المقالة السابعة عشرة
قال الشاعر العربي:
وقال المقتطف: «كنا نُراقب في هذه الأثناء ولدَين صغيرين، صبيًّا وبنتًا، عمر الصبي نحو سنتَين، وعمر البنت نحو أربع سنوات، فرأيناهما يكذبان ويخدعان ويحتالان. ولو رآهما علماء الفلسفة الأدبية الذين يقولون إن أصول الآداب مُودَعة في نفس الإنسان ولا تنفكُّ عنها البتة؛ لغيَّروا اعتقادهم.»
وذهب فريق إلى ضد ذلك، فقالوا إن أصول الآداب مُودَعة في الإنسان، فهي في نفسه وعقله، وإن فكرة الخير عامةٌ مُطردة في البشر، وهي لازمةٌ ضرورية، وغير ممكن أن تنفكَّ عن القوى البتة.
قرأت ذلك في المقتطف، وتذكَّرت المثل: «النفس أمَّارة بالسوء.» وقلت في نفسي: «لماذا هذا الاختلاف العظيم بين جمهور المفكرين؟ فلا بد أن يكون هناك أسبابٌ جعلت كلًّا من الفريقَين يرى رأيًا مُضادًّا للآخر، فما هي هذه الأسباب؟»
كل إنسان، علَت مداركه أو انحطَّت، تراه اثنين في آنٍ واحد، يُحدِّث فيأمر بالمعروف، ويعظ فيحثُّ على الفضيلة، ويكتب فينهى عن المنكر، ثم يفعل فنجد أفعاله في الغالب مُناقضةً لأقواله. ويشتدُّ هذا التناقض أكثر عند النظر إلى هذا المعروف الذي يأمر به والمنكر الذي ينهى عنه بحسب الوجهة التي ينظر إليها منها، فلا بد لذلك من سببٍ جوهري يُغفله الباحثون في هذا الموضوع.
أكثر الباحثين في أفعال البشر ينظرون إليها كأنها أفعالٌ مجردة، وقلَّما ينظرون إلى العلاقة التي بينها، وإذا نظروا إليها فمن أطرافها البعيدة، وهي شديدة الاختلاط كثيرة التضاعيف كالحلقات المُتسلسلة، يحار العقل فيها إن لم يردَّها إلى بسائطها.
أفعال الإنسان قائمة على مبدأٍ مشترك بين سائر الكائنات؛ فناموس الأُلفة في الجماد وحب الذات في الإنسان من مبدأٍ واحد وغايتهما واحدة، أي حفظ كيان كل واحد منهما، وأفعالهما البسيطة، أي المجردة عن كل رويَّة، واحدة أيضًا في دفعِ الأذى وجلبِ المنفعة، وتُسمَّى طبيعية في الجماد وبديهة في الحيوان والإنسان، وهي كائنة أيضًا في النبات، ولا عبرة بالاسم، وإنما العبرة في أن كلًّا من العوالم الثلاثة، من جماد ونبات وحيوان، خاضعٌ لنفس هذا الناموس في حفظ كيانه. فإذا نظرنا إلى هذه الأفعال والغاية المُترتبة عليها، وهي حفظ الذات، لا يسعنا إلا أن نقول إن الغاية الأولى منها ليست الشر، بل الخير، وخير المحبة ما ابتدأ بالذات، كما في المثل المعروف.
ولا يُنكَر أن هذه الأفعال يترتب عليها حدوث الشر أيضًا؛ فإن الجماد الذي يفكُّ ائتلاف سواه لخيره الذاتي إنما يضرُّ بذاك السوى، إذا اعتبرنا مثل هذا الحل إضرارًا، وكذلك النبات الذي تنطبق أوراقه على الذباب الواقع عليه حتى يموت، والحيوان الذي يفتك بسواه لمصلحة نفسه؛ فإن مثل هذا الفعل المُترتب عليه الخير الذاتي لم يقع بدون إضرار. فإن كان القصد من البحث في هذا الموضوع معرفة الفكرة الأولى المُرتَّبة عليها هذ الأفعال، فلا يسعنا إلا أن نقول إنها الخير؛ لأن الشر حدث معها عرَضًا ضرورةً لتعذُّر وقوع ذلك الخير بدونه. وأما إذا كان القصد الخير مجردًا والشر مجرَّدًا، فالبحث حينئذٍ يستنفد قُوانا ولا يأتي بطائل؛ لأن الخير والشر مجرَّدَين ليسا في هذا العالم.
وفي أفعال الإنسان تختلط الأمور كثيرًا جدًّا لاشتراك الرويَّة فيها، وتختلف أيضًا لاختلاف هذه الرويَّة وما استفادته من الاختبار، ولكنها لا تختلف في الغاية التي تصبو إليها، وهي حفظ الذات، حتى ولو أنكر الإنسان نفسه، وأتى أفعالًا تُخالف هذا المبدأ في الظاهر، فلا يُنكرها من جهة إلا حبًّا بها من أخرى؛ خوفًا من عقاب أو طمعًا بثواب.
ومهما اختلفت الروية فمحورها واحد. هنا اثنان كلٌّ منهما ينظر إلى مصلحة نفسه؛ فهذا تدلُّه مداركه على أن مصلحته لا تتأتَّى له مع مصلحة سواه، فيستأثر بالمنفعة أو ما يظنه كذلك، ويتعمَّد الإضرار بسواه، ويُقدِم عليه مُطمئنَّ الضمير، مُعتقدًا أنه يفعل خيرًا، كما في مُنازعات الأديان والأوطان مثلًا؛ وهذا يرى باختياره أن مصلحته لا تقوم إلا بمصلحة سواه، فلا يُخطئها وهو عالم، كما في مسائل العمران عمومًا.
وأما الاستشهاد بالطفلَين وكذبهما واحتيالهما وخداعهما، فليس بالدليل القاطع؛ فالكذب ليس من طبيعة الطفل، ولا من موجب له لديه؛ فالطفل يصدُق حتى يعلم أن صدقه قد يجني عليه، فيعمد إلى الكذب دفعًا للضرر؛ فالكذب عارضٌ على الطفل من جنس تربيتنا له. خذ طفلًا ارتكب ما نعدُّه نحن ذنبًا، ولم يعرِض له في نفسه ولا شاهد في سواه ما يحمله على التروِّي قبل الإقرار، واسأله: «من عمل هذا؟» فلا شك أنه يُجيبك على الفور بقوله: «أنا.» فإذا عاقبناه عليه كما هو الغالب، أفتستغرب بعد ذلك إذا لم يصدُقك إذا أتى أمرًا غير جائز في عُرْفنا نحن لا في عُرْفه هو؟ لأن الطفل لا يعرف الجائز من غير الجائز في أول الأمر، ولا يعرفه إلا منا، وكيف يعرفه منا إلا بالعقاب، ولا يرى نجاته حينئذٍ إلا بالكذب، فيكذب ويكذب، حتى في ذنبٍ ارتكبه على مرأًى منك. وهذا ما حملني على القول في بعض مباحثي: «نحن الذين علَّمنا الإنسان أن يكذب؛ لأنَّا عاقبناه على الصدق.» وأنا لا أظن أن هذه القاعدة تُخلُّ إذا أحسنَّا المُراقبة جيدًا. وعلى فرض أنها أخلَّت فلا يكون ذلك حجة على هذا المبدأ، بل تأييد لناموسٍ آخر هو ناموس الوراثة؛ إذ لا يخفى أن الصفات الأدبية، حسنةً كانت أو رديَّة، تنتقل بسهولة في النسل. ومَن الجاني حينئذٍ على هؤلاء الأطفال الأبرياء؟ ألسنا نحن الذين نُعاقبهم على ذنبٍ تطرَّق إليهم منا؟
ويا ليت الأمر اقتصر على ذلك، بل نحن في كل أعمالنا أمامهم مثالٌ رديء، وهم أطوَعُ من ظلِّنا في تقليدنا، وأشد طواعية من الشمع في انطباع أفعالنا فيهم. نكذب أمامهم ونكذب عليهم، ونُعلِّمهم أن يكذبوا عنا، ونُروِّعهم، ونُمنِّيهم بكل ما يتبين لهم كذبه بعد قليل، فماذا تنتظر من طفلٍ ينشأ في مثل هذا الوسط؟ على أن الكذب، على ما يظهر، قد صار شرًّا لازمًا في هيئتنا الاجتماعية كما هي؛ فهو عُدَّة التاجر الماهر، والسياسي المحنَّك، والإمام الهادي، والقاضي العادل، والمُحامي الفاضل، والطبيب النطاسي، والصِّحافي الصادق، والوطني الغيور. وقد حلَّق الشاعر فوقهم بقوله: