أولًا: بنية الوعي العملي
بعد أن ينتقل الوعي عبر التاريخ، المصادر
الأربعة للشرع، الكتاب والسنة والإجماع والقياس
في الوعي التاريخي، وبعد أن يتم فهمه بالعقل عن
طريق مبادئ اللغة، وبالمصلحة عن طريق إحصاء
الواقع في الوعي النظري، يكون الوحي جاهزًا
للعمل والتطبيق والدخول في العالم، والتأثير
فيه عن طريق الوعي العملي.
١
والوعي العملي هو آخِر ما تكوَّن في بنية علم
الأصول، وبمسميات عديدة قبل أن يكمله الشاطبي
في «الموافقات» في بنيته الثنائية، المقاصد
والأحكام، ثم رباعية في مقاصد الشارع ومقاصد
المكلف، وأحكام الوضع وأحكام التكليف.
ومن ضمن العناصر المكونة للوعي العملي أهلية
الآدمي؛ أي الإنسان، لوجوب الحقوق المشروعة
عليها، الأمانة التي حملها الإنسان، وهو ما
يعادل وضع الشريعة للتكليف، إذ يخلق الآدمي،
وهو أهل لوجوب الحقوق عليه كلها. والتكليف أحد
الواجبات العقلية عند المعتزلة.
٢ ويحق الخطاب شرعًا حين البلوغ.
وتملك الأهلية قدرتين: فهم الخطاب بالعقل،
والعمل به.
٣
ويعتبر «كشف الأسرار» للبزدوي أول من فصَّل
من الأوائل الوعي العملي، فيما يتعلق بالأهلية،
كما فعله الشاطبي من الأواخر في «الموافقات» في
المقاصد والأحكام.
٤
ويتكون الوعي العملي من قسمين: المقاصد
والأحكام. المقاصد هي الأهداف العامة للشريعة،
فالشريعة ليست فاعلة للقهر، أو علة صورة للشكل
والنص، أو علة مادية آلية للتنفيذ والتحقيق، بل
هي علة غائية، تهدف إلى تحقيق مقاصد عامة لا
يختلف عليها الأفراد والشعوب، ولا تتغير بتغير
الزمان والمكان، وهي الثوابت في الدين. أما
الأحكام فهي تحويل هذه المقاصد إلى تحققات
عملية في الأفراد والمجتمعات، تحويل القصد إلى
فعل، والنية إلى سلوك.
وهناك مصطلحات خاصة بالوعي العملي، تذكرها
المقدمات النظرية الأولى للمتون.
٥ والغالب هو «أحكام التكليف».
ونظرًا لأهمية الوعي العملي، فقد يبدأ بها
المتن مباشرة بلا مقدمات نظرية في أحكام
التكليف الخمسة: الوجوب والندب والحظر والكراهة والإباحة.
٦ وأحيانًا تتأخر أحكام التكليف، بل
قد تُمحى أساسًا كوعي مستقل، وتلحق بالمبادئ
اللغوية وتصبح أحد أبعاد الوعي النظري.
٧
والوعي العملي، أحكام التكليف الخمسة، قد
تكون بداية العلم.
٨ وإذا أتت الأحكام قبل المقاصد؛
فلأنها الوسائل التي تحقق الغايات.
٩ وإذا أتت المقاصد قبل الأحكام؛
فلأن الكليات تسبق الجزئيات، والغايات تأتي قبل
الوسائل.
المقاصد موضوع رئيسي وجوهري في علم الأصول،
قد يُقال إنها غائبة وتحتاج إلى أخبار، وهو
مجرد كلام مجرد عن تتبُّع المعاني، التي
يقتضيها الاستقراء وليس الألفاظ ووضعها اللغوي؛
مما قد يؤدي إلى القول بأن الشريعة لم تُراعِ
مصالح العباد، أو بأنها منعت من جلبها، أو أنها
في البعض دون البعض الآخر معرفة أحيانًا
ومجهولة أحيانًا أخرى، بل يُمنع القياس، ويُذم
الرأي.
وقد يُغالى في الطرف الآخر بجعل مقاصد
الشريعة في الباطن، وليست في الظاهر، من أجل
إبطال الشريعة. والبديل عصمة الأئمة المجتهدين.
وما قيمة مقاصد لا تظهر ولا تكشف عن
نفسها؟
وقد يثبت الطرفان معًا. ويتم التعرف على
مقاصد الشريعة من الأوامر والنواهي والتصريح
بها ابتداء، أو جعلها ضمنية تُعرف بالمفهوم، أو
من اعتبار العلل القطعية أو الظنية، المنصوص
عليها أو المستنبطة، عموم أحكامها وخصوص
أسبابها، في العبادات أو المعاملات.
١٠
والمقاصد أصلية أو تابعة، عادية أو عبادية.
والشرع اقتضاء فعل، ودافع على العمل، وإصلاح
الدنيا، وليس المقصود منها «الله». وتأتي
بالفعل الإنساني العادي والبطولي، وليس بخوارق
العادات. وتتم في عالم الشهادة، وليس في عالم
الغيب، كما يحاول «الحكماء المتقدمون والفلاسفة
المتعمقون»، طلب الفعل في عالم الشهادة وحده،
وليس في عالم الغيب. وإن وقع عكس ذلك يصبح
الفعل محفوفًا بالمخاطر، وتعترضه الموانع،
ويُحال بها بين الإنسان ومقصوده، ويقضى على
حرية الإنسان، ويصبح الأمر كله ابتلاءً
وامتحانًا، وهو ما يقوله الصوفية، وهو ما يميز
علم أصول الفقه عن علوم الحكمة وعلوم
التصوف.
وتُعرف مقاصد الشرع أخيرًا بالسكوت عن شرع
التسبب، أو عن شرعية العمل مع قيام المعنى
المقتضي له. ويسكت الشارع إما لأنه لا داعية له
تقتضيه أو بوجود المقتضي. ومع ذلك الوحي كله
قصد، «خطاب إلى الإنسان».
١١
والشريعة مقاصد ووسائل. المقاصد لذاتها،
والوسائل تحقيقٌ لها، فلا مقاصد بلا وسائل، ولا
وسائل بلا مقاصد.
١٢ وتتكون المقاصد من قسمين: مقاصد
الشارع ومقاصد المكلف.
١٣ فالشريعة مقاصد، والمكلف أنماط من
السلوك، تقوم على نوايا، هي هذه المقاصد الكلية
ذاتها، بعد أن تتحول إلى مقاصد فردية. الشريعة
قصد وهدف للتحقيق، وليست قيدًا على السلوك
وتحديدًا له. هي مجموعة من المبادئ العامة،
التي لا تختلف باختلاف الأديان والمذاهب
والطوائف والمِلَل. هي بمثابة الجمع بين
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والإعلان
العالمي لحقوق الشعوب، والإعلان العالمي لحقوق
الإنسان، والإعلان العالمي لواجبات الإنسان
ومسئولياته.
ومقاصد الشارع أربعة: وضع الشريعة ابتداء،
وضع الشريعة للإفهام، وضع الشريعة للتكليف، وضع
الشريعة للامتثال.
١٤
ثانيًا: وضع الشريعة ابتداء
(١) المصلحة أساس التشريع
ويعني أن الشريعة قد وُضعت لمصالح
العباد، وهو أصلٌ فيها مثل أصول العقيدة.
١٥ وقد تم استقراء هذا الأصل من
جزئيات الشريعة، فهو أصلٌ استقرائي، أي أصل
عقلي وواقعي، استنباطي واستقرائي.
ومقاصد الشارع مطلقة وعامة، لا تختص
بموضوع دون موضوع، وهي مطردة في كليات
الشريعة وجزئياتها، هي الخيط الرابط
للأفعال، والمصب النهائي للسلوك.
والمصلحة من الصلاح، أي كون الشيء على
هيئة كاملة بحسب ما يراد به، فالمصلحة ليست
المنفعة فقط. المصلحة كلية، والمنفعة
جزئية. المصلحة عامة والمنفعة خاصة.
المصلحة مادية ومعنوية، والمنفعة مادية
فحسب، وتعني عرفًا السببَ المؤدي إلى
الصلاح، فتضم الوسيلة والغاية، الأداة
والتحقق.
وتنقسم إلى عبادات ومعاملات، حتى وإن
كانت العبادات حق الله، والمعاملات حق
الإنسان. فالكل حق الإنسان؛ لأن «الله»
غنيٌّ عن العالمين. والرأسي لصالح الأفقي؛
لأن «الله في عون العبد ما دام العبد في
عون أخيه».
١٦
وترتبط المصلحة بالغائية في الخلق والكون
يَا أَيُّهَا
الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ
الْكَرِيمِ * الَّذِي
خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَة مَا
شَاءَ رَكَّبَكَ، وأيضًا
الَّذِي أَعْطَى
كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ
هَدَى، فقد جُعلت الأرض له
أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ مِهَادًا، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ
كَانَ مِيقَاتًا، وقدم له
الطعام والشراب فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى
طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا
الْمَاءَ صَبًّا، مَتَاعًا لَّكُمْ
وَلأَنْعَامِكُمْ، والإنسان
يدرك مصلحة نفسه كما يشرعها الناس، وإلا
ضلَّ في الدنيا وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى
الْهُدَى، وأيضًا: وَاللهُ يَدْعُو إِلَى
دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن
يَشَاءُ إِلَى صِرَاط
مُّسْتَقِيم.
ليست المصلحة فقط أساس التشريع، بل هي
أساس الوجود كله
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ
جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ
فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.
١٧ والمصالح ليست فقط في أحكام
التكليف والخطاب الشرعي، بل هي أيضًا في
«مواقع الوجود».
١٨ المصالح الدنيوية مثبوتة في
العالم، بها حياة الإنسان ومعاشه، المعنوية
والمادية. وضدها المفاسد الدنيوية أيضًا.
ويُعرف الفرق بينهما عن طريق مجرى العادات
وخبرات البشر المتراكمة عبر
التاريخ.
وقد تختلط المصالح بالمفاسد، فيُعرفان
بالأغلب والأقوى والأشد، بالقصد الأول أو
بالقصد الثاني. فلا يوجد خيرٌ خالص في
مقابل شر خالص وَعَسَى
أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا
وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
المصلحة والمفسدة يقومان على العادة
والشرع، أي يستندان إلى الواقع والنص،
فيتساوى الأصلان، وإن تعارضا فالتوفيق أو
الترجيح أو الاختيار، طبقًا لمنطق التعارض
والترجيح. الواقع والنص شيءٌ واحد يدركه
العقل، نظرًا لوحدة الوحي والعقل
والطبيعة.
ولا يمنع ذلك من أن تكون المصلحة
والمفسدة أمورًا إضافية، تختلف باختلاف
الأفراد والأحوال والظروف، وربما العصور
والأزمان.
وقد قام الأمر على جانب المصالح والنهي
على درء المفاسد في إطار ما يطاق. فالقصد
الكلي متحقق في أفعال جزئية. والمصلحة ليست
فقط سلوكًا طبيعيًّا تلقائيًّا، بل هي سلوك
مدفوع بالشرع. المصلحة مأمور بها، وليست
فقط مأذونًا فيها. فالأصل في المنافع
الإذن، وفي المَضارِّ المنع. المصلحة
طبيعية، والمضرة ضد الطبيعة، وهو مثل ما
يقوله الفلاسفة في أن الخير هو الأصل والشر
هو الفرع، مجرد غياب الأصل. الخير هو
القاعدة والشر الاستثناء. ويعني الفلاسفة
بالخير القصد الخلقي التكويني، وليس القصد
التشريعي.
ولا تعارض بين جلب المصالح ودرء المفاسد
كأصلين في الواقع، وكأصلين في العقل،
وكأصلين في الشرع؛ نظرًا لوحدة العقل
والواقع والشرع، كما لا تعارض بين الكليات
والجزئيات، بين الأصول والفروع، بين
الاستنباط والاستقراء. والخلافات بين
المذاهب إنما هو خلافات كلامية فقهية.
١٩
جلب المصلحة ودرء المفاسد هما أساس نظام
كوني تشريعي ووجودي، نظام البشر ونظام
العالم، النظام الإنساني والنظام الطبيعي.
٢٠ وهو أقرب إلى القانون الكلي
الشامل الذي ينظم الحياة كلها. ولا يقوم
نظام الكون على الأهواء
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ
أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ
وَالْأَرْضُ.
والمصالح والمفاسد يتعلقان بأمور الدنيا،
وهو ميدان علم أصول الفقه، أما ما ينتج
عنهما من ثواب وعقاب في الآخرة، فهو أدخل
في علم أصول الدين.
٢١ ولا توجد وسيلة لمعرفتها إلا
قياسًا للغائب على الشاهد. ووصف الشرع لها
في حاجة إلى تأويل وإعمال الخيال. وهي نفس
البنية في هذا العالم وتوابعه. في هذا
العالم بالمشاهدة، وفيما يتبعه من عوالم
بالاستنتاج والقياس القائم على التجربة.
فإذا كانت الطاعة والمعصية تعظَّمان في
الشرع، بحسب عِظَم المصلحة أو المفسدة
الناشئة عنها، فإن أعظم المصالح في الشريعة
جريان الضروريات الخمس المعتبرة في كل ملة.
وأعظم المفاسد ما يُخِلُّ بها. المصالح
والمفاسد ما به صلاح العالم وفساده، أو ما
يدل على كمال ذلك الصلاح، أو إتمام ذلك
الفساد، وكلٌّ منهما على مراتب، وهي
الضروريات الخمس.
٢٢
(٢) تأسيس المصادر الأربعة على
المصلحة
وتقوم مصادر الشرع كلها، المتفق عليها أو
المختلف عليها، على مصدر واحد، هو المصلحة،
باعتبارها المصدر الأول للتشريع. فالكتاب
يقوم على المصلحة. والنص أقوى الأدلة.
٢٣ وقد دلَّ عليها النص الأول
إجمالًا وتفصيلًا. فالإجمال مثل
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي
الصُّدُورِ. والموعظة تهدف إلى
تحقيق المصلحة، وتؤدي إلى الفرح
فَبِذَلِكَ
فَلْيَفْرَحُوا، وإلى الخير
هُوَ خَيْرٌ
مِمَّا يَجْمَعُونَ، والنصوص
كثيرة يمكن استقراؤها مثل:
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ
حَيَاةٌ،
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا،
الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِد
مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة،
وهي رعاية المصالح في النفوس والأموال
والأعراض.
وأفعال الله معللة، لها قصد وغاية،
ومنزَّهة عن العبث، مثل وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسَابَ. وليس
ذلك قيدًا على الأفعال. فالعقل قصدٌ
وغاية.
ورعاية المصالح تفضُّل ووجوب، وإرادة
ذاتية، مثل إِنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ،
كَتَبَ رَبُّكُمْ
عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.
فالقيمة أعلى من الشخص، والمبدأ عامٌّ على
الكل، لا فرق بين إرادة وإرادة.
وقد قام الشرع على رعاية المصلحة مطلقًا
وليس فقط لإكمال الناقص، فالمصلحة أساس
وجود، وليست فقط أساس كمال، ومن ثم لا
تُستبعد المصلحة كأساس مستقل للتشريع؛ لأن
المصادر الأربعة تقوم على المصلحة.
٢٤
والسنة أيضًا تقوم على المصلحة؛ إذ يقتضي
حديث «لا ضرر ولا ضرار» رعاية المصالح
إثباتًا، والمفاسد نفيًا. فالضرر هو
المفسدة، إذا نفاها الشرع لزم إثبات النفع،
وهو المصلحة، لأنهما نقيضان، ولا واسطة
بينهما. المصلحة بيان للنص مثل بيان السنة للقرآن.
٢٥ والأحاديث كثيرة مثل: «لا
يَبِعْ بعضكم على بعض، ولا يَبِعْ حاضرٌ
لبادٍ، ولا تُنكَح المرأة على عمتها أو
خالتها، إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم
أرحامكم.» فالمصلحة أساس العلاقات الأسرية،
تقوم على الذوق السليم، وتهدئة الانفعالات،
وتحييد التنافس في المصالح، التي قد تنتهي
إلى التضارب والتناقض، مما يُضعِف العلاقات
الاجتماعية أو يقضي عليها تمامًا.
وقد كان النبي يحكم بالمصلحة، وهي
الصواب، مثل: «احكم، فإنك لا تحكم إلا
بالصواب.» فلا فرق بين الوحي والمصلحة، وقد
أتت النبوة للدفاع عن المصالح العامة.
وتسمى العصمة لأن المصلحة لا تخطئ.
٢٦
وتجمع كل صنوف الإجماع، إجماع الأمة،
وإجماع أهل المدينة، وإجماع الكوفة، وإجماع
العترة عند الشيعة، وإجماع الخلفاء الأربعة
أيضًا على المصلحة. وقوة الإجماع مثل قوة
النص. وإذا اتفق الكتاب والسنة والإجماع
على المصلحة وجبت، وإن خالفاها وجب تقديم
المصلحة عن طريق التخصيص؛ لأن المصلحة أساس
الكل، والجزء لا ينقض الكل.
والنص والإجماع إما ألا يقتضيا ضررًا ولا
مفسدة، ومن ثم يكونان موقوفَين عن تحقيق
المصلحة، أو يقتضيان بمجموعهما، فيستثنى
الضرر بحديث «لا ضرر ولا ضرار»، جمعًا بين
الأدلة. ومن ثم فإن رعاية المصلحة أساس
النص والإجماع.
٢٧ وقد أجمع العلماء على تعليل
الأحكام بالمصالح المرسلة، حتى عند من لا
يعترف بحجية الإجماع. والنص أصل
الإجماع.
وتقوم المصلحة على النص والإجماع حين التعارض.
٢٨ إنكار الإجماع ممكن، ولكن
إنكار المصلحة مستحيل. وتتعارض النصوص؛ في
حين أن رعاية المصلحة متفَق عليها، وقد حث
النص على الاتفاق، وليس الاختلاف
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللهِ جَمِيعًا وَلَا
تَفَرَّقُوا، وأيضًا
إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا
لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء،
ودعا إلى تأليف القلوب:
وَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ
بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ
أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، وقد أوصى
الحديث «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم»،
وأيضًا: «لولا قومك حديثو عهد بالإسلام
لهدمت الكعبة، وبنيتُها على قواعد
إبراهيم»، أي إنه ترك الهدم رعايةً لمصالح
الناس، كما أمر بجعل الحج عُمرة، كما أمر
يوم الحديبية بالتحلل. وحين آثر المسلمون
العادة غضب وقال: «ما لي آمر بالشيء فلا
يُفعل.» كما ردَّ عمرُ حديثَ: «من قال لا
إله إلا الله دخل الجنة»؛ خشيةَ أن يتَّكِل
الناس، وكثيرًا ما قدم رعاية المصالح على
أدلة الشرع لإصلاح شأنهم، وانتظام أحوالهم.
المصلحة هي التقدير، وحُسن الرعاية،
والدخول في عالم النص خارج النص، فالنص
داخل اللغة وخارجها في العالم تجمعهما
العلامة، ولا يعني ذلك تعطيل أدلة الشرع
بقياس فاسد، وهو: «وهمٌ واشتباه من نائم
بعد الانتباه»، بل هو ترجيح دليل شرعي على
آخر. وقياس إبليس:
أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ
نَار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين
لا يقوم على رعاية المصالح العامة، بل إن
ذلك من باب فساد الوضع في رد العلة.
المصلحة تجُب القياس العقلي الخالص؛ لأن
المشاهدة واقع، والواقع له الأولوية على
النص والعقل معًا.
والكلام في أحكام الشرع إما في العبادات
والمقدرات، ويستند إلى النص والإجماع، أو
في المعاملات والعادات، ويستند إلى
المصلحة.
والدليل إن اتحدت المصلحة في نص أو حديث
أو إجماع أو قياس تثبت به، وإن تعددت في
آية وحديث واستصحاب، فإما أن تتفق أو
تختلف. وفي حالة الاختلاف قد يمكن الاتفاق
أو يبقى الاختلاف الذي ينتهي بالترجيح،
طبقًا لترتيب الأدلة ابتداءً من النص إلى
الواقع، وطبقًا لمنطق التعارض والترجيح،
وهذا سهل في العبادات؛ لأن العبادات أيضًا
تقوم على مصالح الناس في الدنيا بأبعادها
الزمانية المختلفة، في هذه الحياة وما بعدها.
٢٩
وفي المعاملات مصلحة الناس أظهر، وتخضع
أيضًا لقانون التعارض والترجيح، إن كانت
متحدة فلا إشكال، وإن اختلفت وأمكن الجمع
بينها فلا إشكال أيضًا، وإن تعارضت بحيث
يمكن الجمع بينها فلا خلاف، وإن لم تقبل
الجمع قد يتم الترجيح بينها طبقًا للأهلية،
فإن تساوت فطبقًا للاختيار القصدي أو الحر،
الذي يسميه القدماء القرعة، دون الوقوع في
تساوي البواعث، بل اتباع الدافع الأقوى
والغاية الأكمل.
٣٠ وتدخل المفسدة بعين الاعتبار
في الترجيح، تحقيق أكبر قدر من المصالح،
وأقل قدر من المفاسد. ودرء المفاسد مقدم
على جلب المصالح طبقًا للقاعدة الفقهية،
فالمصالح والمفاسد متداخلتان، يتم الترجيح
بينهما عن طريق التغليب، كما هو الحال في
اللغة. وتتجلى المصلحة والمفسدة في العقود
طبقًا لقاعدة «إن تعليق الأملاك بالأخطار
باطل، وتعليق زوالها بالأخطار جائز»، وهي
صيغة أخرى لقاعدة «إن درء المفاسد مقدَّم
على جلب المصالح».
٣١
ولا يتعارض العقل والمصلحة نظرًا للوحدة
المبدئية بين العقل والواقع.
٣٢ ولا فرق بين العقل ومجاري
العادات التي تمثل الواقع.
٣٣
وتقديم المصلحة على الدليل الشرعي لا
يعني أن الدليل الشرعي لا يقدم على
المصلحة، بل يعني طلب المجتهد في إيجاد
التوافق بين مصلحة العقل والواقع ومصلحة
الشرع، إنما الأمر هو ترجيح دليل على دليل،
كما لا يعني اعتبار المصلحة أساس التشريع
أيَّ تقييد للشرع بجهة واحدة، فالشرع يقوم
على التعدد، والخلاف رحمة وتوسع، ومصلحة
الاتفاق أولى من مصلحة الاختلاف، وقد يكون
التعدد مفسدة لا مصلحة، لاتباع الناس أرخص
المذاهب؛ مما يفضي إلى التحلل من الشرع،
وهي تجربة أهل الكتاب.
وينفر الطبع من الخلاف. والتشابه في آية
اللهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا
مُتَشَابِهًا يعني التوافق
وليس الاختلاف.
ولا يقال إذا كانت المصالح المرسلة خطأً
لا يُعتدُّ به، أو صوابًا جائزًا لا يستبعد
غيرها، أو مطلقًا يجعل الأمة في حالة جواز
رأي آخر على خطأ مع قول الرسول: «اتبعوا
السواد الأعظم؛ فإن من شذَّ شذَّ في
النار»، فالصواب متعدد، وليس منحصرًا في
القول بأن النص أساس التشريع الذي يعتمد
على النص، فالنص مفتوح من أعلى نحو العقل،
ومن أسفل نحو الواقع، وليس نصًّا مغلقًا له
كيانه من ذاته. النص ظاهرة مركبة حتى وإن
بدا على مستوى العبارة واضحًا بسيطًا.
٣٤
(٣) الاستصلاح
ويعني كل أشكال القياس، سواء كان القياس
الشرعي المحكم القائم على الأركان الأربعة،
الأصل والفرع والعلة والحكم، أو كانت أشكال
الاستدلال الحر.
وتظهر المصلحة في القياس في مقاصد الشرع.
٣٥ فالمقصود من شرع الحكم جلب
مصلحة أو دفع مضرة أو كلاهما معًا. وتكون
مراتب اقتضاء الحكم إلى المقصود من شرع
الحكم يقينًا أو ظنًّا، وكلاهما صحيحٌ
يخضعان للتقدير دون خطأ أو صواب؛ نظرًا
لتعدد الصواب في الاجتهاد.
٣٦
والاستصلاح أدخل في مقاصد الشرع، وضع
الشريعة ابتداء إثباتًا للمقاصد الخمسة:
النفس، والعقل، والقيمة (الدين)، والكرامة
(العرض)، والثروة الوطنية (المال)، وليست
مصدرًا غير شرعي من مصادر التشريع، مثل شرع
من قبلنا أو قول الصحابي أو عمل أهل
المدينة. وهي المصالح المرسلة، فالمصلحة
أساس التشريع، وليست فقط أحد مصادره.
٣٧ والاستصلاح هو جلب المصلحة،
والمصلحة هي جلب المنفعة، ودفع الضرر، وهي
من مقاصد الخلق وصلاحه في تحصيل المقاصد؛
٣٨ لذلك وضعت القاعدة الأصولية
«إن أمور المسلمين محمولة على السداد
والصلاح حتى يظهر غيره».
٣٩ وهو الاستدلال المرسل أو المسترسل؛
٤٠ لذلك يدخل أحيانًا في مباحث
القياس ومسالك العلة والمصالح العامة،
٤١ والمصالح المرسلة.
٤٢
ويقوم القياس الحر في كل أشكاله مثل
المصلحة المرسلة، والاستصحاب، والبراءة
الأصلية، والعادات، والاستقراء، وسد
الذرائع، والاستدلال، والاستحسان، والأخذ
بالأخف، أيضًا على المصلحة. يثبت النظر
المصالح العامة، فلا شك عند العقلاء في
مراعاة النص للمصلحة العامة والخاصة؛ لأن
المصالح العامة حقيقة مثل النص، والنص
والواقع واجهتان لشيء واحد.
٤٣
والاستدلال بعدم ما يدل على الحكم على
عدم الحكم أحدُ أشكال الاستدلال الحر عن
طريق رفع الشرع عن الواقع.
٤٤ فالواقع أحد جوانب النص، ولا
يقِلُّ «نَصيَّةً» من النص، كما أن النص لا
يقل واقعية من الواقع، وكما أن رفع أجزاء
الفعل نص، فإن نفي قبول الفعل يقتضي عدم
صحة النص.
٤٥ وما صح وجوبه غير مؤقت بنصّ أو
إجماع، ولا يسقط بنص إجماع، بل بالوجود
ذاته. وما لا يجب لا يجب إلا بنصّ أو إجماع
أو بالوجود ذاته.
٤٦ الحكم المطلوب إثباته يكون
عدميًّا أو وجوديًّا، ليس فقط طبقًا للنص،
بل طبقًا للوجود ذاته، إيجابًا في الوجود
أو سلبًا في العدم.
والاستقراء المظنون هو إثبات الحكم في
كلياته لثبوته في بعض جزئياته، ولا يفيد
اليقين ما دام الاستقراء ليس تامًّا.
٤٧ وهو مشتقٌّ من أن النص ما هو
إلا تجريد للواقع، وتعميم للجزئيات مثل
القانون العلمي.
وتثبت الأحكام بأقلِّ ما قيل، فالحكم ليس
قيدًا، أقل قدرًا من النص وأعظم قدرًا من
الواقع. ويأخذ المكلف أخف القولين، فلم
ينزل الوحي للشقاء والمعاناة، بل لرفع
القيد عن الطبيعة وجعْله من داخلها.
٤٨
والعوائد هي قوة الأعراف في الأوطان،
غلبة معنًى من المعاني على الناس في جميع
الأقاليم أو في بعضها، فيُقضى بالعائدة إن
لم تخالف الشريعة.
٤٩
بل إن المصادر اللاشرعية، أي الهامشية،
تقوم أيضًا على المصلحة، مثل قول الصحابي
والعصمة وعصمة الشريعة أو عصمة الأمة.
٥٠ فالشريعة معصومة، وصاحبها
معصوم، وحاكمها معصوم، وإمامها معصوم،
وأمتها معصومة. حينئذ يكون السؤال: من يضر
إذن بمصالح الناس؟
(٤) أقسام المصلحة
(أ) الضروريات والحاجيات
والتحسينات
ويمكن معرفة أصول الشريعة بالاستدلال
عن طريق المقاصد، فهي تنقسم إلى:
٥١
- (أ)
ما يُعقَل معناه، وهو أصل،
ويؤول المعنى منه إلى أمر ضروري لا
بد منه، مع تقرير غاية الإيالة
الكلية والسياسة العامية. وفيه
تعتبر أجزاء القياس بعضها لبعض،
والأصل بالأصل، ويُترَك فيه القياس
إلى القاعدة الكلية.
- (ب)
ما يتعلق بالحاجة العامة ولا
ينتهي إلى حد الضرورة، وفيه يجري
القياس الجزء على الجزء.
- (جـ)
ما لا يتعلق بضرورة ولا
حاجة، ولكن يلوح في غرض جلب مكرمة
أو نفي نقيض لها، وينضبط بقدر
أفهام المكلفين.
- (د)
ما لا يستند إلى ضرورة أو
حاجة أو مكرمة، ويكون تحصيل
المحصول فيه مندوبًا إليه ابتداءً،
وفيه خروج من قياس كلي، ومتروك
للذوق الفردي.
- (هـ)
ما لا يلوح فيه المستنبط
معنًى أصلًا ولا مقتضًى من ضرورة
أو حاجة أو استحداث مكرمة ولا حظ
فردي. إن امتنع استنباط معنًى جزئي
فلا يمتنع تخيُّلُه كليًّا. وهو
غرض الشارع، وهو متروك لحرية
الاستدلال وتخيُّل آفاقٍ أرحب من
القيد بالقانون والتقيد
بالشريعة.
وهذا يعني أن الوقائع لا حصر لها، في
حين أن المصالح والنصوص محصورة ومحدودة.
٥٢ ومن ثم كان الواقع أكثر
غنًى من النص. الواقع حرية، والنص قيد،
والحرية تتجاوز القيد بالضرورة.
والمصلحة ثلاثة أقسام: ما شهد له
الشرع، وما لم يشهد له، وقسم لم يشهد
له الشرع لا معه ولا ضده.
٥٣ وما شهد له الشرع حجة،
يستعمل في القياس واستنباط الحكم من
النص ومن الواقع على حدٍّ سواء؛ سواءٌ
في الواجبات أو المحظورات. وما شهد ضده
الشرع فهو سوء تأويل الشرع، بحيث يحقق
مصالح الملوك والرؤساء وجماعات
المصالح؛ خلطًا بين المصلحة العامة
والمصلحة الخاصة، بين المصلحة الموضوعة
وأهواء النفس والانفعالات الوقتية. وقد
تكون الشهادة إيجابًا بالمصلحة أو
سلبًا بالمضرة.
وما لا يشهد الشرع له ولا ضده، فهو
على أنواع: الضروريات والحاجيات
والتحسينات، أي مراتب المصلحة بين
الضرورة والحاجة والتحسين، بين الضرورة
القصوى، والضرورة الاحتمالية،
والاحتمال الخالص. ولا يوجد حد رياضي
فاصل بين هذه المراتب، بل تتداخل فيما
بينها؛ طبقًا للفهم والحس السليم، فقد
يرى البعض حاجة أقرب إلى الضروريات أو
تحسيناتٍ أقربَ إلى الحاجيات، كما قد
يتنازل زاهد عن الضروريات ويراها أقرب
إلى الحاجيات أو إلى التحسينات، بل
ويتنازل أيضًا عن الحاجيات والتحسينات.
٥٤
والضرورية عليها تقوم مصالح الدنيا،
وبغيابها تفسد الدنيا؛ لذلك تراعى من
باب الوجود لجلب المصالح، ومن جانب
العدم لدرء المفاسد. وهي كلياتٌ لا
يرفعها تخلف الجزئيات، تقوم على
الاستقراء المعنوي الذي لا يبطله
تخلُّف بعض الجزئيات.
٥٥ وإذا تعارضت مصلحتان
تُغلَّب الأقوى درجةً، مثل حاجة الدولة
إلى استيفاء الضروريات، فتمنع استيراد
الحاجيات والتحسينات من الكماليات.
٥٦ ولكنها مقصودة من شرع
الحكم، مع اختلاف المراتب، وكل مرتبة
تضم إليها إضافات للتكملة؛ بشرط ألا
تعود إلى الأصل بالإبطال.
٥٧
فالضرورية أصل للحاجية والتحسينية،
والحاجية أصل للتحسينية، واختلال الأصل
يؤدي إلى اختلال الفرعين، واختلال
الفرعين لا يؤدي إلى اختلال الأصل
كليًّا أو نسبيًّا، والأكمل المحافظة
على المراتب الثلاث.
٥٨
(ب) الضروريات الخمس
والضروريات هي مقاصد الشرع، والتي من
أجلها وُضِعت الشريعة ابتداء، ويخضع
الترتيب لنسق عقلي، تأتي الحياة أو
النفس أولًا. فالعقل والقيمة والعِرض
والثروة مقومات للحياة، والنسل يدخل
ضمن الحياة واستمرارها، ثم يأتي العقل
ثانيًا، فالحياة هي الحياة العاقلة،
والإنسان حيوان عاقل، كما قال الحكماء
قديمًا، ثم تأتي القيمة أو المبدأ
الكلي الذي يدركه العقل، ثم يأتي
العِرض أو الكرامة، وأخيرًا تأتي
الثروة الوطنية، أي المقوِّم المادي
للحياة، وهي التي بها حاجات الناس
الأساسية وقضاء مصالحهم.
٥٩ الحياة ودعامتها العقل
والقيمة كمثال، والعرض والمال كواقع.
وتسبق الدين؛ فلا دين بدون حياة، ولا
حياة دون عقل، وإلا تكون حياة عضوية
خالصة. ثم يُفهَم الدين بالعقل. وكرامة
الإنسان وقيمته، أي العرض، تسبق ثروة
الأمة، أي المال. وكل ما يحفظ هذه
المقاصد الخمسة فهو شرعي.
٦٠
وتتغير الأمثلة الفقهية بتغير
العصور، وتبقى بنى الأفعال ومقاصدها،
فالنفس هي المحافظة على الحياة ضد
الحروب والأمراض والفقر وكل ما يهدد
الحياة الإنسانية والحيوانية
والنباتية، بما في ذلك التصحر
والتلوث.
والعقل هو قيمة الحياة، فالإنسان
حيوانٌ ناطق كما قال القدماء، والعقل
هو ما يفرق حياة الإنسان عن حياة
الحيوان والنبات، ودون العقل لا يتم
فَهْم الشريعة ولا يصح التكليف، فالعقل
أساس النقل.
والدين لا يعني العقيدة فقط أو
الشريعة فقط، بل يعني القيمة وعظمة
الإنسان في حمل الرسالة، والدفاع عن
المعيار العام الشامل غير المزدوج،
وتحقيق المثال في الواقع. الديانات
متفرقة، والقيم واحدة. الدين يختلف
عليه الناس والأخلاق توحِّدهم. وطالما
حدد الفلاسفة الدين في حدود العقل بأنه
الأخلاق، وهكذا فعل الصوفية طبقًا
لتعريفه بأنه: «أخلاقٌ كريمة ظهرت في
وقت كريم.» وهو ما أكده النص: «إنما
بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق.»
والنسل لا يعني فقط البِضع والذرية،
بل العِرض الفردي والجماعي. والعرض هو
الأرض عند الفلاح، وهو الكرامة الوطنية
لدى الأمم المغلوبة والشعوب المحتلة،
وعلامة على كل ما يتعلق بالخصوصية
والذاتية والاستقلال.
والمال لا يعني فقط المال في الحافظة
أو في الجيب أو في اليد، أو في
الخزينة، أو في المصرف، بل يعني الثروة
الوطنية بوجه عام، وكل ما يقيم أَوَد
الإنسان، ويحافظ على حياة الأمم، قد
يكون سائلًا وقد يكون جامدًا، قد يكون
عُملةً وقد يكون أصولًا، قد يكون
جاريًا وقد يكون ثابتًا، فوق الأرض أو
تحت الأرض.
٦١
وتجمع هذه الضروريات الخمسة حقوق
الإنسان الفردية وحقوق الشعوب
الجماعية.
(ﺟ) الحاجيات والتحسينات
والحاجيات هي الزائدة على المصالح
الرئيسية، والتي بها تتحسن وتتقدم، وهو
نفس النسق العقلي في الصلة بين الواجب
والمندوب، الضروري والاختياري.
والأمثلة من القدماء ومن المحدَثين على
حدٍّ سواء، فإذا كان مثال القدماء
الزواج من الصغيرة، فإنه أصبح الآن
وسيلة للتمتع بالحياة عند الأثرياء،
وبيع مقنع للبنات عند الفقراء.
٦٢ وهي ما يزيد على الحاجة،
ويكمل الضرورة، فإذا كانت الضروريات
للطبقات الفقيرة، فإن الحاجيات من
مستلزمات الطبقات المتوسطة، كالمنزل
والعربة. الضروريات للمجتمعات عند خط
الفقر، والحاجيات عند المجتمعات فوق خط
الفقر.
والتحسينات هي الكماليات الزائدة،
والتيسير في العادات والمعاملات مثال
القدماء التترُّس بأسارى المسلمين، وهو
أقرب إلى قاعدة «الضروريات تبيح المحظورات».
٦٣ وهو ليس أفضل الأمثلة
لِمَا فيه من ضياع للحياة، والحياة هي
المقصد الأول من مقاصد الشارع. ومن
أمثلة المحدَثين التمتع بالحياة نتيجة
الترف الزائد والتفنن في أنواعها، فإن
كان الانتقال بالمركبات العامة من
الضروريات، يجب على الدولة استيفاؤها،
فإن المركبات الخاصة المتواضعة من
الحاجيات يستطيع القادرون الحصول
عليها، أما المركبات الخاصة الفارهة
الغالية الثمن، فإنها من التحسينات
التي تصل إلى حد المكروه في مجتمع لم
يُشبع بعدُ حاجاتِه الأساسية، وكل ذلك
يتوقف على أحوال الزمان، زمان ثراء أم
زمان فقر، عصر نصر أم عصر هزيمة، حالة
انتصار أم حالة انكسار. ولم يكن الأمر
ببعيد عن الفقه القديم.
٦٤ فإذا كانت الضروريات
للطبقات الفقيرة، والحاجيات للطبقات
المتوسطة، فإن التحسينات للطبقات
العليا، القصور ومظاهر البذخ والترف
وخزن الأموال. وإذا كانت الضروريات
للمجتمعات في خط الفقر، والحاجيات
للمجتمعات فوق خط الفقر، فإن التحسينات
لمجتمعات الرفاهية.
ثالثًا: وضع الشريعة للإفهام
(١) اللسان العربي
وضع الشريعة للإفهام، بكسر الألف، لأن
شرط المكلف الفهم.
٦٥ ولو أن فتح الألف أيضًا وارد،
الإفهام بالكسر تركز على العقل، والأفهام
بالفتحة تركز على الملَكة والأداة.
