء الألعابُ النارية والأقنعة والأدوات الأخرى التي تُستخدَم في إحياء ذكرى «مؤامرة البارود» التي لن تُنسى أبدًا، وكرتان كبيرتان من الحبال ذات اللون الداكن اللتان أحيانًا يستخدمهما بائعو الخضار المتجولون لربط وتأمين حمولاتهم. فواتتني فكرة أخرى جرَّاء ذلك أيضًا، وكذا لمَّا رأيت الملابس النسائية الأنيقة والقديمة. فأخذت أربعةً من أكبر الأقنعة الموجودة وكمية من نُسالة الكتان المُستخدَم في الشَّعر المُستعار؛ وبعض القصاصات الورقية الملوَّنة وزخارف القبعات؛ واثنين من الفساتين الكبيرة البالية — التي أعتقد أنها تخصُّ السيدة كوسمنسكي — وقد عبَّأت تنورتيهما بالقش من إحدى السِّلال الكبيرة؛ وبدلتَين كبيرتَين باليتَين وقبَّعة نسائية من القش وأربعة أزواج من القفازات الرجالية وأكبر قبَّعة عالية أمكنني إيجادها. فوضعتُ كلَّ ذلك في كومةٍ واحدة مع إحدى كرتَي الحبال. ومن الكرة الأخرى قطعتُ ثمانية أبواع من الحبل ومرَّرتها من فتحة النافذة حتى سقطتُ على سقف الطابق الأدنى. ثم نقلت غنيمتي على مرتَين عبْر الغرفة التي يُوجَد بها المُجرمون، ومرَّرتُ كل شيء عبْر الفتحة وأغلقت اللوح المنزلِق من خلفي.
كانت الحكمة تقتضي أن أتخلَّص من هذه الأشياء أولًا، ومن ثمَّ وضعت اثنَين من الأقنعة وزوجَين من القفازات وبدلة واحدة وفستانًا واحدًا في خزانة الأدراج الكبيرة. أمَّا البقية فحملتُها إلى الباحة الخلفية التي كان يُوجَد بها بالفعل كميةٌ من الخشب خاصة ببائع خُضَر جار لي. ولما عُدت إلى الطابق العلوي، دلفت إلى حجرةِ النوم لأنقل محتويات الدُّرجَين الكبيرين إلى الأدراج الأعلى ثم تقدَّمت مرة أخرى إلى واجهة الطابق الثاني. كان الوقت يمر وضوء الفجر الرمادي يكافح للمرور من النوافذ القذرة.
وبينما أسحب اللوح المنزلق انتبهتُ لصوتٍ أجهزَ على آمالي التي نشأت حديثًا، رغم أنه كان خافتًا. كنتُ قد أغلقت باب حجرة المُجرمين وأوصدته بقُفله لكنني لم أوصِده بالمِزلاج. والآن كان بإمكاني سماعُ شخصٍ ما يعبث بخِفة بثقب المفتاح، وعلى الأرجح أنه كان يستخدِم فاتح الأقفال. فأثار هذا سخطي الشديد. ففي اللحظة الأخيرة، في اللحظة التي كان النجاح فيها في قبضتي، كُتب عليَّ أن يحبط عملي وتفسد كل خططي. ولكي يزيد الطين بِلة، لم أكن حتى قد تدبَّرت فحْصَ شَعر هذَين الوغدَين الميتَين!
وفي غضبٍ وارتباك، اجتزت الفتحة وسحبت أبوابَ الدولاب نحوي ولم أترك إلا شقًّا صغيرًا. ثم أغلقتُ على نفسي في دولابي لكي أحجب الضوءَ الخافت، وأغلقت اللوح المنزلق لكني تركتُ فيه شقًّا صغيرًا أيضًا وانتظرتُ ما ستئول إليه الأحداث وأنا أضع يدي على المِقبض استعدادًا لأن أُغلقه بسرعةٍ إذا ما تطلَّب الأمر. كانت الخطة الاستراتيجية الكبيرة على وشْك أن تُنفَّذ وكنتُ أشعر بفضولٍ لمعرفةِ ما ستكون.
انفتح قُفل الباب وأصدر الباب صريرًا خافتًا وهو يُفتح. ثم ساد السكون لحظة، بعدها جاء صوت هامس يقول:
«عجبًا، يبدو أنهما نائمان! احرسهما يا سميث، وأطلِق النار عليهما إذا ما تحرَّكوا.»
