المقالة الخامسة عشرة
اشتد القُرُّ، وأقرسني البرد، وبيوت القاهرة لا للحر، ولا للصرد.
فلجأت إلى وقود الفقير، وهو في الشتاء دفاء، وفي الصيف سعير. فقمت أمشي
مُتثاقلًا كأني من أسد الشَّرى، أو من صيد الشرى، وما لي من بأس ولا
شرى. فيتَّهمني الناس بالعُجب، وأنا أرمقهم بالعَجب، كأني لا أدرك ما
بهم من العبامة، وكأنهم يجهلون ما بي من الوصَب. وما زلت أنحو نحوي،
وأراهم كأنهم يُنحون عليَّ، حتى شعرت كأن سلطانَ غلِّهم قد أُفرغ
إليَّ، فتذكرت ما قلت:
مصرُ هل أنت غير ما هنَّ إن لنَّـ
ـا شدادًا وإن قسونا ركاكا
ذاك خلق من صنعِ فرعون لما
شاد أهرامها تُناغي السكاكا
ولكم نصرتُهم في معمعة، فذكرت قول ابن صعصعة:
فاقطع لُبانة من تعرَّض وصله
ولشر واصل خُلة صرَّامها
ولولا خوفي أن يُشكِل الإيماء،
حتى على واضع رسالة الغفران، ومُجيز الشعراء في الجِنان؛ لَمَا ذكرت
هنا البيت، ولاكتفيت بالتلميح عن التصريح. وما ضرب صاحبها على هذه
الغنة، إلا ليقول لنا إن الشعراء قد يكونون من أهل الجنة، وحولهم الحور
والوِلدان، والقيان والدِّنان، يغترفون من أنهارها بمرافد من عسجد، وهم
فيها مُتكئون على أرائك من زبرجد، وكأني أرى عليها حافظًا وأحمد،
٢ هذا يُسيغ وذاك يزرد.
وما كِدت أفرغ من هذا الإنحاء، ومن التأمل فيما في الأخلاق من
الإحناء، حتى عارضني من صدَّني عن الطريق القويم، وأرجعني من سماء ما
كنت فيه أهيم، فرفعت نظري وإذا أنا بصديقٍ قديم، فقلت: «من أين، وإلى
أين؟» فقال: «اليوم أتيت من غربتي، ونزلت إلى الشوارع أفرِّج كربتي،
فهل لك أن تقبلني معك في الطريق؟» فقلت له: «نِعم الرفيق!» وإذا بصوتٍ
يصدع، تتبعه حوافر تقرع، وشيءٍ كالصندوق قائم على عجلٍ يشقُّ هذا
المجتمع، فقال لي: «ما هذا الذي أرى؟ رجل يُسابق الجياد، فأين السبق؟»
٣ قلت: «هذا باقٍ من عصرٍ سبق، وكأنه من بقايا عصر الصوان،
لما كان الإنسان، في مقام الحيوان، وهذا الصندوق يصون مُفترشًا لأكبر
عين من الأعيان، ولكن ذلك قد قلَّ؛ لأن عندنا اليوم ما هو أجلُّ.» وإذا
بصفيرٍ يكاد يُمزق أذن الأصم، وشيءٍ مُندفع كالسهم، فقال: «ما هذا؟»
قلت: «من السيارات، التي أمطرتناها سماء المُضاربات، والذي عليها، ولا
يغرَّنك حسن بزَّته، لص، ولكن انظر إلى الناس كيف يرفعون له القبَّعات،
ويغترفون بها الثرى؛ لأنه أثرى كما ترى.» قال: «وهذا الذي أراه، كأنه
في نُعمى تفُوق نُعماه؟» قلت: «هو من سلالة الوزراء، ولكن عرشه اليوم
في الصحراء وعلى الماء.»
ثم علت الضوضاء، فقال: «ما هذا الصخَب؟ كأن الناس في شغب.» فنظرت
وإذا بالناس يتجمهرون، ثم ينفضُّون، والمركبات وقوف، والكل عجِلٌ
ملهوف. فقلت: «هذا موكب الأمير.» فهشَّ وبش، وتهيَّأ للسلام، فقلت:
«مهلًا، وقد يمر الرُّبع والنصف قبل أن يركب، وقبل أن يمرَّ الموكب،
وما هذا إلا تمهيد الطريق للمسير.» قال: «وكيف؟ أفي هذا التعقيد تمهيد؟
أما ترى ما في هذه المُصادرة، من المُنافرة؟
وكأني أرى هناك أن بين بعض الناس
ورجال الحفظ مُهاترة، هؤلاء يصدُّونهم عن الطريق، وأولئك يتذمَّرون من
هذا التعويق. ألا ترى أن الأمير لو أخذهم فجأة لراءهم على ما هو أحب،
والمفاجأة أدْعَى لإظهار الحب؟» فقلت له: «لعل الأمير لا يعلم؛ لأنه
يُحبُّ شعبه ويريد أن يُحَب.»
وما زِلنا نسير، ويسألني عن القليل والكثير، حتى أقبلنا على بناء لا
بالفخيم ولا بالذميم، وقبل أن يُبادرني بالسؤال، قلت له: «هذا ملهًى
تُمثِّل فيه مُختلَقات الخيال، من الوضع المُناقض للطبع، ولولا مُناجاة
النفوس بألحان الموسيقى لكان كل ما فيه ملفَّقًا على الطبيعة
تلفيقًا.»