فالشريعة بلا فَهمٍ لا قيمةَ لها، ولا يمكن
إجبار أحد على تطبيق الشريعة دون فهمها، لا
في مجتمع مسلم، ولا في مجتمع أغلبيته
مسلمة، وأقليته غير مسلمة. لا يجبر أحد على
تطبيق الشريعة، لا بالعصى كما يفعل المطوف،
ولا بأبٍ في أسرة، أو شرطي في طريق، أو
حاكم في دولة. وضع الشريعة للإقناع بها،
وفهم مقاصدها، وليس عَنوة بالسلاسل
والكرابيج، والمطاوي والسيوف، وليس عن طريق
التخويف والردع، وإلا كان التطبيق نفاقًا،
يزيد القهر قهرًا، والتسلط تسلطًا،
والتخويف تخويفًا. وعدم تطبيق الشريعة عن
اقتناع خير من تطبيقها دون فهم، فحرية
الإيمان من الحريات الطبيعية.
والشريعة عربية اللسان لا مدخل للعجمة
فيها، فقد نزل القرآن بلسان العرب،
والألفاظ الأعجمية فيه كانت قد عُرِّبت من
قبل، وقبل استعمال القرآن لها، فأصبحت عربية.
٦٦ والعروبة هي اللسان.
وألفاظ اللغة العربية لها معانٍ مطلقة،
وهي الدلالات الأصلية، ومعانٍ مقيدة خادمة
وتابعة. وتشترك جميع الألسنة في المعاني
المطلقة، التي تعبر عن مقاصد المتكلمين، في
حين تختلف الألسنة في المعاني المقيدة، بما
في ذلك اللسان العربي، من حيث الأسلوب
والتعبير، والوضوح والخفاء، والإيجاز
والإطناب؛ إلى آخِرِ ما هو معروف في علوم
اللغة وعلوم البيان والبديع. ويمكن نقل
المعاني المطلقة من لسان إلى لسان، أما
المعاني المقيدة فلا يمكن نقلها، وإلا تم
الوقوع في الحرفية، وكما أقر المناطقة
القدماء والمحدثون؛ لذلك يمكن ترجمة
المعاني العامة للقرآن، دون المعاني
الخاصة. ولحُسن الفهم تعتبر المعاني الخاصة
تكملةً للمعاني العامة؛ خاصة في التشريع،
أما التعبد فإنه لا يكون إلا باللسان العربي.
٦٧
وتستنبط الأحكام الكلية من المعاني
المطلقة للألفاظ، أما المعاني المقيدة
فيمكن أن تفيد كأداة متممة في استنباط
الأحكام الكلية، فالشريعة بلسان العرب
وطبقًا لعاداتهم اللغوية، وقد أفادت
العلماء في الاستنباط، ورفع التعارض
الظاهري بين النصوص، فهي ليست معانيَ
مستقلة بذاتها، تستنبط منها الأحكام
الكلية، وهي ليست أولى من المعاني الأولية،
ومعظمها في الآداب الشرعية، والتخلقات
الحسنة، ومكارم الأخلاق، مثل النداء بين
العبد والرب والكناية، وأدب الغيبة
والحضور، وعدم نسبة الشر إلى الكمال، وأدب
المناظرة، وأدب إجراء الأمور على العادات
في التسبُّبات.
٦٨
ومن ثم لا تُفهم الشريعة إلا على طريقة
الأميين، الذين نزل القرآن بلسانهم وعلى
عاداتهم في المعاني والألفاظ والأساليب.
فاللغة هي الضامن لفهم الشريعة، طبقًا
للقوانين المطردة؛ حتى لا يقع نزاع بين
النص ومجرى العادات، ودون الإخلال بقواعد
اللغة عن طريق أحكام التأويل. ويكون الفهم
عامًّا ومطردًا عند الجميع وليس فَهْم
الخاصة من الفلاسفة أو الصوفية. ويكون
أيضًا بداية بالمعاني الأصلية المطلقة
الثابتة في النص، طبقًا لمقاصد الشريعة،
وليس في الدقيقات الجزئية والتفيقهات
اللفظية. ويؤدي الفهم إلى تكاليفَ عملية
يعقلها المكلفون، ويتيسر عليهم أداؤها، دون
الدخول في دقيقات النظر والمتشابهات من
الأمور، فهي أمور إضافية وليست أصلية، لم
يطلب الشرع التعبد بها، تتفاوت فيها مراتب
العقول بين العامة والخاصة.
٦٩
والشريعة أمية أتت لقوم أميين لا يعرفون
القراءة والكتابة، بل على اعتبار المصالح.
٧٠ ومع ذلك أدرك العرب الإعجاز
بالصوت سماعًا، وليس بالحرف قراءة.
(٢) العلوم الإنسانية
عرف العرب من العلوم مكارم الأخلاق
ومحاسن الشيم، فوردت الشريعة طبقًا لما
يعرفه العرب من علوم، وأكدت الشريعة علومهم
النافعة، وأبطلت علومًا أخرى ضارة. فمن
العلوم النافعة التي عرفها العرب علم
النجوم للاهتداء به في البر والبحر، أي علم
الفلك وليس علم التنجيم، وعلوم الأنواء
لمعرفة أوقات نزول الأمطار وهبوب الرياح،
وعلوم التاريخ والآثار الماضية، كما قص
القرآن في قصص الأنبياء، وعلم الطب المعتمد
على التجارب، وعلوم البلاغة وضرب الأمثال،
وعلم مكارم الأخلاق خاصةً في السور المكية
للحث على الفضائل وتجنُّب الرذائل. ومكارم
الأخلاق تعتمد على العقل في معظمها، والبعض
الآخر يحتاج إلى تدبر ونظر، وقد خوطب العرب
بدلائل التوحيد بالتأمل في الطبيعة، وهي
علوم الحكمة، جدل أقل وبرهان أكثر. أما
العلوم الضارة فتمثل علوم العيافة والزجر
والكهانة وخط الرسل وضرب الحصى والفأل
والطيرة، والتي ما زالت حتى الآن في
الثقافة الشعبية.
ومن ثم فإن إضافة علوم أخرى تتجاوز الحد،
كما فعل المتقدمون والمتأخرون، مما لا نفع
فيه، فهي تكلُّف وتصنُّع، مثل علوم
الطبيعيات والتعاليم والمنطق والحروف لفهم
فواتح السور.
ومع ذلك يضيف المحدثون العلوم الإنسانية،
لِما تُمده للأصولي من نتائج إحصائية،
يعتمد عليها لمعرفة الواقع الاجتماعي،
وتطبيق مناهجه في حصر العلل والسبر
والتقسيم، عن طريق تحليل العوامل وتحييدها؛
حتى يتم التحقق من كل عامل على حِدَة
باعتباره هو العلة المؤثرة. وأهمها العلوم
الاجتماعية لمعرفة علاقة الفرد بالمجتمع
وبالبنية الاجتماعية والأوضاع الطبقية،
والعلوم السياسية لمعرفة النظم السياسية،
طبيعتها وأثرها في سلوك الأفراد والجماعات،
والعلوم الاقتصادية لمعرفة درجة الفقر
والبطالة والمرض، ومستوى الإسكان والتعليم
في المجتمع قبل تطبيق الحدود. ويُضَم إليها
علوم الأنثروبولوجيا بكل أنواعها
الاجتماعية والسياسية واللسانية والثقافية،
لمعرفة وضع الإنسان، ككيان اجتماعي، ومستوى
ثقافته، وأثر الموروث الشعبي على السلوك،
فعلم الأخلاق في النهاية علم سلوكي.
٧١
(٣) التجارب البشرية
وإذا كانت الشريعة عامةً لكل زمان ومكان،
وصالحةً لكل الشعوب والأقوام، فإن التجربة
البشرية خير رصيد لها، من أجل معرفة الواقع
الإنساني العام، من خلال تراكم الخبرات
البشرية، فقد تطور الوحي نفسه على مراحل
طبقًا لمراحل تطور الوعي الإنساني، ساهم في
دفعه، وواكب تقدُّمه حتى انتهى الوحي وتمت
آخر مراحله باستقلال الوعي الإنساني؛ عقلًا
وإرادة، فأصبح قادرًا بالعقل على الفهم،
وبالإرادة على حرية السلوك والاختيار.
