الفصل السابع

حتى آخر فلس

انكببتُ بفضول شديد على المُدخل الأخير من مُدخلات هامفري تشالونر في «أرشيف المتحف». لا لأن الشك كان يُخامرني بشأن ناتج المغامرة التي يُوثِّقها. فقد رأيتُ العينة التي تحمل رقم «خمسة وعشرين» في الصندوق، ومنذ ذلك الحين وهُويَّتها معروفة وواضحة. إلا أنَّ هذه الحقيقة لم تُهدِّئ فضولي بأي شكل. يُقدِّم الأرشيف سردًا متتابعًا — لا شكَّ أنه من أغرب السرديات التي التزم أحدهم بكتابتها على الإطلاق — والآن أنا على وشْك قراءة أوج هذه القصة الرومانسية الرهيبة؛ ورؤية الإنجاز النهائي للغاية التي سعى صديقي المسكين تجاهها بمثابرة لا تتزعزع.

سأقتبس هذا المُدخل بصورة كاملة عدا فقرة أو اثنتَين قُرب نهايته، وستتضح أسباب الحذف للقارئ.

«ملابسات الحصول على العينة رقم «خمسة وعشرين» في السلسلة الأنثروبولوجية (أ. العظام. ب. المستحضرات الجافة المُتقلِّصة).

لم تجلِب عليَّ الشهور التي تلت الأحداث المرتبطة بحصولي على العينتَين ٢٣ و٢٤ إلا انتظارًا مؤلِمًا وأملًا مؤجلًا. وكنت قد تخلَّيت عن ملاحقة المجرمين العاديين منذ استروحتُ رائحة طريدتي الحقيقية. كان المربات خامدًا في سلَّته؛ وقد توقفت عن وضع الشحم على درجات سلم القبو. لم يكن أمامي إلا أن ألعب دورًا سلبيًّا حتى تحين ساعة المشهد النهائي — إن كان مقدَّرًا لهذا المشهد أن يحدث. ورغم أن مدة منفاي الطويل الأجل في شرق لندن كانت تُشارف على النهاية، فإنني لم أستطِع أن أرى ذلك قادمًا. لم يسعني سوى الانتظار؛ وهل هناك أسوأ منه؟

كنتُ قد أجريتُ تحقيقاتٍ حذرة ومُتحفِّظة بين الغرباء من السكان. لكنَّ أحدًا لم يكن يعرف بيراجوف — أو على الأقل لم يعترف أحدٌ بمعرفته به؛ وبالنسبة للشرطة، بدا أنهم تركوا المسألة ونفَضوا يدَهم عنها بعدما ألقَوا القبض على بعض الأشخاص ثم أفرجوا عنهم فيما بعد. أما الصحف فكانت أكثر نشاطًا وتفاعلًا بالطبع. إذ ذكرت إحداها بالتفصيل كيف أن «دعاة الفوضى الثلاثة الذين هربوا من المنزل في شارع سول» قد شوهدوا معًا في أحد المطاعم في منطقة إيست إند؛ وتتبَّعَت عدة صحف أخرى الأماكنَ المُفترَض أنه يوجَد بها شخص غامض يُعرف باسم «السباك بول»، الذي أعلنت الشرطة أنه يُعدُّ أسطورةً غريبة. لكن بالنسبة لي كانت هناك حقيقة واحدة هامة، وهي أن هناك شخصًا واحدًا من أولئك الأشرار الثلاثة لا يزال طليقًا، وبدا أنه لا يُوجَد مَن يعرف عنه شيئًا.

التقطَ أنفي رائحةَ المجرم مرةً أخرى بعدها بنحو أربعة أشهر. ففي مساء يوم جمعة من شهر فبراير كنتُ أرتِّب المحل وأنظِّمه في فتور؛ لأن عطلة السبت اليهودية كانت قد بدأت وكان الزبائن قليلِين. لكن عند الساعة الثامنة تقريبًا دخل عليَّ رجل في شيءٍ من النشاط، فعلَّق قبَّعته وجلس على كرسي الحلاقة؛ وفي تلك اللحظة دخل رجلٌ آخر وجلس ينتظر. رمقتُ الأخيرَ بنظرة، وفي لحظةٍ شعرت بالنفور منه. لا يُمكنني تحديدُ سبب ذلك. فالعقل الذي يتَّبع المنهج العلمي يجد البديهيات والأمور الحدسية أمورًا مَقيتة. وهي في الغالب خاطئة وغير مبرَّرة بالكامل. لكني وبينما كنتُ أنظر لهذا الرجل، اجتاحتني موجة من الكراهية الفطرية والشكوك. كان مظهر الرجل شنيعًا بالفعل. كان له وجه تارتاري عريض على شكلٍ مُعيَّن، وكانت عظمتا وجنتَيه كبيرتَين وفكَّاه هائلَين؛ كما كانت له جبهة مُتدنِّية يعلوها شَعر كثيف لونه بُني مائل للرمادي؛ وكان حاجباه كثيفَين وبارزَين عن وجهه وعيناه غائرتَين، مما ينمُّ عن الشراسة والمكر؛ وقد اجتمعت هذه الصفات كلها لتجعل مُحيَّاه غيرَ جذاب بما فيه الكفاية. ولم يكن أسلوبه أفضل من هذا في شيء. تجهَّم الرجل في وجهي متوعِّدًا، ومحَّص في الزبون الآخر حيث مدَّ عنقه جانبًا ليفحصه في المرآة، ونظر في أرجاء المحل وأخذ يُحدِّق بفضولٍ في باب الغرفة الخلفية. كانت كل حركة يقوم بها تعبِّر عن الريبة والاضطراب.

حاولتُ ألا أنظر إليه كي لا تخونني ملامحي، ولكي أحوِّل ذهني عن التفكير في الأمر، ركَّزت كل اهتمامي على الزبون الآخر. وقد ساعدَني ذلك الزبون على فِعل ذلك كثيرًا. فرغم أنه لم يكن شابًّا يافعًا، فإنه كان الزبون الأكثر زهوًا وتأنقًا بين مَن جلسوا تحت يدي. إذ أوقفني الرجل مراتٍ عدة ليُعطيني توجيهات مفصَّلة عما يريدني أن أصنع به. وأخذ يشاهد نفسه في المرآة ويستشيرني بتلهُّف عن أفضل تصرُّف مع ناصيته المُجعَّدة اصطناعيًّا. وقد شتمتُه في سرِّي لأنني أردتُه أن ينصرف ويتركني وحدي مع الرجل الآخر، ولكن من أجل هذا السبب بعينه ومن أجل إخفاء نفاد صبري، لبَّيتُ احتياجاته واعتنيتُ به عنايةً كبيرة. لكن بين الحين والحين كانت نظراتي تزيغ تجاه الرجل الآخر؛ وحين تلتقي نظرتي بنظرته الشرسة المُرتابة — التي تُشبه نظرات الطرائد — كنتُ أشيح بنظري بسرعة لكيلا يتمكَّن من قراءةِ ما يدور بذهني.

أخيرًا انتهيتُ من العمل على زبوني المتأنق. فصفَّفتُ شَعره تصفيفة لطيفة وجعَّدت شَعر ناصيته بقضبانٍ ساخنة. ثم خلعت عنه مريلة الحلاقة وأنا أتنهَّد ارتياحًا، وانتظرته لكي يقوم. لكنه لم يفعل. إذ أخذ يتحسَّس وجنته متأمِّلًا وقرَّر أنه في حاجة لحلاقة ذقنه، وقد اضطررتُ إلى الإذعان له وأنا أشتُمه في نفسي.

كنت قد اكتسبت سمعةً طيبة في مهنة الحلاقة وأعتقد أنني أستحقُّها. كان بإمكاني شحذُ نصل الموسى بكفاءة عالية، وكنتُ أمسك به بيدٍ حسَّاسة وبالعناية المعتادة. وقد أعلن زبوني عن تقديره لمهارتي وأثنى عليَّ بصورةٍ متعالية وبلغة إنجليزية سليمة، وإن كانت تشوبها لكنةٌ روسية طفيفة، فأخذ يؤخِّرني بطريقة لا تُطاق من أجل التعبير عن استحسانه. وحين انتهيتُ من حلاقة ذقنه طلب أن أضع له على ذقنه بودرةً وردية؛ وحين وضعتُ له البودرة أمرني أن أُنسِّق له شاربه باستخدام مُستحضر باتي أونجروا، وقد راقبني في أثناء ذلك بعناية شديدة.

