(١) استحالة نفي القياس
وإذا كانت مكونات الشرعية ثلاثة: الشرع
والعقل والواقع، أي الوحي والعقل والطبيعة،
وكانت المواقف الممكنة اثنتين: الإثبات
والنفي، فإن الناس بالنسبة للقياس ست:
الموجِب له شرعًا، والمثبِت له عقلًا،
والمجيز له واقعًا، والحاظر له شرعًا،
والمنكِر له عقلًا، والمحيل له واقعًا.
٤٨
لا يمكن نفي القياس شرعًا؛ لأنه مصدر من
مصادر التشريع، عند القدماء، المصدر
الرابع؛ نظرًا لأولوية النص على الواقع،
وربما عند المحدثين الأول نظرًا لأولوية
الواقع على النص.
٤٩ فالقياس والاستدلال طريق
لإثبات الأحكام في العقليات، ويجوز ورود
التعبد في القياس في الشرعيات.
٥٠ وهو طريق الأحكام الشرعية، بل
إنه أمرٌ ودين.
٥١
ولا يمكن إنكار القياس شرعًا بسوء تفسير
بعض الآيات بأن الكتاب قد حوى كل شيء،
وبيَّن كل أمر، وما سكت عنه فهو عفو على
البراءة الأصلية. فما زال للقياس دور في
استنباط الأحكام، كما حدث في قانون
الميراث. ولا توجد آية صريحة في القرآن أو
سنة متواترة لتحريم القياس. إذن يجوز
التعبد بالقياس.
٥٢
ولا يمكن نفي القياس؛ لأن الأحكام لا
تُعرَف إلا توقيفًا. فالاجتهاد مصدر من
مصادر التشريع، وإلا تم إلغاء العقل كليةً
لصالح النقل، والنقل يقوم على العقل.
٥٣ والتوقيف لا يمنع من التعليل.
والنازل له أسباب نزول، وفيه ناسخ
ومنسوخ.
ولا يمكن الاعتراض على القياس بنفي كون
الإجماع حجة، فاختلاف الصحابة إلى حد
الاقتتال بينهم لا يعني الطعن في حجية
القياس، بل في التحول من الاجتهاد إلى
التعصب العملي. في حين أن الإجماع يُثبت
القياس دون أن يكون في ذلك وقوع في الدور.
يثبُت الإجماع بنص وقياس بديهي في أن
التجربة المشتركة الوريث الطبيعي للنص
الثاني. ويثبُت القياس باعتبار أن التجربة
الردية هي الوريث للتجربة الجماعية.
٥٤
ولا يمكن الاعتراض على القياس بإنكار
تمام الإجماع في القياس، وأن الإجماع ناقص،
موافقة البعض وسكوت الآخرين. الإجماع
الناقص هو الإجماع الواقعي نظرًا لصعوبة
تحقيق الإجماع التام في أي قضية.
٥٥ أما إذا سكت البعض مجاملةً في
ترك الاعتراض، وليس موافقةً على الرأي، فإن
ذلك لا يطعن في حجية القياس.
٥٦ فالإجماع السكوتي أحد جوانب
الإجماع.
بل إن القياس يَثبُت بالقياس.
٥٧ القياس في حد ذاته يُثبِت
ذاته، كما أن الإجماع يُثبِت ذاته. فالقياس
هو العقل. وهو ما يتبقى للإنسان بعد أن
يصعب فَهْم النص.
ولا يمكن نفي القياس بإنكار التعليل؛ لأن
العلة لا توجب بذاتها، ولكن بإيجاب الشرع
لها. التعليل أساس التشريع. ولا يوجد حكم
إلا وله علةٌ بناءً على حُسن الأشياء وقُبحها.
٥٨ بل إن التعليل للمنصوص عليه
يكفي في تعدية الحكم، ويحل محل القياس.
٥٩ وإبطال التعليل هو إبطال
للوحدة الجوهرية بين الوحي والعقل
والطبيعة، بين النص والواقع، بين الشرع والمصلحة.
٦٠ واللغة أيضًا وهي أداة تعبير
الخطاب تقوم على التعليل حروف العلة.
والتعليل قصد عام ليس فقط في التشريع، بل
في الكون.
ويقوم نفي القياس على نفي دليل العقل،
وأنه ليس من موجبات العقول، ولا يحكم على
الشرع وإن حكم فعند الضرورة. وهي غير
واجبة؛ نظرًا لإمكانية استصحاب الحال
والبراءة الأصلية. وهو حمل أحد المعلومَين
على الآخر في إيجاب بعض الأحكام أو إسقاطه
عنهما، من جمع بينهما بأمر أو بوجه جمع
بينهما فيه.
٦١ وبطبيعة الحال لا يوجد دليل
للإثبات إلا ويقابله دليل للنفي، إما نفي
الدليل وإعادة توظيفه أو علة أخرى معارضة.
ومعظمها أدلة نقلية وأقلها عقلية. ومن
كثرتها يتوه الموضوع ويغرق في الحجاج دون
معرفة القصد الصريح من النفي أو الإثبات.
