(١) من اللفظ إلى المعنى
إذا كان الأصل هو الأدلة الثلاثة الأولى،
الكتاب والسنة والإجماع، فإن معقول الأصل
يشمل المفهوم، أي أنواع أدلة الخطاب،
والمعقول أي القياس. ويشمل معقول الأصل لحن
الخطاب، وهو المعنى الذي لا يتم الكلام إلا
به، وفحوى الخطاب، وهو ما نبه عليه اللفظ،
ودليلَ الخطاب، وهو انتفاء حكم المنطوق عما
عداه، ومعنى الخطاب، وهو القياس.
١ وإذا كان الكلام أصلًا ومعقولَ
أصل واستصحاب حال، فإن معقول الأصل إما لحن
الخطاب، أو فحوى الخطاب، أو الحصر، أو معنى الخطاب.
٢
ويمكن استنباط المفهوم من ثنائية مباحث
الألفاظ بالتحول من طرق اللفظ إلى طرق
المعنى، من الحقيقة إلى المجاز، ومن الظاهر
إلى المؤول، ومن المحكم إلى المتشابه، ومن
المجمل إلى المبين … إلخ، فالنص المتضمن
للحكم ثلاثة أنواع: مجمل محتمل أو مجاز على
مجاز أو ظاهر عام. وفيه لحن القول ومفهومه وفحواه.
٣
ويسمى فحوى الخطاب أيضًا التنبيه، من
أدلة النطق أو من أدلة المعقول. وهو تنبيه
على الأعلى بحكمٍ ينبه على الأدنى، أو على
الأدنى لينبه على الأعلى.
وهو دليل الخطاب. يعلق على غاية أو اسم.
وهي الإشارة والدلالة والإضمار والاقتضاء.
٤ وهو أيضًا قياس، بل قياس جلي؛
لأنه يوحي وينبه. وهو نطق؛ مبالغةٌ في
أهميته، فمعنى الخطاب هو القياس.
٥
ويمكن استنباط المفهوم من قسمة الكلام،
فالكلام ثلاثة أنواع: ما يستقل بلفظه
وفحواه، وما يستقل من وجوه ولا يستقل من
وجه واحد، وما يستقل من وجه وما لا يستقل
من وجه. وتسمى أيضًا: عبارة النص أو إشارته
ودلالته واقتضاءه. وقد ينقسم المفهوم إلى
ثلاثة أقسام: فالعبارات الموضوعة للأشياء
عن الكلام، ونطق القلب ومضمون الأفئدة،
منها ما يستقل بنفسه في الكشف عن معناه
ومقتضاه ومضمونه من كل وجه، ومنها ما يستقل
بنفسه من وجه دون آخر، ومنها ما لا يستقل
بنفسه على الإطلاق. وما يستقل بنفسه إما
بمعناه نصًّا أو إفصاحًا ونطقًا أو بمعانيه
الملتمسة، بلحنه وفحواه ومفهومه.
٦ وما لا يستقل بنفسه مثل المجمل والمجاز.
٧
ويضم المفهوم العقليات المستنبطات
والدليل على كل شيء منها.
٨ إذ يتم بيان الشرعيات بالقول
والعقل والكتاب، والإشارة والإيماء والرمز،
وإقرار الرسول على الفعل وعدم إنكاره
له.
لذلك لا يجوز الاستدلال بالقرآن وحده؛
لأن اللفظ قد يعني شيئين مختلفين، يتم
الجمع بينهما في حكم، فيخطئ الحكم.
٩
وبالرغم من أن الباعث على التخصيص هي
العادة، يظل المفهوم واردًا؛ لأن العادة في
النهاية هي جزء من معاني اللفظ، وهو المعنى العرفي.
١٠
(٢) استنباط المفهوم
ويعني المفهوم ما يُقتبَس من اللفظ، لا
من حيث الصبغة، بل من حيث الفحوى والإشارة،
أي المعنى القصدي الإشاري، وليس المفهوم
المجرد في الذهن. هو الانتقال من العلامة
إلى الدليل.
١١ ويقوم المفهوم بدور التخصيص،
وهو ليس مستقلًّا بنفسه، بل من مقتضيات اللفظ.
١٢ وتعني عبارة النص العمل بظاهر
سياق الكلام.
١٣ فالكلام صريح أو استدلال،
عبارة أو إشارة.
١٤
ويستنبَط المفهوم من الأحكام الثابتة
بالنص الظاهر دون القياس والرأي.
وهي أربعة: الثابت بعين النص، وبإشارة
النص، وبدلالة النص، وبمقتضى النص.
١٥ الثابت بالنص ما أوجبه نفس
الكلام. وما يثبت بالعبارة هو ما كان
السياق لأجله، ولكن يُعلَم بالتأمل في معنى
اللفظ، من غير زيادة أو نقصان. وهو من
أساليب البلاغة والإعجاز. والدلالة هي معنى
النظم لغةً لا استنباطًا بالرأي. ولا خصوص
ولا عموم فيه.