٧٢
فالمسلمون أمة مثل باقي الأمم. تسري
عليهم قوانين التاريخ، كما سرَتْ على
الشعوب السالفة. وهم اليوم في صراع حضارات
أو حوار ثقافات، يتعاملون مع الشعوب
والثقافات الأخرى، يعرِضون ثقافتهم
ونُظُمَهم لإقناع الآخرين. ولا يكفي في ذلك
نص؛ لأنه ليس حجة عند غيرِ مَن يؤمن به.
ومن يؤمن به مقتنع سلفًا ولا يحتاج إلى
دليل. والنص حمَّال أوجه. يستعمله الخصمان
في الجدل، ليؤيد كلٌّ منهم وجهة نظره.
معرفة خبرات الآخرين إضافة إلى خبرات
النفس، وإكمال للتجربة البشرية العامة؛ كي
تكون رصيدًا لفهم الشريعة العامة.
ويمكن التعرف على تجارب البشر من خلال
كتب الوحي السابقة، المعروفة وغير
المعروفة، ورسالات الأنبياء والرسل الذين
عُرفوا في شبه الجزيرة العربية، وقصهم
الوحي في آخر مرحلة، أو الذين لم يُعرفوا
ولم يقص عنهم الوحي شيئًا مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا
عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ
نَقْصُصْ عَلَيْكَ. فربما كان
كونفوشيوس ولاوتزي أنبياء الصين، وبوذا نبي
الهند، وزرادشت وماني أنبياء فارس،
وحمورابي نبيَّ ما بين النهرين، وأخناتون
نبي مصر القديمة! وماذا عن أنبياء أفريقيا
وشعوب أمريكا اللاتينية وَإِنْ مِنْ أُمَّة
إِلَّا خَلَا فِيهَا
نَذِيرٌ؟
رابعًا: وضع الشريعة للتكليف
والتكليف اشتقاقًا يعني المشقة، واصطلاحًا
إتيان الفعل.
٧٣ فبعد الفهم يأتي التكليف، أي
الالتزام بالفهم. ولا يوجد نظر لا يتحول إلى
عمل، أو عقل لا يتحول إلى سلوك؛ لذلك كانت
أحكام التكليف أحكام أفعال. صورتها لغوية،
ومضمونها سلوك.
وحقيقة الحكم أنه خطاب الشرع المتعلق بأحكام
المكلفين. ويعني اقتضاء الفعل أو الترك، كما
يعني التوجه بالخطاب باعتبار التكليف. وقد يعني
الجمع بين التوجه بالخطاب واقتضاء التكليف.
فالخطاب ليس فقط معرفة ونظرًا، بل فعلٌ وأداء.
والحكم الشرعي بين الاقتضاء والتخيير.
٧٤
والمقتضي من المكلف بالأمر والنهي الإقدامُ
أو الإحجام، دون الواسطة بينهما. ولا قلب لهما؛
حتى لا تضيق مساحة الإباحة على الحياد في الفعل.
٧٥
ويتداخل التكليف مع الأمر في بيان الصفات،
التي يُشترط كون المأمور به عليها ليصح الأمر به.
٧٦ فالاكتساب شرط التكليف، والأمر
مفهوم أشعري من علم أصول الدين.
٧٧ وليصحَّ الأمر والنهي تتوافر صفات
في المأمور به، مثل إمكانية الحدوث والاكتساب
والعلم به، وأن يكون مرادًا. والإكثار من
الصفات يصعِّب الإتيان بالمأمور به، مثل أن
يكون له صفة زائدة على حدوثه وحسنه، وأن يكون
شاقًّا أو حادثًا بالطبيعة، أو ألا يكون وقته
حاضرًا أو ماضيًا، وأن تتوافر القدرة العامة
والخاصة دون إكراه، وأن يكون مرادًا وعليه
جزاء، مع غياب الموانع.
والمحكوم فيه هو الفعل الاختياري الصحيح
الحديث الواقع تحت الكسب الاختياري المعلوم
للمخاطب، وتتوافر فيه شروط التحقيق والإيقاع.
٧٨ فلا فعل بلا تحقُّق شروطه، ولا
تكليف بلا قدوة. والشرط أدخل في أحكام الوضع
منه في أحكام التكليف. الحرية شرط التكليف، وهي
القدرة على الاختيار بين حكمين والمقتضى من
التكليف بالأمر والنهي.
والأفعال الجبِلِّية التي في طبع الإنسان
ليست موضوعًا للتكليف؛ لأنها لا تتوافر فيها
شروط التكليف؛ الإرادة الحرة والعقل السليم. لا
يدخل في التكليف إلا ما يدخل في كسب العباد.
أما العواطف والانفعالات وكل ما يتعلق بالأوصاف
الباطنة، فإنها في منطقة وسطى بين الجبلَّة
والإرادة. والأوصاف التي لا قدرة للإنسان على
جلبها أو دفعها منها ما كان نتيجة عمل، كالعلم
والحب، ومنها ما كان فطريًّا وليس نتيجة عمل،
كالشجاعة والجبن. ويتعلق الجزاء بالأول دون
الثاني. والفطرة منها ما قد تكون محبوبة
للشارع، ومنها ليست كذلك، ما يقع عليه جزاء أو
لا يقع. وقد لا يقع عليها ثواب أو عقاب؛ لأنها
خارج أفعال الكسب، مثل الحب والبغض، إلا إذا
كانا فعلين إراديَّين على الأقل عن طريق
السيطرة عليهما باعتبارهما مصدرين للأفعال.
٧٩
ويرجع التكليف إلى أوصاف النفس وصفات الفعل
وإدراك العقل، فالتكليف ليس مجرد أمر خارجي، بل
هو خطاب النفس الداخلي.
٨٠
قد يكون الفعل حقيقة أو مجازًا، فالفعل
الحقيقي «هو الحادث من مُحدِثه المخترع لذاته
ذاتًا وعينًا». وهو فعل الإنسان؛ لأن أي فعل
آخر متعالٍ بين قوسين، وأدخل في علم أصول
الدين. فالإنسان فاعلٌ حقيقي لا مجازي. والفعل
المجازي هو أثر الفعل على الآخرين، وامتداداته
عبر الزمان، كالسنة والأثر، قولًا
وفعلًا.
وأفعال التكليف ضربان: الأول كسبٌ لعاقل
مكلف، والثاني كسبٌ لغير عاقل. ومثال العاقل هو
الإنسان، وليس موجودات متعالية أخرى بين قوسين.
وهو مكلف بأفعال في العالم. أما أفعال القلوب
والتصورات النظرية، فهي أدخل في علم أصول الدين.
٨١ والقدرة شرط التكليف والفعل.
٨٢
(١) عدم جواز تكليفِ ما لا يطاق
لذلك لا يجوز تكليفُ ما لا يطاق، والجمع
بين الضدين، وقلب الأجناس، وإيجاد المعدوم،
وإعدام الموجود، وتكليف ما لا يطاق قائم
على نظرية الكسب، وخلق الاستطاعة على الفعل
مع الفعل، خطآن يصحِّح أحدهما الآخر، تكليف
ما لا يطاق ثم الإعانة عليه.
٨٣ وإذا كان هناك خطاب يبدو أنه
تكليف بالمحال، فهو ليس أمرًا بل تحدٍّ.
٨٤ والصلاة في الدار المغصوبة
أيضًا تكليفٌ بالمحال. لا يكون التكليف إلا
بما يُطاق، ويدخل في نطاق العادات
الإنسانية العادية، وليست الأفعال الفردية
الخاصة. لم يقصد الشارع التكليف بالشاق
والإعناتَ فيه بإجماع الأمة، وما يخرج على
مجرى العادات؛ لذلك أتت مشروعية
الرخص.
