المقالة الحادية والعشرون
في كتابك لي على صفحات «المؤيد» طلبت مني أن أُثبِت حقيقة وأدفع شبهة. طلبت أن أُبيِّن لماذا أدافع عن الاشتراكيين، وأن أتوسَّع في الموضوع «لأن ما كتبته على صفحات «الأخبار» لم يكن مُقنعًا»، وأن أدفع عن نفسي «سوء الظن بي»، كأن الاشتراكية وصمة وأنا قد تلوَّثت بحمأتها، وأنت لا تريد لي ذلك، أو أنك تريد أن أُبيِّن الحقيقة الناصعة، وأن أخرج منها طاهر الذيل. فشكرتك على حسن ولائك، ولو أني أُعجَبت أكثر بدهائك.
كنت أفهم قبل اليوم أن الاشتراكية في نظر خصومها مطلبٌ بعيد المنال، فإذا هي فوق ذلك وصمةٌ تُعرِّض صاحبها لأقبحِ المظانِّ، ليس في نظر الجمهور فقط، بل في نظر الخاصة أيضًا.
فخفِّفْ عنك أيها الصديق؛ فما هي بأول وصمة أُلصقت بي ثم عاد الناس إلى الهدى.
من ربع قرن نشرت في اللغة العربية مذهب داروين، ولم يكن معروفًا فيها من قبل، فقامت القيامة عليَّ من كل صوب كأني جئت أمرًا إدًّا، حتى بلغ التحمس من بعضهم أن قصدني للتعرف بي، لا للسلام والكلام، ولكنه ضل السبيل، فقصدني في غير المكان الذي أنا فيه، واعترضته البحار، فأطفأت منه جذوة تلك النار، ثم مرَّت السنون، والناس بيننا يرتقون، حتى صار مذهب داروين بيننا (أو كاد) كمذهب كوبرنيخ في الكون، أو غليلي في الأرض، وحتى بلعهما في جوفه.
وما الاشتراكية كما يرميها خصومها بأضغاث أحلام، ولا أصحابها ظلام طغام، فهي لا تركب بمطالبها متن الخيال وتُحلق بالإنسان إلى جنات النعيم، ولا تُكبله بحبال الخبال وتزجُّه في قعر الجحيم، بل تريد أن تُمهِّد له سُبُل السعادة على هذه الأرض، فتستردُّ له الفردوس الضائع، تستردُّه من أيدي مرَدة الاجتماع وأبالسته، فتُخفِّض من كبرياء، وترفع من نفوس، وتُقرب بين صولجان الملك وعصا الراعي حتى يتم تكافؤ الفضل بينهما.
أراني ركبت متن الخيال في قولي إنها تريد أن تُمهِّد له سُبُل السعادة على هذه الأرض. والأَولى أن أقول إنها تريد أن تُقلِّل من وَيْلاته، فتضمن له حاجاته وتصون حقوقه بعد أن تفرض عليه واجباته، وترفعه من تحت مواطئ الأقدام إلى مقامه كإنسان، وتُعلمه أنه عضو من الاجتماع لا يجوز أن يبقى عالة عليه غير نافع، وأنه عامل فيه لا يجوز أن يبقى غير مُنتفع، وأن تبادُل المنفعة ينبغي أن يكون على قدر العمل.
هذا هو مبدأ الاشتراكية، ومن ظن غير ذلك فهو واهم، وهذا هو المبدأ الذي أُدافع عنه، فهل فيه مأخذ عليَّ لعاقل، أو مظنَّة بي لجاهل؟
والاشتراكية ترجمة لفظة سوسياليزم الإفرنجية، وضعها كُتابنا الأولون وجرى عليها الجمهور. وهي خطأ في التعريب جرَّ معه خطأً أعظم في الفهم والصواب. الاجتماعية من الاجتماع، أي العمران، وأصحابها الاجتماعيون، ولكننا جاريناهم هنا عملًا بالمثل القائل: «خطأٌ مشهور خيرٌ من صوابٍ مهجور.»
وهي ليست مذهبًا من المذاهب، بل هي نتيجةٌ لازمة لنظر الإنسان في الاجتماع. وهي قديمة كالاجتماع نفسه، ومثبوتة في تعاليم الفلاسفة وسائر المُصلِحين في جميع العصور. وكلما ارتقت مدارك الإنسان وزاد اختباره زادت انتشارًا واقتدارًا، وهي لا تعلم اقتسام المال (كن مُطمئنًّا على ثُرَيوتك أو ثُريَّتك، ما شئت وما شاءت النحاة تصغير ثروة)، بل العدل في تقسيم المنفعة بين العمل ورأس المال.
ولا بد لي قبل التوسع في الموضوع أن أُزيل وهمًا وقع لك، واحذر أن يجرَّك ذلك إلى وهمٍ آخر لا أقصده، فلا أعود أعرف كيف أتخلص منك وأنت كشبكة الصياد.
فأنا لم أقم «في الأخبار» للمُدافعة عن خطة، بل عن مبدأٍ أعتبره مشتركًا بين سائر المُصلِحين — والاشتراكيون أعظمهم اليوم — وهو إصلاح مركز الإنسان في العمران، وما دفعني إلى ذلك إلا ما كُتِب هناك ممَّا يُوهم أن الاجتماع على هدًى، وأن الاشتراكيين يدفعونه إلى الضلال؛ لئلَّا يكون لذلك تأثيرٌ سيئ في الأفكار المُتقلقلة التي تحتاج إلى تنشيط، فيُجبنها عن التوغل في فيافي هذه المباحث، ويرميها في الجمود.
ولذلك لم أقف عند الأسماء، ولم أبخس أحدًا حقه، فساويت بالفضل بين جميع الذين ناهضوا الاجتماع في سائر أطواره بقصد الإصلاح من الفلاسفة المُصلِحين إلى دعاة الأديان أنفسهم، ولم أُنكر فضل أولئك الذين تطوَّعوا في هذا الجهاد، فكانوا كالأعضاد فيه، ولو أنهم أتوا أحيانًا أعمالًا مشجوبةً قضت عليهم، وذهبوا فيها شهداء نظام الاجتماع.
ولا ريب أن الاشتراكية هي الدعوة المنصبَّة نحوها الأفكار، والمعقود عليها الآمال اليوم. وهي وإن كانت متَّفِقة في الغاية إلا أن فيها اختلافًا كثيرًا في الآراء، شأن كل فئة في دعوة مثل هذه كثيرة العقبات، وأي مذهب من المذاهب الكبرى، علميًّا كان أو فلسفيًّا أو دينيًّا، لا تكثر فيه المسائل الخلافية من دون أن تمسَّ جوهره بشيء.
ولذلك رأيت أن البحث في هذا الموضوع الشاسع الأطراف البعيد المرمى، لا يأمن صاحبه الزلل والخبط في تِيه فيافيه، إن لم ينخعه من أقوَمِ السُّبل وأصحِّها، وأي أصح من رد الشيء إلى أصله ووضعه في محله؟
فالاجتماع طبيعيٌّ هو وكل ما فيه مُستفاد من الطبيعة، والنواميس التي تسوس نظامه هي نفس نواميسها، وأعظم هذه النواميس اثنان؛ أحدهما يوجب التنازع، وهو تكافؤ القوى في العمران كتكافئها في الطبيعة. والآخر يوجب الارتقاء، وهو تكافل العمران بتوفير قواه كتكافل العالم أجمع بتوفير قواه في ارتقائه.
فالاجتماع شديد التنازع قليل التكافل؛ لشدة ما فيه من التبذير في القوى التي له؛ ولذلك لا يزال منحطًّا جدًّا بالرغم عن اندفاعه البديع في القرن الماضي؛ لأنك كيفما جلتَ بنظرك فيه رأيت أمورًا يأنف منها الطبع ويُنكرها العقل، وقد ينفر الإنسان منها حتى لا يقدر أن يضبط نفسه عن القيام ضدها. تراها في شرائعه ونظاماته وعاداته ومعاملاته، في كلياتها من حيث الغاية منها والباعث عليها، وفي جزئياتها من حيث تطبيقها على كل فرد من أعضائه، حتى إن البحث فيها لا ينضب.
أوَليس من العار على الإنسان الذي يمتاز عمَّا سواه من الكائنات بقوة العقل والاكتساب بالاختبار أن ينتظر ارتقاءه من الطبيعة نظيرها، وهو القادر أن يتصرف فيها بما له من المدارك لمصلحته؟ ويا ليته اقتصر على ذلك، ولكنك تراه دائمًا يستخدم هذه المدارك لإقامة العقبات في سبيل ارتقاء العمران، ولكَم صدَّه عنه وقضى عليه بالتقهقر؛ لشدة التباين بين أعضائه في العقل والعلم والقوة، وقامت الأثرة مقام تبادُل المنفعة، فارتفع قوم إلى الأوج وانحطَّ آخرون إلى الحضيض، وكلما قلَّ هذا التباين قلَّت العقبات لاقتدار الأضداد حينئذٍ ووجوب الإصاخة لهم.
وهل العمران، كما هو الآن، يستفيد من قوى كل فرد، أو يعرف أن يستفيد منها؟ أوَليس هذا هو التبذير بعينه؟ وإن كان لا يعرف، أفلا يكون هو الذي يدفع هذا الفرد إلى الإضرار بنفسه وبالمجموع كله عملًا بناموس هذا التكافؤ؟
كثيرون يطرُقون هذا المبحث، ويُكثرون فيه من المنِّ على الإنسان، فيطلبون الإصلاح له؛ لضعيفه وسقيمه، ومن لم تمدَّه الطبيعة بالقوة الكافية للحصول على ما تستقيم به أموره، يطلبونه له رأفةً به وشفقة عليه. أما نحن فنقول إن الإنسان في الاجتماع في غنًى عن رحمة الراحمين وشفقة المُشفقين، فلا نطرُق هذا البحث بتحريك العواطف، ولا ندع للإنسان على الإنسان منًّا؛ لأننا ننظر في ذلك إلى المصلحة المشتركة. ففي العمران كما في الطبيعة لا يضيع شيء، ولا يضيع تأثيره. والتأثير الذي يُحدِثه الفرد في الاجتماع لا يُدرك أهميتَه إلا الذي يقدر ناموس تكافؤ القوى في الطبيعة قدْرَه، فكم من تأثير إذا نظرت إليه مباشرةً يتراءى لك عديمَ القيمة، ثم بالانتقال والتفاعل يتحول مع الزمان، ويصير ذا شأنٍ عظيم في الطبيعة. ولنا في الأفعال المُتجمعة مثالٌ محسوس، مثل الشرارة للبارود، وعليه المَثل: «سبب النار شرارة، وسبب الشر كلمة.» ومن هذا القبيل الزلازل وسائر نكبات الطبيعة الفجائية.
فعلى هذا الناموس تتمشَّى أفعال الإنسان في العمران، فإذا أحسنَّا أو أسأنا إلى الاجتماع فإنما نُحسِن ونُسيء إلى أنفسنا، وما نصنعه في سوانا يردُّه لنا هذا السوى «بفرطه»، كما يُقال في لغة الماليين. فالاجتماع، كما ترى، أكبر مُرابٍ، ولكن على عكس المُرابين؛ فهو يردُّ لك كل شيء تنفحه به برِباه، ولو تبرَّعت به تبرعًا ووهبته له هِبة. خذ مثالًا لذلك الأمراض، هنا أناسٌ جمعوا بذكائهم أو دهائهم الأموال على ظهور العمال، فسكنوا الأحياء الفسيحة الأرجاء، تنفذها الشمس، ويلعب فيها الهواء، وتحفُّ بها الحدائق، وبنَوا فيها القصور يمرحون فيها على وثير المِهاد وفاخر الرياش، وتحوَّطوا بكل ما تصحُّ به الأجسام وتُنفى الأسقام، وعلى قيد قصبات منهم أكواخٌ مُتراكمةٌ بعضها فوق بعض كالتلال، يزدحم السكان فيها كالذباب، لا شمس ولا هواء ولا ماء إلا ما يكفي للاختمار، وجعلها بورة البوار ومعمل الدمار، حيث تجد الأمراض مَرتعًا خصيبًا. فماذا يقيك من شر ما جنيت أيها المُطمئن بعزلتك، وأنت شريك جارك في الماء والهواء والغذاء حمالة الأمراض ونقالة الوباء.
وهذا مثالٌ آخر من أمثلةٍ كثيرة يضيق عنها الحصر، وتتجدد أمامك كل يوم، وتدلُّك على نقص نظامات تلك الشرائع القائمة على مبدأ تأييد القوي وإرهاق الضعيف. غنيٌّ يتقاضاك مالًا لا يزيد في غناه بلغةً، والله يعلم من أين أتى، وكل ما في مسكنك من المُقتنيات لا يفي بسداده، وإنما يكفي ليصون عيالك. فالقانون الذي لم يعرف كيف يستفيد من عملك لينتفع بك وينفعك يقضي عليك، ولو أدَّى ذلك بك وبعيالك أن يأويكم العراء، ويُصدِر القاضي، وقد مات منه الضمير، حكمه مصدرًا باسم مليك البلاد … إلخ، ثم يصبُّ البلاء على العباد. فعلى مَن اللوم إذا تراكمت أمثال هذه الأفعال بناءً على هذا الناموس، وأحدثت تأثيرها المُتجمع في الجموع، فقاموا يُصادرون الاجتماع، ويُحدِثون الثورات، كالثورة الفرنساوية، وثورة العمال القائمة اليوم، والتي سيكون هَوْلها أشد من تلك إن لم تُدفَع بالحكمة؛ لانحصار تلك في بقعة من الأرض وفي شعب من الشعوب، ولانتشار هذه في كل العالم المُتمدن؟ بل على من اللوم إذا تمادَوا وركبوا على متن الغلو، ولسان حالهم يقول:
ولولا نهضة رجال الثورة في الماضي، وسريان روحهم الحية في أعقابهم؛ لبقي الإنسان يرسف في قيود الجهل حتى اليوم، ولتقهقر الاجتماع عمَّا كان عليه أيضًا بالرغم عن ناموس الارتقاء العام، أمَا وقد بلغ التنبه في الأفكار مبلغه اليوم فلا خوف عليه أن يتقهقر؛ لانتشار العلم، وانتشار مبدأ الاشتراكية بسبب ذلك، واقتدارها على تنفيذ مطالبها، بل كلما تقدَّمنا ستزداد هذه الحركة الارتقائية سرعة، وتقرب الأمم بعضها من بعض، فتقلُّ الحروب، ويتفرغ الإنسان للاشتغال لمصلحة العمران. والغريب أن كل واحد منا في حديثه وكتاباته كل يوم يخدم دعوة الاشتراكيين ولا يدري، وقد يخدمها من حيث يريد مُناهضتها أيضًا. ولعل هذا التمهيد الوجيز كافٍ لأن يُقنعك، أيها الصديق، بأن مبدأ الاشتراكية ليس ممَّا يُخجَل منه، ولا هو ممَّا يجب أن يُحجَم عنه.