المقالة الأولى

حوادث وأفكار١

لا أعلم من الفلسفة إلا اسمها، ولا أعي من العلوم إلا رسمها، ولا أعرف عن البسيطة الشيء الكثير، ولا أدري عن الإنسان إلا اليسير. فلا تَرْجُ أيها القارئ أن ترى مني فلسفة أرسطو، أو فصاحة ديموستين، أو رواية طاسيت، أو تَثَبُّت ابن رشد، أو إحاطة ابن سينا، أو علم نيوتن، أو خواطر باسكال، أو إسهاب فولتير، أو إصابة روسو؛ فما هي إلا حوادث يومي وأفكار ليلي. وإن شئت فقل: حوادث يومك وأفكار ليلك؛ حوادث تتوالى على الإنسان وتتناقلها الحواسُّ، فتؤثِّر في العقل تأثيرًا يجعل فيه تفكيرًا يقف به تارةً على الأرض، وأُخرى يرتفع إلى السماء، وطورًا يدخل به إلى نفسه؛ فإن في طاقة العقل أن يحكم في أعمال ذاته كما يحكم في أعمال العالم الخارجي.

والمؤثرات إما مرئيات أو مسموعات أو مشمومات أو مذوقات أو ملموسات، وكلٌّ منها إما لذيذ وإما مؤلم، وبحسب درجته في اللذة والألم يكون تأثيره في العقل؛ فإن الحواس ليست إلا ناقلة لتلك الإحساسات لا شاعرة بها، فأما كيفية شعور العقل بها مع كوننا نحسبها مرسومة في الحواس نفسها، فمن أَدَقِّ مسائل علم المعقول، ومن أقوى الأدلة على وجوب تقسيم الأعمال.

إلا أن تَأَثُّرَ العقل بالمؤثرات وإحكامه بها تختلف كثيرًا بالنظر إلى اختلافها واختباره إياها، فكلما كان أشد غرابةً وأعظم اختلافًا كان العقل أشد انفعالًا بها وأعظم تأثرًا؛ ولهذا كانت أميال العقل وتصوُّراته تختلف على حسب اختلاف الأقاليم، وكلما كان العقل أقل اختبارًا للمؤثرات كان أكثر توهمًا فيها؛ فإنه كثيرًا ما يتوهم بها أمرًا ثم لا يلبث أن ينفيه عنها بعد أن يزداد اختبارًا لها، وقد يصعب عليه ذلك إن تمكَّن الوهم فيه.

•••

ولَمَّا كان الأوائل أقلَّ اختبارًا من الأواخر كانوا بالضرورة أقلَّ علمًا منهم، بل كان معظم علمهم جهلًا وجلُّ أفكارهم وهمًا، وكأن الخلف يشتغلون كل يوم بإصلاح ما أفسده السَّلَفُ بحسب ما يتبين لهم بازدياد اختبارهم واتساع معارفهم. إلا أن إزالة ما فسد من المبادئ من عقول الناس لا بدَّ وأن تحُول من دونها مصاعبُ ربما أدَّت إلى إراقة الدماء؛ فإن الأوهام الراسخة في العقل بواسطة النقل مُدَّةَ قرون تكون كالحقائق الراهنة لا تحتمل تأويلًا ولا تدع للجدال سبيلًا، ولا سيما أن أفراد الأمم لا يتساوون، جميعهم، في سيرهم المعنوي، فلا نرى في كل جيل وفي كل عصر غيرَ أفراد قليلين سابقين قومهم بكثير من السنين. فعدد الجاهلين هو العدد الكثير، فهو القوي من هذه الحيثية، والقوة تغلب الحق في مثل هذه الأحوال، ولكن غلبتها حاليَّةٌ وقتيَّةٌ، وأما في المستقبل فيتأيد هذا الحق وتَجني الأواخرُ ثمرة اجتهاد الأوائل الذين كثيرًا ما لا يحصدون ما يزرعون.

•••

والغريب أن الناس لا يصبرون على بيان الحقيقة بالأدلة والبراهين إذا كانت مخالفة لآرائهم مغائرة لأهوائهم، بل ينقضونها بالقوة، وهذا مخالف للعقل غير موافق للنقل، فقد عُلم أن كثيرًا من هذه الحقائق التي حاولوا إطفاءَ نورها تأيدت وعمَّت أخيرًا، فلا ينبغي للإنسان العاقل أن ينبذ حقيقة لقلة نُصرائها وكثرة أعدائها؛ فكم من حقيقة ضاعت بكثرة الجلبة، ثم كانت لها الغلبة بقوة الحق.