في نهاية المطاف، كان العمل مع الرجل قد انتهى. فنهض من الكرسي ونظر إلى نفسه في المرآة الكبيرة المُعلَّقة على الجدار. وراح يدور برأسه يمينًا وشمالًا وحاول أن يرى شكل قفاه. ثم ابتسم لنفسه في المرآة ورفع حاجبيه وقطَّب، وفي الواقع، جرَّب الرجل مجموعةً من التعبيرات من بينها انحناءةٌ خفيفة وكيِّسة. ثم اقترب من المرآة ليفحص إحدى البُقَع على وجنته؛ ومال عليها بيدَين مفرودتَين ليفحص أسنانه، ثم في الأخير أخرج لسانه من أجل أن يفحصه هو أيضًا. وكدتُ أنتظر منه أن يطلب مني أن أصفِّف له لسانه أيضًا. لكنه لم يفعل. وبعد أن عدَّل الرجل ربطة عنقه بدقَّة، أعطاني أجرتي بابتسامةٍ تنمُّ عن التفضُّل وعلَّق قائلًا: «أنت حلاق ماهر؛ تتمتع بذوقٍ لطيف وتبذل جهدًا كبيرًا. سأعطيك بنسًا بقشيشًا وسآتي لزيارتك مجددًا.»

ولمَّا أغلق الباب خلفه التفتُّ إلى الزبون الآخر. نهض الرجل وتقدَّم إلى كرسي الحلاقة وجلس عليه مُتجهمًا، وقد ظلَّ يُتابعني بنظراته طوال الوقت؛ وبدا أن شيئًا في وجهه ينمُّ عن الشك والقلق وحتى الخوف، ويُشير إلى شيءٍ غير اعتيادي في مظهري أنا.

كان الأمر مرجحًا بما فيه الكفاية. فرغم المجهود الشاق الذي بذلته من أجل إخماد نيران العواطف المتأججة بداخلي، لا بد وأن اختلالًا ما طفا على السطح، لا بد وأن عيني لمعت بلمعةٍ ما، أو أن اختلاجًا ما بفمي أخبر عن الإثارة الشديدة والتلهُّف الجياش اللذين ينتابانني. كنتُ أخشى النظر إليه كي لا أُخيفه فيهرب مني.

أهذا هو الرجل المنشود؟ هل هذا هو المجرم بيراجوف، قاتل زوجتي؟ تردَّد السؤال في أذنيَّ وأنا أضع ببطءٍ الرغوة على وجهه بيدٍ هي أبعدُ ما تكون عن أن توصف بالثابتة. أخبرني حَدسي أنه هو. لكن حتى وأثناء شعوري بالإثارة، كان عقلي يرفض أيَّ اعتقادٍ إن كان غير قابل للتحليل. إذ ما هو الحَدس؟ بصراحة وبساطة، هو استنتاجٌ نصِل إليه من دون مقدِّمات. لطالما كنت لا أومن بالحَدس والغريزة، وما زلت. لكن ما الذي جعلني أربط بين هذا الرجل وبيراجوف؟ كان من الواضح أنه روسي. وكان يبدو كالأشرار والمجرمين. وأسلوبه أشبه بالعدمِيِّين وعُتاة المجرمين بطريقةٍ ما. لكن كل هذا لا يُمثِّل شيئًا. فهو لا يُشكِّل أساسًا منطقيًّا للاعتقاد الذي يتملَّكني.

هناك شَعره؛ يتميَّز شَعرُه بأنه خشِن وغير مُهندم وله لون بني مائل للرمادي غريب. ربما يكون شَعره هذا حلقيًّا، استنادًا إلى لونه؛ فإن كان شَعره حلقيًّا، فلن يكون هناك شكٌّ كبير بشأن هُويته. لكن أهو حلقي فعلًا؟ كنت أتقدَّم في العمر ولا أستطيع رؤية الأشياء القريبة بوضوح من دون نظارتي؛ وكنت قد خلعتها في مكانٍ ما في الغرفة الخلفية.

وبينما أنا أضع الرغوة على وجهه، ملتُ نحو الأمام قليلًا لأنظر إلى شَعره عن كثَب، لكنه جفل مُبتعدًا في فزعٍ شديد، وفي نهاية المطاف، لم يكن بصري بدون النظارة جيدًا بما يكفي. وقد حاولتُ أن أخرج عدستي؛ لكنه سألني بغضبٍ عن هدفي من ذلك، فوضعتها من يدي ثانية. لم أجرؤ على حثِّه على العنف؛ لأن يده لو امتدَّت إليَّ لقتلتُه على الفور. وقد لا يكون هو الرجل المنشود.

وكانت عملية حلاقة ذقنه محفوفة بالمُغريات طوال الوقت. فقد استيقظت في ذاكرتي التفاصيل التشريحية التي كنت قد نسيتُها. وجدت نفسي أتتبَّع الأجزاء التي كانت تحت الجلد الخشن، وكانت في متناول يدي كثيرًا. الآن أنا عند زاوية الفك، وبينما كانت الشفرة تنسال على وجهه تتبَّعتُ حافة العضلة الإسارية وحفظت موقع تقاطعها مع الشريان السباتي الكبير. كان باستطاعتي حتى تحديدُ نبض الأوعية الدموية. كم هو قريب من سطح الجلد! إذا ما غمست الشفرة غمسًا خفيفًا في تلك البقعة …

لكنني لم يكن لديَّ دليل واضح أنه هو الرجل المنشود. ولا يمكن لمجرَّد انطباع — أو شعور بالنفور الجسدي غير المدعوم بالأدلة المادية — أن يكون كافيًا للشروع في العمل. مرَّت عليَّ لحظةٌ دعاني فيها تبرُّم همجي لتحقيق القصاص أن أستغلَّ الفرصة؛ أن أقطع له عنقه بضربةٍ وأقذف به في القبو. وفي اللحظة التالية أوقفني عقلي ودعاني أن أكفَّ يدي وأنتظر الدليل. وطوال الوقت كان الرجل يرقُبني كالقط وقد دسَّ يدَيه في جيبَي معطفه.

راودتني هذه التقلُّبات العقلية مرارًا وتكرارًا. في لحظةٍ أكون مدفوعًا بغريزة القتل الوحشية، وفي أخرى أكون عقلانيًّا — بل وأكاد أكون موضوعيًّا. في لحظةٍ تكون الضرورة القصوى هي منْعه من الهروب؛ وفي اللحظة التي تليها أحجم عن المجازفة المُروِّعة المُتمثلة في قتلي لرجلٍ بريء.

ولا يسعني أن أحدِّد كيف كان هذا الأمر سينتهي. لكن فجأةً انفتح باب المحل ودخل رجلٌ ضخم الجثة يعمل سائقَ عربة كارو، وجلس وضاعت الفرصة. ولم ينتظر الرجل الروسي ليفحص نفسه مطوَّلًا في المرآة كما فعل الزبون السابق. فبمجرد أن انتهى عملي نهض من فوق الكرسي ووضع نقودَه بطريقةٍ عنيفة وغادر المحلَّ بسرعة، وكأنه كان مسرورًا للغاية أنه نجا بنفسه. لا بد أنه كان ثمَّة شيء في مظهري يبعث بشدة على الشعور بالتهديد.

جلس سائق الكارو على الكرسي وشرعتُ في العمل معه بصورة آلية. لكن أفكاري كانت مع الرجل الذي غادر. يا له من فشلٍ تامٍّ! فبعد الانتظار كل هذه السنين، قابلتُ الرجل الذي راودني الشكُّ أن يكون هو الصعلوك نفسه الذي أطارده؛ كنت معه منفردَين — وتركته يمضي!

كم هذا عبثيٌّ! أمام عيني كان قاطنو الصندوق الجداري الكبير عابِسين وقد نهضوا موبِّخين؛ وبدت الوجوه الصغيرة الجامدة في تلك الصناديق السطحية وكأنها تنظر إليَّ وتسألني عن سبب قتل أصحابها. لقد تركتُ الرجل يرحل؛ ومن المؤكَّد أنه لن يعود إلى محلي ثانية. صحيح أني سأتعرف عليه حين ألقاه مرةً أخرى؛ لكن أي فرصة أفضل من هذه لتحديد هُويته؟ ثم مرة أخرى أتى السؤال الذي لا إجابةَ له: أكان هو فعلًا الرجلَ المنشود في نهاية المطاف؟

هكذا اضطربت أفكاري وتردَّدت. لم يكن هناك شيء ثابت ومستقر بداخلي إلا إحساس بالاكتئاب العميق؛ إحساس بالفشل لا يُوصف ويتعذَّر مُعالجته. نهض سائق الكارو وهو من الزبائن المُنتظمين ونظر إليَّ بارتياب وهو يفرك وجهه بالمنشفة. وعلَّق أنني «أبدو وكأن بي قليل من الكآبة الليلة»، ثم دفع الأجرة ورحل بعد أن تمنَّى لي «أمسية طيبة» بشيءٍ من التهذيب.

وحين غادر، وقفتُ إلى جوار الكرسي وقد انتابتني حالة من الاستغراق في الكآبة. هل أخفقتُ في نهاية المطاف؟ هل انتهى سعيي الطويل بعدم تحقُّق غايتي؟ هكذا بدا الأمر تقريبًا.

رفعتُ نظري فوقعت عيناي على انعكاس صورتي في المرآة الكبيرة؛ وفجأة راعني أنني صرتُ رجلًا متقدمًا في السن. وقد خلَّفَت سنين العمل والاضطراب الفكري آثارها العميقة عليَّ. شَعري الذي كان أسود اللون حين أتيت أولَ مرة إلى منطقة الشرق صار الآن أبيضَ كالثلج، وكان وجهي هزيلًا وتبدو عليه علامات الكِبَر والتجاعيد. صرت في خريف العمر ولم يبقَ لي الكثير. سرعان ما ستَفْرغ رمال ساعتي؛ وحينها ستأتي النهاية — النهاية العقيمة، التي لم تتحقق فيها مهمتي. لأجل هذه المهمة أفنيتُ من عمري عشرين سنة من الشقاء، أتوق إلى الراحة وإلى لمِّ الشمل الأبدي! كان من الأفضل كثيرًا لو أفنيت هذه السنوات في سَكينة القبور بجوار رفيقة أيامي الجميلة!

اقتربتُ من المرآة لأنظر عن كثَب إلى وجهي، لأرى التجاعيد التي ضربت جوانب عيني وبقيَّتها المتداخلة على وجهي المنكمش. نعم، هذا وجهُ عجوز طاعن في السن؛ وجهٌ واهنٌ يشي بالحزن والاضطراب الفكري والشقاء الأجوف. سرعان ما سيُجمِّد الموت وجهي، سيجعله هادئًا ومُسالمًا بما يكفي حينها؛ وذلك الرِّعديد الذي أحدث كل الخراب والدَّمار سيظلُّ طليقًا دون أن يُسدِّد دَينه الثقيل.

تداخل شيءٌ ما على سطح المرآة مع عيني وانعكاسي فجعل الصورة ملطَّخة قليلًا. ركَّزت بصري عليه ببعض الصعوبة فرأيت أنه مجموعة من بصمات الأصابع؛ البصمات التي صنعتها الأصابع المُدهنة لزبوني المتأنق حين مال على المرآة ليفحص أسنانه. وبينما تميَّزت البصمات أمام عيني، أصبحت أعي أنَّ هناك شيئًا مألوفًا فيها؛ في البداية كان إدراكي هذا لا شعوريًّا فلم يأسر انتباهي بقوة. لكن لم تدُم هذه الحال إلا بضع لحظات قصيرة. ثم أضحى الشعور الغامض إدراكًا تامًّا. أخرجت عدستي بسرعة لأنظر في تلك البصمات المُحيِّرة. أخذ قلبي يخفق بشدة. وانبثقت بداخلي مشاعرُ الرهبة والنصر والبهجة الشعواء والغضب العنيف، واختلطت بإحساسٍ عميق بازدراء النفس.

لا يمكن أن أكون مخطئًا. لقد نظرتُ في هذه البصمات كثيرًا. لقد حُفر في ذاكرتي كل نتوء والتواء وانثناء من هذه الأنماط المختلفة. لقد حملتُ الصورَ المكبَّرة قليلًا لهذه البصمات في دفتري الصغير طوال عشرين عامًا، ولا يكاد يمرُّ يوم إلا وأخرجتها من جيبي لأنظر فيها وأعاينها. كنت أحملها في جيبي الآن لأغراض التثبُّت وليس لمساعدة ذاكرتي.

أمسكت بالدفتر المفتوح أمام المرآة وقارنت الصور بالبصمات المطبوعة بوضوح. كان هناك سبع بصمات على المرآة؛ أربع جهة اليمين وثلاث جهة اليسار، وكانت جميعها متطابقة مع البصمات التي في الصور. لا مجال للشك. لكن إن كان …

اندفعت بسرعة نحو الكرسي. كانت الأرض لا تزال مُتسخة بما قصصتُ من شَعر ذلك الشيطان. لقد تركت ذلك الصعلوك يغادر من دون أن أنظر في شَعره وذلك بفعل غبائي وانشغالي مع الرجل الآخر. أمسكت بخُصلةٍ من الشَّعر من فوق الأرض ورحتُ أنظر فيها. كان الشَّعر يحمل صفةً غريبة يمكن رؤيتها حتى بالعين المجردة؛ كان له مظهر ناعم ومتلألئ مثل المنسوجات الرقيقة. لكنني لم أنظر إليها إلا نظرة واحدة. ثم هُرعت إلى الغرفة الخلفية ونثرت بضع شَعرات على شريط زجاجي ووضعته على منصة المجهر.

نظرة واحدة كانت كفيلة بحسم الأمر. فبينما وضعتُ عيني على الجهاز، وجدت خطوطًا رمادية عريضة متناثرة في أرجاء مجال الرؤية الدائري، وكان لبُّ كل شَعرة مغشًّى بحلقاتٍ من فقَّاعات صغيرة على مسافات متباعدة. كانت الحجَّة قاطعة. هذا هو الرجل المنشود. من الناحية الإنسانية، لم يكن هناك خطأ أو مغالطة ممكنة.

وقفت وضحكت ساخِرًا. كم هو غريب أمر الغريزة! يُسميها الحمقى حَدسًا، ولا يراها الحصفاء إلا منطقًا مبتذلًا! بإمكاني الآن فهمُ حَدسي النفيس؛ بإمكاني تحليله إلى مكوِّناته الخادعة. إنها القصة القديمة نفسها. بصورةٍ لا واعية، كنت قد أنشأت صورةً لرجلٍ من نوع معيَّن، وحين ظهر هذا الرجل تعرَّفت عليه على الفور. ذلك الوجه التارتاري الشرير الذي لطالما بحثتُ عنه. وأسلوبه الذي يتميَّز بالشراسة والمكر والشعور بالملاحقة؛ والشكوك التي لا تهدأ؛ وشَعره البُني المائل إلى الرمادي. لقد توقعتُ كلَّ هذه الأمور، وها هي ذي موجودة. من شأن الرجل الذي أُطارده أن يحمل هذه الخصال الخاصة، وها هو ذا رجل يحملها. ومن ثمَّ فإنه هو الرجل الذي أسعى خلفه.

«أوه! عجبًا لأمر مُغالطة «الوسط غير المُستغرق»! كم نتج عنكِ من حدس وبديهيات؟»

لم يدُم إحساسي بالانتصار طويلًا. فقد استفقتُ بعد لحظةٍ من التأمل. صحيح أنني وجدت القاتل؛ لكنني ضيَّعته مرةً أخرى. نذير الشؤم هذا لا يزال طليقًا في لندن بين المُجرمين الكُثُر. قال إنه سيأتيني ثانية، وآمُل أن يفعل. لكن مَن يمكنه أن يجزم بذلك؟ على الأرجح أنَّ هناك أشخاصًا غيري يبحثون عنه.

أظن أنني متفائل بطبيعتي؛ وإلا لمَا استطعتُ استكمالَ البحث والمطاردة طوال هذه السنين. ومن ثمَّ وحيث اعتدتُ خيبات الأمل العابرة، حملتُ نفسي على الانتظار والصبر، أملًا في أن يُعاود ضحيتي الظهورَ في نهاية المطاف. لكنني لم أكن أنتظر بصورةٍ سلبية تمامًا؛ لأنني بعد أن أُغلق المحل، كنتُ أخرج بانتظامٍ وأتردَّد على المطاعم الأجنبية والأماكن السيئة السُّمعة الأخرى في إيست إند، وكُلي أمل أن ألتقي به وأنشِّط ذاكرته. هذا الأمر جعل ذهني مشغولًا دائمًا وجعل وقت الانتظار يبدو أقل؛ لكن لم يثمر ذلك عن أي شيء. لم ألتقِ بالرجل قط؛ وبمرور الأسابيع دون أن يأتيَ إلى شبكتي، راوَدَني شعور غير مُريح أن شَعره لا بد وأنه قد صار أطول وأن أحدًا آخر قصَّه له؛ إلا إن كان قد وقع تحت طائلة القانون.

في تلك الأثناء، كنتُ أقوم بتحضيراتي في هدوء — اشتملت تلك على زيارة مموِّن سفن مرة أو مرتَين — ووضعتُ خُطة للتصرف. ستكون المهمة حساسة. كان ذلك الحقير يصغُرني بنحو خمس عشرة سنة؛ وهو قوي البنية ومُستعد لفعل أي شيء، كما رأيت. وقوَّتي ونشاطي كانا يتدهوران منذ بعض الوقت. واضح أنني لن أستطيع مُلاقاته على قَدم المساواة. وعلاوةً على ذلك، لا ينبغي أن أسمح له بأن يُلحِق بي جرحًا. تلك مسألة شرف. لن تكون هذه محاكمة بالنزال. بل ستكون عملية إعدام. وأي انتقام من جانبه من شأنه أن يُدمِّر الطابع الرسمي والعقابي الذي هو جوهر هذه المسألة.

مرَّت الأسابيع. وطالت وتحوَّلت إلى أشهر. وما زال زائري لم يأتني بعد. وزاد قلقي. كان ثمة أوقات أنظر فيها إلى شَعري الأشيب ويُساورني الشك؛ حينها كان اليأس يكاد يتملَّكني. لكن تلك الأوقات مرَّت بسلامٍ وتجدَّد عزمي. عمومًا، كان لديَّ أملٌ كبير وكنتُ أنتظر بفارغ الصبر؛ وفي النهاية تحقَّقت آمالي وقطفتُ ثمرة صبري.

كان الوقت هو مساء لطيف في بداية شهر يونيو — أذكر أنه كان يوم أربعاء — حين أتى الرجل أخيرًا. لحُسن الحظ كان المحل فارغًا، وبطريقةٍ غريبة بما يكفي، كان اليوم أيضًا يُمثِّل أحد أيام العطلات اليهودية.

رحَّبت بالرجل ترحيبًا كبيرًا. لم تكن عيني الآن تتوهَّج من اشتعال الغضب. كنتُ مسرورًا لرؤيته وشَعرَ هو بالإطراء لقاء التأثير العميق الذي تركته زيارته السابقة عليَّ. بدأتُ عملي بتمهُّل كبير؛ لأنني كنتُ أستطيع بصعوبة الإمساكَ بالمقص، وكنت أخشى أن يلاحظ الرجل رجفتي؛ وقد لاحظها بالفعل.

فسألني الرجل بلُغته الإنجليزية الممتازة: «لماذا ترتجِف يدُك كثيرًا هكذا يا سيد فوسبر؟ هل تُفرِط في تناول الكحوليات؟»

طمأنته أنني لم أكن أفعل ذلك، لكنني ظللتُ على حالي من العناية والحذَر حتى يهدأ الارتجاف؛ وقد هدأ عني بمجرد أن تجاوزتُ شعوري الأول بالإثارة. في غضون ذلك تركته يتكلَّم — كان الرجل فظًّا ومتفاخرًا ومغرورًا، كما قد يتوقَّع المرء منه — وقد أطريتُ عليه وأظهرت إعجابًا به حتى كاد يُخرخر كالقطط من شعوره بالرضا عن نفسه. كان من الضروري أن أُدخله في جوٍّ من المرح والمزاج الجيد.

وكان ما ينغِّص عليَّ بين الحين والحين خوفي أن يأتي زبون آخر، رغم أن أمسيات الإجازات غالبًا ما تكون شاغرةً حتى تغلق المتاجر المسيحية أبوابها. ومع ذلك، كان الخطر جِديًّا فأجبرني ذلك على افتتاح هجومي من دون أي تأخير. كان لديَّ عدة خُطط بديلة، فشرعت بتنفيذ الخطة التي رأيتُ أنها واعدة أكثر. فاستغللت توقفًا في مسار الحديث بيننا وقلتُ بنبرة واثقة:

«أتساءل إن كان بإمكانك أن تُسدي إليَّ نصيحة. أريد أن أجد شخصًا يشتري بعض الأشياء القيِّمة من دون أن يسأل الكثير من الأسئلة ومن دون أن يُحدِّث أحدًا بالصفقة بعدها. أريد شخصًا مأمونًا. فهل بإمكانك أن تقترح عليَّ أحدًا؟»

استدار الرجل في الكرسي لينظر إليَّ. وفي لحظة ذهبَت عنه كل الابتسامات التي تنمُّ عن الرضا عن الذات. كان الوجه الذي يُطالعني الآن هو أكثرَ الوجوه الشريرة التي وقعت عيناي عليها يومًا.

قال الرجل بنبرة شرسة: «الشخص الذي تقصده هو تاجر سلع مسروقة. لماذا تسألني إن كنتُ أعرف شخصًا كهذا؟ مَن تكون أنت؟ هل أنت جاسوس لصالح الشرطة؟ أجبني. لماذا قد تظنُّ أني أعرف شخصًا يتاجر في السلع المسروقة؟ أجب عن أسئلتي!»

وحدَّق الرجل فيَّ بارتيابٍ وغضبٍ شديدَين حتى إنني فتحت المقص بصورة غريزية ونظرت إلى جوار شريانه السباتي. لكنني تلقيتُ أسئلته بدماثة.

فعلَّقتُ بابتسامةٍ خرقاء: «هذا هو ما يقوله الجميع.»

فأسرع يسألني: «مَن الذي يقول هذا؟»

أجبته: «كلُّ مَن سألتهم يقولون هذا. جميعهم يقولون: «ما شأني وتُجار السلع المسروقة؟» لكن هذه الأجوبة لا تجدي معي نفعًا.»

فسألني الرجل بنبرةٍ أقلَّ شراسة مع استيقاظ الفضول بداخله بوضوح: «لماذا لا تجدي معك هذه الإجابات نفعًا؟»

سعلتُ بشكلٍ ينمُّ عن الحيرة والارتباك. وقلت: «في الواقع، الأمر على النحو التالي. بافتراض أنني أملك شيئًا ما — شيئًا قيِّمًا لكنني لا أنتفع به. من الطبيعي أن أرغب في بيعه. لكنني لا أريد أن يتحدَّث عنه أحد. فأنا رجل مسكين. قد يقول الناس أشياء غير ودِّية إن عرفوا أنني أبيع أشياء قيِّمة، وقد يسأل الفضوليون أسئلة غير مناسبة. أترى ما أقصد؟» ثبَّت بيراجوف نظرَه عليَّ في شيءٍ من الحماس. كان ثمة ضوء جديد يبزغ في عينه الآن.

فسألني مُلحًّا: «ما هذا الذي لديك؟»

سعلت مرة أخرى. وقلتُ مبتسمًا: «آه! أنت مَن تطرح الأسئلة الآن.»

«أنت تسألني النصيحة. فكيف لي أن أُسديك نصحًا إن كنتُ لا أعرف ما تريد بيعه؟ ربما أشتريه أنا بنفسي؟ أليس كذلك؟»

فأجبته: «لا أعتقد هذا، إلا إن كنتَ تستطيع تحرير شيك بمبلغٍ يتكوَّن من أربعة أرقام. هل تستطيع فعل ذلك؟»

«نعم، ربما يُمكنني ذلك، أو ربما يُمكنني أن أتدبَّر المال. أخبِرني ما هو الشيء الذي تملكه وتريد بيعه.»

رحتُ أحرِّك شفرتَي المقص بأقصى سرعة لديَّ — كان بإمكاني الآن قصُّ الشَّعر بسرعة كبيرة إن أنا أردتُ ذلك. إذ لم أعُد أخشى أن يتملَّص مني الآن. لقد ثبَّتُّه بإحكام.

قلتُ في شيءٍ من التردُّد: «المسألة مُعقَّدة، ولا أريد أن أُفصح بالكثير عن الأمر إن لم تكن ضالعًا في نفس المجال. كنتُ أظنُّ أنَّ باستطاعتك تعريفي برجلٍ موثوق في ذلك المجال.»

تململ بيراجوف في مكانه ثم نظر إلى باب الغرفة الخلفية.

وسألني: «هل هناك أحد في تلك الغرفة؟»

أجبته: «لا، أعيش هنا وحدي تمامًا.»

«ألا يُوجَد خادم؟! ألا يُوجَد أحد ليقوم على شأنك؟» هكذا سأل وكلُّه شغف خبيث.

«نعم. أنا أعتني بنفسي. فهذا أكثر توفيرًا؛ وأنا لستُ كثير المطالب.»

قلتُ جُملتي الأخيرة هذه وَفْقًا لشيءٍ لاحظته، وهو أن الطريقة المُثلى لإثارة إعجاب شخصٍ غريب بثروتك هو أن تستفيض في ادِّعاء المسكنة. وقد كان لها أثرها المعتاد. إذ تململ بيراجوف قليلًا، ورمق باب المحل بنظرةٍ سريعة وقال:

«انتهِ من قصِّ شَعري بسرعة ودعنا ندخل تلك الغرفة ونتحدَّث في الأمر.»

ضحِكتُ في سرِّي على حماسه. فقد أصبح مظهره الخارجي حتى مسألة ثانوية. تعجَّلت في الانتهاء ممَّا بقي من عملية قصِّ شَعره، ونفضتُ المريلة من الشَّعر وفتحت باب الحجرة الخلفية. نهض هو ورمق انعكاسه في المرآة، ثم رمق باب المحل بنظرةٍ سريعة وتبِعني إلى داخل الحجرة الصغيرة، وأغلق الباب خلفه بالقُفل والترباس.

أخذت أرقُبه عن كثَب. أنا لا أومن بتلك التفاهات المُسمَّاة بالتخاطر، لكن ليس من الصعب أن يتتبَّع المرء وجهةَ أفكار أحدِهم إذا ما لاحظ وجهه وتصرُّفاته. نظر بيراجوف في أرجاء الحجرة بفضول الهمج، وكان من السهل كثيرًا تفسير نظرة الاندهاش السعيدة التي ألقاها على الخزنة والطريقة التي نقل بها نظره من عليها إليَّ. تلك خزنة حديدية، يُرجَّح أنها تحتوي على أشياء قيِّمة، وأنا رجل عجوز يملك مفتاح تلك الخزنة في جيبه. النتيجة الطبيعية هنا واضحة وجليَّة.

سأل بيراجوف وهو يُشير إلى باب القبو: «أهذه حجرة أخرى؟»

فتحت له الباب وسمحت له أن ينظر في ظلمة المكان. وقلت: «هذا هو القبو. إنه يُفضي إلى الباحة الخلفية، التي تفضي بوابتها بدورها إلى زقاق بيل. قد يكون ذا نفع. ألا تعتقد هذا؟»

ومما رأيتُ من تعابير وجهه أنه كان يظن ذلك بشكلٍ قاطع. سيكون ذا نفع بكل تأكيد حين تجهز على رجل عجوز وتنهب خزنته أن تجد مخرجًا خلفيًّا هادئًا.

قال بيراجوف: «والآن أخبِرني عن ذلك الشيء. أهو بحوزتك هنا؟»

فقلت مُناجيًا: «الأمر أنه ليس بحوزتي … بعد» (وهنا سُقِط في يده)، فأضفت: «لكن بإمكاني الحصول عليه متى أردتُ؛ حين أكون قد انتهيتُ من تدبُّر أمر كيفية التصرُّف فيه.»

فقال معترضًا: «لكنك تملك خزنةً بإمكانك أن تُبقِيَه فيها.»

«أجل، لكنني لا أريده أن يكون بحوزتي هنا. أضف إلى ذلك أن هذه الخزنة لن تسع كلَّ شيءٍ إن أنا استوليت على الكل.»

برزت عينا بيراجوف من الجشع والإثارة.

وسألني: «ما نوعية هذا الشيء؟ أوانٍ فضية؟»

فقلت بغطرسة: «هناك بعض الأواني الفضية؛ الكثير منه كذلك في واقع الأمر. لكن تلك الأشياء بالكاد مُربحة. هذا الشيء هو مجموعة من الأشياء. وهو في الوقت الحالي مِلكُ أحد الحمقى الذين يجمعون المجوهرات والمُقتنيات الكنسية الثمينة؛ كأوعية القربان المُقدس والكئوس المرصعة بالجواهر وأشياء من هذا القبيل.»

لعق بيراجوف شفتَيه. وقال: «فهمتك! أنا نفسي واحد من أولئك الحمقى.» ثم ضحِك باضطراب، وكان من الواضح أنه ندم على أنه تحدَّث، ثم أضاف:

«وبإمكانك الحصول على كل هذا حين تريد، أليس كذلك؟ لكن أين هي هذه الأشياء الآن؟»

ابتسمتُ بخبثٍ ودهاء. وقلت: «إنها في مكانٍ أشبه بمتحف خاص؛ لكنني لن أقول أين يقع هذا المتحف، وإلا قد أجده خاويًا حين أذهب إليه.»

نظر إليَّ بيراجوف نظراتٍ جادة. لا شك أنه انتقص من قدري واعتبرني أخرقَ وشديد الحماقة — ولا عجب في ذلك — وكان يُفكِّر في كيفية التصرف معي.

«لكن لا بد وأن ذلك المكان — ذلك المتحف — منيعٌ. كيف ستدخل إليه؟ هل ستقرع الجرس؟»

فأجبته بنبرةٍ مرحة: «بل سأدخل بالمفتاح.»

«وهل معك المفتاح؟»

«نعم، وقد جرَّبته بالفعل. حصلتُ عليه من صديقةٍ تعيش هناك.»

فضحِك بيراجوف على الفور. وقال: «وهي مَن أعطتك المفتاح، أليس كذلك؟ ها، كم أنت عجوز ماكر! هذا أمرٌ عجيب أيضًا.» ثم حوَّل عينه عنِّي ناظرًا إلى انعكاسه في المرآة فوق الخزنة؛ وتعبيرات وجهه تقول: «لكنها إن أعطتني المفتاح، يمكن للمرء أن يستسيغ الأمر.»

ثم استطرد بيراجوف: «لكن، متى ستذهب إلى هناك؟ ستكون الأشياء محفوظة في مكانٍ آمن. ربما أنك تتمتَّع بالمهارة، أهذا صحيح؟ هل تستطيع فتْحَ خزنة على سبيل المثال؟ هل حاولتَ ذلك من قبل؟»

«كلا، لم أحاول ذلك من قبل، لكن الأمر سهل بما فيه الكفاية. لقد فتحت صناديق تعبئة من قبل. ولا أظن أن هناك خزنة حديدية. إنها خزائن خشبية. سيكون الأمر سهلًا إلى حدٍّ كبير.»

صاح بيراجوف: «هراء! صناديق التعبئة!» ثم أمسك بكُم معطفي بحماس. وقال: «اسمع مني يا صديقي، الأمر ليس سهلًا. إنه في غاية الصعوبة. إني أَصدُقك القول. وأنا أدرى بهذا. أنا لا أفعل ذلك بنفسي، لكن لي صديق يفعله وقد أراني. أنا أتمتَّع ببعض المهارة — وإن كنتُ لا أمارس ذلك إلا من أجل الترفيه كما تعلم. إنه أمرٌ في غاية الصعوبة. ستدخل وتحاول أن تجد الأشياء مقفلًا عليها وستحاول فتْحَ الخزانة ولن تُفلح إلا في إحداث جلبة كبيرة. وحينها ستُغادر خاليَ الوفاض كالخرقى، وستضع الشُّرطة حراسة على المكان. وتكون الفرصة قد ضاعت ولن تحصل على شيء.»

حككتُ رأسي بطريقةٍ خرقاء كظنِّه بي. وقلت مُقرًّا: «سيكون هذا أمرًا صعبًا.»

صاح هو: «أمرٌ صعب! بل سيكون وبالًا! أن تضيع عليك فرصة حياتك! أمَّا إن أخذت معك صديقًا لك يتمتع بالمهارة … ما قولك؟»

فقلت بمكرٍ: «آه! ولكن هذه هي فرصتي الثمينة الصغيرة. وإن أخذتُ معي صديقًا، فسيتعيَّن عليَّ أن أُشاركه فيها.»

«لكن ثمَّة ما يكفي لاثنَين. إن كانت خزنتك لا تستطيع احتواءَ كل شيء، هناك ما يفوق قدرتك على الحمل. أضِف إلى ذلك أن صديقك لن يكون طمَّاعًا. إن هو أخذ ثلثًا … أو ربما الربع. كم تبلُغ قيمة الأشياء؟»

«يُقال إنَّ قيمتها تساوي مائة ألف جنيه.»

قال بيراجوف وهو يشهق: «مائة ألف!» وكاد لعابه يسيل من فمه. «مائة ألف! هذا يعني أن خمسة وعشرين ألفًا من نصيبي — من نصيب صديقك أقصد — وخمسة وسبعين ألفًا من نصيبك. هذه مسألة مُستحيلة على رجلٍ واحد. لن تتمكن من حمل كل شيء.» ثم أمسك بكُم معطفي ثانيةً ليحملني على القبول وقال: «سآتي معك يا صديقي. أنا في غاية المهارة. وأتمتع بالقوة. وكذلك بالشجاعة. ستكون في مأمنٍ وأنت معي. سأكون رفيقك وستتخلى عن الربع — أو ربما أقل من الربع حتى إن رغبت.»

في ظلِّ هذه الظروف، هو يتمتَّع برفاهية عقد اتفاقات مُتساهلة.

فكَّرت برهةً ثم قلتُ في نهاية المطاف: «ربما أنت مُحق. فبعض الأشياء كبيرة الحجم، ووزن الذهب ثقيل — ينبغي بنا أن نتخلى عن الأواني الفضية. سيتطلب الأمر رجلَين اثنَين ليحملا كل شيء. حسنًا، ستأتي معي وستحضر معك الأدوات المناسبة. متى سنفعل ذلك؟ يُناسبني أن نفعلها في أي ليلة كانت.»

فكَّر بيراجوف في شيءٍ من الارتباك، ثم سألني:

«هل تفتح محلك أيام الأحد؟»

أزال هذا السؤال عن ذهني عبئًا ثقيلًا. إذ كنتُ أفكِّر في أي الخُطط التي سيتبعها. والآن صرتُ أعرف. وخطَّته هذه ملائمة لي تمامًا.

أجبته: «كلَّا، أنا لا أفتح المحل أيام الأحد.»

فقال هو: «سنُنفِّذ المهمة إذن ليلة السبت أو صباح يوم الأحد. وهذا سيمنحنا نحو يومٍ من الزمن تقريبًا لتقسيمها.»

«صحيح. هذا تدبير جيد. هل ستأتي هنا ليلة السبت وننطلِق معًا؟»

فأجابني: «كلَّا! لا ينبغي أن نفعل هذا أبدًا. لا ينبغي أن يُشاهدنا الناس معًا. حدِّد لي موعدًا. وسنلتقي بالقُرب من المكان.»

لقد كنتُ أوافقه الرأي! لا ينبغي لنا أن يرانا الناس الذين نعرفهم في وايتشابل معًا. فقد يذكر أحدُهم ذلك في التحقيق. وهذا لا يُناسب بيراجوف بالمرة.

ثم استطرد: «اسمع، ارتدِ قبَّعة عالية وملابس طيبة؛ إن كنت تملك بدلة مسائية فارتدِها. وأحضر حقيبة جلادستون جديدة وبها بعض الملابس. أين ستلتقي بي؟»

اتفقت معه على أن نلتقيَ في شارع أبر بيدفورد بليس واقترحت أن تكون الثانية عشرة والنصف هي ساعة اللقاء، ووافقني هو على ذلك؛ وبعد أن أرسلَني إلى الخارج لأستطلِع له الأجواء، غادر وهو يبرم شاربه المُصفَّف بالشمع.

كنت في غاية السرور من الاتفاق عمومًا. وكنتُ مسرورًا بصفة خاصة من خطة بيراجوف المكشوفة المُتمثِّلة في التخلُّص مني. كنتُ قد وجدتُ في نفسي نفورًا من تأدية دور الجلاد، وإن كنتُ أريد أن أقوم بواجبي في نفس الوقت. لكن حقيقة أن هذا الرجل كان يُدبِّر ببرودة أعصابٍ لأن يغتالني جعلت مُهمتي مستساغة أكثر. إن الرغبة البريطانية في اللعب بطريقةٍ شريفة ضاربة بجذورها عميقًا.

كانت خطة بيراجوف بسيطة للغاية. سنذهب معًا إلى المنزل، وسنأخذ الغنيمة — أحمل أنا نصفها — وننقلها إلى بيتي في شارع سول في وقتٍ مُبكِّر من صباح يوم الأحد. ثم نقسم «الغنيمة» وحين ينتهي عملنا وأُصبحُ غيرَ ذي نفع له، سيضربني على رأسي ويُجهز عليَّ. ومن شأن البوابة الخلفية الهادئة أن تُمكِّنه من حملِ ما نُهب على شكل دفعاتٍ إلى مسكنه. ثم سيُوصد البوابة ويختفي. وفي غضون أيام قليلة ستقتحم الشرطة المنزل وتجد جثتي؛ وسيكون السيد بيراجوف في فندقه لِنقُل في أمستردام يقرأ خبرًا عن التحقيق. كانت الخطة بسيطة وفعَّالة بصورةٍ جذابة، لكنها تُخفق في أن تضع في حساباتها اللاعب الموجود على الجانب الآخر من الرقعة.

كانت الفترة ما بين الأربعاء والسبت تمرُّ وأنا مُستغرق في أفكارٍ مضطربة وإثارة كبيرة. كنت أخرج كل ليلة، واكتشفت أنَّ هناك مَن يتبعني — من مسافة قريبة — وقد كان هذا هو السيد بيراجوف. ذات مساء راوغتُه وزغت منه وراقبتُه وهو يقود عربة أجرة على نحوٍ غاضب سعيًا وراء عربة أجرة أخرى كان من المُفترض أنها تحملني. زرتُ المتحف في تلك الليلة. لا لأنه كان هناك شيء مُهم لأقوم به. فقد قمتُ بكامل ترتيباتي قبل فترةٍ قصيرة بالفعل، والآن لم يكن عليَّ سوى أن أتحقَّق منها ومن أنها تعمل؛ على سبيل المثال، أن أختبر المِقبض النحاسي المُتصل بالمأخذ الكهربائي وأن البكرات المُشحمة بالزيت جيدًا لرافعتَين تعمل بكفاءة وهدوء. كان كل شيء يعمل، حتى المربات المُخبَّأ بعيدًا عن الأنظار، كان بمتناوَل اليد في سلَّته الصغيرة.

وحلَّت ليلة السبت في موعدها. أغلقتُ المحل عند التاسعة، وارتديت ثياب المساء وأخذت حقيبة جلادستون التي اشتريتُها حديثًا وناديتُ على عربة أجرة. ذهبت في البداية إلى مطعم كرايتيريون وتناولتُ عشاءً شهيًّا وكبيرًا؛ وكنت أتفادى تناول الأطباق الصعبة الهضم. ومن المطعم خرجتُ إلى المتحف، حيث تلكَّعت فيه قليلًا وأنا أُجري فحصًا أخيرًا لترتيباتي، وذلك حتى بقيتُ خمس دقائق على الساعة الثانية عشرة والنصف. حينها تقدَّمت وسِرت في هدوء إلى شارع أبر بيدفورد بليس.

ولمَّا استدرت في زاوية الشارع وبعثت نظري على طول الشارع العريض لم أجد على رصيفه الطويل سوى شخصٍ واحد فقط؛ كان أشبه بلطخةٍ قاتمة وغامضة وسط جو الليل الصيفي الرمادي. تقدَّم ذلك الشخص نحوي، ولمَّا استوى شكله وانتظم، رأيت بيراجوف في ثيابٍ مسائية، ومُغطًّى بمعطفٍ ضخم ويحمل حقيبة يد صغيرة.

قال بيراجوف بنبرة لطيفة: «أنت ملتزم بمواعيدك يا فوسبر. هلا نقوم بزيارتنا الآن؟ هل سَكن المنزل بعد؟ هذه المنازل لم تسكن بعدُ كما ترى.» ثم أومأ باتجاه مجموعة أنزال كنا نمرُّ بها، وكان الضوء لا يزال ينبعث من نوافذ كثير منها.

فأجبته: «لقد سكن المنزل الذي سنقصده. فصاحب المكان ينام مبكرًا. لقد مررتُ به للتو لأرى إن كانت كل الأضواء قد أُطفئت.»

اجتزنا الميدان بسرعةٍ وتقدَّمنا تجاه الحي الذي يقع فيه بيتي. وكان بيراجوف في غاية الدماثة. كان يتحدَّث بابتهاجٍ بينما نحن نسير، كما تمنَّى «ليلة طيبة» لأحد رجال الشرطة، الذي قام بدوره بلمس خوذته ردًّا على تصرُّف بيراجوف. وحين توقَّفت أمام باب المتحف، نظر بيراجوف حوله وهو عابس بعض الشيء.

وغمغم يقول: «أشعر أني أعرف هذا المكان. نعم، لقد جئتُ إلى هنا من قبل؛ قبل سنواتٍ طويلة. نعم، نعم؛ أتذكَّر ذلك.»

ثم ضحِك ضحكة خفيفة وكأنه يتذكَّر شيئًا مُسليًا. عضضتُ على أسناني من الغضب وأدخلت المفتاح ودفعت الباب.

وقلت: «ادخل.» فدلف إلى داخل القاعة. تبِعتُه أنا وأغلقت الباب في هدوء، وأغلقت المزلاج بينما كان قُفل الباب يُحدِث صوت الإقفال. كان ذلك عملًا احترازيًّا بسيطًا لكنه كافٍ لعرقلة أي انسحابٍ سريع.

اقتدتُه عبْر المتحف وأضأت مصباحًا كهربائيًّا واحدًا ملأ الحجرة الكبيرة بضوءٍ أحمر شاحب. نظر بيراجوف حوله مُستفسرًا وسقطت عينه على الصندوق الطويل المعلَّق على الجدار وبه الأشكال الشاحبة التي لا يمكن رؤيتها جيدًا. هنا شحب وجهه فجأة وحدَّق بعينَين جاحظتَين.

وصاح متعجبًا: «يا إلهي! ما هذه الأشياء؟»

فقلت: «تقصد هذه الهياكل العظمية؟ إنها جزء من المجموعة. الرجل الذي يملك هذا المكان يجمع كل أنواع النفايات. تعالَ وألقِ نظرة عليها.»

همس بيراجوف: «هياكل عظمية! هياكل عظمية بشرية! أوه، لا يروق لي هذا!»

رغم ذلك تبِعني حول الحجرة وأخذ يُحملق باضطرابٍ في صندوق الجماجم بينما مررنا به. رافقته السير ببطء بطول الصندوق المُعلَّق على الجدار وأخذ هو يُحدِّق في الأجسام البيضاء الساكنة التي كان عددها أربعةً وعشرين، وكان صوت ارتجافه مسموعًا بوضوح. حريٌّ بي أن أُقرَّ بأن مظهرها في ذلك الضوء الضعيف كان مثيرًا للذهول؛ كان وضعها طبيعيًّا ووجوهها مُعبِّرة للغاية وهي تتجسَّد عليها ظلال عريضة. كنت مسرورًا للغاية من تأثيرها عليه.

شهِق بيراجوف وقال: «لكنها مُرعبة! تبدو لي على قيد الحياة. تبدو وكأنها تنظر إليَّ — وتقول: «تعالَ هنا: تعالَ وابقَ معنا.» أوه، إنها مريعة! لنغادر هذا المكان بعيدًا عنها.»

ثم تسلَّل على أطراف أصابعه نحو الجانب الآخر من الحجرة ووقف يرتجف بوضوح؛ كان يرتجف لرؤية مجموعة من العظام الجافة. كان الأمر مدهشًا. لطالما حيَّرني الخوف الغريب والخرافي الذي ينظر به هؤلاء الناس الجهلة إلى تلك الأشياء الجميلة والمُثيرة للاهتمام. لكن بالتأكيد كانت تلك حالة متطرفة. لدَينا هنا صعلوكٌ بائس على استعدادٍ ودون تردُّد لأن يقتل امرأةً يافعة وجميلة، ويضحك عندما يتذكَّر تلك الحادثة الشنيعة. بينما في واقع الأمر هو مرعوب لرؤية بضع قطعٍ غير منتظمة الشكل ومصنوعة من فوسفات الجير والجيلاتين. أقولها مرةً أخرى، كان الأمر مدهشًا.

ولم يستفِق بيراجوف من هذه الحالة إلا ليتحوَّل إلى الشراسة التي يتميَّز بها الأشرار الخائفون.

فسأل ملحًّا: «أين هي تلك الأشياء أيها الأحمق؟ أرِني إياها بسرعة وإلا قطعتُ رقبتك. أسرع! لنحصل عليها ونُغادر.»

راقبتُه بحذَر. فأولئك المجرمون السلافيون يُشبهون القطط المرعوبة حين يدخلون في حالة من الذُّعر؛ حيث يكون من الخطورة الشديدة أن تقترب منهم وقتها. إذ كلما زاد خوفهم زادت خطورتهم. لا بد أن أستمرَّ في مراقبته والحذَر منه.

فقلت له: «أستطيع فتْحَ إحدى الخزائن.»

«افتحها إذن أيها الخنزير! افتحها بسرعة! أريد أن أغادر هذا المكان!»

عبس بيراجوف في وجهي وكأنه قردٌ غاضب، واقتدتُه إلى الخزانة السرِّية. وبينما أنا أدير المزالج الخفيَّة بتأنٍّ شديد وأستعدُّ لخلع اللوح، فكَّرت في أن الوقت ربما لم يَحِن بعدُ للشروع في استخدام التجهيزات. لأنني أعددتُ مفاجأةً صغيرة لبيراجوف، وكنتُ أشكُّ الآن في طريقة استقباله لها. أضِف إلى ذلك أنني لم أكن أستمتِع بتكشُّف الأحداث بقدْرِ ما كنت أتوقَّع. كان فقدان بيراجوف لرباطة جأشه أمرًا مقلقًا.

رغم هذا، أزلتُ اللوح ووقفتُ جانبًا لأشاهد النتيجة. نظر بيراجوف إلى داخل الخزانة وغمغم بشيءٍ ينمُّ عن خيبة الأمل.

«لا يُوجَد شيء بها سوى كتبٍ وهذه الصناديق. أنزِلِ الصناديق، أيها الخنزير، ودعني أرى ما فيها.»

رفعتُ الصناديق من فوق الرف.

وقلت: «إنها في غاية الخفَّة. وها هما مسدَّسان فوقها.»

هذان المسدسان كانا هما المفاجأة التي أعددتُها بشيءٍ من تعمُّد الأذى. كنت قد أخذتهما من جيوب العينتَين الأخيرتَين واحتفظتُ بهما من أجل النقوش التي نقشها هذان الحقيران على عقبيهما.

صاح بيراجوف: «مُسدسان! دعني أُلقي نظرة عليهما.» ثم اختطف السلاحَين من فوق الصناديق وأخذهما ناحية المصباح. وحينها سمعت على الفور شهقةً تنمُّ عن الذهول.

«يا إلهي! هذا أمر عجيب! هذا هو مُسدس لويس بلوتكوفيتش! والآخر هذا ملك لبوريس سلوبودنسكي! كانا هما أيضًا ها هنا!»

ثم حدَّق فيَّ بفم فاغر، وهو مُمسك بالمسدسَين كلٌّ في يدٍ مرتعشة — وكنت قد أزلت منهما الرصاص. كان يفقد القليل المُتبقي من رِباطة جأشه بسرعة.

وضعتُ الصناديق على طاولة صغيرة وأضأت المصباح الذي كان مُعلَّقًا فوقها على علوٍّ منخفض. وفوق الطاولة نحو السقف كانت هناك إحدى العوارض المُتقاطعة. ومن تلك العارضة كانت هناك رافعتان ذواتا بكراتٍ معلَّقتان. وينتهي ذيل حبل كلٍّ منهما بأنشوطةٍ معلَّقة على خطَّاف على الحائط، وكان الحبلان مُعلَّقَين على خطافَين آخرين. لكن لم يكن أيٌّ من هذه الأشياء ظاهرًا. كان المصباح المُظلل يلقي بضوئه على الطاولة فقط.

اجتاز بيراجوف الحجرة ووضع المُسدَّسين.

وقال بفظاظة: «افتح هذه الصناديق ودعنا نرى ما فيها.»

أزلتُ غطاء أحدِها؛ ففزع بيراجوف وهو يشهق وجفل نحو الخلف، لكنه عاد وأخذ يشمُّ في الصندوق وكأنه حيوان مرعوب.

وتساءل بنبرةٍ هامسة وخشنة: «ما هذه الأشياء بحق الجحيم؟»

أجبته: «تبدو كرءوس دمًى.»

همس مرتجفًا: «بل تبدو كرءوس رجالٍ قتلى، بَيْدَ أنها في غاية الصغر. إنها مثيرة للفزع! وهذا الرجل الذي يهوى تجميع هذه الأشياء، إنه لشيطان. أرغب في قتله.» أخذ يُحدق باندهاشٍ يخالطه الرعب في المستحضرات الجافة الصغيرة — كان ثمَّة ثمانية منها في هذا الصندوق، كلٌّ منها في قسمه الصغير من المُخمل الأسود، وعلى الملصق كان رقم المُستحضر والتاريخ مُدوَّنين. ثم فتحت الصندوق الثاني — وكان يحتوي على ثمانية رءوس أيضًا — وراح هو يُحدِّق فيه أيضًا بنفس الاندهاش المشوب بالرعب والارتجاف.