ثم جاء صوت خطوات خفيفة تتقدَّم في الحجرة. وأطلق أحدهم سعالًا ينمُّ عن الاختناق، ثم جاء صوتٌ غليظ يقول بنبرةٍ عالية نسبيًّا: «عجبًا، إنهما ميتان يا رجل! يا إلهي! يا لها من طريقة للموت!»
ووشَت ضحكة مهزوزة بالجهد الذي بذله الضابط الوجيه ليخوض هذه المخاطرة المخيفة.
ثم قال صوتٌ آخر: «نعم، إنهما ميتان بالفعل. لقد خدعانا في نهاية المطاف. لستُ وكأني أتذمَّر من هذا. لكن، بحق السماء، يا لها من خدعة! انظر إلى كل أولئك الجنود وذلك المدفع الرشاش. ها! أوه! يا إلهي! أعتقد أن هذين الوغدَين سمَّما نفسيهما حين علِما أن اللعبة قد انقلبت عليهما.» ثم ضحِك مرةً أخرى وانتهت ضحكته بنوبةٍ من السعال.
فقال الآخر: «ليسا هما مَن سمَّما نفسيهما أيها الرقيب. كان موقد الفحم هذا هو ما أعطاهما تذكرةَ الذهاب بلا عودة. ألا تشمُّ هذا؟ أقسم لك أنه سيقتلنا نحن أيضًا إذا لم نخرج من هذا المكان. سننزل ونُبلغ عن الأمر ونبعث نقالتَين لنقلهما.»
فسأل الرقيب: «أليس من الأفضل لو انتظرتُ هنا يا سيدي بينما تذهب أنت؟»
«نعم يا رجل. ولمَ قد تنتظر هنا؟ بهذا الشكل سنُرسل ثلاث نقالات. هيا بنا. كلا! اترك الباب مفتوحًا.»
وأخذتُ أسمع أصوات خطواتهما وهما يبتعدان وأنا لا أُصدِّق. إذ بدا من المُستحيل أن يكونا بهذا القدْر من الاطمئنان. لكن، ولمَ لا؟ كان الرجلان ميتَين بالفعل. والموتى لا يُبارحون مكانهم.
لكن ستكون هذه المرة استثناءً. كنتُ قد تخلَّيتُ عن العينتَين حين دخل رجال الشرطة؛ أما الآن …
فتحت اللوح المنزلق، وهُرعت عبر الفتحة وتقدَّمت نحو المرتبة. ورُحت أحمل المجرمَين المُمددَين واحدًا تلو الآخر عبر الغرفة ووضعتُهما خلال الفتحة. ثم مررتُ منها وأغلقت أبواب الدولاب، وأغلقت كِلا اللوحَين المنزلقين بإحكام وأغلقت دولابي، وحملت العينتَين إلى حجرة نومي بالطابق السفلي. وقد اتسع لهما الدُّرجان الكبيران بعد أن جعلتُ ركبتَيهما منتصبتَين نحو الأعلى. ثم أغلقت عليهما الدُّرجَين وأوصدتُهما ووضعت مفتاحَيها في جيبي، ثم غسلتُ يديَّ وذهبت إلى الغرفة الخلفية حيث رُحت أُحضِّر طاولة الإفطار بسرعة. فقد تأتي الشرطة في أي لحظةٍ الآن من أجل التفتيش، وينبغي أن أكون مُستعدًّا لقدومهم متى كان ذلك.
لم أُضِع الوقت في تناول الإفطار. يمكن لطعام الإفطار أن ينتظر. في غضون ذلك انكببتُ على العمل على الأشياء التي جمعتها في الباحة. فإضافةً إلى عربة اليد ذات العجلتَين، كانت هناك عربة يد ذات عجلة واحدة تعود إلى بائع خضر متجوِّل، وكانت هناك مجموعة من الحطب تعود إلى البائع نفسه، وتشتمل تلك المجموعة على حُزَم من الأوتاد وعدة سلال مملوءة بالقش. وبهذه الأشياء وتلك التي استعرتُها من السيدة كوسمنسكي، بدأت بسرعة في صناعة دميتين بالحجم الطبيعي — دمية منهما لرجلٍ والأخرى لامرأة. صنعتهما من دون إتقانٍ كبير ووضعتهما جنبًا إلى جنب في عربة اليد ذات العجلة الواحدة، وأسندتُهما إلى الجدار؛ ووضعتُ على كل دميةٍ من الدُّميتين بطاقةً كبيرة كُتب عليها اسم الشخصية التي تُمثِّلها؛ فكانت الدمية الأولى تمثِّل الوزير غير المحبوب بشدة السيد تود-ليكس، والثانية كانت للسيدة جامواي السيئة السُّمعة.
كنتُ قد صنعتهما بشكلٍ سطحي تمامًا بحيث يمكن للدمية أن تتفكَّك إلى قِطع وأجزاء بمجرد لمسها. لكن لم يكن لهذا أي قيمة. إذ كان العامل الأهم هو عامل الوقت؛ وكنت أعمل بسرعة كبيرة حتى إنني ما كدت أنتهي من إكمال تجميعهما حتى جاء صوت الجرس المحتوم ليُنهي عملي. فهُرعت إلى الغرفة الخلفية وملأت فمي بقطعة من الخبز وانطلقت إلى الخارج نحو باب المحل وأنا أمضغ الخبز بنهَم. ولما فتحت الباب، اندفع إلى الداخل مفتش شرطة مُنفعل وتبِعه رقيب.
فقلت بلباقة: «صباح الخير أيها السيدان. أتريدان حلْقَ شَعريكما أم ذقنيكما؟»
لن أذكر هنا ما أجاب به المفتش. لكنني كنت مصدومًا للغاية. إذ لم يكن لديَّ أدنى فكرة أن المسئولين الرسمِيين يستخدمون مثل هذه اللغة الفظيعة. في واقع الحال، كانا يريدان فحْصَ المكان. وبالطبع سمحتُ لهما على الفور بذلك، وتبِعتهما في جولتهما التفتيشية بذريعة أنني أُعرِّفهما على المنزل.
كان المُفتِّش في غاية الحَنَق، وبدا الرقيب حزينًا للغاية. وكانا يتحادثان بنبرة خفيضة وهما يصعدان الدَّرج، وسمعتُ الرقيب يذكر شيئًا عن «خدعة بغيضة».
وقد عاجلَه المُفتِّش بقوله: «لا تتحدَّث عن الأمر. فهو مثيرٌ للحنق جدًّا. لكن ما يُدهشني هو الطريقة التي استطاع بها أولئك الأوغاد تحمُّل رائحة الغرفة الكريهة. كانت تلك الرائحة كافية لأن تقضي عليَّ في غضون خمس دقائق.»
وافقه الرقيب قائلًا: «أجل، وكيف أمكنهم النزول من تلك النافذة من دون أن يراهم أحد. لم أكن لأصدِّق الأمر لولا أني رأيت الحبل بعيني. لا بد وأن رجال الشرطة كانوا نائمين.»
فغمغم المُفتِّش: «أجل، يا لهم من خرقى ومُغفلين! لنتفقد المكان بالخارج هنا.» ثم تقدَّم نحو الجزء الخلفي من الطابق الثاني وفتح النافذة. وأكمل يقول: «أترى الآن ما أقصد؟ هذا المنزل لا يتَّصل بالمجاور له. فهذا الجناح البارز يقطع صلةَ الوصل بينهما. هذه الباحة الخلفية تُفضي إلى زقاق بيل؛ أما الباحة في المنزل المجاور فتفضي إلى كوشر كورت. هذا هو الطريق الذي سلكوه. وما كان بإمكانهم الوصول إلى هذا المنزل إلا عن طريق السقف، وقد رأينا أنهم نزلوا إلى الأسفل من النافذة ولم يصعدوا نحو الأعلى.» ثم أخرج رأسه من النافذة ونظر إلى الأسفل بمرارة نحو الدُّميتَين.
ثم سألني بفظاظةٍ وهو يشير إلى الدُّميتين: «أهاتانِ الدُّميتان ملكٌ لك؟»
فأجبته: «لا. أظنُّ أن أحد رجال بايبر يُجهزهما ليأخذهما في جولة.»
فنخر المفتش ثم ابتعد عن النافذة. ودخل إلى الحجرة الأمامية ونظر في داخل الدولاب وفي أرجاء الغرفة ثم نزل الدَّرج. وفي الطابق الأول، أجرى فحصًا روتينيًّا للغرف، ورمق غرفةَ نومي بنظرةٍ سريعة ثم نزل إلى الطابق الأرضي. ومن هناك نزل الشرطيان إلى القبو وتفقَّداه بإمعان أكبر، حتى إنهما تفقَّدا نشارة الخشب في السلة، وبعدها خرجا إلى الباحة الخلفية. هنا وحين وقعت عينا الرقيب التعيستان على الدُّميتَين، أشرق مُحيَّاه قليلًا.
وصاح: «ها! السيدة جامواي! لقد رأيتها كثيرًا حين كنتُ في فرع وستمنستر. وكثيرًا ما فكَّرت أني أرغب في … بحق السماء! سأفعل ذلك!» ثم تأهَّب الرجل بشراسة أمام الدُّمية العاجزة للسيدة، وسدَّد لكمةً قوية بذراع مُنحنية إلى رأسها غير القوي فطارت عبر الباحة.
ويبدو أن اللكمة وتأثيرها قد أثارا في الرجل غرائزه التدميرية، فقد عاد ليُهاجم الدُّمية بشراسة كبيرة حتى إنه وفي غضون ثوانٍ قليلة كان قد حوَّلها والدمية الأخرى للسيد المُبجَّل تود-ليكس إلى كومةٍ من الرُّكام.
وعاجلَه المفتِّش مزمجرًا: «توقَّف عن تلك الحماقة يا سميث؛ ستجعل المسكين يصنعهما من جديد. هيا بنا.» ثم فتح الباب ووقف لحظةً وهو ينظر إليَّ.
وقال: «أعتقد أنك لم تسمع شيئًا أثناء الليل؟»
فأجبته: «لم أسمع أيَّ صوت، ولن أفتح المحل حتى حلول المساء، وعلى الأرجح سأخرج أثناء النهار. هل تودُّ أن تحتفظ بالمفتاح؟»
هزَّ المفتش رأسه. وقال: «كلَّا، لا أريده. لقد رأيتُ كلَّ ما أريد أن أراه. طاب صباحك»، ثم خرج وتبِعه مرءوسه.
هنا تنهَّدتُ بعُمق وأنا أعيد غلق البوابة. كنت مسرورًا أنه رفض الاحتفاظ بالمفتاح، رغم أنني رأيتُ أنَّ من الحصافة أن أعرض عليه هذا العرض. والآن صرت حرًّا في إنهاء تحضيراتي على مهَل.
كان أول ما قمتُ به بعد أن أغلقت المحل هو تركيب نموذجين أساسيين ثابتين باستخدام أوتاد بائع الخضار وحبل السيدة كوسمنسكي لتدعيم الجثتين. ثم تناولت إفطارًا مُشبعًا عُدت بعدَه إلى غرفة نومي ومعي سبَتٌ من القش ومجموعة من الأوتاد الصغيرة وكمية من القماش البالي. ولم تكن عملية تحويل العينتَين إلى دميتَين معقولتين بالعملية الصعبة. فقد ربطتُ رأسَي الجثتَين بقِطع كبيرة من القماش البالي، ثم ثبَّت الأقنعة الكبيرة إلى الجزء الأمامي من الرأس وغطيتُ بقيته بكتلٍ من نُسالة الكتان لأصنع شَعرًا مستعارًا مقنعًا. ثم ألبستُ كلَّ جثةٍ منهما الثياب الفضفاضة التي استعرتها من السيدة كوسمنسكي وحشوتها بالقش، وقد سمحت لأجزاء من القش بالبروز في جميع الفتحات. وأضفتُ على الأطراف شيئًا معقولًا من الصلابة والثبات باستخدام قِطَع من الأوتاد التي نصبتها داخل الملابس، واستخدمت عصيًّا أصغرَ لأُعطي مظهر الأصابع الصحيح والشبيه بقنديل البحر بداخل القفازات. وحين انتهيت، كان العمل بديعًا ومتقنًا. كانت الدُّميتان تجلسان على الأرض وتستندان بظهرَيهما إلى الجدار، وكانتا ثابتَتَين ومنتفختَين ومثيرتَين للرعب بدرجة فظيعة، ولم يكن أحد سيشكُّ في أمرهما.