ولا شك أن الأُمة التي تتخذ القوة القاهرة سلاحًا في نقض المبادئ المخالفة لمألوفها بعيدةٌ عن أسباب التقدم ووسائل التمدُّن، حتى تُقطع السلاسل وتُمزق الحجب الحائلة بينها وبين حرية البحث التي تُطلِق للعقل عنان الفكر، فيزيد معرفةً بالأسباب والحقائق؛ إذ يشتغل بكل ما يعرض له فيتمسك بما تؤَيده الشواهد. وهكذا يَستخدم أفكاره لفهم الحوادث عوضًا عن أن يستخدم الحوادث لتأييد أفكاره حرصًا عليها. وأغرب منه أن المصائب التي تحل بأولئك الأفراد الذين ساءَ بَخْتُهم لوجودهم قبل أوانهم والتي مصدرها البشر تُعتَبر قصاصًا عادلًا عند من يعتقد أن الجزاءَ يكون على قدر الاستحقاق صادرًا عن قوة سرية تُراقب أعمال الإنسان، فيقول: هذا جزاءُ الضالين، وهو أَشَدُّ فسادًا من أن يُبرهَن على فسادهِ. فلو تجاسر أحدٌ في زمن جاهلية اليونان على أن يكفر بجوبيتر، أبي الآلهة، أفما كان يتساقط عليه غضب جوبيتر متجسدًا بأيدي الكهنة والشعب؟ فهل يجب، والحالة هذه، مع معرفتنا فساد تلك الشريعة أَنْ نعتبر أن ذلك القصاص كان عدلًا؟ كَلَّا.

•••

ولذلك لا يليق بنا أن نتمسك بما كان في الأعصر الخالية من الأوهام تمسُّك الأعمى بقائده، ولا أن نطرح ما تبديه لنا الاكتشافات والحوادث من الحقائق لمجرَّد كونه مخالفًا لما انطبق في عقولنا ورسخ في أذهاننا، كما أنه لا يجب أن نعتبر القصاص الذي يقع على بعض الأفراد لمناقضتهم بعض المبادِئِ العامَّة مفعول قوة ساهرة تعدِّل كل شيءٍ على قدر الاستحقاق، بل يجب علينا أن نحارب الأوهام ونبددها بقوة الحقيقة؛ لكيلا يقوى أمرُها فنعدم أسباب التقدم؛ فإن الإنسان إذا تمكَّن الوهم منه سقطت قواه وفقد أسباب العمل؛ إذ يستولي الخوفُ على طباعهِ والرعبُ على حواسه، تستلفته حوادث الكون فيتهيَّبها عوضًا عن أن يبحث فيها ويستفيد منها، ولا تهمُّه شمس تسطع أو قمرٌ يلمع أو ريح تهبُّ أو نار تشبُّ.

وإذا نظر إلى السماء كفَّ عنها الطرف خشيةً واحترامًا؛ لأنه لا يرى كواكبها إلا آلهة، ولا يحسب صواعقها إلا عذابًا، وإذا نظر إلى الأرض قال: أُمي ارحميني ولا تحبسي عني قوتًا يُغذيني وماءً يرويني. ولا يتجاسر أن يقطع منها سنبلة قمح أو يتناول قبضة أرز إلا بعد الاستغفار والتكفير؛ إذ يرى في كل شيء آلهة قاهرة، وأرواحًا ساحرة فيستدعي في حركاته وسكناته أرواح الأشجار، وقوات الجبال، ونفوس الكواكب؛ وما يستدعي إلا خيالاتٍ وأوهامًا، لا تجلب له خيرًا ولا تدفع عنه ضيرًا، ولا يستفيد منها إلا توسيع نطاق الأوهام في دائرة عقله، حتى تتبلَّد قواه وتكلَّ مشاعره، ولا يعود يعتبر للعمل في الأرض قيمة، ولا للبحث عن الكائنات فائدة، ولا في التعاون مزية؛ فيكسل، وتصير حياته كحياة الحيوان منفردة ذاتية منفرزة عن الهيئة الاجتماعية، ولا يهمه إلا الحصول على ما يقيه من الموت بردًا وجوعًا؛ إذ يعتقد أن كل شيء قسمة، فلا يُجديه الاجتهاد فيه نفعًا، فيسكن الأكواخ، ويلبس المسوح، ويأكل القشور. وهي قسمة ليست من الإنسانية في شيء.