ثم التفت وقال: «وما هذا الذي أرى الناس فيه يدخلون ويخرجون؟ ألعله
مُصلًّى؟» قلت: «كلَّا.» ثم قلت له: «مه وصه.» ثم همست في أذنه وقلت:
«هناك أُناسٌ جالسون على منصَّاتهم كالأرباب، يقضون في مصالح الناس بلا
ارتياب، يلبسون أردية كاهل المساخر، حتى أصبحوا في كل أعمالهم يستمسكون
بالأعراض ويُعرِضون عن الجواهر، مفتونون بقانون ليس للعدل فيه أم ولا
أب، وبنظامٍ أعقد من ذنَب الضب. هذا يصعب الدخول فيه والخروج منه على
العالم الفِطحل، وذاك يتيه فيه صاحب الحق ويصول فيه صاحب البطل،
والطريق الوعر صعب المسالك والطريق السهل أقرب إلى العدل.» فقال: «دعني
من التحكُّك بهم، وإني لغنيٌّ عنهم بإذن الله.» قلت: «لا يعلم ذلك إلا
الله.»
ثم قفلنا راجعين، فإذا به يقول: «فما هذا النقض؟» فإذا الناس كأنهم
في شجار ونقار، يرتفعون بعضهم فوق سنام بعض، كأنهم من خلَف ذلك
السَّلف. قلت: «هذا معهد في الصورة صغير، وفي المعنى كبير، فهو نادي
إخوان، اكتشفوا سرًّا ولا سر «مركوني»، وقد يُشبه سر «لموان»،
٤ فيلعبون على الهواء من غير حبل البهلوان. وهذا سبب ما ترى
في البلاد من الرخاء.» قال: «وأين الرخاء؟» قلت: «قل إذن من البلاء
والخسران.»
•••
وإذ نحن في التجوال رأينا جمعًا يموج كالبحر الزاخر، تُجلله السكينة
والوقار والمهابة والجلال، حتى إنك لتحسبنَّه ساجيًا وهو مائر، فقال:
«وهذا الجمهور؟» قلت: «هذا يوم تجلِّي الشعور، ولعله أعظم يوم في تاريخ
مصر، من أول الدهر.
٥ فسلام على الروح التي في الحياة مثَّلته، وألف سلام على
الأمة التي بجليل هذه المُظاهرة أحيَته، ويا حبذا تلك المُنابذة، من
جمهور التلامذة، ويا حبذا ذلك النفور!»
•••
ولكي تعلم الفرق بين ما ترى وما تقدم، أذكر لك ما كان عليه القوم،
قبل اليوم؛ إذ كانوا يُصادرون، فلا يفوهون، كأنهم لا يشعرون، وإذا
أحسَّ أحدهم فكأنه مُلجَم، حتى قلت يومًا من كلامٍ ظاهره الهزل وباطنه
الجد، وبالضد يتبيَّن الضد، وذلك في أوائل الاحتلال على عهد اشتداد
الخصام، بين المقطم والأهرام:
في مصر قامت ثورة
بين المقطم والهرمْ
من عهدِ عادٍ ما سمعـ
ـنا مثلها بين الأمم
جاشت عليه «جيوشه»
حتى إذا كادت تهم
لاقت عنًى من «هوله»
كادت تشيب لها اللِّمم
وتساقط الأشلاء واصـ
ـطبغت مياه النيل دم
تلك المياه وأين من
محمرِّها صافي الديم
كست الطبيعة حُلةً
خضراءَ فاضت بالنِّعم
حربٌ ولكن نارها
برد لإيقاظ الهِمم
وتنبَّهت من بعد طو
ل رُقادها تلك الرمم
قال: «نعم الانقلاب.» ثم قال: «وما مصير الأحزاب، بعد هذا المصاب؟»
قلت له: «ما دام «دنلوب» لا يُقال ولا يئوب، فلا خوف عليهم أن يفقدوا
ناصرها، فهو كل يوم يشدُّ لهم أواصرها، ولأجله فليحمدوا الاحتلال، في
كل حال.»
ولما أعيانا التعب، وكنت قد دفئت قمت أُداري ما بي من الوصب، فركبنا
عربة عند الأصيل، وقصدنا النيل، إله مصر المُحيي، وغيثها المُروي، حتى
وصلنا إلى النهر، فوقفنا بين الجزيرة والجسر، والمركبات تمرُّ أمامنا
مرورَ السهم، فتذكَّرت قول علي بن الجهم،
٦ وإذا بصاحبي يقول: «وما هذا القصر القائم على ضفة النهر؟»
فقلت: «هذا قصر العميد الجديد.» قال: «وهل كان قبله عميد؟» قلت: «كان
قبله قرمٌ عنيد.»
٧ قال: «وهذا؟» قلت: «لا رخو ولا شديد،
٨ كأنه يسير بقوة الاستمرار، أو بالاتكال على الأقدار، وليس
فيه شيء من تلك الأثرة، كأننا معه في زمن الفترة، فإما ذلك منه دهاء
ووراءه نقمة، وإما صفاء ووراءه نعمة، وأما اليوم فلا حديث للناس على
عهده إلا بالأزمة.»
٩ ا.ﻫ.