ثم حملت دمية الرجل إلى الباحة، وأجلستها على العربة ذات العجلة الواحدة وألبستها قُبعتها؛ وبعد أن أخذت معي بقايا الدميتَين اللتَين دمَّرهما رقيب الشرطة وخزَّنتُهما في الأدراج، عُدت من أجل إحضار الدمية الثانية. ثم ربطت الجثتَين وأوثقتُ رباطهما إلى النموذجين وثبَّتُّ عليهما القبعتين بإحكام وأضفت إليهما بطاقتَي الأسماء. بعد ذلك دلفتُ إلى المحل لأُعدِّل من هندامي.
كنت قد أحضرت معي من منزلي في بلومزبيري المعطفَ الرثَّ وقبَّعتي البالية اللذين ارتديتهما في المغامرات القليلة الماضية. ارتديتُ المعطف والقبَّعة؛ ثم وبعد أن لصقتُ على وجنتي صليبًا من الشريط اللاصق — جذب حاجبي للأسفل ورفع زاوية فمي — وأضفت الأوساخَ إلى وجهي، وخضَّبت أنفي بالحُمرة، وأضفتُ القليل من الصبغة السوداء حول عينيَّ، تحوَّل شكلي تمامًا حتى أقرب أصدقائي ما كانوا سيعرفونني. الآن أنا على استعداد للبدء؛ وقد حانت الآن اللحظة الحاسمة.
خرجتُ إلى الباحة، وفتحتُ قُفل البوابة ودفعتُ العربة ذات العجلة الواحدة إلى الخارج في الزقاق، ثم أغلقت البوابة من خلفي. في ذلك الوقت لم يكن هناك أحد في الأرجاء، لكني سمعتُ غمغمةَ حشدٍ كبير من الناس لا لبس فيها، تأتي من الشارع القريب. ينبغي لي أن أعترف بأنني شعرتُ بالتوتر قليلًا. فالدقائق القليلة القادمة ستُقرر مصيري.
واستطعتُ أن أرى بين الفجوات في الحشد أن الجنودَ ما زالوا على الرصيف وأن المدفع الرشاش لا يزال في موضعه. وفجأةً ظهر المُفتش ورقيب الشرطة أمامي وهما يستحثَّان الحشد. وقعت عينا مفتش الشرطة عليَّ، فلوَّح بيده بغضبٍ وصاح قائلًا:
«ابتعِد بهذا الشيء من هنا! أبعده عن الحشد يا مولوني»، فقفز عليَّ شرطيٌّ ضخم الجثة وهو يبتسِم ابتسامةً عريضة وانتزع مِقبضَي العربة من يديَّ وانطلق يعدو بوتيرةٍ جعلت الدمتَين تهتزَّان بصورةٍ تبعث كثيرًا على الخوف.
أخذ الشرطي المبتسِم يصيح: «انتبهوا يا رجال!» وخرجت كلمة «رجال» وهي تحمل حِمية وغلظة.
وعند أطراف الحشد ناولني الشرطي مولوني مِقبضَي العربة، وفي تلك اللحظة لاحظتُ ضابط شرطة بملابسَ مدنية يُراقب حمولتي بانتباهٍ مُفرِط. لكن لعِبَ الحظ لُعبته معي؛ لأنني وفي نفس اللحظة رأيتُ رجلًا يحاول نشْلَ أحدهم في دائرة الضابط مباشرة. وقد وقعت عينا اللص في عيني فابتعد مسرعًا. فأوقفت العربة وصحتُ وأنا أشير إلى اللص: «أوقِفوا ذلك الرجل! أوقِفوه!» فغاص اللص بين الحشد ولاذ بالفرار. فأخذ المُتسكِّعون يبتعِدون عنه بسرعة. وصاح الرجال، وصرخت النساء، وشرع الضابط ذو الملابس المدنية يُطارده؛ وفي خِضم الفوضى التي تلت ذلك، دفعتُ العربة بسرعة مبتعدًا فدلفتُ إلى شارع ميدلسكس وتوجَّهت صوب سبيتالفيلدز.