فالأُمة التي تتخذ هذه المبادئَ شعارها لا تلبث أن ترى نفسها متقهقرة، كلما خطا العالم نحو التقدُّم خطوة تأخرت عنه خطوات، حتى تصبح أخيرًا لا علوم لها ولا شرائع ولا صنائع، مفتقرة إلى غيرها من الأمم المتمدنة افتقار الصلة للموصول، ولا تُحسن نسج ثوب ولا غزل خيط ولا صنع إبرة، بل تكون كالعلق على بدن الإنسانية تكدر راحتها وتمتص دمها.

•••

إن في الإنسان صفة أوليَّة ضرورية جدًّا لحفظه، وهي مصدر كثير من الصفات الأُخر الموجودة فيه، وهذه الصفة هي: محبة الذات، التي تدفع كل فرد من أفراد الإنسان لاستحصال كل ما هو موافق أو يظهر له أنه كذلك، واجتناب ما هو مُضرٌّ. ولا يقتصر وجودها على الإنسان فقط، بل هي موجودة في الحيوان أيضًا بدليل أن الحيوان يعمل دائمًا بقصد المحافظة على كونه والمحاماة عن ذاتهِ حتى في أعماله البديهية التي لا محلَّ فيها للنظر أو الكسب. وهي صفة بديهية، ومما يدلنا على كونها كذلك الأعمال البديهية التي يجريها الإنسان بدون توسُّط الإرادة فيها؛ إذ تحمله على أن يدافع عن نفسه بما يقيه من الضرر عند المفاجأة، وقبل أن تحصل فرصة للإرادة لأن تتوسط في ذلك؛ كانطباق الأجفان على العينين إذا فاجأتهما ضربة أو آفة أخرى، وتقاعُس الإنسان إلى الوراءِ إذا عثر إلى الأمام، أو مَدِّ يديه لاستلقاء الأرض بهما؛ ليدفع هكذا بضرر أصغر ضررًا أكبر ربما يحصل لو صادف السقوط على الأعضاء المهمة كالرأس وغيرهِ.

إلا أنها وإن كانت بديهية فللإرادة عليها سلطانٌ كبير، فتتصرَّف فيها، ولكن بحسب ما يتراءَى لها موافقًا؛ أي: لا تقدر الإرادة أن تفعل إلا للغاية التي تفترضها لها محبة الذات ولو مهما اختلفت القوى العقلية وفسدت أحكام الإرادة. وإن وافقت محبة الذات الإرادة أحيانًا فيما يعدمهما الوجود، كقتل الذات، فلا يكون ذلك إلا لغايةٍ ذاتية أيضًا؛ إما بقصد التخلص من مصيبة ثقل حملها على الحياة أو طمعًا في تحصيل حياةٍ أُخرى جديدة ترجوها. وهذه الصفة واجبةٌ ضرورية؛ إذ إنه يتوقف عليها جميع الفوائد المادية اللازمة لحياة الفرد الحسيَّة، ويتولد عنها جميع الصفات الأدبية الرفيعة أيضًا التي تتوقف عليها حياة الفرد المعنوية، وإذا أدَّت أحيانًا إلى ما يخالف ذلك فلتصرُّف الأميال والإرادة غير المرتبة فيها، وبحسب ذلك تكون الصفات المتولدة منها إما جيدة وإما ردية.

•••

واعلم أن الجيد والردي لا يوجَدان مجردَين في الوجود الكلي، بل هما هكذا نسبيَّان بالنظر إلى ظروف الزمان والمكان، بحيث إن ما لا يوافق هذا يوافق ذلك وبالعكس، فلا يتأتى لنا، والحالة هذه، أن ننفي عن شيء صفة الموافقة والملاءَمة نفيًا مطلقًا؛ إذ إنها لم تتجرد عنه إلا بالنظر إلى حالةٍ من الحالات أو موجودٍ من الموجودات مع موافقته حالات أخرى وموجودات أخرى، كما أنه لا يصح أن نلزمه صفة الموافقة؛ إذ إنها لا تصحُّ له في كل الظروف والأحوال.

