المقالة الثامنة والعشرون
أيها الوطن الأغر (المصري)
تمنيتَ عليَّ — وما كنت حالمًا — أن أؤلف حزبًا اشتراكيًّا يزجُّ بنفسه فيما بين الأحزاب في هذه البلاد، فصدعتُ بالأمر، ودعوت أُولي العقل والحِجى والنُّهى والعلم والمعرفة والاختبار، فأنشئوا في الحال الحزب المذكور، وقرَّروا بروغرامه. وهذا أهم ما جاء فيه من الكليات:
القسم الأول: تقويضيٌّ تمهيدي
- أولًا: أن تُجمَع كل الكتب السقيمة التي يضيع أولها في آخرها، والتي يُضيِّع الإنسان عمره فيها، وهو يقرأ ولا يفهم، وتُوضَع على ظهور حمَلتها، ويُشحَن الجميع في بالونٍ يسير بهم إلى القطب الشمالي؛ لعلهم يؤلِّفون هناك مملكةً يكون بردها على نسبةٍ واحدة بين ذلك الإقليم وتعاليمهم.
- ثانيًا: أن تُلغى مدرسة الحقوق، وتُمزَّق كتب القوانين وكتب الاقتصاد السياسي، وسائر العلوم الكلامية.
- ثالثًا: أن يُوقَف تنفيذ بروغرام الجامعة كما قرَّروه؛ لئلَّا تزيد معاهد العلم النظرية واحدًا فتزيد البلوى.
- رابعًا: أن تُلغى المحاكم المُختلطة؛ لأن شرها مركَّب من أساسها ومن نظامها، فلا يُطلُّ علينا قضاتها من سماء أولمبهم حتى يعودوا إليه مُسرِعين، ولا يزالون هكذا بين لقاء ووداع، وتأجيل في الدعاوى، وتأخير إلى أن تنقضي أعمار أصحابها. وهل تهمُّهم مصالح الجماهير أكثر ممَّا كانت تهمُّ حياة الناس ذلك الحاكم المصري الذي يُحكى عنه أنه قال ذات يوم العبارة الآتية: «وهل نحن استلمناهم بعدد؟» استدراكًا لخطأٍ ذهبت فيه نفوسٌ كثيرة ظلمًا.
- خامسًا: أن تُلغى المحاكم كافةً على صورتها الحاضرة، ما دام مبدؤها ذلك العلم الاقتصادي الذي يُعلِّم أن تبذير قوى الاجتماع من دعائم ارتقائه.
- سادسًا: أن تُلغى شركة احتكار المياه، وسائر الشركات الاحتكارية التي تمسُّ المنافع العمومية.
- سابعًا: أن تُلغى الجرائد السياسية التخريفية، وأن يُناقش أصحابها الحساب على كل كلمة تغرير وتضليل من مثل قولهم: «مسلم وقبطي ودخيل ونزيل.» حتى يُبرزوا الحجة التي بيدهم والموقَّعة بختم محكمة السماء، والتي تُخوِّلهم حق الاستئثار بملك الله دون سواهم من عباده، وأن يُجلَد أصحابها جلدة على كل كلمة سخافة وقلة عقل. وقرَّروا أن الجَلد يكون بخيوطٍ ناعمة جدًّا ومن يد طفل، واعتبروا أن هذا العقاب كافٍ، وربما لا يقوَون عليه لكثرة التكرار.
القسم الثاني: إنشائيٌّ بنائي
- أولًا: أن ينشأ معهدٌ علميٌّ كبير، يُعلَّم فيه علم نُشوء الأرض والأجرام السماوية، وعلم الأحداث الجوية والأقاليم واختلافها وتأثيرها في الإنسان وفي العمران … إلخ.
- ثانيًا: أن يُقام على أنقاض مدرسة الحقوق مدرسةٌ للكيمياء والطبيعيات والميكانيكيات والرياضيات وعلم الأفلاك.
- ثالثًا: أن تُنشأ الجامعة لتعليم التاريخ الطبيعي والاجتماع الطبيعي والاقتصاد الطبيعي، وتطبيق ذلك على الإنسان والطب وسائر العلوم الحيوية والأنثروبولوجية.
- رابعًا: أن تُنشأ هيئاتٌ قضائية على غاية البساطة في كل مدينة وفي كل بلدة على نسبة سكانها، بحيث لا يتأخر الفصل في الدعاوى مهما كانت مهمة (وحينئذٍ لا تبلغ هذه الأهمية) إلا أيامًا معلومة؛ حرصًا على مصلحة المُتداعين، وعلى مصلحة الاجتماع نفسه؛ لئلَّا ينمو فيهم حب التداعي إلى صرف قواهم كلها في هذه الجهة، فيخسر الاجتماع بهم بقدر ما تزيد فيهم هذه الملكة.
- خامسًا: أن يتولَّى الاجتماع نفسه توزيع المنافع العمومية الضرورية، من مثل الماء مثلًا، مجانًا على عموم الناس.
- سادسًا: أن تُنشأ كتاتيب في كل مدينة وفي كل حي وفي كل قرية على نسبة السكان، يُعلَّم فيها الأطفال مبادئ العلوم الطبيعية البسيطة، يفهمون منها طبائع الماء والهواء والجماد والنبات والحيوان، ويُوضَع لهم شبه تعليم طبيعي يعلمون منه حقيقة الإنسان ومركزه في الأرض.
- سابعًا: أن تُنشأ جرائد تُعلِّم الناس كيف يجب عليهم أن يكونوا نظافًا في أجسامهم، في ملابسهم، في مآكلهم، في مساكنهم، وخصوصًا في عقولهم. وتُعلِّمهم أن كل نظام حولهم في الأرض والسماء، في الجماد والنبات والحيوان، خاضعٌ لنواميسَ طبيعيةٍ لا تُزعزع، وأن سيرهم على هذه النواميس يَقيهم عثراتٍ كثيرةً في معايشهم صحيًّا وماديًّا وأدبيًّا، وأن آدابهم يجب أن تكون مُستفادة من آداب الطبيعة نفسها. يُعلَّمون كل ذلك لكي يعلموا أن كل عضو في الاجتماع له حقوق وعليه واجبات، وأن الاشتراك في المنفعة يتحتَّم له على قدر اشتراكه في العمل، وأن المكافأة إنما هي للاجتهاد لا للصنيعة، وحينئذٍ يظهر الفضل الصحيح، وينتفي الفضل الكاذب.
هذا أهمُّ ما جاء في هذا البروغرام، وسأُوافيكم بما يجدُّ من هذا القبيل.
أرأيت الآن يا صاحبي كيف أن المُجون يصير جدًّا؟ وكيف أن الأحلام تصير حقائق؟ وكيف أن التي يُسمُّونها اليوم يقظة هي الحلم بعينه؟ ولكنه يا للأسف حلمٌ وسِخ.