والمقتضي زيادة على النصِّ ليصير المنظوم
مفيدًا أو موجِبًا للحكم. ولا تخصيص فيه؛
لأنه لا عموم له.
(٣) دليل الخطاب
ويثبت المفهوم بإثبات علماء اللغة دليل
الخطاب. ويتجاوز التحديد الكمي زيادة
الاستغفار أكثر من سبعين مرة، والْتِقاء
الختانين لوجوب الغسل، وصدور الحكم مشروط
بالتخوف، وإثبات الشيء ينفي ضده، وضرورة
ظهور الفائدة من التخصيص، وتساوي الصفة مع
العلة، وكثرة استعماله في الآيات والأحاديث.
١٦
ويقع الدليل باللسان العربي، ويعني
«انتفاء حكم المنطوق به عما عداه».
١٧
وقد يشمل دليل الخطاب كل مفهوم الخطاب
ولحنه وفحواه. ويعني تعلق الحكم بأحد وصفَي
الشيء، فيصير إثبات الحكم فيما له الصفة
دليلًا ينبه عما يخالفه. ولا يمكن إفساد
ذلك بدعوى النصية، أي اللغة، وردها على أحد
أبعادها، وهو اللفظ، وإغفال المعنى والشيء.
١٨ ولحن الخطاب هو الضمير الذي لا
يتم الكلام إلا به.
١٩
ومن الصعب إنكار دليل الخطاب.
٢٠ إذ إنه ناتج عن بنية اللغة
وبنية الذهن وبنية الواقع. فاللغة متشابهة،
والعقول متفاوتة، والواقع متعدد الجوانب.
وفهم الخطاب على بنية وقصد المتكلم، وقدرة
السامع على فهمها أو قراءتها على شكل
مختلف.
وهو على مراتب، منه ما يُفهم منه أن ما
عدا القضية التي خوطبنا بها حكمها مثل التي
خوطبنا بها أو على خلافها، كما يعني فَهْم
المسكوت عنه من المنطوق به.
وللخطاب عدة درجات طبقًا للمفهوم، مفهوم
اللقب أبعدها، مثل تخصيص الأشياء الستة في
الربا، فهو أقرب إلى الأشياء منه إلى المفاهيم.
٢١ والاسم المشتق الدال على جنس
مثل اللقب.
٢٢ وهو أقرب إلى المفهوم البعيد
منه إلى المفهوم القريب. وتخصيص الأوصاف
التي تطرأ أو تزول وتعليق الحكم على صفة.
٢٣ وهو ربط بين المفهوم والواقع
مثل الشرط، وذكر الاسم العام ثم الصفة
الخاصة؛ استدراكًا وبيانًا.
٢٤ وهو مثل التخصيص. والشرط تعليق
الحكم بشرط أو شرطين.
٢٥ وإذا عُلق على شرط دل عدمُه
على عدم الشرط، وهو مثل الشرط في التخصيص.
فالأحكام ليست معلقةً في الهواء، بل متحققة
في الأرض. والإثبات يدل على الحصر.
٢٦ وله لفظ واحد؛ «إنما»، ويمنع
من التداخل، إدخال شيء خارج المفهوم فيه.
٢٧ والغاية بصيغة «إلى» أو «حتى»
تبين غائية المفهوم.
٢٨
والإثبات والنفي هما الحكم.
٢٩ والاستثناء بالفعل أو الترك.
٣٠ ومفهوم العدد بين الأكثر
والأقل، يحوِّل الحكم من كيف إلى كم، في
الزمان والمكان. وإذا أُطلق الحكم على عدد،
فقد لا يدل ذلك على نفي الزيادة. ومفهوم
الزمان لأن الأفعال تتم فيه.
ومفهوم المكان والمكان البديل نظرًا
لتحقق الفعل في العالم، باعتباره المكان
الأوسع والفضاء الفسيح.
٣١
(٤) ضروب المفهوم
والمفهوم على خمسة أضرب:
(أ) الاقتضاء: وهو ما يدل عليه اللفظ،
ولا يكون منطوقًا به. يكون من ضرورة اللفظ
بحيث لا يكون المتكلم صادقًا إلا به.
٣٢ وذلك مثل توفر النية في الفعل،
وهي الإعلان عنه بالقول.
٣٣ كما يمتنع وجود الملفوظ شرعًا
إلا به مثل مفهوم الصوم. كما يمتنع ثبوته
عقلًا إلا به، مثل تحريم الأمهات بمعنى
الوطء، وتحريم الميتة بمعنى الطعام. وقد
يدخل بعض المجاز فيه.
٣٤
(ب) الإشارة، هي ما يؤخذ من إشارة اللفظ،
وليس من اللفظ نفسه، كما هو الحال في
إشارات اليد والوجه، وكل ما يسمى لغة
الجسد، ويحتاج إلى بعض الاستدلال الحسابي.