وكلها إقصاءات دون الوصول إلى حلول تجمع
بين الموقفين، وكان الخلاف صراعًا حول
السلطة، سلطة النص أو سلطة العقل، وكأن
الواقع غير قادر على الجمع بينهما.
والأمثلة فقهية أكثر منها أصولية. ويتحول
الأمر إلى جدل أكثر منه برهانًا، وإلى تعصب
أكثر منه إلى استدلال.
ولماذا نفي وجوب القياس عقلًا؟ إن
الأنبياء مطالَبون بتعميم الحكم في كل
صورة. والصور لا متناهية، لا يمكن إحاطة
النصوص بها، ومن ثم لزم الاجتهاد. والعقل
قادر على إدراك العلل الشرعية، والعلل
العقلية، ومناسبة الحكم الشرعي والحكم
العقلي للمصلحة.
٦٢ ولا يمكن نفيه عقلًا لأن
الإنسان عاقلٌ بطبعه. يقيس الأشباه
بالأشباه، والنظائر بالنظائر. لا يمكن نفيه
بعلم ضروري أو بعلم نظري؛ لأن الإنسان عاقل
بطبعه، ويستدل ويُعمل النظر.
٦٣ و«الوجوب» الإلهي لفعل الإصلاح
ليس موضوعًا لعلم أصول الفقه، وأدخل في علم
أصول الدين. والحكم بأنه لا صلاح في القياس
مثل الحكم بأن القياس فيه صلاح.
ولا يمكن إنكار وقوعه، فقد مارسه
القدماء، ووقع شرعًا، وحث عليه الشرع.
٦٤ والقول بالجواز يؤدي إلى القول بالوقوع.
٦٥ القياس عملٌ يومي في الحياة
الخاصة والحياة العامة، في النص وفي
الواقع، وفي الطبيعة، في الشرع وفي
الشعر.
ولا يمكن التوقف فيه بدعوى أن العقل لا
حكم له فيه إيجابًا أم سلبًا، ويظل في
منطقة الجواز.
٦٦ فالحياة لا تتوقف حتى يتوقف
القياس. قد يفيد التوقف في حالة الإشكال
الذي لا حل له في الثنائيات المتعارضة،
وفرضهما على التعارض وهما على التكامل، أما
التوقف في إثبات القياس والرد على نفيه
فإنه هروبٌ فكري، وتخاذلٌ عقلي، وابتعاد عن
الحسم في موضوع حاسم مثل إثبات القياس ودور
العقل في التشريع.
(٢) الدفاع عن القياس
وتحريم الحكم بغير ما أنزل الله لا ينطبق
على القياس؛ لأنه ثابتٌ بالكتاب والسنة والإجماع.
٦٧ واتهام القياس بذلك مزايدة في
الدين وإعطاء الأولوية المطلقة للنقل على
العقل والواقع، لا يعني القياس رد الخلاف
إلى غير النص، بل محاولة لإحكام النص عن
طريق العقل، وهو أساس النقل.
٦٨ والواقع هو الجامع بين
الاثنين.
لا يعني إثبات القياس أن النص ليس من
جوامع الكلم، وأن الاستدلال الطويل لا يغني
عن النص المركز، وأن الظن لا يغني من الحق
شيئًا؛ لأن جوامع الكلم في المنظوم والقياس
في المعقول، وأن الجماليات في النص
والبراهين في العقل، وأن النص والعقل
كليهما خاضعان للظن واليقين على حدٍّ سواء،
ظن النص في اشتباهات اللغة، وظن النقل في
احتمال الخطأ. يقين النص في بداهات المعاني
الاشتقاقية، ويقين العقل في البرهان. ولا
تعني العبارة الشهيرة «لا اجتهاد مع النص»
غلقًا لباب الاجتهاد، فالنص حمَّال أوجه،
يتم إحكامه بالعقل. النص نفسه يحيل إلى
العالم الخارجي. ودور العقل في تحليل العلل والأسباب.
٦٩ والنص على العلة لا يكفي في
التعدي دون التعبد بالقياس.
٧٠ لا يعني إثبات القياس التخلي
عن النص والعمل بالرأي، وبالتالي الوقوع في
الضلال وافتراق الأمة إلى بضع وسبعين فرقة،
كلها في النار إلا واحدة.
٧١ ولا يعني الإقلال من شأن النص
أو شأن الإمام المعصوم، بل إكمال للنص
وإحكام تأويله، وجعل وظيفة الاجتهاد في
العقل ذاته، وليست في شخص واحد، الإمام المعصوم.
٧٢ ولا تناقض بين ثبوت الحكم في
الأصل بالنص، وثبوته في الأصل بالعلة؛ لأن
النص والواقع قرينان بعلة النص بالاستنباط،
وعلة الواقع بالاستقراء. ولا فرق بين
الاستنباط والاستقراء في درجة اليقين
والظن. فالخطأ واردٌ في كلتا الحالتين.
٧٣
وكون العلة منصوصًا عليها في الأصل، فإن
القياس هو الذي يستنبطها من الأصل
ويستقريها في الفرع. فالنص على العلة في
الأصل ليس قيدًا على عمل العقل والحس.
