(١) النَّسخ لفظًا ومعنًى
وقد استحوذ موضوع النسخ على مباحث الكتاب
كلها، لدرجة أنه قد أصبح هو الموضوع الأوحد
دون «التنزيل»، في حين أن «التنزيل» سابق
على «النسخ».
٩٢
كما جرت العادة على وضعه بعد الأخبار؛
لأن النَّسخ في النصوص؛ أي في الكتاب
والسنة. وقد يوضع في الكتاب نظرًا لأهميته
وفي تطور الوحي التشريعي. في حين أن
الأخبار استأثرت بالتواتر والآحاد، حتى لا
تطول لو ضُمَّ إليها النسخ.
٩٣ وقد وُضِع ضمن السنة مع العموم
والخصوص، حتى تضخمت مباحث السنة على الكتاب.
٩٤ وتداخَل الكتاب والسنة معًا في
النسخ والتخصيص والاستثناء.
٩٥ وقد يظهر النسخ تحت عنوان «في
كون الأصل النقلي مستمر الإحكام».
٩٦
والنسخ اشتقاقًا هو الرفع والإزالة. وفي
الاصطلاح ارتفاع الحكم السابق بالحكم
اللاحق، أي بيان انتهاء زمن الحكم الأول
الذي تجاوزه الزمن وتعداه التطور.
٩٧ النسخ هو الإبطال والإزالة،
مثل «نسخت الشمس الظل»، ومنه مذهب التناسخ،
أي تبديل جسمٍ مكان جسم لنفس الروح، ومنه
نسخ الكتاب؛ أي نقله، ومنه نسخ الشرائع.
النسخ إزالة الحكم الثابت لشرع متقدم بشرع
متأخر عنه على وجه لولاه لكان ثابتًا.
٩٨ وبتعبير آخر: هو الخطاب الدال
على ارتفاع الحكم الثابت بخطاب متقدم على
وجه لولاه لكان ثابتًا مع تراخيه عنه.
٩٩
ونسخ تحريم ما هو مباح ليس نسخًا، بل عود
إلى الأصل، فالأشياء في الأصل على الإباحة،
ولا ترفع براءة الذمة إلا بدليل.
١٠٠
ويُنسَخ الشيء بغيره وإن أمكن اجتماعه
معه، كنسخ عاشوراء بصوم رمضان.
١٠١ وتكون العلاقة بين الاثنين
علاقة الجزء بالكل؛ لذلك يعني النسخ
الانتقال من الحكم الكلي إلى الحكم الجزئي،
ويكون أقرب إلى البيان منه إلى التغيير.
أما الكليات العامة للشريعة فالنسخ فيها
قليل؛ لأن النسخ لا يكون في الكليات
وقوعًا، وإن أمكن عقلًا. ويدل على ذلك
الاستقراءُ التام، وقيام الشريعة على
الضروريات والحاجيات والتحسينات، وكلها
كليات لم يُنسَخ منها شيء، بل أتت تشريعات
المدينة لتقويتها وإحكامها وتحصينها.
١٠٢ والفرعيات التي وقع فيها
النسخُ قليلة للغاية؛ لذلك كان المنسوخ من
المتشابه، وغير المنسوخ المحكم.
١٠٣ القواعد الكلية من الضروريات
والحاجيات والتحسينات، لم يقع فيها نسخ،
وإنما وقع النسخ في أمور جزئية بدليل
الاستقراء. فإن كل ما يعود بالحفظ على
الأمور الخمسة ثابت. وإن نسخ بعض جزئياتها
غرضه حفظ آخر، وإن نسخ بعضها إلى غير بدل،
فأصل الحفظ باقٍ؛ إذ لا يلزم من رفع بعض
أنواع الجنس رفعُ الجنس، فالضروريات محفوظة
في كل ملة، وإن اختلفت طرق الحفظ، وكذلك
الأمر في الضروريات والحاجيات والتحسينات.
١٠٤
والنسخ عند الأصوليين المتقدمين أعم منه
عند المتأخرين، فقد يطلق النسخ على تقييد
المطلق. وتخصيص العموم بدليل منفصل إلى
متصل، وبيان المبهم والمجمل. كما يطلق على
رفع الحكم الشرعي المتقدم بحكم شرعي متقدم
آخر؛ لاشتراك الأمرين في معنًى واحد، وهو
إيقاف العمل بالنسخ، وبداية العمل بالناسخ.
والأمثلة كثيرة على أن مقصود المتقدمين
بإطلاق لفظ الناسخ، بيان ما في تلقِّي
الأحكام من مجرد ظاهرة إشكال وإيهام لمعنًى
غير مقصود الشارع، فهو أعم من اختلاف الأصوليين.
١٠٥ ولا يدخل «جبريل» في النسخ؛
لأنه موضوع علم أصول الدين وليس علم أصول الفقه.
١٠٦
(٢) إثبات النسخ
ونظرًا لأهمية النسخ فإنه يتم تفنيد حجج
منكريه عقلًا أو سمعًا.