٣٥ ومع الإشارة التنبيه يضم الإيماء.
٣٦ وقد توضع الكناية مع الإشارة.
٣٧
(ﺟ) فحوى الكلام أو لحنه، وهو فهم
التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب
من غير نطق.
٣٨ هو ما عُلِم من نفس الخطاب
المراد به.
٣٩ فحوى الخطاب هو ما يعني من نفس
الخطاب من قصد المتكلم بعرف اللغة.
٤٠ ولحن الخطاب هو الضمير الذي لا
يتم الكلام إلا به. وهو مأخوذ من اللحن،
وهو ما يبدو في عرض الكلام.
(د) فهم غير المنطوق من المنطوق بدلالة
السياق والقصد.
٤١ وينقسم إلحاق المسكوت عنه
بالمنطوق به إلى مقطوع ومظنون. والمقطوع
على مرتبتين:
٤٢ الأَولى أن يكون المسكوت عنه
أولى بالحكم من المنطوق به. وقد يسمى
قياسًا تجوُّزًا.
٤٣ والثانية ما يساوي فيه المسكوت
عنه المنطوق به.
٤٤ أما المظنون فكثيرٌ عندما تكون
المفارقة بين المسكوت عنه والمنطوق به لا
مدخل لها في التأثير. وهناك طريقان لإلحاق
المسكوت عنه بالمنطوق به؛ الأول التعرض
للفارق وحده، وأنه لا مدخل له في التأثير،
والثاني التوجه بالنص نحو الجامع دون
الفارق، ويظهر تأثير الجمع وحده في
الحكم.
(ﻫ) المفهوم. وهو الاسم الكلي الجامع
لدرجات دليل الخطاب. ويعني الاستدلال
بتخصيص الشيء بالذكر عما عداه. وهو مفهومٌ
لا يستند إلى منطوق. ويسمى أحيانًا دليل الخطاب.
٤٥ وقد يكون موضوعًا للشك؛ لأن
النفي في حاجة إلى دليل، ولحسن الاستفهام،
وطلب التوضيح في المسكوت عنه، وصدور الحكم
بالمساواة في حالتَي الموافقة والمخالفة،
ولأن الصفة لا تنفي غير الموصوف. وهي عادة
العرب في الكلام دون أن تكون دليلًا خاصًّا.
٤٦ ودليل الخطاب قصر حكم المنطق
على ما تناوله، والحكم للمسكوت عنه بما خالفه.
٤٧ ويسمى أيضًا دلالة النص، وهو
ما ثبت بمعنى النص لغةً لا اجتهادًا ولا استنباطًا.
٤٨
(٥) الموافقة والمخالفة
وتوهم النفي من الإثبات هو مفهوم
الموافقة ومفهوم المخالفة، والموافقة إما
قطعًا أو ظنًّا.
٤٩ ويعني مفهوم الموافقة أن يكون
حكم المسكوت عنه موافقًا لحكم المنطوق به،
ويتضمن مفهوم الأَولى.
٥٠ ومفهوم المخالفة العكس؛ أن
يكون حكم المسكوت عنه مخالفًا لحكم المنطوق
به، يعني تعليق الحكم باسمٍ دلَّ على أن ما
عداه بخلافه.
٥١ ويتضمن مفهوم المخالفة مفاهيم
اللقب والشرط والصفة، وحمل المطلق على
المقيد مطلقًا، وتخصيص العام بسببه مطلقًا،
ودلالة الاقتران. وكلها من درجات دليل الخطاب.
٥٢ وتدخل تحت دليل الخطاب ولحن
الخطاب، ومنها مفاهيم العلة والمانع والحصر
والاستثناء والزمان والمكان، بل وتحيل إلى
مباحث العلة، مثل السبر والتقسيم، وإلى
الاجتهاد والتقليد. وقد يشير مفهوم
الموافقة ومفهوم المخالفة إلى دلالة
الالتزام.
والمخالفة على أنواع، مثل مفهوم الصفة، وهو
تعليق الحكم على أحد الأوصاف، ومفهوم
العلة، وهو تعليق الحكم على العلة، ومفهوم
الشرط ومفهوم العدد، ومفهوم الغاية، ومفهوم
اللقب، ومفهوم الحصر، ومفهوم الحال، ومفهوم
الزمان، ومفهوم المكان.
٥٣ وهي أيضًا درجات الخطاب.
وينطبق أيضًا مفهوم المخالفة على النص،
كتابًا أو سنة.
ولمفهوم المخالفة شروط، مثل عدم معارضته
بما هو أرجح منه، من منطوق أو مفهوم
موافقة، وألا يكون المقصود منه الامتنان،
وألا يكون النطق جوابًا من سؤال متعلق بحكم
خاص، وألا يكون المقصود به التفخيم وتأكيد
الحال، وذكره مستقلًّا، وألا يظهر من
السياق قصد التعميم، وألا يعود على أصله
بالإبطال، وألا يكون قد أتى
على الأغلب.
٥٤