٧٤ ولا يعني وجوب العلة المنصوص
عليها بطريق اللفظ والعموم، أنها لا توجب
بالقياس؛ إذ لا فرق بين اللغة والمنطق، بين
نظام الخطاب ونسق العقل.
٧٥ وإذا علل الشرع الحكم بعلة
يمكن القياس عليها.
٧٦
ليس القياس تحكمًا، تفريقًا بين
المتشابهات، وجمعًا بين المتفرقات، بل جمع
بين المتشابهات، وتفريق بين المختلفات.
وليس فقط في الفكر، بل في الوجود أيضًا،
طبقًا لقانون الهوية والاختلاف. وليس قولًا
بغير علم، بل إنه منطق محكم للاستدلال وعمل
منطقي للعقل. القياس غير الهوى والمصلحة،
بل هو منطق موضوعي حتى وإن كان يدور في الذات.
٧٧
ليس القياس جدلًا عقيمًا أو مغالطات، بل
هو منطق نظري محكم، قد يضحي بالمضمون من
أجل سلامة الصورة.
٧٨ والجدل في المنطق منطق ظن، في
حين أن القياس منطق يقين، وليس القياس
مدعاة للخلاف والظنون؛ إذ إنه يعتمد على
أصل قطعي نصي. والاختلاف ليس كله مرذولًا،
بل تعدُّد الاجتهادات وحق الاختلاف حق شرعي.
٧٩ وهي على الترتيب في الأهمية
ابتداءً من الاستفسار، ثم فساد الاعتبار
حتى القلب والقول بالموجب.
ليس قياس العقل رجمًا بالظن في حين أن
حكم الشرع قطعي؛ لأن حكم ا لعقل قد يكون
أيضًا يقينيًّا، فالعقل أساس النقل. وقد
يكون حكم الشرع ظنيًّا لأنه يعتمد على منطق
اللغة والتمييز بين الخبر والاستخبار
والأمر والنهي؛ إلى آخر ما هو معروف في
المبادئ اللغوية.
٨٠ واحتمال الخطأ في الاستدلال لا
ينفي الأصل، وهو القياس، فالاجتهاد بطبيعته
متعدد؛ لأن الحق المصلحي متعدد بتعدد
الزمان والمكان والفرد والجماعة، فكل
الاجتهادات صائبة.
٨١
والتفرقة بين القياس المحمود والقياس
المذموم خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف،
وهو في الشرائع وليس في العقائد، في أصول
الفقه وليس في أصول الدين.
٨٢
(٣) إثبات القياس
فإذا أمكن رد الاعتراضات على القياس
شرعًا وعقلًا وواقعًا، كما أمكن استبعاد
التوقيف، وتم الرد على اعتراضات نفي
القياس، فلماذا نفي وجوب القياس شرعًا
وعقلًا وواقعًا؟
٨٣ يقوم إثبات القياس وجواز
التعبد به على أدلة من الكتاب والسنة
والإجماع والقياس، أي الأدلة النقلية والعقلية.
٨٤ فإثبات القياس على أصل، بل
وعلى الأصول كلها، بما فيها القياس
ذاته.
وقد كان الرسول يجتهد ويحكم بالقياس من
جهة العقل.
٨٥ وليس من المعقول أن يقال له:
«احكم بما شئت، فإنك لا تحكم إلا بالحق ولا
تقول إلا الصدق.» كما اجتهد الصحابة بحضوره
وفي غيابه.
٨٦ وإثبات القياس بإجماع الصحابة
بشرط أن تكون العلة منصوصة، وأن تكون
الأحكام متعلقة بالأسباب.
٨٧
وكما أن لنفي القياس حججه النقلية
والعقلية، كذلك إثبات القياس. إذ يجوز
التعبد بالقياس بإجماع الأمة، الصحابة
والتابعين، والفقهاء والمتكلمين وأهل
القدوة. في حين أن الخلاف شديد في إنكار القياس.
٨٨ فإذا ثبت القياس بالإجماع، فإن
ذلك يكون دون تفسيق الصحابة.
٨٩ والقول بالعموم ومقتضى الألفاظ
وتحقيق المناط لا يتم إلا بالقياس.
٩٠ ويحتاج المفهوم، أي المسكوت
عنه، إلى قياس، بالرغم من أنه يكون على
النفي الأصلي أو البراءة الأصلية. وإلحاق
المسكوت بالمنطوق اطمئنان نظري. ويكون
السؤال: أيهما أفضل لحرية الفعل الإنساني؛
إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به، واستنباط
حكم فيما تركه الشرع بلا حكم، وهو تضيق
لمساحة الفعل الطبيعي، أم ترك المسكوت عنه
بلا حكم لحرية الفعل، ومن ثم يكون نفي
القياس أو اتباع ظاهر النص دون تعدية أقرب
إلى حرية الفعل والتحرر من النص؟
٩١
ويكون السؤال في النهاية: وهل يحتاج
الفعل التلقائي الطبيعي الحي إلى قياس عقلي
منطقي استدلالي بارد؟ فالقياس واقع وليس
فقط جائزًا.
٩٢ ومن هنا أتى وجوب العمل بالقياس.
٩٣