١٠٧ ولا يجوز امتناعه عقلًا؛ لأنه
ممكن في ذاته، ولا يتولد عليه من مفسدة أو
استحالة. وقد وقع بالفعل بنسخ الشريعة
الإسلامية الشرائع السابقة.
١٠٨ فالنسخ جائز عقلًا وواقع سمعًا.
١٠٩
ولا يمتنع النسخ لاستحالة الرفع، فما ثبت
لا يُرفع، وما رُفع لا حاجة إلى إثباته؛
لأن الحكم المنسوخ أدى دوره في تطور الواقع
ودفعه نحو التقدم. ما استمر الواقع في
التطور بقوة الدفع الأولى لزم النسخ. فثبات
الحكم ليس أبديًّا، بل ثبات مؤقت بوقته في
النسخ، واقع ثابت عقلًا وشرعًا.
وقِدم الكلام لا يمنع من النسخ، فالنسخ
تشريع. علاقة الخطاب بالواقع وليس صفة
قديمة للذات، كما هو الحال في علم أصول
الدين. وكل ما هو متعالٍ في علم أصول الفقه
فهو بين قوسين. وحدوث الكلام مثل حدوث
التشريع. النسخ يتعلق بالمكلَّف وليس
بالمكلِّف، بأفعال الناس وليس بما دوِّن مع
المحفوظ، الموضوع بين قوسين.
١١٠
ولا يتعارض حُسن الأفعال وقُبحها مع
النسخ، فالحُسن والقبح باقيان ولكن
يتداخلان ويتفاعلان مع الزمان والتاريخ.
ويعتمدان على صفات الأفعال، ويتراوحان بين
القلة والكثرة، والعنف والشدة، والمنفعة
والضرر، والتوقيت والتدرج.
وأما ارتباط الإرادة بالأمر، فإنه إذا
تغير الأمر لا تتغير إرادة الفعل، بل قصد
الفعل ودافعه ونتائجه المرجوة. والإرادة
تتغير بتغير الخطاب، كما يتغير الخطاب
طبقًا لتغير الزمان. وطالما تغيرت
التشريعات بتغير الزمان، مثل الزواج من
الأخوات والعبودية.
١١١
أما تعلق الأمر بالعلم وجواز البداء،
فإنه بين قوسين؛ لأن العلم القديم موضوع
علم الكلام وليس علم أصول الدين. كما أن
البداء جزء من العلم ولا يضاده؛ لأن قصد
العلم هو العمل، والهدف من الأمر هو
التغير، فالبداء هو استدراك علم ما كان
خافيًا عمن تداركه
١١٢
وقد اتفقت الأمة على النسخ، ولا ينكر
النسخ إلا اليهود أصحاب التشريعات السابقة،
لإنكار مراحل النبوة التالية، كالمسيحية
والإسلام. وهي شريعة واحدة متدرجة بتدرج
التطور والزمان. كل شريعة فاعلة في وقتها.
إذا تغير الزمان واكبت الشرائع. هذا التطور
حتى لا تفقد فاعليتها.
١١٣
ولا ينكره إلا من يتشبث بثبات النصوص ضد
سوء تفسيرها والتلاعب بها، كما يفعل فقهاء
السلطان طبقًا لمصالح الحكام؛ لذلك رفض
الروافض النسخ أيضًا دفاعًا عن ثبات
التشريع ضد تلاعب الأمويين به، وتحويله من
نبوة وخلافة إلى مُلك عَضود. فالعلم الثابت
مقدم على التشريع المتغير.
١١٤
والحكمة في نسخ الشرائع أن الشرائع
قسمان؛ ما يُعرف نفعها بالعقل في المعاش
والمعاد، وما يعرف نفعها بالسمع. الأول لا
نسخ فيه، مثل معرفة الله وطاعته. إذ تشتمل
على قسمين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على
خلقه. والثاني يطرأ النسخ والتبديل عليه في
كيفية إقامة الطاعات القولية والعبادات
الحنيفية. وفائدة نسخها أن الأعمال البدنية
تصبح بالمواظبة عادة وجبلَّة، وليست مطلوبة
لذاتها أو لمقصودها. وقد يصاب البشر
بالملل، فتجديد الشريعة تنشيط لها. كما
تشرف الشريعة باكتمالها آخر مرحلة.
فالشريعة الإسلامية ناسخة وليست منسوخة.
كما أن حفظ مصالح العباد مشروط بتفسيرها.
والنَّسخ مواكبة لها. والنسخ بشارة
للمؤمنين برفع الشرعية. كما يدل على رحمة
الشريعة إذا كان نسخ الأثقل بالأخف.
١١٥
ويحسن النسخ.
١١٦ والدليل على ذلك تغير الأحكام
بتغير الزمان، ولا يعني ذلك إبطال الحُسن
والقبح العقليين في الأفعال، فالحسن والقبح
متعلقان بالأزمنة والأمكنة، وليسا خارج
الزمان والمكان. ولا يرتبطان بإرادة
المخاطِب حتى لا يحدث فيه تغير. ويحسن نسخ
العبادة وإن كان الأمر بها مقيدًا بلفظ التأبيد.