أما مشقة التكليف المتحملة والعناء منه،
فإنه داخلٌ تحت القدرة طبقًا للعادة، مثل
طلب المعاش ومَشاق الصنائع.
٨٥ هناك مشقة عادية داخل التكليف
ومشقة فوق العادة خارج التكليف. والثواب
على قدر المشقة. ليس المطلوب المشقة لتعظيم
الثواب، فالأعمال بالنيات. وقصد الشارع
المصلحة وليس المشقة. ومشقة الأفعال
المباحة مأذونٌ فيها، أما مشقة الأفعال غير
المأذون بها فإن منعها أظهر. وقد تخص
المشقة الناشئة من التكليف المكلف وحده، أو
عامة له ولغيره، أو داخلة على غيره بسببه.
فالفعل متصلٌ في شبكة من الأفعال المتداخلة
مع أفعال الآخرين. وقد تأتي المشقة من خارج
الفعل، وليس من داخله، وهي لا شأن للشارع
بها، إنما تؤتى الأفعال بأيسر السبل،
وبأدنى المشقات. والمشقة المقيدة هي المشقة
الدنيوية لا الآخروية، التي لا تُعلم إلا
قياسًا للغائب على الشاهد.
٨٦
ويسمى أيضًا رفع الحرج. وسببه الخوف من
الانقطاع عن الفعل، لما يسببه من مَشاق، أو
الخوف من التقصير في زحمة الأفعال العامة،
فيدخل على الفاعل الملل والكسل.
والناس نوعان: أرباب حظوظ يستوفونها، ولا
ترخُّص فيها، وأرباب إسقاط حظوظ لرغبة
منهم، وعزوف أنفسهم عنها.
٨٧ وأصحاب الأحوال حالات خاصة
وأخبار آحاد، وربما نسج خيال. يقصدون
المعبود وليس المشقة، وهو حال المحبين.
والشريعة جارية على التكليف على الطريق
الوسط الأعدل، والتوسط بين الطرفين دون
مشقة أو انحلال. أحكام الشريعة على التوسط
دون الأطراف، بل وتخفف من الأطراف؛ كي تعيد
الأفعال إلى الوسط. ويُعرَف التوسط بالشرع
وبالعادة وبالعقل، ويُمدَح، ويدفع الفعل
إلى الأطفال ويُذم.
٨٨
(٢) العقل
والعقل هو شرط التكليف.
٨٩ ولا يلزم الخطأ إلا عاقلًا
بالغًا بلغة الأمر، دون ضرب أو إيلام، بل
بالإقناع والرضى.
٩٠ فالعلم شرط التكليف، وأن يكون
المأمور به معدومًا أو ممكنًا، وليس
موجودًا أو مستحيلًا.
٩١ والمحكوم عليه هو المكلف
العاقل للطاعة والامتثال، القادر على فهم
الخطاب والعلم بالمقصود.
يعلم المكلف التكليف قبل وقت الامتثال،
حتى يتم التكليف عن بينة. والعقول هي
القادرة على معرفة ما يغيب عن الحواس. ثم
تتعدد مستويات تقدير العقل بين الإنكار
المطلق، فلا يصح الاستدلال إلا بالشرع،
والإثباتِ المطلق قبل ورود الشرع وبعده، أو
تأييد الشرع للعقل. والإنكار المطلق هدم
للعقل. والإثبات المطلق قد يؤدي إلى الجدل الصوري.
٩٢ وتأييد الشرع للعقل وسط متناسب
يصعب إيجاده، فلم يبقَ إلا استبعاد ما
يندُّ عن الحس، والانشغال بما لا يمكن معرفته.
٩٣ وإذا ثبت أن العقل كفاية، لزم
العمل به بما يتفق مع الشرع. والجائز عقلًا
حتى ولو وقع النسخ فيه يظل كذلك. وهي حالة
افتراضية يُتوقَّف فيها عن الحكم، ولا يتم
الانشغال بها. والشريعة تؤكد حكم العقل.
والعبادات واجبة دائمًا إلا حين الضرورة.
والعقوبات العاجلة واجبة شرعًا.
٩٤ ودلائل العقل الموجبة إما
ببداهة العقول أو تأمُّل ونظر، أو تجربة
وملاحظة، أو حِسٌّ ومشاهدة، وكلها تجليات للعقل.
٩٥ فالحكم، أي فعل التكليف، عقلي
أو سمعي. الحكم العقلي ثابت، يتضمن في ذاته
صفاته، مثل الحركة والسكون والقدرة والعلم
والإدراك والرغبة. وثبات الحكم الشرعي
بثبات الحكم العقلي، إن لم يكن منسوخًا
للتطابق مع العصر.
٩٦
وقد يدخل العقل تحت الأهلية واختلاف
الناس فيه، فهو علةٌ موجبة.
٩٧ ولا يوجد تكليف بلا خطاب
لبالغ؛ منعًا لتكليفِ ما لا يطاق.
٩٨
والأعذار المسقطة للوجوب بعد البلوغ هي:
الجنون والعته، أي عدم العقل ونقصانه،
والنوم والإغماء، أي العجز عن استعمال نور
العقل، والنسيان والخطأ والكره، والجهل
بأسباب الوجوب لانعدم الفعل معها، والحيض والرق.
٩٩
فالجنون مسقط للعبادات؛ لأنه ينافي
القدرة، فينعدم الأداء والوجوب. فإذا زال
يلحق بالعفو، ويلحق بالنوم والإغماء.
١٠٠
ويخرج من المحكوم عليه الناسي والمُكرَه
والصبي والكافر والسكران الخارج عن حد
التمييز والبهيمة. فلا يجوز تكليف الناسي
والساهي والغافل والسكران والمجنون،
والكافر والمكره المغلوب على عقله والمخطئ.
وهو رفعٌ مؤقت عن التكليف، إلى أن يزول
العائق عنه والمانع منه. وكلها أفعال
الجوارح وليس أفعال القلوب.
١٠١
لذلك لا يكلَّف الصبي، وتسقط حقوق الله
بالنسبة له. وهي أربعة: النظر في الآيات
الدالة عليه، الاعتقاد على ما توجبه
الدلائل، العبادات، الأجزية.
١٠٢ والصِّغر مثل الجنون؛ لأنه عدم
العقل والتمييز.
١٠٣ وهو لا شأن له بالإيمان موضوع
علم أصول الدين، بل بالقدرة. وتصح عبادات
الصبي شرعًا بعد التمييز.
١٠٤
والعته بعد البلوغ مثل الصبي مع العقل مع
الأحكام، يمنع من صحة القول والفعل
والعهدة. ويكون تحت الحجر في المال.
والنسيان لا ينفي الوجوب في الحق، كمبدأ
(حق الله) أو الحق المطلق، بل من أجل
العذر. وتظل حقوق الإنسان (حق العباد)
قائمة. وهو ضربان؛ أصلي وتقصير بما يسمح
بالعقاب. والنوم عجز عن استعمال قدرة
الأحوال؛ مما يستدعي تأخر الخطاب في
الأداء؛ لأن النوم لا يمتد. ولا حرج في
القضاء بعد اليقظة، ومن ثم لا يسقط الوجوب.
والإغماء مرضٌ مؤقت وفوت قوة.
١٠٥
والسفه في اللغة: الخفة والتحرك. وفي
الشرع: خفة تعتري الإنسان، فيعمل على خلاف
موجب العقل والشرع، بالرغم من قيام العقل
ووجوب التكليف. والسفر هو الخروج المديد،
وأقله ثلاثة أيام بلياليها عند القدماء. لا
يمنع من الأهلية والأحكام، ولكن فقط
للتخفيف بسبب المشقة، بخلاف المرض. فهو
رخصةٌ تؤجل العزيمة. والخطأ، وهو ما يحصل
عن اجتهاد وشبهة. وهو ليس مانعًا من
التكليف لتعدد الصواب.
١٠٦