(١) الإجماع والاختلاف
والإجماع من الأكثر ليس بحجة مع مخالفة
الأقل. والإجماع للأمة كلها، وهو الإجماع
التام. وإن خالف البعض فهو الإجماع الناقص.
٩٤ إذ يحوز الخلاف للآحاد.
واختلافٌ واحد لا يورث العلم لنفسه، بل
إجماع الآخرين يورث العلم لنفوسهم. ويستحيل
اتفاق الأمة جميعًا دون اعتراض واحد. وإذا
خالف واحد من الأمة أو اثنان لم ينعقد
الإجماع دونه، في حياته أو بعد مماته.
٩٥ وقد يراجع نفسه ويلحق
بالإجماع. ولا تجوز التقيَّة في الإجماع.
وقد يصل الأمر إذا تشبث برأيه أن يتم
بالشذوذ والخروج على الجماعة.
٩٦ ويعني الشذوذ الخروج على قواعد
اللغة، والاتفاق على الشريعة، واختلاف
البعض عنه، أي مفارقة الواحد للجماعة. وهو
موقفٌ ممدوح ومحمود، وإن استحال أن يكون
الفعل ممدوحًا مذمومًا في وقت واحد من وجه
واحد. والأمثلة التاريخية على ذلك كثيرة.
٩٧ ومع ذلك تكثر مصطلحات الشاذ
والنادر والعناد والعرف في الإجماع. وإجماع
الأكثر هو إجماع الحشو؛ لذلك يجب الرجوع
إلى دليل.
ولا يصبح قول المخالف مهجورًا،
٩٨ بل يظل في التاريخ شاهدًا على
العصر وعلى موقف فيه. واختيار أحد القولين
لا يحرِّم القول الآخر. ومفارق الإجماع لا يكفر،
٩٩ فالصواب متعدد، والإجماع
اجتهاد جماعي يقوم على اجتهاد
المجمعين.
والتمسك بأقل القليل ليس إجماعًا تامًّا،
بل هو تدرج في فهم التجربة المشتركة،
وتحقيق التغير الاجتماعي تدريجيًّا.
١٠٠ ولو اعترض واحد فقط لكان
الإجماع ناقصًا، سواءٌ انتشر بعده أو لم ينتشر.
١٠١ وقول القائل لا أعلم فيه
خلافًا، ويعتبر إجماعًا؛ لأن الإجماع معرفة
وليس واقعًا.
١٠٢
وإذا انتشر القول ولم يظهر خلاف من واحد
أو اثنين من أهل العصر، فهو إجماعٌ صحيح.
١٠٣ وإن كان واحدًا فهو الاجتهاد.
ومن ثم يُعتبر في الإجماع المجتهد.
١٠٤ ووفاق من سيوجد لا يعتبر
اتفاقًا؛ لأن الإجماع في الحاضر وليس في المستقبل.
١٠٥ والوفاق المعتبر في الإجماع
أنه إجماع الخاصة.
١٠٦ وهو رأي الظاهرية في الإجماع.
١٠٧
وفي الإجماع عزيمة ورخصة. العزيمة اتفاق
الكل على حكم بقول أو فعل. والرخصة اتفاق
البعض على قول مشهور، مع سكوت الباقي عن
إظهار الخلاف والرد عليها.
١٠٨ فالإجماع السكوتي رخصة.
والسكوت يقلل من شأن الإجماع مثل الامتناع
عن التصويت في الحياة المعاصرة. فلا يُنسَب
إلى ساكتٍ قول. والسكوت مشروع لوجود مانع
من إظهار القول أو لخلافه مع القول السائد،
أو لأن كل مجتهد نصيب، ومن ثم لا خطأ ولا
صواب، أو لخشيته من أذًى قد يلحق به، أو
لأن التوقف هو الأقرب للصواب؛ لصعوبة إصدار
حكم بالإثبات أو النفي، أو لأن غيره قد
كفاه الإنكار.
١٠٩
والإجماع إما أن يكون معتبرًا، أي أن
يكون معروفًا من كل واحد، أو أن يظهر من
البعض وينتشر دون خلاف من الباقين. ولا
يُشترط الاتفاق، وإلا لاستحال الإجماع.