١١٧
ولا
يجوز نسخ كل شيء، بل بعض الأحكام. الثوابت
لا تُنسخ، مثل القيم الإنسانية العامة
كالصدق والعدل. أما جواز نسخ جميع التكاليف
بإعدام العقل، الذي هو شرط التكليف، فهي
حالة افتراضية لا وجود لها. فالعقل شرط
التكليف. ولا يمكن إعدامه لأنه أول الخلق وآخره.
١١٨ لذلك فإن نسخ جميع القرآن
ممتنع. ويجوز سقوط بعض العبادات عن
المكلفين بالنسخ، ولكن يستحيل سقوطها
جميعًا بالنسخ، وإلا كان التكليف عبثًا.
١١٩
ويظهر النسخ في مقابل الإحكام في الإحكام
والنسخ، في عوارض الأدلة بعد الإحكام
والتشابه، وليس في الكتاب.
١٢٠ وقد وقع معظم النَّسخ
بالمدينة، أي في التشريع والعمل، وليس في
مكة، أي في العقائد والنظر. العمل هو موضوع
النسخ وليس النظر. فقد نزلت القواعد الكلية
أولًا بمكة ثم تفصيلاتها في المدينة.
١٢١ وفي المدينة بدأت الأصول
الكتابية في التفريعات الجزئية.
كانت الغاية من النسخ التأنيس لقريبي
العهد بالإسلام والاستئلاف.
١٢٢ فالنسخ غايته إدخال الناس
تدريجيًّا في الإسلام، والبداية من الأخف
إلى الأثقل، مثل الصلاة؛ من صلاتين إلى
خمس، على عكس ما هو شائع أنها كانت من
الأثقل إلى الأخف ليلةَ الإسراء والمعراج،
ونكاح المتعة من التحليل إلى التحريم،
والظهار من الطلاق إلى غير طلاق، والطلاق
غير المحدد المرات إلى الطلاق ثلاثًا. وقد
تكون الغاية التحول من الكل إلى الجزء، مثل
الإنفاق على الخَيَرة إلى الإنفاق المحدد.
وقد يكون تمايزًا بين مراحل الوحي السابقة
والإسلام؛ تأكيدًا لخصوصية النص في مرحلته
الأخيرة بتحويل القبلة في المدينة، من بيت
المقدس إلى الكعبة، رجوعًا إلى أصل إبراهيم.
١٢٣
ولا تفاضل في آيات القرآن، فكلها تواكب
تطور الواقع، وتحقق مصالح الناس، وكلها خير
في زمانها؛ نظرًا للمصالح المتغيرة، وعبر
الأزمنة؛ نظرًا للمصالح العامة الثابتة
التي عبرت عنها مقاصد الشريعة الخمسة.
١٢٤
(٣) موضوع النسخ
النسخ في الأحكام وليس في العقائد، في
علم أصول الفقه وليس في علم أصول الدين،
والنسخ الجزئي وليس النسخ الكلي، وهو نسخ
شريعة سابقة بشريعة لاحقة، مثل نسخ الشريعة
المسيحية للشريعة اليهودية، ونسخ الشريعة
الإسلامية للشريعتين اليهودية
والمسيحية.
لا يتعلق النسخ بالسماء، بل بالأرض. وإذا
وردت روايات عن النسخ في السماء، فإنه تعني
الحكم في الأرض. نسخ السماء قضية تقليدية
تقوم على تجارب الوحي السابقة، وذلك مثل
نسخ عدد الصلوات في رواية الإسراء
والمعراج.
والخبر قد يكون في الماضي وهو لا نسخ
فيه؛ لأنه لا نسخ في التاريخ، فالواقع لا
يُنسخ، ولا نسخ في المستقبل، في أحكام لم
تقع بعد، إنما النسخ في الحاضر من أجل
تغيير الفعل في الزمان. إنما يقع النسخ في
الأخبار بمعنى الأمر والنهي.
١٢٥
ولا يدخل في نفس الخبر، بل في بيان مدة
تحقيقه. والنسخ في الأمر وليس في المأمور،
أي في الخطاب وليس في الفعل، في الحكم
الشرعي وليس في الخبر على الإطلاق.
١٢٦ والنسخ فقط في حق من يَرِدُه الخبر.
١٢٧ فلا حكم، ناسخًا أو منسوخًا،
إلا بعد المعرفة والعلم به. والعلم مثل
التمكين. فالنسخ لا يدخل في الخبر، وإلا
كان كذبًا، ولكن في مدته الزمنية. والتعبد
لا نسخ فيه؛ فإنه قصدٌ لا فعل.
١٢٨ والعبادة المستقلة لا نسخ
فيها؛ لأنها أقرب إلى النفل وحرية الاختيار.
١٢٩ إنما النسخ لبعض شروطها. يَرِد
النسخ على الحكم لا على العبادة. والأحكام
العقلية لا تُنسخ؛ لأنها ثابتة بثبوت
العقل، إنما الأحكام الشرعية وحدها هي التي
يقع النسخ فيها. وليس كل حكم شرعي قابلًا
للنسخ؛ نظرًا لوجود أحكام عامة للفعل، لا
تتغير بتغير الزمان والمكان، مثل الأحكام
الخلقية العامة.
١٣٠ وإذا ذُكر الحكم وكان له غاية
معلومة، لم تكن نسخًا له، فالغايات
والمقاصد لا تُنسخ.
١٣١ يكون النسخ فقط في الأحكام
المؤقتة بالزمان، وليست الأحكام المؤبدة
بالنص، أو بدلالة النص، أو المؤقتة بالنص إطلاقًا.
١٣٢ إنما النسخ فقط في الأحكام
المؤقتة احتمالًا.
١٣٣ وإذا كان النسخ للمؤقت
بالتأييد فهو تحويل الخاص إلى العام،
والواقع إلى مثال.
ويقع في الحكم الشرعي. وارتفاع الحكم
ينطبق على جميع صيغ الأمر والنهي، وأحكام
التكليف الخمسة. يتعلق النسخ بأفعال
التكليف وأنماطها من وجوب وحظر وندب وكراهة
وإباحة. ومناقل النسخ هي أحكام التكليف
الخمسة، طرفان ضروريان، الواجب والمحظور،
وطرفان اختياريان، المندوب والمكروه، ووسط
طبيعي تلقائي، وهو المباح.
١٣٤ ولا يكون النسخ ضرورة بين
حكمين متقابلين، مثل الواجب والمحظور، أو
اختيارًا، مثل المندوب والمكروه، وقد يكون
من النقيض إلى النقيض.
١٣٥
ويقع النسخ في الوعد والوعيد، كما تدل
على ذلك التجربة الشعرية.
١٣٦ ويقع بعد نزول الوحي؛ لأن
المنسوخ هو الأمر المتقدم لأفعال
المأمورين. ولا تقع على الغائب الملامة إلا
بعد بلوغه الأمرَ الناسخ. ويظل المنسوخ
لازمًا له قبل التبليغ.
١٣٧ والطرق إلى معرفة النسخ الخبر.
ويُعرف بصريح النطق من الكتاب أو السنة.
ويعرف باللفظ أو بغير اللفظ، مثل مناقضة
الحكم أو ضده مع العلم بالتاريخ.
١٣٨ وإذا نزل النسخ ولم يُبلَّغ لم
يكن نسخًا.
١٣٩ فلا يثبت حكم الناسخ قبل
التبليغ. وإذا نزل النسخ على الرسول فلا
يتعدى ذلك إلى الأمة إلا بدليل.
١٤٠
(٤) الزمان والتمكن
النسخ للأزمان في حين أن التخصيص للأزمان
والأعيان والأحوال. يتعلق النسخ بالأفعال،
في حين أن الأعيان والأزمان ليست من
الأفعال. والنسخ والتخصيص للأفعال، زمنها
ومضمونها. فإذا كان النسخ بيان المدة، فإن
النسخ يكون للأزمان، مثل الأجل والسنة
والشهر واليوم. وذلك في حاجة إلى دلالة أو
ثبوت بالنص أو بالوقت المعلوم، أو المطلق
الذي في حاجة إلى تقييد بالزمان، وهو أكثر
ما يقع في النسخ.
١٤١ وهناك اتفاق بين النسخ
والتخصيص في أن كلًّا منهما يبين وجه الحكم
واختصاصه بوقته في النسخ، وبفرد أو جماعة
في التخصيص. ومع ذلك هناك اختلاف بينهما.
شرط النسخ التراخي والفترة الزمنية بين
الناسخ والمنسوخ، في حين يجوز في التخصيص
الاقتران؛ لأنه بيان نظري وليس توجهًا
عمليًّا. وهناك ناسخ واحد، في حين قد يكون
هناك أكثر من مخصِّص. والنسخ لا يكون إلا
بقول أو خطاب، في حين يكون التخصيص بالعقل
والنقل والقرائن. النسخ يُبطل الحكم
المنسوخ ويرفع دلالته، في حين أن التخصيص
لا يُبطل دلالة المخصَّص، ويُبقي عليه
حقيقةً أو مجازًا. ولا يجوز النسخ إلا
بدليل قطعي نصي من الكتاب أو السنة، في حين
أن التخصيص يجوز بالقياس وخبر الواحد.
١٤٢
وإذا ورد نص واستُنبط منه قياس، ثم نُسخ
النص، تبعه نسخ القياس المستنبط.
١٤٣ فالفرع يتبع الأصل، وإذا بطل
الأصل بطل الفرع. وإذا نُسخ المنطوق نُسخ
المفهوم، إذا كان نسخ المنطوق مجرد صياغة
وتفصيل، مع بقاء عموم المفهوم، وإذا ثبت
الحكم في عين من الأعيان بعلة منصوصة،
وقيسَ عليه غيرُه، ثم نُسخ الحكم في تلك
العين، فلا يظل الحكم في فروعه.
١٤٤
ويمتنع جواز النسخ قبل مجيء وقته، حتى
تتحقق الغاية منه، وهو التدرج في التطبيق العملي.
١٤٥ لا قبل انقضاء وقته ولا بعد
انقضاء وقته. ولا يجوز النسخ قبل التمكن؛
لأن وظيفة النسخ تغيير الحكم بعد التجربة
الأولى؛ من أجل إعادة صياغته طبقًا للتطور
الزمني الذي حدث في الواقع، وفي إمكانية
تغيير سلوك الناس. وتجويزه جزء من الفقه
الافتراضي، مثل موت المصلي أثناء أداء
الصلاة، فالفعل الواحد يكون مأمورًا به
ومنهيًّا عنه، أو رافعًا ومرفوعًا في وقت
واحد؛ ومن ثم لا بد من توافر شرط الزمان
والتحقق. ليس الأمر مجرد حِجَاج نظري صوري،
بل تحليل تجربة حية بعقل بديهي. ومثال نسخ
أمر ذبح إبراهيم لإسماعيل قبل التمكن؛ لم
يكن تشريعًا، بل اختبارًا وامتحانًا لإيمان
إبراهيم وطاعته؛ لأن الحكم، أمر الأب بذبح
ابنه، يتعارض مع العقل، حُسن الأشياء
وقبحها، ومع الشرع، الحياة مقصد من مقاصد
الشريعة. بالإضافة إلى أن الأمر بالذبح كان
منامًا لا أمرًا، والأمر تم تعليقه تمامًا
وليس نسخه، وليس قلب عنقه نحاسًا أو
حديدًا، أو أن الأمر كان مجرد التهيؤ
والاستعداد، وليس تنفيذه، أو أن الذبح قد
تم ثم الْتأم الجرح. فهذه تأويلات لا لزوم
لها وخروجٌ عن القصد. وهو قصص من أجل إثارة
الخيال عن طريق الصورة الفنية، وليس
تشريعًا مباشرًا.
١٤٦ والتمكن لا يتم إلا في الأرض
وبعد التجربة، وبعد نزول الوحي وليس قبل
إنزاله، ولعلة حاضرة بالرغم من أهمية
التجارب الماضية. ومن الضروري التمكن من
الامتثال للحكم الأول، حتى يظهر تجاوز
الزمن له. ولا يُنسخ حكم قبل التمثل
والإمكان عبثًا وبداءًا وتغيرًّا في الحكم
دون تطور الزمن. وورود النسخ بعد دخول وقت
المنسوخ يعارض التمكين والتحقيق والتطور،
بل ووظيفة النسخ كلية.
١٤٧
(٥) الأركان والشروط
وأركان النسخ أربعة: النسخ، والناسخ،
والمنسوخ، والمنسوخ عنه.
١٤٨ فالنسخ هو رفع الحكم المتقدم
بحكم متأخر، أخذًا للتطور والزمن في إعادة
صياغة الحكم.
١٤٩ والناسخ بين قوسين؛ لأنه
أدخَلُ في علم أصول الدين إذا كان شخصًا.
إنما الناسخ هو النص، والمنسوخ هو الحكم
المرفوع، ولا يجوز استنباط حكم منه.
والمنسوخ عنه هو فعل المكلف.
وشروطه أربعة: الأول أن يكون المنسوخ
حكمًا شرعيًّا لا عقليًّا، فالأحكام
العقلية لا تُنسخ؛ لأنها أقرب إلى القضايا
الرياضية. أما الأحكام الشرعية فهي القابلة
للنسخ؛ لأنها تتعلق بأحكام المكلفين في
الزمان. والبراءة الأصلية أيضًا لا تُنسخ؛
لأن الفطرة ثابتة إلا إذا غيرتها العادات
والتقاليدُ وحلت محلها. والثاني أن يكون
النسخ بخطاب؛ لأن ارتفاع الحكم بسبب العجز
أو المكلَّف ليس نسخًا. والثالث ألا يكون
حكم الخطاب المرفوع مقيدًا بوقت يزول من
تلقاء نفسه، ويُحد زمانه منذ البداية، أي
بيان المدة الزمنية للفعل وليس الفعل ذاته.
والرابع أن يكون الناسخ متراخيًا عن
المنسوخ وليس مقترنًا به، لضرورة توفر شرط
زمان الفعل وتحققه قبل تعديل حكمه. وحتى
يظهر قِدم الحكم الأول وتجاوز الزمن له،
وجِدَّة الحكم الثاني وتطابق الزمن معه،
وإلا كان بيانًا أو تخصيصًا.
١٥٠ يبين النسخ مدة الحكم. فالحكم
مؤقت بالزمن وليس حكمًا عامًّا خارج الزمن.
والزمن جوهر التطور. ويتغير الحكم بدرجةِ
تغير الزمن. وتتجدد الشريعة منذ بداية
وضعها من داخلها، دون انتظار عمل المجتهد.
وتغير الزمن خلال ثلاثة عشر عامَّا، خلال
أقل من ربع قرن، أي في أقل من جيل واحد،
دون انتظار أربعة عشر قرنًا.
ولا يُشترط رفع المثل بالمثل، بل الرفع
فقط. والرفع بالمثل قد لا يكون في الحكم،
بل في الصياغة؛ لأن الرفع للحكم يتطلب
التغير في الزمان والعصر. ولا يشُترط دخول
النسخ على ما يدخله التخصيص والاستثناء.
فوظيفة النسخ مواكبة التشريع للزمان، في
حين أن وظيفة التخصيص والاستثناء
الاستغراق، من يدخل في الحكم ومن يخرج منه.
ولا يُشترط استعمال لفظ «النسخ»، بل قد يتم
بألفاظ أخرى مثل «التبديل» و«النسيان».
١٥١ وليس من شرط النسخ إثبات بدل
غير المنسوخ، فقد يكون الفعل ليس بحاجة إلى
حكم، ويكون فعلًا تلقائيًّا طبيعيًّا
مباحًا، وربما يكون هذا معنى «النسيان».
١٥٢
(٦) التدرج والقدرة
وقد يتدرج النسخ ويتكرر عدة مرات في نفس
الحكم؛ ومن ثَم يجوز نسخ الناسخ ليصبح
منسوخًا بناسخٍ آخر
١٥٣‘ ولا يجوز الرفع رأسًا؛ لأن
حكمة النسخ في التدريج، وليس جدل الإثبات والنفي.
١٥٤ النسخ على درجات، نسخ المنسوخ
أولًا ثم نسخ الناسخ ثانيًا، وربما نسخ
الناسخ الذي أصبح منسوخًا ثالثًا، كما هو
الحال في تحريم الخمر على ثلاث درجات.
١٥٥ بل إن الدرجة الثالثة لم تأتِ
بلفظ التحريم. إنما ورد اللفظ في السنة،
مما يدل على إمكانية تحريك النَّسخ في
الفهم بين الدرجات؛ بناء على قاعدة نسخ
الناسخ.
ويتم النسخ بناءً على قياس القدرة
والأهلية واعتراض المكلفين، الكل أو البعض،
على الحكم الخفيف أو الثقيل
١٥٦ يجوز نسخ الأخف بالأثقل، كما
هو الحال في تدرج تحريم الخمر. كما يجوز
نسخ الأثقل بالأخف، كما هو الحال في نسخ
محاسبة النفس إلى محاسبة الفعل.
١٥٧
ويجوز أن يقع النسخ عقوبة أو مجازاة
لمساوئ المكلفين، أو كرامةً وطلبًا لرضا
المكلف أو لمصلحة. فالنسخ تفاعل بين الحكم
والواقع، بين النفس والإمكانية. النسخ نوع
من «التجريب» الشرعي من أجل قد الحكم على
قد الواقع.
والسؤال هو: إذا ما تغيرت الظروف إلى
الأسوأ، هل يمكن الرجوع إلى أحكام سابقة
منسوخة، أم أن النسخ بالضرورة ذو اتجاه
واحد إلى الأمام؟ يجوز ذلك؛ نظرًا لأن
التاريخ دورات، تقدم وتأخر، إقدام وإحجام.
وفي حالة الجاهلية الثانية يمكن العودة إلى
الأحكام المنسوخة، حتى يمكن التحول من
الجاهلية إلى الإسلام.
(٧) التلاوة والحكم
ويجوز نسخ التلاوة دون الحكم؛ من أجل
صياغة أولية أكثر إبداعًا. ويجوز نسخ الحكم
دون التلاوة؛ من أجل إظهار تغير الحكم
وتطور الزمان مع بقاء الإبداع الأدبي.
ويجوز نسخ الحكم والتلاوة معًا، وهو الأقل،
وهو جائز عقلًا وواقع شرعًا. ونسخ التلاوة
من أجل تلاوة أبلغ. ونسخ الحكم من أجل حكم
أكثر تطابقًا مع الواقع المتغير. وإذا كانت
التلاوة متضمِّنةً حكمًا واجبًا ولم تنسخ،
فإن فيها عبادةً والتزامًا بأدلة الواجب.
فالخطاب لفظ وفحوى، صياغةٌ وحكم، صورة ومضمون.
١٥٨
ولا يجوز للمتحدث تلاوة المنسوخ التلاوة؛
لأنه لم يعد قرءانًا مقروءًا.
١٥٩ ولا يُشترط في الناسخ أن يكون
متأخرًا عن المنسوخ في التلاوة؛ لأنه لم
يصدر عنه حكم.
١٦٠ ولا يضر كون الآية المنسوخة في
ترتيب المصحف في الخط والتلاوة متقدمة في
أول السورة، أو في سورة متقدمة في الترتيب،
وتكون الناسخة في آخر السورة أو في سورة
متأخرة في الترتيب؛ لأن القرآن لم ترتب
آياته وسوره حسب أسباب النزول.
١٦١
(٨) الناسخ والمنسوخ
ويكون النسخ للقرآن بالقرآن وللسنة
بالسنة، أي من نفس المستوى والدرجة. ولا
ينسخ القرآن السنة أو السنة القرآن؛ لأن
السنة فرع والقرآن أصل.
١٦٢
ولا يجوز نسخ القرآن بالسنة.
١٦٣ فالمقطوع لا يُرفع بالمظنون،
وإن حدث فإنه تخصيص لعموم، وتقييد لمطلق،
لا نسخ.
١٦٤ وإذا ثبتت الأحكام فإن النسخ
لا يكون إلا بأمر محقق. ولا يجوز نسخ السنة بالكتاب.
١٦٥ وإن حدث فإنه يكون تصحيحًا أو
تذكيرًا. فالنص لا يضاد الوحي. والكتاب
والسنة من مصدر واحد.
ويجوز نسخ السنة المتواترة بأخرى
متواترة، وخبر الواحد بخبر الواحد، وخبر
الواحد بالسنة المتواترة، ولكن لا يجوز نسخ
السنة المتواترة بخبر الواحد. وتحتاج
القاعدة نسخ الخبر بالخبر، للتمييز بين
درجات الخبر.
١٦٦ يكون النسخ بين النصوص، مثل
نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة، وليس
بين تجارب الجماعة، الإجماع، أو تجارب
الأفراد، الاجتهاد؛ لأن التجارب اجتهادات
تعتمد على النص والعقل والمصالح المتغيرة.
١٦٧
ولا يجوز النسخ بأفعال الرسو، بل كما
يجوز البيان به.
١٦٨ وفي هذه الحالة يكون بيانًا
عمليًّا لمجمل. يُنسخ القول بالقول والفعل
بالفعل، ولا ينسخ القول بالفعل، بل يُنسخ
الفعل بالقول. فالقول أقوى من الفعل.
ويُنسخ الفعل بالأمر، وليس الأمر بالفعل.
١٦٩ ولا يجوز النسخ بالإقرار؛ لأنه
ليس إعلانًا صريحًا.
١٧٠
ولا يكون النسخ بالإجماع والاجتهاد؛ لأن
النسخ لا يكون إلا بين النصوص. والاجتهاد
الجماعي، الإجماع، والفردي، الاجتهاد، ليس
نصًّا، بل تجربة وإمعان النظر والفكر.
١٧١ ولا نسخ بين انقطاع الوحي
ووفاة الرسول. والإجماع والاجتهاد بعد
انقضاء الوحي ووفاة الرسول. والنص القرآني
والسنة والمتواترة قطع، والإجماع والقياس
ظن.
وإن كان النسخ لا يكون بالإجماع والقياس،
حتى ولو كان جليًّا، فالأَولى ألا يكونَ
بقول الصحابي أو التابعي؛ لأنه، أصلًا، ليس
مصدرًا من مصادر التشريع.
١٧٢
ويجوز نسخ القياس من الرسول، ومع ذلك
فإنَّ نسْخَ القرآنِ القياسَ في عصر النبي
ليس نسخًا، بل تصحيح؛ من أجل إثبات اتفاق
الوحي والعقل والواقع.
١٧٣ فالأصل في القياس الشرعي النص
والعقل والواقع. النص هو الأصل، والفرع هو
الواقع، والعقل أو المصلحة هي العلة
الجامعة بين الأصل والفرع.
١٧٤
والاجتهاد لا يُنسخ باجتهادٍ مثله، بل بالنص.
١٧٥ وقد يدخل التعليل كعامل مرجح
لصالح النص. والعلة المنصوص عليها أقوى من
العلة المستنبطة. فلا نسخ بالعقل. ولا
يُنسخ النص بفحوى أو لحن الخطاب.
١٧٦ وفحوى القول ليس نسخًا، بل
تخصيص وبيان.
وكل أنواع دليل الخطاب، مثل فحوى الخطاب
ولحن الخطاب والإشارة، لا يكون نسخًا،
فالنسخ ليس في المفهوم، بل في الحكم.
١٧٧ وكذلك التنبيه، وهو إحدى درجات
فحوى الخطاب.
١٧٨
لا يَنسَخ المفهوم ولا يُنسَخ، فالمفهوم
تصور وليس تصديقًا.
١٧٩ لا يكون النسخ إلا بخطاب، وليس
بالعادة أو حكم العقل. فالعادة محكَّمة،
والعقل أصل. والخطاب الأول ليس ناسخًا لحكم
العقل أو براءة الذمة، بل مؤكد عليها.
فالعقل أساس النقل، والشرع حكم الفطرة.
١٨٠
(٩) الزيادة والنقصان
وقد يكون النسخ للأصل أو للفرع، أصل
الفعل أو أحد وجوهه أو أجزائه أو شروطه.
فالإنقاص ليس نسخًا، بل هو تعديل.
١٨١ ونقص الجملة أو شرطٍ من شروطها
لا ينسخان جميعها.
١٨٢ ويجوز نسخ بعض العبادة وليس كلها.
