المقالة السابعة والعشرون

الاشتراكية١

قرأتُ في المقطم شذراتٍ مختلفةً في الاشتراكية، بعضها مُناقض للآخر بحسب نظر كُتابها فيها.

الناس ينتقدون الاشتراكية كما يفهمونها، لا كما هي أو كما يجب أن تكون، شأنهم في أكثر المسائل الاجتماعية.

الاشتراكية، أو كما سميتها الاجتماعية أيضًا، قلَّما نظر الكُتاب فيها، حتى زعماؤها أنفسهم، من الوجه الوحيد الذي يجب أن يُنظَر إليها؛ ولهذا كثرت الآراء فيها، وكثر الاختلاف بينهم، وكثر انتقادها أيضًا؛ لأن الجميع نظروا فيها إلى المسائل الفرعية، ولم ينظروا إلى الأصول التي يجب أن تُقام عليها الفروع.

الاشتراكية كما يجب أن تكون ليست مذهبًا فلسفيًّا اجتماعيًّا حتى يجوز لكل واحد أن ينظر إليها كما يشاء، أو كما يدلُّه فهمه.

الاشتراكية نتيجةٌ لازمة لمقدماتٍ ثابتة لا بد من الوصول إليها، ولو بعدَ تذبذُبٍ طويل.

الاشتراكية كالاجتماع نفسه ذاتُ نواميسَ طبيعيةٍ تدعو إليها، ولكن الاجتماع نفسه هل يبحث فيه الباحثون اليوم جميعهم بحثًا طبيعيًّا، ما خلا كبار الطبيعيين الذين يُعدُّون على الأصابع؟ هل ينظر العمرانيون إلى الاجتماع نظرًا طبيعيًّا بحتًا؟

الباحثون في الاشتراكية وفي الاجتماع نفسه أكثرهم من أصحاب النظر أو من قصاره في تاريخ الاجتماع الطبيعي.

متى اتصل الناس في مباحثهم الاجتماعية والفلسفية إلى رد كل شيء إلى هذا الأصل الطبيعي، سهُل تفاهُمهم وقلَّ خلافهم، وأسرعوا الخُطى في ارتقائهم.

مضى على الناس عصورٌ تضيع أصولها في أقصى ظلمات التاريخ قبل أن يستقرُّوا في مباحثهم على هذا المبدأ الطبيعي. هذا المبدأ الطبيعي هو بالحقيقة ابن أمس؛ لأنه منذ أمس فقط أصبح من العلوم الثابتة، وكم يلزمه من الزمان حتى يهدم علوم الناس النظرية! ومع ذلك فهو قد زعزعها بما لم يتسنَّ لعصرٍ قبله أن يفعله بالقوة التي زعزعها بها.

العلوم النظرية ليست نظرية بالحقيقة إلا بالنسبة إلى كَوْنها أُقيمت واتسعت على مبادئَ اختباريةٍ قليلة ومغلوطة غالبًا، وإلا فليس هناك فلسفةٌ نظريةٌ محضة، حتى ولا الدينية نفسها.

الفرق بين الفلسفة النظرية والحقيقية أو العملية هي أن هذه بُنيت على معرفةٍ أتمَّ بالطبيعة، واختبارٍ أعمَّ في ارتباطها بعضها ببعض، والفلسفة النظرية جهلت ذلك أو تجاهلته، وخصوصًا أهملت هذا الرابط. وسوف تلتقيان في نقطةٍ واحدة تردُّهما إلى الطبيعة؛ فالمُصلِح الطبيعي ليس حالمًا أو واهمًا أو مُتمنيًا، وإذا خانه علمه أحيانًا كثيرة فلا ينفي ذلك صدق إدراكه الذي يدلُّه عليه أن في الإمكان أصلح ممَّا كان.

الاشتراكية لا تضرُّ الاجتماع؛ لأنها تطلب للاجتماع ما تطلبه نواميسه نفسها، بل بالضد من ذلك تنفعه؛ إذ تؤيِّد الفضيلة، وتصدُّ عن الرذيلة، باتباعها سُبُل الاجتماع القويمة؛ لأن الفضيلة ليست إلا انطباق أعمال الاجتماع على نواميس الاجتماع، والرذيلة مخالفة هذه النواميس.

الناموسان العظيمان اللذان يسُوسان الاجتماع، هما تكافؤ القوى في العمران، وهذا يُوجب التنازع؛ والثاني تكافل العمران بتوفير قواه، وهذا يُوجب استخدامها كلها لمنفعته.

فالاشتراكية لا تطلب سوى أن تسير في الاجتماع على هذَين الناموسين، بحيث لا يضيع فيه شيء من قواه يمكن صرفه إلى منفعته.

لا شك أن الاشتراكية إذا أريد بها الاشتراك بالمنفعة من غير الاشتراك في العمل تكون حلمًا باردًا، وإذا كانت الاشتراك في هذه المنافع على غير نسبة الاشتراك في العمل، فلا شك أنها تكون جورًا ومُميتة لكل اجتهاد، ولكن إذا كانت الاشتراك في العمل والاشتراك في المنفعة على نسبة هذا العمل، ألَا تكون حينئذٍ عدلًا وأكبرَ حاثٍّ على الاجتهاد؟

ما قولك في رجلٍ ينال أجرًا معلومًا على عمله، وآخر ينال فوق هذا الأجر كذا في المائة من الأرباح على نسبة العمل وأهميته، فأيهما يجدُّ أكثر من الآخر؟ وهل تقلُّ أرباح رأس المال بذلك؟

ما قولك في رجل به كفاءة لأن يأتي أعمالًا نافعةً جمَّة، ولكنه ينقصه شيءٌ إداري كمعرفة وجود العمل مثلًا. وهذا ليس بالشيء النادر في الاجتماع؛ فمثل هذا الرجل المهم قد يموت جوعًا إذا تُرك وشأنه، وهذا أقل الشرور منه لولا أنه يخشى أن ينقلب عضوًا شريرًا في الاجتماع كثير الضرر، كما هو الغالب. فلو كان في الاجتماع نظامٌ يعرف كيف يستفيد من مثل هذا الرجل وينفعه معًا، ألَا يكون ذلك أصلح لحال الاجتماع؟

ما قولك في نظامٍ اجتماعي يهتمُّ بشئون الأفراد، فيُنشئ إداراتٍ تهتمُّ بوجود أعمال لكل العمال كلٌّ حسب طاقته — وهذا ليس من الأحلام — ويُقيم المستشفيات على نسبة السكان، ويُوفِّر وجود الماء للجميع على حدٍّ سوى، ويُقدِّم الصابون والكساء الأول البسيط لكل مُعوِز (لأن المُوسِر لا يقبل ذلك) تيسيرًا للنظافة التي هي أول دعائم الصحة؟ فهل أفراد الاجتماع الذين يتكفَّلون بذلك كلٌّ على حسب طاقته، يغبنون من عملهم هذا؟ أفلا تَرْبو أرباحهم عمومًا على خسارتهم ماديًّا وصحيًّا وأدبيًّا من توفير وسائل العمل للعمال؟ ألا يزيد هناؤهم في صحتهم وصفاؤهم في راحتهم؟ ألا يقلُّ التذمر في الاجتماع حينئذٍ؟ أوَلا يصبح الاجتهاد عنوان الفضل الصحيح، ويكون ذلك أكبرَ حاثٍّ على العمل والجد؟ وهذا ليس حلمًا إلا في رءوس الذين تستثقل طباعهم الخروج عن المألوف، وهذا النظام ولا ريب نظام الاجتماع المستقبل.

وما قولك أيضًا في نظام المحاكم عمومًا كما هي اليوم؟ فكأن واضعها ظن أن الإنسان ما خُلِق إلا لكي يقضي عمره كله في دعوى تعرض له في حياته، كأن ليس له شغلٌ آخر، وما هي النتيجة؟ إن الدعوى الواحدة تؤجَّل من شهر إلى آخر ومن سنة إلى أخرى، حتى ينقضي عمر صاحبها فيها، وربما تركها ميراثًا وحيدًا لأولاده، وبئس الميراث تُصرَف فيه قوى الإنسان إلى جهةٍ واحدة، وأية جهة!

ألا ترى أن المحاكم لو كانت موزَّعة في كل مدينة بل في كل بلد على نسبة سكانه، بحيث إن دعاويهم تنقضي في أقصر الأوقات لهم أو عليهم، أمَا كان ذلك أربح حتى للخاسرين أنفسهم؟ أوليس هذا تبذيرًا قبيحًا في هذه القوى، ومنعها عن الانصراف إلى شئونٍ أخرى أنفع للاجتماع، أم ذلك من الأحلام التي يحلم بها حالِمو الاجتماع أيضًا؟

الاجتماع كما كان في القديم وكما لا يزال حتى اليوم ليس نظامًا طبيعيًّا، وكل موضوع ومشروع فيه مُخالف لهذا النظام، ولكنه بحكم نواميسه الطبيعية التي هي أقوى من كل ناموس وضعي سائرٌ بالضرورة إلى هذا النظام، وإنما هو سائر إليه بعد اضطرابات وثورات وقلاقل قد تكون فيها مئات السنين كأمس الدابر بسبب نظاماته الموضوعة، ولكن هذا السير قد يُسرِع أيضًا بناءً على ناموس تجمُّع القوى. وهنا يظهر فضل عقل الإنسان؛ فكلما ارتقى الإنسان وزاد اختباره استخدم هذا الاختبار لتقصير هذه المدة.

ولا ريب أن القرن الماضي هو الذي امتاز باكتشاف سر الاجتماع وتقرير قضايا العلوم الطبيعية، وهو الذي امتاز أيضًا بوضع الفلسفة العملية على قواعد علمية متينة، وسيكون تأثير هذه الفلسفة عظيمًا في إصلاح الاجتماع، وستَقيه من التذبذب الكثير، وتمنعه من التقهقر، وتدفعه في الارتقاء بسرعةٍ تتمشَّى فيه على نسبةٍ حسابية؛ لأن القضايا القائمة عليها هذه الفلسفة اليوم ثابتة وفي حكم القضايا الرياضية نفسها، والاضطرابات التي نُشاهدها اليوم ليست إلا لنفض الغبار القديم.

١  نُشرت في المقطم سنة ١٩٠٨ تعليقًا على كلام في ذلك ورد فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