ولَمَّا كانت محبة الذات من ضمن الصفات الغريزيَّة والإحساسات الطبيعية، التي تتأثر بالمؤَثرات وتتغير بالمغيرات كانت لا تثبت على حال، ولئن كانت غايتها أبدًا ذاتية، إلا أنها لا تسلك دائمًا الطريقة المؤَدية إلى هذه الغاية لانقيادها لأحكام الإرادة وما تظنه موصلًا إلى شيءٍ يؤدي بها أحيانًا كثيرة إلى آخَر لجهلها بالوسائط، وهذا هو السبب في قول بعضهم: إن الإنسان يفعل مندفعًا من غير علم منه إلى غاية غير الغاية التي يقصدها بقوة تتصرف فيه مقيمين الواسطة مقام السبب وهو منقوض؛ لأن هذه القوة سواءٌ كانت، على قول بعضهم: منفصلة عنهُ، أو على قول غيرهم: متصلة به، إما أن تكون غير إرادته أو تكون هي نفس إرادتِه، فإن كان الأوَّل حصل العبث؛ إذ لا يكون للإرادة البينةِ أحكامُها والظاهرةِ أعمالُها فائدةٌ في الجسم الذي تظهر فيه، أو تكون وظيفتها أن توهمه السَّير إلى غاية غير الغاية المفروضة لهُ. وبعبارة أُخرى: أن تخدعهُ، وكلاهما غير سديد، وإن كان الثاني كان لا حاجة إلى إقامة قوة أخرى بجنب الإرادة؛ طالما هي الإرادة نفسها.

فإذا صدقت الحواس في نقلها التأثيرات إلى العقل وصدق العقل في أحكامه، واعتدلَت الإرادة في شهواتها، تولَّد عن هذه الصفة الأولية الغريزية كثيرٌ من الصفات الفرعية الرفيعة كالكرم والشرف والشهامة والمروءَة والصدق والعدل وحب الألفة والتعاون، وغير ذلك من الصفات الحسنة التي تسبب بها راحة الإنسان وسعادته منفردًا ومجتمعًا. وبخلاف ذلك إذا انخدعت الحواس في نقلها، وكذب العقل في حكمه، وضلت الإرادة في شهواتها، فيتولد عنها الدناءة والكبرياء والجبن والكذب والظلم ورياء المحكوم، واستبداد الحاكم والانفراد، وغير ذلك من الصفات السافلة التي ترجع على الفرد بالويل، وعلى الاجتماع الإنساني بالخراب.

•••

انظر إلى الكبرياء والشرف؛ فهما صفتان متولدتان عن محبة الذات، أولاهما ذميمة متولِّدة عن اتحاد محبة الذات بالجهل، والثانية حميدة متولدة عن اتحاد محبة الذات بالعلم. فالكبرياءُ تحمل صاحبها على احترام نفسه باحتقار غيره، والشرف يحمله على احترام نفسه باحترام غيره، فالغاية واحدة في كلا الأمرين، وهي احترام الذات؛ إلا أن طريقة الحصول على ذلك مختلفة. وهذا الاختلاف ناتج عن اختلاف العلم بالأسباب والوسائط، كما تقدَّم، فلو علم صاحب الكبرياء أن السبيل الذي يسلكه في احترام نفسه وتعظيمها هو السبيل المحقِّر لها لَعَدَلَ عنه إلى ما هو أحسن منهُ؛ لأن محبة الذات لا تستطيع أن تصير عالمة على أن تسلك السبيل الذي يؤدِّي بها إلى ما لا يسرها، كما أن صاحب الاستبداد لو علم أن استبداده لا يأتي عليه بما تتمناه محبة ذاته لَمَا صبر عليه دقيقةً واحدة. كما أن صاحب الرياءِ أيضًا لو علم أنه يوجد له سبيل آخر غير ريائه لاستحصال رضى سيده المستبد، آمنًا على نفسه من غدره لَعَدَلَ عنه إلى الصداقة، وخلوص النية، واستعمال الحرية في تأدية خدمتهِ.

لذلك كان سلطان الرياءِ قويًّا جدًّا حيثما قويَ الاستبداد، والقوم الذين يستولي عليهم الرياءُ هم قوم لا يصدقون ولا يصدِّقون، فالرياءُ والموالسة والتدليس وما شاكل هي سلاح مَنْ يرغب في أن يكون مقربًا من الاستبداد متمتعًا بما يمكن تحصيله من خيرات الظلم، ومن لم يتدرَّع بهذه الصفات، بل لبث مصرًّا على الصدق وخلوص النية واستعمال الحرية ليس له أن يطمع بالتقرب من المستبدين، بل عليه أن يبتعد عنهم ما أمكن قبل أن يُبعدوه من بينهم؛ لأن صفاته هذه لا تحسُن في عينيهم ولا ترجع عليه إلا بالوبال.