كان مسيري بالشوارع البائسة والقذرة أشبهَ بمسير المُنتصرين. إذ واكبني حشدٌ كبير من الشباب بالموسيقى الصوتية، وهتف البالِغون من فوق الأرصفة، رغم أن أحدًا منهم لم يُخجِلني بإعطائي الهدايا. لكن ورغم ابتهاجي الظاهري، كنت قلِقًا بداخلي. كانت الساعة قد قاربت على العاشرة بالكاد، وما زالت هناك ساعات كثيرة من هذا اليوم من شهر نوفمبر ينبغي أن تمضي قبل أن يُصبح آمنًا أن أتَّجه إلى وجهتي. كان التجوُّل في الشوارع مدة عشر ساعات أو اثنتي عشرة ساعة مع هذه الحمولة البارزة للغاية أمرًا غير مُريح على الإطلاق، فضلًا عن الخطر المُتزايد لانكشاف أمري، فكنت أترقَّب الأمر بهواجسَ منذرةٍ وكئيبة. فإذا ما حامت الشكوك حولي، فسيُمكن تتبُّعي بسهولة كبيرة، وفي كل الأحوال سأكون منهكًا من التعب قبل حلول المساء. وبتأمُّل هذه العقبات، قرَّرتُ البحث عن بقعة منعزلة حيث يمكنني تنزيل الدميتَين وتغطيتهما بالقماش المُشمَّع الملفوف في العربة وأخْذ قسط من الراحة، وذلك حين ناصرتني الظروف وأخذت صفِّي مرة أخرى.
كانت الغشاوة الشتوية المعهودة تلفُّ المدينة طوال الصباح والمساء؛ لكن الآن، وبسبب تغيُّر اتجاه الرياح، بدأت الغشاوة تزداد كثافة بسرعة حتى تحوَّلت إلى ضباب كثيف. فأوقفتُ العربةَ ورُحت أشاهد بامتنان كتلةَ البخار الصفراء المُعتِمة وهي تملأ الشارع وتحجُب السماء. وبينما يزداد الضباب كثافةً وتطبِق الظلمة على الشارع، رحل الأطفال ولم يتبقَّ إلا مُتسكعٌ واحد.
وعلَّق الرجل قائلًا: «حظًّا طيبًا أيها الرفيق مع هذا الضباب بعد كلِّ ما بذلتَ من جهد.» (وقليل هو ما يعرفه عن هذا.) «لكن لن يفلح الأمر. الأحرى بك أن تعود إلى المنزل بينما لا يزال بإمكانك معرفة الطريق. فاليوم سيكون مُظلمًا.»
شكرتُ الرجل على تعاطفه ودلفتُ عبْر الدخان المظلم. وبالقرب من سبيتال سكوير وجدت زاوية هادئة أنزلت عندها الدميتَين بسرعة وغطيتُهما بالقماش المشمَّع، ولما شعرتُ بقلق جديد بفعل كثافة الضباب المتزايدة، رحت أتحسَّس طريقي حتى شارع نورتون فولجيت. هنا تقدَّمتُ بسرعة قدْرَ ما أمكنني، ودلفت شارع جريت إستيرن وفي نهاية المطاف وصلت إلى شارع أولد ستريت، الأمر الذي أشعرني براحةٍ كبيرة.
كنتُ قد وصلتُ في الوقت المناسب. إذ إنني ولمَّا دخلت الشارع الشهير، أطبق الضباب وزادت كثافته فصار مُحكمَ الظلمة والغموض. انطفأ عالَم الأشياء المرئية وحلَّ محلَّه فوضى الأصوات المتداخلة. حتى إن طرَف العربة التي أدفعها غاب في ظلمة الجو، وكذا حافة الطريق التي جعلت العجلة اليُسرى تحتكُّ بها كانت تبدو واهنة وقصيَّة.
