المقالة الثالثة والعشرون
محرِّر المشير حرامي.
سرقة جائزة.
«الدكتور شميل في السماء.»
أعترف لقُراء المشير أنني ارتكبت في هذَين اليومين جريمة اللصوصية، «ولعل ذنبي لا يكون أعظم من ذنب حواء وآدم؛ فإنهما سرقا تفاحة لأنها كانت لذيذة الطعم، وأنا سرقت مقالة من منزل الدكتور شميل لأنه كان بخيلًا بها.» فإذا وصل هذا العدد من المشير إلى صديقي الدكتور الفاضل، وذهب إلى مكتبه، وفتَّش على ما كان فيه فلم يجده، وتحقَّق ما أقول؛ فأرجوه ألا يُعاقب البواب أو الخادم؛ إنه هو الذي فتح أبواب منزله لطالبي فضله، وإلى القراء البيان.
بلغني من مقالةٍ قرأتها في المقطم بقلم الدكتور شميل أنه مُصاب بحدار (روماتيزم)، فهرولت إلى منزله العامر أعوده نحو الساعة السادسة مساءً، فقال الخادم إن الطبيب خرج في عربة للنزهة. فدخلت إلى مكتبة الدكتور، وجلست بين الكتب والأوراق التي بخط حضرته في عرينه، وأردت أن أُسلِّي نفسي بالقراءة ريثما يعود، ثم حانت مني التفاتة إلى مكتبه، وإذا هناك أوراقٌ مُبعثَرةٌ مكتوبة، فدلَّتني سليقة الصحافي التي عندي أنها أصول مقالة يكتبها الدكتور، وحملتني الوقاحة المذمومة في كل إنسان إلا الصحافي على الاطلاع عليها، ونظرت إلى ما حولي فلم أرَ من يُراقبني، فأخذت تلك الأوراق وقرأتها، وإذا هي مقالةٌ بدأ بها الدكتور شميل، وكتب منها ثلاث أوراق لا غير وبدأ بالرابعة، ثم الظاهر أن الحدار أصابه وهو يكتبها، فتركها على أن يُنجزها متى شُفي.
والمقالة المذكورة بيان مُفاوضة بين الروح الأسمى والدكتور، فلما قرأتها ذكرت ما ورد في التوراة عن يعقوب؛ إذ صارعه الله وضرب حق فخذه فانخلع، فقلت في نفسي إن يعقوب لما صارع الله ضربه على فخذه فخلعه، وهذا صديقنا الدكتور صارعه اليوم فضربه بحدار حتى لا يُتمِّم مقالته، ولكن جاءت الضربة الأخيرة على الفخذَين. أما أنا فأخذت أوراق المقالة ووضعتها في جيبي قائلًا للخادم إن الطبيب تأخَّر، وأنا لا أستطيع الانتظار. وها أنا أُتحِف القُراء بما بدأ بكتابته الدكتور شميل ولم يُتمِّمه، فإن عاد يومًا ما فرضِي عني أرجوه أن يُوافينا بما كان يريد أن يجعله تكملة لها.
دع رجال الصحة يُطاردون الطاعون، والناس من وجهه يهربون، فإما هم غالبون، وإما هم مغلوبون. فالعالم قديم، والناس يمرُّون فيه مرَّ السحاب بلا حساب، والفوز ليس دائمًا من العلم أو العمل؛ فقد يكون من الصدفة، وقومٌ يقولون من القدر، وما هو علم الناس وما هم يعملون، دعهم في ضلالهم يعمهون.
واعتزلْ الناس ومجالسهم وهواجسهم ووساوسهم، واركب مِعراج الفكر في سماء الخيال مُحلقًا إلى ما وراء المحسوس، وأغمِضْ عينَيك لئلَّا يستوقفك بهاء الكواكب اللامعة، ويسحرك جمال الشموس الساطعة، واسدد أُذنَيك لئلَّا يستهويك حفيف الأفلاك في دورانها، فتلتبس الحقيقة عليك بين آثارها وأعيانها. فإذا قطعت كل هذه العقبات، وقطعت كل صلة بينك وبين الكائنات؛ دخلت في العالم الأعظم عالم القوات، بل أصبحت والقوة الأولى مُتداخلَين تعلم ما تعلم، عليمًا بكل ما يجهل الناس، والله أعلم.
ذلك صوتٌ سمعته وأنا في سِنة الكرى، أتقلب من الحمَّى على جمر الغضا. فراعني ما سمعته في المنام؛ لئلَّا يكون نذير الحِمام، ولكن شاقني جدًّا خبر ما سأرى، فتجلَّدت وقلت في نفسي ما هي إلا رقدة، أسرعت أم أبطأت؛ فلعلَّ في الأمر هدًى، فلا تدع الصوت يذهب من دون صدًى، ولا تجبن كأبيك آدم يوم عصى.
فقال الصوت: «مهلًا أيها المُعجَب بجَنانه، المُغالي بقوة برهانه وحسن بيانه، المدَّعي القوةَ والضعفُ ملءُ جوارحه، والمُتظاهر بعدم الخوف والجبنُ ملء جوانحه. يدل على ذلك ما أتيتَه من الإسراع في الدفاع، قبل أن تعلم حقيقة الصوت أيها المُرتاع. فأنت ما زِلت بعيدًا عن هول يوم الموقف، فأبقِ دفاعك إلى ذلك اليوم، إن كنت ترجو فيه من منصف.»
فقلت: «من أنت إذن أيها الصوت الذي أشكل عليَّ أمرُه، وعظم لديَّ سرُّه؟» فقال الصوت: «أنا صوت الشعور العام.» وتهيَّأ لتتمة الكلام، فأصابتني رعدةٌ خِلتها القاضية على حياتي، وأرتني مماتي قبل يوم مماتي، ثم أفقت وإذا أنا في عالمٍ تحار في وصفه العقول؛ لأنها لم تألف فيه من المناظر، وتقصر دونه الألفاظ والمعاني؛ لأن معانيه لم تمرَّ من قبل بخاطر. فأخذت أمسح عينيَّ لأجلو بصري، وأنا لا أُحس بيدي، ولا أهتدي إلى عيني، وأفرك جبيني كي أستحضر فكري، وأنا لا أهتدي إلى جبيني. فقلت: «ما هذا أيها الدليل؟ أهُدًى ما أرى أم تضليل؟ فأنا أشعر بنفسي أني موجود، ولكن أين أنا من الوجود؟» فقال الصوت: «أنت قد قطعت الآن عالم الكائنات، ودخلت في العالم الأول من عالم القوات» (المشير).
إلى هنا وصل الدكتور في مقالته، ثم أصابه الحدار، كما أصاب فخذ يعقوب من قبل.