المقالة الثانية والعشرون
عركتُ صروف الزمان، وجسست بإصبعي مصائب الإنسان؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت الفقير في أقصى الفقر يسكن كهفًا كالقبر، أو يتوسد الغبراء ويلتحف بالسماء؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت الفاعل يشتغل في الحر، والعرَق يتصبب من بدنه كالقطر؛ ليُطعم سواه من جناه، ولا يناله من ذلك إلا نزرٌ يسير، لا يفي بحاجة زوجته العارية، ولا يُخمد صوت أولاده الجياع، فيطوُون الليل على الطوى مُلتفِّين على أنفسهم، وبعضهم على بعض ضاغطين معدهم بأيديهم ليُخفِّفوا ما يُعانونه من ألم الجوع، وليس لهم ما يتدفئون به من البرد غير حر أنفاسهم. رأيت ذلك فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت الكريم وقد أخنى عليه الدهر، وأسقطه إلى أدنى مهاوي الفقر؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت الأم تبكي ولدَها، والزوجة بعلَها، والأخ أخاه، والابن أباه؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت الجاني المحكوم عليه بالقتل، واجف القلب مشتَّت العقل؛ فلم أجد أشقى من المريض.
ذقتُ ذل السؤال بعد عز الأفضال، وعرفت خيبة الأمل، وصبرت على تغطرُس أصحاب المال؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت المفضول فوق الفاضل، والفصيح يُداجي الأبكم، والعالم يخضع للجاهل، والعاقل يُخاطب من لا يفهم؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيتك تصنع المعروف فتُجازى بالمتلوف، وتُصادق من يخدعك، وتسمع من لا يسمعك؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت الغني الشبعان يبلع الجمل ولا يتستَّر، والفقير الجائع يتلصَّص لسرقة رغيف من الخبز الأسمر، والقانون يُكافئ ذاك برفع القبعات، ويُعاقب هذا بالسجن سنوات؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت معالم الظلم تُشاد فوق الناس تحت لواء العدل ودعوى الهداية، والعالمية تسري عليهم تحت قلانس المكر وعمائم الجهل؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت الحُر يرى كل ذلك ولا يجد بدًّا من الصبر عليه، فلم أجد أشقى من المريض.
وأيٌّ أشقى ممَّن أظلمت الدنيا في عينَيه، وارتجَّت الأرض تحت رجلَيه، وصغرت نفسه حتى أصبحت الحياة المحبوبة عبئًا ثقيلًا عليه؛ إذا شرب الماء الزُّلال المعقَّم، وجده مرًّا كالعلقم؛ أو ذُكِر أشهى الطعام لديه، جاشت نفسه عليه؛ أو توسَّد وثير المهاد، فكأنه يتقلب على شوك القتاد؛ مفكَّك الأوصال، إذا كُلِّف قطع خيط القطن خانته القوى؛ مقطَّع الآمال، إذا قُدِّمت له خزائن الأرض أعرض عنها ورآها هي والعدم على حدِّ سوى؛ ليله طويل بما يُعانيه من الآلام التي تحرمه لذة المنام، فإذا طلع النهار زال ما كان قد أمَّله فيه من زوال الأسقام.
الأصحَّاء يحلمون بالأموال يحشدونها، والمدن للكسب يفتحونها، والمراتب العالية ينالونها، يحلمون بالزوجات، والبنين والبنات، والقصور الشاهقة، والأملاك الواسعة، والحدائق الغناء، ولا يقفون في أحلامهم عند حد. والمريض المسكين لا يطلب إلا أمرًا واحدًا يفديه بكل حطام الدنيا، يفديه بماله، يفديه بأمياله، يفديه بكل ما له من المطامع من واقع وغير واقع، يفديه حتى بجزء من عمره، بل بعمره كله؛ إذا وجد أن لا خلاص له من الأسقام إلا بتجرُّع الموت الزؤام، يطلب ما لا يراه الأصحَّاء، ولا يراه إلا هو، يطلب الصحة التي هي تاج على رءوس الأصحَّاء لا يراه إلا المرضى، بل أي رجل تجوز عليه الشفقة أكثر ممَّن تمكَّن منه الداء، وعزَّ به الشفاء، غنيًّا كان أو فقيرًا، صعلوكًا كان أو أميرًا، حتى لم يبقَ عنده في قوس الأمل مِنزع، ولا في النفس مَنزع، فإذا كان هذا حال المريض الأمير، فما قولك في حال المريض الفقير؟
فالفقير المُعدم، والجاني المكبَّل بالحديد، والثكلى التي لا تريد أن تتعزى، والرجل الذي أخنى عليه الدهر بعد العز، والحُر الذي يصبر على مضض البلوى؛ يجدون في نفس شكواهم مَصرفًا لهمومهم، وفي قواهم الصحيحة مُنعشًا لآمالهم؛ فالجائع إذا أعيته الحيل تطاير الشرر من عينَيه، وشدَّ حبلًا من مسدٍ على حقوَيه، ونهض على ساقَيه يُطارد بهما الغزلان، وشمَّر عن ساعدَيه يتسلق بهما الجدران، ولبس من ظلام الليل ثوبًا يقيه كالحجاب، من عين كل مُرتاب، يتلصص تارةً ويسرق أخرى؛ مُنتقمًا لنفسه من ظلم الإنسان، ومن فساد ما سنَّه من الشرائع في العمران. والثكلى تتناثر دموعها الحرَّى، فتُخفِّف ما بها من ألم الجوى، كأنها تُبدِّد بها سُحُب الهموم، كما يُبدِّد مطر السماء سُحُب الغيوم. وأما المريض المسكين، فلا تفيده الشكوى إلا زيادة البلوى، وقد يخفت صوته فلا يقوى عليها، وقد تشلُّ حركاته حتى لا يستطيع أن يُعبِّر عنها، فيُرسِل إليك نظرًا مُنكسرًا ذليلًا، يقطع الصلب، وينفذ القلب، يقطع صلبًا لا من صلب الحديد، بل من عصب وعظم، وينفذ قلبًا لا من قلب الحجر، بل من لحم ودم.
فيا أيها الذين لا يزال بهم بقيةٌ تتأثر أكثر قليلًا من الحجر، والذين لم تضرب مطامعهم على أبصارهم غشاوة، ولم يختم الله المال على قلوبهم، إن كنتم من أهل الإحسان الذين يريدون التقرب حقيقة إلى الله المعبود، أو من أهل الفخر الذين يُفاخرون بأشياء هذا الوجود؛ فدونكم وإغاثة أخيكم المريض، بل إغاثة أنفسكم — فمن منكم يضمن لنفسه السلامة من الداء — بتخفيف مُصابه، وتقليل أوصابه، بما في وسع الإنسان بحسب تدرُّجه في العمران. وليس لذلك أصلح من المستشفيات، والإكثار منها على ما بلغت اليوم من الإتقان فهي قبل المعابد، إن كنتم تفقهون، وكأني بكم جميعًا تؤمِّنون على ذلك، ولكن لا أعلم لماذا لا تفعلون. أينقصكم فيها المجد، وهي عنوان المجد والفخر؛ أم الأجر، وهي مُنتهى الأجر؟ فلينهض منكم بضعة أناس من علية القوم، يؤلفون جمعياتٍ مُتفرقةً من كل جنس ومذهب ومَوطن، تجمع المال بالاكتتاب من الفقير قبل الغني، كلٌّ حسب مقدرته، كما تفعلون في بناء المعابد التي تخدمون بها مطامع الإنسان أكثر ممَّا تخدمون بها إرادة الله. وأنتم أيها الأغنياء خاصة، فإني أعرف منكم الغني الكبير الذي جمع من المال القناطير، ومات ولم يترك سوى ذكر الاختلاس من أموال الناس، أو الذي بنى شاهق القصر الذي لا ينفع لا للسكن ولا للقبر، ألم يكن مثل هذا الإحسان أفضل ذكرى وأدعى إلى الفخر؟ وأمام من تريدون أن تفتخروا؟ أليس أمامنا؟ فإذا ذممناكم فالذنب عليكم، ورحم الله من قال: