المقالة الرابعة والعشرون
لقد تعدَّدت حوادث الانتحار في هذا القُطر في الأيام الأخيرة، خصوصًا في الإسكندرية ومصر، حتى خِيف من انتشار هذه الآفة الاجتماعية بالاقتداء بين شبابنا الشديدي التأثر القليلي التبصر، كأنها مرضٌ ينتشر بالعدوى.
بل هي مرضٌ حقيقي من أمراض الاجتماع. فالاجتماع كما وصفه بعض علماء السوسيولوجيا، جسمٌ يُشبِه جسم الحي في تكوينه ووظائفه وأطواره، وله نظيره أمراضٌ تُشبِه أمراضه بأسبابها ونتائجها وطرق انتشارها، والفرق بينهما نسبي فقط في كِبَر الجسم وطول العمر. فالاجتماع حيوانٌ هائل، وألوف السنين ليست بالشيء الكثير في حياته.
والبحث في أمراض الاجتماع هو بحثٌ بسيكولوجي سوسيولوجي، يتناول البحث في قوى العقل وأميال النفس، والأسباب الاجتماعية التي تؤثِّر فيهما، غريزيةً كانت كالوراثة العامة الراجعة إلى الاجتماع نفسه والخاصة المُتعلقة بالأهل، أو مكتسبةً كالتربية البيتية والمدرسية ونوع التعليم؛ ممَّا يجعل هذا البحث وعر المسالك.
فالانتحار مرض من أمراض الاجتماع يهمُّ المجتمع الإنساني بأسبابه ونتائجه، فهو ينزع من هذا المجتمع أعضاءً هم غالبًا في مُقتبل العمر، والموجود مهما يكن خيرٌ لهذا المجتمع من المفقود، خصوصًا إذا عرف المجتمع بشرائعه أن يستفيد من قوى هذا الموجود النافعة؛ لأن الإضرار بهذا المجتمع ليس من أصل الطبع في نظام هذا الكون، بل من الأمور العارضة بالنسبة إلى تطبيق الوضع على الطبع. فالانتحار مرضٌ عارض لعدم تطبيق الموضوع على المطبوع وأسبابه في نظامات هذا الاجتماع وتعاليمه.
فالإنسان ليس كائنًا واحدًا في جسمه وطباعه وعقله وأخلاقه، بل هو ابن الفطرة وابن المكان والزمان أيضًا. فالإنسان الفطري ليس لنا مثال يُمكِّننا من وصفه وصفًا ثابتًا، وغاية ما يُقال فيه إنه مُعدٌّ إعدادًا تامًّا لقبول تأثير المؤثِّرات فيه، طبيعيةً كانت أو أدبية. ولا يمكن لنا ذلك ولو رددناه إلى الحيوان؛ لأنه في هذه الحالة أيضًا يبقى مُتأثرًا ولو لعوامل المكان. إنما بالتجريد يمكننا أن نتخيله بصفاته البسيطة الشاملة لعامة هذا الكون، وأول هذه الصفات فيه حب الذات، وأبسطه، أي حب الذات، ما كانت الغاية منه المحافظة على الحياة. فالإنسان الفطري هو إذن مُحافظ على حياته المادية لا ينوي لها شرًّا، ولا يبغي بها بدلًا. فالانتحار ليس من طبع الإنسان، ولا هو من طبع الحيوان، وما نُسب إلى بعض الحيوان من ذلك على نُدرته لا يجوز أن يُحسب من هذا القبيل، وأكثره عن جنونٍ حقيقي يُصيب الحيوان كما يُصيب الإنسان، وقتل النفس فيه نتيجةٌ لا غايةٌ مقصودة، كما هو في الانتحار.
بل لو بحثنا في طبقات البشر السفلى التي هي أقرب إلى الفطرة لم نجد ما يحملنا على الخروج عن هذا المبدأ؛ فالإنسان المُتوحش إذا أُوذي بمصلحته أو عُورض في إرادته، يُحاول أن ينتقم لنفسه لا بقتل نفسه، بل بقتل من حال دونه وتصدَّى لإيذائه. وإن خاف على حياته من خصمه، ولم يجد مفرًّا لنجاته من يده؛ يُفضِّل أن يقع صريعًا وهو يُدافع عنها أملًا بالنجاة وطلبًا للانتقام، من أن يقتل نفسه بيده.
فالانتحار ليس في صفات الإنسان الفطرية ما يحمل عليه، ولا هو معروف عند الإنسان المُستغرق في الهمجية، بل هو طارئ عليه من نوع التربية والتعليم. ويلزمنا أن نصعد إلى عصور الجاهلية الفاصلة بين عصر التوحُّش وعصر التمدُّن، بمعنى أنها آخر الأول وأول الثاني؛ حتى نجد بعض حوادث منه من وقت إلى آخر بعيد، وفي ظروفٍ خصوصيةٍ نادرة. فلا يخفى أن الصفة الأولى التي تنبَّهت في الإنسان في هذه العصور، أي عصور الجاهلية، هي الأنَفة؛ ولذلك كانت حوادث الانتحار في هذه العصور مُقتصرة على أمرٍ واحد ليس فيه شيء من صِغر النفس أو قلة العقل كما نرى اليوم، كأن يقع الإنسان في أسْرِ عدُوه، أو يخشى الوقوع في أسْرِه وقد سُدَّت في وجهه سُبُل الدفاع، وهو هالك في الحالَين، فيُفضِّل أن يقتل نفسه بيده ليَحرم عدُوه من لذة الإيقاع به، وهو في كل ذلك لم يتخطَّ حب الذات؛ فمُدافعته عن نفسه يحمله عليها حبُّ ذاته، وقتلها بيده لئلَّا تُهان بيد عدُوه، يحمله عليه حبُّ ذاته أيضًا.
ثم جاء عصر التمدُّن بما خالطه من التعاليم المُتباينة والمبادئ المُتناقضة، من اجتماعية ودينية وأدبية، فقوَّى في الإنسان عواطف وأمات عواطف وحوَّل عواطف؛ فقوَّى في الإنسان الخيال، وأضعف فيه الثقة بالنفس والاعتماد عليها، وصرفه عن الحال بالمآل، فصغرت الحياة الدنيا في عينَيه حتى احتقرت الحياة المادية، وعظمت الحياة الأخرى حتى صارت تفضل عليها الحياة الأدبية.
ولم يقتصر الإنسان على بسيط هذه المبادئ، وإلا لم يكن الشر عظيمًا، خصوصًا إذا كانت النتائج متَّفِقة معها، بل وقع تناقضٌ كلي في تربيته وتعاليمه. فبعد أن بذلوا الأبدان إلى حد التقشف، ورفعوا الآمال إلى مقام الأماني؛ عادوا فرفَّهوا الأبدان إلى حد الترهل، مع التصرف بالمبادئ الأدبية بما لم يُضعِف من قوَّتها، بل حوَّل وجهتها وأفسد غايتها، فضعف الجهاز العصبي المُستولي على العواطف بالتربية المُرهِّلة للأبدان، وتمادي العقل في الخيال حتى تناهى في الضلال، وكثر التناقض بين الحياة النظرية والحياة العملية، فكثر الانتحار بين المُوسِرين؛ لأسبابٍ أدبيةٍ تهيج بها العواطف، مُتطرفين فيما تربَّوا عليه من أن قتل الآمال لأشدُّ من قتل الأجساد. وكثر بين الفقراء لأسبابٍ اجتماعيةٍ تضيق عليهم المذاهب، فعمدوا إليه مُتعزِّين بقول الشاعر:
ولا يُفهَم من ذلك أن الانتحار من آفات التمدن بدليل ما نراه اليوم، بل التمدن الصحيح ينبغي أن يُزيل أثره بالكلية من المجتمع البشري بإصلاح التربية وتقويم المبادئ، بل هو من آفات تمدُّننا الحديث؛ لِما فيه من النقص والتذبذب في كل شيء. فنحن حقيقةً في دور من أدوار ارتقاء الإنسان، ينبغي أن يُعَد في تاريخ المجتمع البشري طور الانتقال. فنحن في هذا الطور لم نبقَ على همجيتنا البسيطة، ولم نبلغ مقام التمدن الصحيح. ولقد مرَّ علينا في هذا الدور قرون ونحن نتقلب مُتذبذبين بين الوقوف والتقهقر واستئناف السير، وسيمرُّ علينا قرونٌ كثيرة أيضًا قبل أن نبلغ هذا المقام. وأدوار الانتقال في حياة الجموع كما في حياة الأفراد شديدة الخطر؛ فكما أن الخطر على حياة الأفراد يشتدُّ في طور انتقال الطفل من الرضاع إلى الفطام وفي التسنين، هكذا الخطر يشتدُّ على حياة الجموع في انتقالها من طور إلى طور، وكثيرًا ما يعرض لها في هذا الطور ما يُوقِف سيرها ويُوجِب تقهقرها. وتاريخ الاجتماعات البشرية مشحون بالأدلة على أن هذا الوقوف وهذا التقهقر حصلا لها في حياتها مرارًا عديدة، فاضطرَّت أن تستأنف السير. والله يعلم ما يلزم لذلك من الزمان الطويل.
ويَطول بنا الشرح لو أردنا أن نُبيِّن أوجُه النقص في تمدُّننا الحديث، الذي نتباهى به اليوم كأنا بلغنا به القدح المعلَّى، وما يعترضه من المخاطر التي يُخشى منها على حياة العمران، ممَّا يوجب وقوفه وتقهقره أحقابًا طويلة. ولا نُطيل الوقوف على هذا التمدن «النيئ» في حياة الأفراد في حركاتهم المُصطنَعة التي ليس فيها شيء من الرجولة، التي هي مُنتهى الأدب الحقيقي، كأن يُثبِّت الإنسان رجلَيه على أطراف قدمَيه، ويحني رأسه إلى الأمام، ويبرز بعجُزه إلى الوراء، ويبسط كفَّه لا إلى حد العطاء، ويضمَّ أصابعه مُبالغةً في العياقة، ويمدَّ ذراعَيه على زاوية، لا هي بالمُنفرجة ولا هي بالقائمة، ويُثبِّت كتفه كأن بها حدورًا تؤلمها الحركة؛ يظن بذلك أنه بلغ مُنتهى الكياسة، وما بلغ به إلا انحطاطه إلى مقام أجداده القرود. أو كأن يقف صنمًا على كلتا قدمَيه، ويُثبِّت ساقَيه، ويأخذ بعجُزه، وجزعه يطول ويقصر، وينحني وينبسط، باسطًا كفَّه بسط المُستجدي، مادًّا يده إلى الأرض، ورافعها إلى رأسه وفمه، مُكررًا ذلك بسرعةٍ تخطف الأبصار، كأنه يغرف بها شيئًا من أحد طرفَيه ليضعه في الطرف الآخر، وما يغرف بها إلا جهله ليدلَّ به على قلة عقله (إشارة إلى السلام الإفرنجي والتُّركي).
وهذا التصنُّع الذي يعدُّه بعضهم من التمدُّن، ويا حبَّذا التوحش عنده، لا يقتصر على حركاتهم فقط، بل يتناول حديثهم ومعاملاتهم وصداقتهم، إن صحَّت أن تُسمَّى صداقة، وسائر آدابهم. فجميعها لا يتجاوز حد التكلف، ومبدؤهم فيها التبطُّن، على حد قول المثل الفرنساوي: «جُعِل الكلام لتضليل الأفكار.» أو على حد قول الشاعر العربي:
ولا يخفى ما في ذلك من الرخاوة العديمة الطلاوة، ومن النقص في الآداب الخصوصية والعمومية معًا، ومن إفساد أخلاق المجتمع البشري عمومًا. وأقلُّ أضرار ذلك التضليل لفقد الحرية الدالة على الشهامة وعلو النفس.
وإذا نظرنا إلى هذا التمدن المشحون بالمبادئ المُتناقضة في حياة الجموع، تبدَّى لنا هذا النقص جليًّا في نظاماته وأحكامه وتعاليمه؛ ممَّا يجعل الخطر على التمدن الحقيقي من الوقوف والتقهقر شديدًا جدًّا. فلولا هذه النظامات الناقصة والأحكام الفاسدة والتعاليم المُضللة، لما رأينا المئات من الألوف يذهبون جوعًا وبردًا وقتلًا بالسيف والأمراض، ولما رأينا هذا التأفف من الهيئة الاجتماعية بسبب ذلك، وهذا التحفُّز منها لقلب هذه النظامات؛ انتقامًا للضعيف الرازح تحت عبء الظلم من القوي السابح في بحور الغرور. ولا يخفى ما في ذلك من الخطر على المجتمع نفسه، ولا نظن أن عصرًا من العصور بلغ فيه توتُّر العلاقات التي تربط أعضاء هذا المجتمع بهذه النظامات مَبلغه في هذا العصر لاتساع الفهم. فإما أن تُنقَّح هذه النظامات إلى ما يكون أصلح للحال، وإما أن تُقطع رباطاتها لزيادة الشد، فيقع المجتمع في أواخر هذا القرن، أو أوائل القرن القادم، في هرجٍ لا تُذكَر معه ثورة أواخر القرن الماضي بشيء.
وقد يتوهَّم القارئ أن إسهاب الكلام على التمدن الحالي ونظاماته وتعاليمه وسائر آدابه، كما تقدَّم، خروجٌ عن الموضوع وغلو في النظر. والحال أن اعتبار ذلك أمرٌ لازم في مثل بحثنا؛ لأن أسباب انتحار الأفراد تمتدُّ أعراقها إلى أصل المجتمع البشري، وتتخلَّل كل طبقاته؛ فآداب الأفراد من آداب الاجتماع، وأخلاقهم من أخلاقه، وقُواهم العقلية وعواطفهم من قُواه العقلية وعواطفه. فالاجتماع مسئول عن كل ضعف يظهر في الأفراد. ولا شك أن الانتحار ضعفٌ في العقل يجرُّ إلى صِغر في النفس، سببه تقوية بعض العواطف بسبب التربية، وإماتة البعض الآخر وتحويلها إلى غير وجهتها الحقيقية بالتعاليم المُتناقضة، وعدم انطباقها على العمل.
فبهذه التربية التي يُفرِط فيها أصحاب اليسار في البيوت والمُعلمون في المدارس، والتي يُفرِط فيها أصحاب العسر كذلك؛ يرهل البدن وتضعف أعصابه، فيصير سريع التأثر؛ ولذلك كان يكثر الانتحار في سن الصِّبا ما بين خمس عشرة سنة وخمس وعشرين سنة؛ إذ يكون الجسم رطبًا رخصًا؛ فالتربية البيتية تُضعف البدن بالترفُّه، والتربية المدرسية تُقوِّي العواطف، وتُفسح المجال واسعًا للخيال إلى حد الضلال، مع عدم مراعاة تطبيق ذلك على المعاملات. فيخرج الشاب من بيته ومن المدارس، وهو على هذه الحال من وهن المبادئ، إلى المجتمع البشري، حيث يُصادف كل شيء على عكس ما قد تربَّى، وضد ما قد تعلَّم. فتشتدُّ فيه الانفعالات، وتعظم عليه الصعوبات. ولا سيَّما إذا كان ممَّن قد تعلَّق على قراءة كتب المُجون، التي يُبالغ أصحابها في تجسيم ما بُني على المخيِّلة وتعظيمه مع بُعْده عن الواقع، حتى يصبح الإنسان اثنَين مُتناقضين؛ إنسانًا بالوسط الذي يعيش فيه، وإنسانًا بما تربَّى عليه. فيصير بذلك مُتأثرًا لأقل سبب وأحيانًا لغير داعٍ. وكُتُب المُجون هذه شديدة الضرر في تهييج عواطف الإنسان. على أن نهج بعض الكتَبة فيها في أواخر هذا القرن النهج الطبيعي لتقرير الحقائق كما هي، خطوةٌ حميدة ستُقلل الضرر الناشئ عنها.
والانتحار يكثر في الأحداث لأسبابٍ عشقيةٍ تسهل مُداواتها ومُعاكساتٍ لا تصعب مُلافاتها، لو كانوا أقوم تربية وأكثر خبرة؛ ولذلك هو يقلُّ جدًّا بعد سن الأربعين. وإذا حصل حينئذٍ فلغير هذه الأسباب؛ لأسبابٍ يزعمون أنها تمسُّ الشرف، كما لو تورَّط إنسانٌ مُستقيم لزلة قدم، فاستعمل مالًا ليس له بناءً على أن يردَّه لصاحبه بعد أن يُصلِح زلته، فيُبدِّد المال ولا ينهض من عثرته، ويخشى افتضاح أمره، فقد يقتل نفسه؛ أو وقع في مرضٍ عضالٍ تأكَّد عدم شفائه، ولم يعد يُطيق عذابه، فقد ينتحر فرارًا من العذاب، وإذا كان للانتحار مسوِّغٌ فربما كان هذا الأخير، أي المرض، أصدق مسوِّغ له.
وفلسفة الانتحار يختلف تعليلها بحسب الأسباب والسن؛ ففي العشق يقصد المُنتحر التخلص من عذابٍ ليس في طاقته احتماله، وربما قصد بانتحاره إرضاء حاسة وهمية، هي قهر الحبيب إذا كان يعتقد أن حبه شاغلٌ مكانًا من قلبه، أو كان يعتقد فيه وجود عاطفة الشفقة فقط، وقلَّما ينتحر لمعشوقٍ يعتقد فيه الخلو من هاتَين العاطفتين أصلًا. وفي معاكسات الأهل يقصد تكديرهم، كأنه ينتقم لنفسه منهم على عدم مُجاراتهم له في أهوائه. وأما الذي يبذل حياته صونًا لشرف نفسه، فيقصد بذلك ترضيتَين؛ إحداهما تخليص وجدانه من عذاب ما تجلبه عليه الإهانة. والثانية تلطيف هذه الإهانة بما يظن أنه يُهيئ لها من الأعذار لدى الجمهور.
والمُنتحر ليس بمجنون حقيقةً، كما ربما يظن البعض، لأنه في انتحاره يعقل؛ أي إنه يفعل أفعالًا مغيَّاةً لا تخرج كلها عن حب الذات. فإذا بذل حياته المادية فلاعتقاده أن الحياة الأدبية أفضل، أو لأن عذابه تجاوز حد طاقته، أو لأسبابٍ أخرى ذاتية. والدافع له إلى ذلك ضِيق في العقل وصِغر في النفس للأسباب الاجتماعية السابق ذكرها. ولو أُصلحت تربيته على المبادئ المَتينة، لعلم أن الشرف الحقيقي لا يكون بقتل النفس، ولو بعد زلة كما يظن من لا حزم عنده، وتُساعده التربية الاجتماعية، بل بمُصادمة الطوارئ بعزمٍ ثابت وجأشٍ قوي، لعله يستطيع، ولو في المستقبل البعيد، أن يُعوض على من أضاع عليه متاعه، وإلا فيكون قد جاهد جهاد الأبطال، ولم يمُت موت الأنذال. وإن الشهامة التي يزعم الأحداث أنهم يأتونها بانتحارهم لمعشوقٍ زاد دلالًا، أو قهرًا لأبوَين لم يُنيلاهم منالًا؛ ليست شهامة، بل الشهامة في تلقِّي الصعوبات بصدرٍ رحب وقلبٍ لا يهاب؛ للتغلب عليها.
وأما الانتحار الذي يكون سببه الفقر، فما الباعث عليه إلا ضِيق المذاهب على الإنسان، فتقلُّ حيلته في تحصيل رزقه، وفطرته لا تُساعده على ما عدَّته الهيئة الاجتماعية جنايات. فهو لا يجد من نفسه ميلًا للسرقة أو اللصوصية، فتصغر همته بإزاء الصعوبات الكثيرة، فيطلب النجاة من الذل بالموت.
والانتحار هنا يكون غالبًا مقرونًا بالقتل، فيقتل الرجل معه امرأته وأولاده، كأنه يريد أن يُنجيهم ممَّا هو واقع فيه، مُعتقدًا أنهم يشعرون شعوره في مركزه. وربما حملته محبة نفسه عن شعورٍ مُبهَم على ألا يدع نفسه يترك هذه الحياة من دون شريك له في مُصابه، فيعمد إلى قتل من هم أقرب إليه، وقتلهم أسهل عليه. والمسئول في هذه الجناية الفظيعة نظامات الهيئة الاجتماعية بلا ريب. وربما وضعنا مقالة في فرصةٍ أخرى أبنَّا فيها كيف يمكن مُلافاة نقص هذه النظامات بما تقلُّ معه مصائب الإنسان، ولا يخرج عن حد الإمكان في هذا الزمان، حتى لا يظن قصار النظر أننا نهيم في الأوهام، وأن مباحثنا أضغاث أحلام، وحتى يتضح لهم أنهم هم أنفسهم ليسوا في يقظة بل في منام.