١٨٣ وقد ينسخ جزء من الآية وليس كلها.
١٨٤ والزيادة أيضًا ليست نسخًا، بل
تبديل وتعديل. وربما يكون هذا هو معنى «المثل».
١٨٥ والزيادة لا تكون إلا في النص
وليست في المعنى؛ لأن المعنى لا يزيد أو
ينقص، بل يُجمَل ويُفصَّل. أما إذا وردت
زيادة وقد ورد النص منفردًا عنها، ولا
يُعلم تاريخها، فيحتمِل أن تقع تحت النسخ.
١٨٦ وإذا زيدَ شرطٌ في العبادة
تكون الزيادة نسخًا.
١٨٧
(١٠) أين أسباب النزول؟
وإذا كان موضوع النسخ مُستقًى من علوم
القرآن، فأين «أسباب النزول»، وهي أيضًا
مستقاة من علوم القرآن؟ صحيح أن موضوع
أسباب النزول تم ذكرها في الوعي التاريخي
في مباحث الألفاظ مع قواعد اللغة العربية
كشرطَين للفهم السليم، ولكن أيضًا يتعلق
بالكتاب كما تتعلق مباحث الألفاظ بالكتاب،
عندما أصبحت جزءًا منه في المصنفات
المتأخرة.
بل إن موضوع «التنزيل» يسبق موضوع
«النسخ». فالتنزيل يتعلق بالمكان، في حين
أن النسخ يتعلق بالزمان، يعني التنزيل نزول
الوحي جوابًا على سؤال في صيغة «ويسألونك
…»، والجواب في صيغة «قل …». ولا سؤال بلا
جواب، ولا جواب بلا سؤال. والأولوية للسؤال
على الجواب. فالوحي لا ينزل إلا منجَّمًا،
أي مفرَّقًا، وليس جملة واحدة خارج الزمان والمكان.
١٨٨ وهذا هو معنى التنجيم.
وقد أتى الوحي ليس لفرض حل معين أو إجابة
معينة، بل لترجيح أحد الحلول على الأخرى،
ولتأكيد ما استطاع العقل ببديهته والواقع
بمصلحته أن يصل إليه. وقد أتى الوحي
باستمرار مؤكدًا ومثبتًا لرأي عمر؛ لذلك
سمي «منجم هذه الأمة». مما يؤكد أن الوحي
مثبِّت لا مشرِّع، ومؤكِّد لحكم بادئًا به.
السؤال من الواقع، والإجابة من الوحي؛ ومن
ثم تتجدد الأسئلة وتتجدد الإجابات طبقًا
لروح العصر، وهو منهج الاجتهاد اعتمادًا
على الكتاب. وقد يأخذ الجواب السؤال في
صياغة الجواب، لا فرق بين سؤال البشر وجواب الوحي.
١٨٩
ولأول مرة يتم التعرض لأسباب التنزيل
كشرط لفهم القرآن ومعرفة علمه.
١٩٠ فعلم البيان لا يتم إحكامه إلا
بمعرفة نزول الكلام على مقتضى الأحوال، حال
المخاطِب أو المخاطَب أو الخطاب، فقد يختلف
معنى الكلام باختلاف الأحوال
والأشخاص.
كما تختلف صيغ الاستفهام في معناها بحيث
تفيد التوبيخ والتعزير، كما يدخل في الأمر
معنى الإباحة والتهديد والتعجيز. ولا تحكم
المعاني إلا بالأمور الخارجة عنها ومقتضيات
الأحوال. وعدم معرفة أسباب التنزيل يوقع في
شُبَه وإشكالات، ورد الأمور الظاهرة إلى
الإجمال، والأمثلة على ذلك كثيرة في الآيات
والأحاديث واختلاف الناس في
فَهْمها.
ومن أسباب التنزيل معرفة عادات العرب في
أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالَ
التنزيل، والأمثلة على ذلك كثيرة في الفرق
بين الأمر بالأصل والأمر بالإتمام، والفرق
بين الكفر والشرك، والإشارة إلى الإله في
المكان وربوبيته للكواكب.
١٩١ وقد تشارك السنة في هذا
المعنى، فقد صيغَ كثيرٌ من الأحاديث على
عادات العرب.
وقد يرتبط الزمان بالمكان في تنزيل فَهْم
المدني على المكي لاستناد المتأخر على
المتقدم، والعملي على النظري، وينزل المكي
بعضه على بعض، والمدني بعضه على بعض حسب
ترتيب النزول. فالوحي مرتبط بالزمان
والمكان والتطور والسياق. والدليل على ذلك
أن الشريعة أتت لتتمِّم مكارم الأخلاق،
وإصلاح ما حدث من فساد في الملة منذ
إبراهيم. ومن هذا الترتيب مُزجت قواعد
التوحيد؛ من إثبات الوجود إلى إثبات
الإمامة. والتنزيل على حالات خاصة لا يعني
اقتصار الحكم عليها؛ نظرًا لخصوص السبب
وعموم الحكم.
١٩٢