ويظهر الإجماع وينتشر في كل مصرٍ يقع فيه،
ومن ثم فإن حجة الإجماع السكوتي ضعيفة، ولا
بد من توافر الدواعي على السكوت، قد يظهر
الإجماع بالفعل ويسكت الآخرون عنه. ويتميز
الإجماع السكوتي عن الإجماع القولي. وإذا
عُلِم من الساكتين الرضا والقَبول والتصويب
بنطق أو إشارة أو شاهد حال أو قصد بالخطاب
أو سكوت، كان إجماعًا.
١١٠
(٢) اتصال الزمان
وليس من الضروري انقضاء (انقراض) العصر
وموت جميع المجمعين كي يتغير الإجماع لآخر،
فالتغير ليس في المجمعين، بل في الواقع
والمصالح، في الزمان والمكان
١١١ وقد اشتُرطت أمور في انعقاد
الإجماع وفي حجيته، والصحيح خلافها، مثل
انقراض عصر المجمعين.
١١٢
ولا يمكن إيقاف الزمان والالتزام بإجماع
السلف دون الخلف، والسابقين دون اللاحقين.
١١٣ لذلك لم يكن استصحاب الإجماع
حجةً؛ نظرًا لتغير حال الشيء المجمع عليه.
١١٤
وإجماع العصر السابق ليس ملزمًا للعصر
اللاحق. وإذا اختلف أهل عصر في مسألة على
أقاويل معلومة، جاز إذا تغيرت الظروف
والأحوال، وإذا تغير العصر، أن يبدع قولًا
لم يقل به أحد من القدماء.
١١٥ فيمكن لعصر قادمٍ الإجماع على
شيء لم يسبق إليه من عصر سابق.
وإجماع كل عصر ليس حجة على من بعدهم، ولا
أولوية لإجماع الصحابة على التابعين، ولا
للتابعين على تابعي التابعين. إجماع كل عصر
حجة لعصره وحده. ولا نسخ في الإجماع. فكل
إجماع ملزم لعصره.
١١٦ والإجماع المتأخر لا يرفع
الخلاف المتقدم، وقد يرفعه.
١١٧
(٣) تقدم الزمان
إذا اختلف الناس على قولين فأكثر في
مسألة، فشهادة النص والقرآن والسنة بصحة
قولٍ من تلك الأقاويل تُبطل سائرها.
١١٨ وهو حلٌّ للخلاف خارج تقدم
الزمن، بل بإرجاع الواقع إلى النص، مع أن
النص نفسه ردُّ فعل على الواقع واستجابة له
في «أسباب النزول» و«الناسخ
والمنسوخ».
وإذا ذكر أهل الإجماع دليلًا وتبنَّوا
تأويلًا، فيجوز لمن أتى بعدهم أن يفعل نفس
الشيء. فكما أن المصالح متغيرة، فإن طرق
الاستدلال أيضًا متغيرة.
١١٩
ولا ترتد الأمة إذ لا تجتمع الأمة على خطأ.
١٢٠ ولم يشهد السمع أو البصر على
ارتداد أمة بكاملها؛ نظرًا لتميز الوعي
الفردي عن الوعي الجماعي. والجواز العقلي
غير الاستحالة الواقعية.
وإذا اختلفت الأمة على قولين ثم رجعوا
إلى أحد القولين، صار كلاهما إجماعًا، دون
شرط انقضاء العصر، بالرغم من أنه وضع
افتراضي، بشرط استقلال المجمعين عن إرادة
السلطان. فالحق ليس في إجماع واحد؛ لأنه متعدد.
١٢١
وإذا اختلف السلف على قولين، فيمكن
الإجماع بعدهما على أحد القولين؛ نظرًا
لوقعة الظروف واشتداد الأزمة. وإذا اختلفت
الأمة في مسألة على قولين، وقال بأحد
القولين طائفة، وبالقول الآخر طائفة أخرى،
وانقرضت طائفة، يصبح إجماع الطائفة الأخرى
حجة، فالواقع يكمل العقل كما يكمل العقل النص.
١٢٢ والإجماع بعد الخلاف لا يرفع
الخلاف المتقدم إذا تم عن طريق الاجتهاد
والرأي.
وإذا وقع إجماع وتذكر أحد المجمعين نصًّا
على خلافه، يصبح ناقصًا أو باطلًا؛ لأولوية
النص على الواقع عند القدماء. وقد يصبح
صحيحًا؛ لأن النص لا يبطل تجربة جماعية
مشتركة؛ نظرًا لإمكانية تأويل النص،
واستحالة تغيير الطبيعة والفطرة. وهو فرض
مُحال على أية حال.
١٢٣
وإذا قال بعض الصحابة قولًا انتشر ورضي
الآخرون، صار إجماعًا، وإن سكتوا ولم
يُظهروا خلافه، صار أيضًا إجماعًا. ولا فرق
بين أن يكون القول المنتشر حكمًا أو فتوى.
ومن ثم يجب العمل به، وقد يكون حجة يقدَّم
على القياس، ويخصَّص به العموم.
١٢٤
وإذا اختلف الصحابة على قولين، وإجماع
التابعين على أحدهما، فإنه يكون إجماعًا.
١٢٥ ويكون الترجيح بكثرة العدد أو
بموافقة أحد الخلفاء الأربعة. وإن استويا
يكون الترجيح بدليل آخر أو أكثر. وإذا
اختلف الصحابة على قولين وانقرضوا، ثم أجمع
التابعون على أحد القولين، يسقط الخلاف
الأول؛ نظرًا لتغير الظروف والأزمان،
وينعقد الإجماع.
١٢٦ وقد يظل الخلاف الأول قائمًا؛
لأن الظروف لم تحسمه. ولا ترتد الأمة إلى
حكم سابق مخالف نفيًا وإثباتًا؛ لذلك لا
يشترط في حجية الإجماع انتفاء سبق خلاف
مستقر. ويجوز إحداث قول ثالث إذا اختلف
الصحابة على قولين، فالعبرة بتغير الزمان والمكان.
١٢٧
وإذا عاصر التابعي الصحابة وخالفهم قبل
انعقاد الإجماع، وكان من أهل العلم، لا
ينعقد الإجماع بمخالفته.
١٢٨
وإذا قالت طائفة في مسألتين مختلفتين،
وقالت طائفة فيهما قولين موافقين لقول
الأولى، فالتسوية ضرورية. ولا يجوز
مخالفتها. وقد يجوز نظرًا لتغير الظروف والأحوال.
١٢٩
وإذا وقع توفيق بين حكمين مختلفين، فيكون
الحكم الجديد مناط الإجماع.
١٣٠ والعكس صحيح أيضًا، إذا حدث
الاتفاق على حكم ثم حدث اختلاف بعد ذلك
عليه، فإن الإجماع القديم لا يكون أيضًا
ملزمًا. والأولوية للإجماع الجديد، فلا
اعتبار للخلاف الثاني.
١٣١
وإذا انعقد الإجماع وكان دليله مجهولًا
في العصر الثاني، ثم وُجِد خبر، فإنه لا
يكون مستندًا؛ لأن الإجماع تجربة جماعية
وليس قولًا نصيًّا، ولا يعود إلى الوراء
لتصحيحه أو لشرعيته.
١٣٢
وإذا استدل أهل العصر بدليل وأعلُّوا
بعلة، فلمن بعدهم أن يستدل بدليل آخر
ويُعِلَّ بعلة أخرى؛ نظرًا لتطور العلوم
والقدرة على تحليل العلل.
١٣٣ وإذا تأولوا بتأويل، فلا يجوز
النص على فسادِ ما عداه، فالتأويل آلية
مستمرة لمواكبة تجدد العصر وتغير الزمان
١٣٤
وإذا أفتى بعض المجتهدين أو قضى ولم
يخالف قبل استقرار المذاهب إلى مُضي مدة
التأمل، فهو إجماعٌ قطعي.
١٣٥ فالمذهب ليس مقدسًا، بل هو
خاضع لتطور الزمان وتغير المكان وتجدد
الأحداث.
وقد يرجع أحد المجمعين عن رأيه وهو حي؛
لفرقٍ بين أول العمر وآخره. ولا حجة على
المجتهد أن يغير رأيه؛ بشرط صدق النية،
وعدم الاستسلام لضغوط العصر من أجل مخالفة
الضمير. فالزمان تقدم في الوعي.
إذن لا يكون الإجماع إلا للعصر لا للماضي
ولا للمستقبل، فالزمان ليس قيدًا بل تحرر.
والماضي نفسه يتغير إلى الحاضر، والحاضر
نفسه يكون ماضيًا، والمستقبل يصبح حاضرًا.
لا يكون الإجماع باعتبارِ مَن سيوجد مثل
الإمام الغائب، فالحاضر هو اللحظة، مناط الإجماع.
١٣٦