وبقدْرِ ما كان الضباب مواتيًا لظروفي، فإنه لم يكن خاليًا من الأخطار؛ كان أقربها وأكثرها إلحاحًا هو أنني قد أضِلُّ طريقي. أوقفتُ العربة وفصلت البوصلة الصغيرة التي أحملها دائمًا في جراب ساعتي ووضعتها على القماش المشمَّع. كان الطريق الذي سأسلكه يمتد جهة الغرب والجنوب الغربي على قدْر معرفتي به، وبوجود البوصلة أمامي، لن أتمادى إذا ما أخطأتُ الطريق. وبالفعل كان الاسترشاد بالبوصلة مهمًّا للغاية؛ فمن دونها ما كنتُ لأتمكن البتَّة من أن أجد طريقي عبْر هذه الشوارع المُعقَّدة التي تمتدُّ مسافة أميال. وحين كنتُ ألقى عربة ثابتة أو نحو ذلك من العوائق فأضطر إلى العودة إلى الطريق، كانت البوصلة تساعدني في العودة إلى حافة الطريق مرة أخرى. كما عيَّنت البوصلة زوايا الشوارع المُتقاطعة، وأرشدتني عبْر التقاطُعات الشاسعة لطريق سيتي رود وشارع ألدرزجيت، وجعلتني واثقًا وقانعًا باتجاهي وأنا أتحسَّس الطريق كسفينةٍ علِقت في الضباب في بحرٍ لا يُرى.
تقدَّمت بأسرعِ ما يمكن أن يُحقِّق عامل الأمان، لكنني كنت أتقدَّم بحذرٍ شديد، لأنه لو وقع تصادم فستكون النتيجة مهلكة. كنتُ أستمع بانتباهٍ شديد، وأُبقي عيني على البوصلة وأحافظ على احتكاك عجلة العربة بحافة الطريق، ورُحت أتقدَّم عبْر الفضاء الأصفر حتى كشف عمودٌ لا يكاد يُرى في ركنِ شارعٍ ما عن نفسه من خلال الأحرف الأولى لاسم الأبرشية التي يتْبَع لها، مثل ذلك الموجود في تقاطع شارع ريد ليون ستريت وطريق ثيوبالدز رو.
كنتُ على مشارف المنزل. وبعد عشرِ دقائق أخرى من السير الحذِر وصلت إلى زاوية كنت أعتقد أنها مواجهة لمنزلي. عُدت أدراجي مسافة عشر خطوات أو نحو ذلك، ووضعت العربة من يدي وعبَرت الرصيف … والبوصلة في يدي حتى لا تضيع مني العربة. وصلت إلى عضادة في أحد الأبواب في الشارع، فرُحت أتحسَّس الباب نفسَه حتى وجدتُ أن ثقب المفتاح من نوع ييل المألوف، فوضعتُ مفتاحي وأدرتُه فانفتح باب مدخل المتحف. وهكذا أكون قد أوصلتُ سفينتي بأمانٍ إلى برِّ النجاة.
رُحت أتسمَّع بانتباه شديد. كان أحدهم يسير في الشارع وهو يُعانق السور. فأغلقت الباب لأجل أن يمرَّ، وسمِعت صوتَ يده وهي تتحسَّس الباب وتنزلق عليه بينما هو يتقدَّم. بعدها خرجتُ وتوجهتُ إلى الجهة المقابلة نحو العربة وأخذت إحدى العينتَين وحملتها إلى الغرفة الخلفية حيث وضعتها على الأرض وعُدت على الفور إلى العينة الأخرى. وحين أصبحَت كلتا العينتَين في أمان، خرجتُ وأغلقت البابَ خلفي بالمفتاح بهدوء، وأخذت بمقبضَي العربةَ مرةً أخرى. رُحت أدفع العربةَ الصغيرة النفيسة ببطءٍ على طول الشارع، وفي أثناء ذلك لم أدَع العجلة تُبارح حافة الطريق، ورُحت أرمي الأوتاد والحبال على الطريق أثناء سيري، حتى وصلت بالعربة إلى زاوية شارع يبعُد عن منزلي مسافة ربع ميل تقريبًا؛ وهناك تركتها وعُدت إلى المتحف بأسرعِ ما يُمكنني.
كانت أولى التدابير التي أجريتُها لدى عودتي هو حمْل كنزي إلى المختبر وإشعال المصباح الغازي وفحص شَعر الجثتَين. كنت آمُل حقًّا أن يكون أحدهما هو الرجل الذي أريد. لكن للأسف لم يحدُث هذا! تكرَّرت القصة القديمة نفسها. كان شَعرهما أسودَ اللون وخشنًا ومن النوع المنغولي. كان عدوِّي لا يزال طليقًا.