همس لي قائلًا: «في ظنك، ماذا تعني هذه التواريخ؟»

فأجبتُه: «أظن أنها تواريخ الحصول على هذه العينات. هذا صندوق آخر.» كان من المفترض أن يحويَ هذا الصندوق الأخير تسعة رءوس، لكنه احتوى على ثمانية فقط — في الوقت الراهن. كان ثمَّة قسم فارغ من المُخمل الأحمر في وسط الصندوق، وعلى كِلا جانبَيه كان رأسَا العينتَين الأخيرتَين اللتان تحملان رقمَي ٢٣ و٢٤.

أزلتُ الغطاء وتراجعتُ خطوة لأرى ما سيحدث.

حملق بيراجوف بالصندوق من دون أن يتحدَّث لنحو ثانيتَين أو ثلاث. ثم أطلق صيحةً مفاجئة. وقال: «إنه بوريس! هذا بوريس وهذا لويس بلوتكوفيتش!»

تيبَّس الرجل في مكانه. وقف جاسئًا ويداه على فخذَيه وهو يميل نحو الصندوق، وقد انتصب شَعره ووجهه الشاحب يتصبَّب عَرقًا وفمه فاغر؛ كان تجسيدًا حيًّا لمشاعر الهلع. وفجأة بدأ يرتعش بعُنف.

نظرت إليه باشمئزازٍ وشعور فوري بالنفور. ماذا الآن! هل ينبغي أن أستدعي كلَّ تلك الأدوات التي أتقنتُ تحضيرها من أجل قتل شخصٍ بائس ومرتعش كهذا؟ كلا، لن أفعل. المربات وحدَه سيفي بالغرَض. كلَّا، المربات أفضل من أن أستخدِمه.

مددتُ يدي خلف ظهري ورفعت أنشوطة من فوق خطافها. كاد وزنها يُغلق الحلقة؛ لأن العُقفة المعدنية المربوطة في طرفها انسالت بسهولة وسلاسة شديدتَين على الحبل المُشحَّم بعناية. فتحتُ الحلقة على اتساعها وملتُ على بيراجوف من خلفه وبهدوء مررتُها على كتفَيه ثم سحبتُها لأُحكم الوَثاق حين كانت عند مستوى مرفقَيه. قفز بيراجوف لأعلى، لكن في تلك اللحظة ركلتُ إحدى قدمَيه ودفعتُه إلى الجانب غير المدعوم، وحينها سقط مُمددًا على وجهه. ثم سحبت الحبل سحبةً أخرى، وبينما كافح هو من أجل أن ينتصِب واقفًا، انتزعتُ حبل الرافعة من خطَّافه وجريتُ به وكنتُ أجذب الحبل في طريقي. ثم نظرت إلى الخلف فرأيتُ بيراجوف يرتفع ببطءٍ مع جذب الرافعة له لأعلى حتى انتصب، وكانت قدمُه تلامس الأرض بصعوبة. حينها ثبتُّ الحبل في واحد من مِرْبطَين واقتربت منه.

حتى هذه اللحظة، كان الذهول قد عقد لسانه، لكنه صاح صيحةً تنمُّ عن الرعب بينما اقتربتُ منه. وهذا أمرٌ غير مُناسب أبدًا. فأخذت الكمامة من المكان الذي خبَّأتها فيه لتكون جاهزة للاستخدام، وأتيتُ من خلفه ووضعتُها على فمه وربطتها، وكنت أحاول تفادي محاولاته لعضِّي. كانت الكمامة رديئة — حيث لم يكن بها قطعة لتكميم اللسان — لكنها أدَّت الغرض المطلوب منها، حيث خفَّفت صيحاته إلى مجرد زمجرة مكتومة لا تُسمَع من الخارج.

والآن وقد صار هذا البائس الشقي مكبَّلًا ومُكممًا ومغلوبًا على أمره، وجدتُ سريرتي تحثُّني أن أُنهي المسألة بسرعة. لكن ثمَّة أمور شكلية ينبغي مراعاتها. فهذه عملية إعدام. فوقفت أمام أسيري وخاطبته.

«استمع لي يا بيراجوف.» ولمَّا سمِع اسمه توقَّف عن الزمجرة وحدَّق بي، فأكملت مقالي: «قبل عشرين عامًا أتى لصٌّ إلى هذا المنزل. كان في غرفة الطعام في الثانية صباحًا ويستعدُّ لسرقة الأواني الفضية. ثم أتت سيدة إلى الحجرة وأعاقت عمله. حاول هو أن يمنعها من دقِّ الجرس. لكنها تمكَّنت من دقه؛ فأطلق عليها النار وأرداها قتيلة. لا حاجة إلى أن أُخبرك يا بيراجوف مَن كان ذلك اللص. لكنني سأُخبرك مَن أكون أنا. أنا زوج تلك السيدة. ظللتُ أبحث عنك طوال عشرين عامًا، والآن صرتَ في قبضتي؛ ولا بد أن تلقى جزاء تلك الجريمة.»

ولما توقَّفت عن الحديث شرع يغمغم من جديد. أخذ يهزُّ رأسه يمينًا وشمالًا والدموع تنهمِر على وجهه الشنيع. كان الأمر فظيعًا. كنتُ أرتجف أنا نفسي من رأسي وحتى أخمص قدمي، فأخذتُ الأنشوطة الثانية ومررتُها من فوق رأسه وعدَّلتها بسرعة. ثم جذبت الحبل الثاني وسِرتُ به وأنا أجمع الجزء الباقي من الحبل. ومع زيادة الضغط على الحبل في يدي توقَّفَت غمغمته فجأة. لكنني لم أنظر إلى الخلف قط. ظللت أشدُّ الحبل حتى شعرتُ بالبكرتَين تجتمِعان إحداهما مع الأخرى. فثبتُّ الحبل في المربط الآخر وربطته مع الحبال الأخرى على شكل نصف عقدة. ثم خرجتُ من المتحف وأغلقت الباب.

كان الأمر مختلفًا تمامًا عما كنتُ أتوقَّع. وبينما كنت جالسًا إلى طاولة المختبر ورأسي مدفون بين يديَّ، كنت أرتجف وكأني أعاني الحمَّى؛ كان جسمي غارقًا في عَرق بارد وشعرتُ أنني سأستريح لو بكيت. كنت في حالة ذهول من نفسي. لقد أفنيت أربعةً وعشرين من هؤلاء الهوام بقلبٍ صافٍ ومرتاح؛ لأني كنتُ أُسدد الضربة القاتلة في خضم النزاع؛ والآن، ولأن هذا البائس كان مغلوبًا على أمره ومعدوم المقاومة، كنتُ على وشْك الانهيار من الجهد الذي بذلتُه في قتله.

جلست في المختبر المُظلم أستعيد وأتأمل على مهلٍ السنواتِ الطويلةَ التي مرَّت منذ سلبني ذلك الوغد حبيبتي. زاد هدوئي تدريجيًّا بمرور الوقت. لكن مرَّت ساعة كاملة قبل أن أتمكَّن من استحضار العزم للعودة إلى المتحف وطمأنة نفسي أن الدَّين المُستحقَّ منذ فترةٍ طويلة قد سُدد أخيرًا حتى آخر فلس.

وفي صباح يوم الإثنين سحبتُ من حسابي البنكي مائة جنيه على هيئة أوراق نقدية، وسلَّمتها إلى أرملة مالك منزلي ومحلي — كان السيد ناثان قد مات قبل عدة سنوات — مع تنازلٍ منِّي عن المحل والمنزل الكائنَين بشارع سول. وأفرغت الخزنة وأخذت معي من أشيائي ما أردتُ الاحتفاظ به، وتركت الباقي للسيدة ناثان. ثم حلَقتُ لحيتي الرثة وشاربي الأبيض وجهَّزت منزلي في بلومزبيري، وصرفتُ معاشًا إلى الحارس (الذي صار الآن رجلًا عجوزًا) وعيَّنتُ مجموعة من الخَدَم الشرفاء وذوي السمعة الحسنة. وحين انتهيتُ من العينة الأخيرة ووضعتها في مكانها في المتحف، كان عملي قد اكتمل. وليس أمامي الآن سوى انتظار النهاية. إني أنتظرها الآن وآمُل ألا ينفد صبري.

ثمَّة شيء يُحدثني أنني لن أنتظر طويلًا. أحاسيس مُعينة جديدة وغريبة ناقشتُها مع صديقي الدكتور وارتون، يبدو أنها تحمل بشائرَ التغيير. وارتون يستخفُّ بها، لكنني أظنُّ وآمُل أنه مُخطئ. هذا الأمل يكفيني ويُرضيني؛ أن أعتقد أنني سأسمع عما قريب أصواتَ ناقوس الغروب تتسلل وسط ضباب المساء وتُعلن لي أن اليوم قد انتهى وأن شرارتي الصغيرة ستخبو.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