•••

والإنسان الذي لم تهذبه التجارب ولم توسع دائرة عقله العلوم الصحيحة فلا يرى إلا ما كان قريب الغاية، تقتصر محبة الذات فيه عليه ولا تتجاوزه؛ لأنه يحسب أن سعادته قائمة بأسباب لا تتعداه ولا يمكن أن تتأتَّى له مع سعادة سواه، بل بخلاف ذلك قد يظن أن سعادة غيره تعود عليه بالشقاء، فيسعى في تحصيل سعادته بمضادَّة سعادة غيره. وهذا ناتج من جهله الأسباب والوسائط التي تُمكِّنه من الحصول على هذه السعادة المطلوبة منه، فإذا زاد اختباره وكثرت معارفه واتسعت دائرة أحكامه؛ رأى أن في الانضمام والتعاون، واشتراك المصالح مزايا أخرى تفيده ولا توجد له منفردًا، فينتقل من محبة الذات الفردية إلى المحبة العائلية فصاعدًا من النوع والجنس؛ إذ يرى والحالة هذه في سعادة عائلته، بل وطنه، بل نوعه ما يعود عليه بأعظم سعادة لا تتأتى له من دون ذلك.

فالأمر متوقف إذن على العلم بالأسباب والوسائط؛ لأن الإنسان كيفما فعل إنما يفعل دائمًا بقصد الوصول إلى غاية واحدة وهي سعادته، فإذا تصور أنه يستطيع الحصول على سعادته منفردًا دعته محبة ذاته إلى اتباع السبيل الذي يرسمه له علمهُ، وإذا علم أن سعادته لا تحصل له منفردًا، بل يحتاج فيها إلى التعاون مَالَ إليه كما يظهر من المقابلة بين تصرُّفات الإنسان في حالتَي الخشونة والتمدن.

ما أطوعه، وما أطمعه٢

في نظام الاجتماع صُدوعٌ هي كالسوس تنخره، ولا بد أن تقوِّضه ولو طُلي بقارِ الظلم، وصُفِّح بعَسْجَد الوهم، يتنازع الاجتماعَ منذ القديم قوتان تتنازعان فيه قيادَ الإنسان، لكنْ كلٌّ منهما من سبيل.

هاتان القوتان كانتا في الأول مجتمعتين، وكان هولهما شديدًا، ثم انفصلتا، ولكنهما بقيتا متحالفتين، وسوف يعم اختصامهما حتى تُلاشِي الواحدةُ الأخرى، فيسود سلطانُ الحقيقة ويتقوض سلطان الوهم.

ولكن الاجتماع يخطو في ذلك خطوة خطوة، وكل خطوة تنقضي فيها أجيال، وتقضي على آمال.

فالإنسان وإن زُجَّ في الظلمة مقهورًا، فلا يخرج إلى النور إلا مقسورًا: ألا ترى لسان حال الجماهير يقول في كل جيل: «ليس في الإمكان أبدع مما كان.» حتى يحار العقل في أي حالتيه الإنسانُ أسعد؟

لا ريب أن العلم إذا عَمَّ وبلغ الدرجة القصوى بلغ الإنسان منتهى السعادة، ولكن — حتى يعمَّ — أيٌّ أَشْقَى من الإنسان السابح بين الحالتين يتنازعه سلطان القوتين وهو ليس بالجاهل فيرع ولا بالماكر فيزع؟

ولكن الإنسان وزع أم ورع، ضلع أم ظلع، ماكرًا وغبيًّا، واحد في مرماه.

كنت يومًا في محفل، وإذا السلطتان بأبهى مظاهرهما، ثم قفلت راجعًا إلى بيتي، فرأيت البواب جاثيًا يصلي ويداه إلى وجهه وكفاه مبسوطتان وهو يحدق إليهما، ويتمتم كأنه يقرأ عليهما وردًا وأثر الاجتهاد بادٍ عليه، فقلت في نفسي: قسمة ضئزى. ثم نظرت إلى ما به من الاعتقاد الراسخ، فقلت: ولكنها تعزية كبرى. فما أصعب الإنسان، وما أطوعه! وفي الحالين ما أطمعه؛ ذاك يرث الأرض، وهذا يريد أن يرث … ملكوت السماء.

١  نُشرت في جريدة مصر الفتاة سنة ١٨٧٩.
٢  نُشرت في مجلة سركيس سنة ١٩٠٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