بعد أن أزلتُ «تنكُّري»، أمضيت بقيةَ اليوم في إنهاء العمليات التمهيدية بهدف إتمامها قبل أن تتسلل أصابع التحلل إلى تفاصيل التراكيب الخارجية فتطمسها. وفي المساء عُدت إلى وايتشابل وفتحت المحل، ورأيت أن أشتريَ الهيكلَين العظمِيَّين الزائفين في اليوم التالي وأن أكرِّس الليالي والصباحات الباكرة التي ستلي ذلك في تحضير العينتَين.
وقد ظهرت عربة اليد في اليوم التالي بحوزة متشرد كان يحاول بيعها لقاء عشرة شلنات، وقد وُجِّهت إليه اتهاماتٍ بأنه سرقها لكنه أُخلي سبيله لعدم كفاية الأدلة. وقد عوَّضتُ بائعَ الخضر عن المشاكل التي سبَّبها إهمالي في ترك باب الباحة الخلفية مفتوحًا؛ وبهذا يأتي أمرُ هذه الحادثة إلى النهاية. ولكن مع استثناءٍ واحدٍ هام؛ لأنَّ هناك تتمةً مُذهلة.
في اليوم التالي للعملية، كان يَعتريني فضول أن أفتح اللوح المنزلق وأن أدخل إلى الحجرة التي كان المُجرمون يمكثون بها، والتي كانت الشرطة قد أغلقتها الآن. أخذت أنظر في أرجاء الغرفة ووقعت عيني على قبَّعة قماشية بالية سقطت على المرتبة التي لم تُمسَّ تحت الوسادة مباشرة. التقطتُ القبَّعة وفحصتها في فضول؛ لأنني رأيتُ من حجمها أنها لا تعود إلى أيٍّ من الرجُلَين اللذَين استحوذت على جثتيهما. وأخذت القبَّعة إلى النافذة ذات الستائر وأخذت أفحص بطانتها بدقة؛ وفجأةً رأيت شَعرةً واحدة قصيرة عالقة بقماش القبَّعة الخشن، التي كانت تبدو ذات مظهرٍ مختلف ومميَّز يظهر للعين المجردة. أخرجتُ عدستي بيدٍ مرتعشة لأفحص الشَّعرة عن كثَب أكبر؛ وبينما ظهرت الشعرة في النطاق المُكبِّر، شعرتُ وكأن قلبي قد توقَّف. لأنه ورغم هذا القدْر الضئيل من التكبير، كانت سِمات الشَّعرة لا تحتمِل النكران؛ إذ بدت الشعرة كسلسلة صغيرة من الخرز الرمادي الفاتح. أمسكتُ بالشعرة بين أصابعي وهُرعت عبر الفتحة وأغلقت اللوح المُنزلق بعُنف، ثم أسرعت نحو الطابق السفلي إلى الغرفة الخلفية حيث كنتُ أحتفظ بمجهر صغير. كنتُ في حالة شديدة من الانفعال لدرجةِ أنني بالكاد استطعتُ استخدام الأداة بصورةٍ ثابتة، لكن في نهاية المطاف ظهرت الشَّعرة أمامي: كانت كشريطٍ عريض ومُرقَّط، لبُّها داكن وبها حلقات صغيرة من فقاعات الهواء على مسافاتٍ منتظمة. كانت الشَّعرة بمنزلة نموذج مثالي على الشعر الحلقي. فماذا نستنتج من ذلك؟
هذه الشعرة تعود إلى بيراجوف بصورةٍ شبه مؤكدة. كان بيراجوف لصًّا وقاتلًا قاسيًا وله شعر حلقي. والرجل الذي أطارده لصٌّ وقاتل لا يعرف الرحمة وله شعر حلقي. إذن بيراجوف هو الرجل المنشود. كان هذا بمنزلة استنتاجٍ منطقي ناقص، لكن الاحتمالات كانت كبيرة. وقد كان المُجرم في قبضة يدي لكنه هرب بسلام!
أخذت أصِرُّ على أسناني في غضبٍ جم. كان الأمر مُثيرًا للجنون. فقد استيقظَت في صدري كل العواطف القديمة ورغبات الانتقام مرةً أخرى. وكاد اهتمامي بالعيِّنتَين الجديدتَين يتلاشى. كنت أريد بيراجوف؛ وكان الأمل المُتجدِّد بأنني سأحصل عليه في قبضتي هو ما جعلني أتخطَّى الأوقات التي شعرت فيها بخيبة الأمل المريرة.»