المقالة التاسعة والعشرون
من دقَّق النظر في تاريخ الاجتماع البشري رأى أن نصيب الأمم من تقدُّم ووقوف وارتقاء وانحطاط وانتشار وانقراض، يتوقف على عواملَ طبيعيةٍ يضمُّها ناموسٌ عام، يُسمَّى «تنازع البقاء»، يؤدي ضرورةً إلى ناموسٍ آخر، يُسمَّى «الانتخاب الطبيعي». فما من أمةٍ قامت أو انقرضت، ارتقت أو انحطَّت، إلا كانت عوامل هذَين الناموسين هي القاضية في ذلك. فإن كانت الأرض على سعتها قد ضاقت بالإنسان الأول، وهو اثنان على قول البعض، حتى قام الواحد على الآخر وقتله، أو كان طوائف مُتفرقة على سطحها قامت على بعضها حتى ذل البعض وفاز البعض الآخر، على قول الآخرين؛ فما ذلك إلا لأن الإنسان كسائر الأحياء لا يستطيع أن يفرَّ من حكم هذَين الناموسين؛ فالتنازع سنة هذا الكون، والانتخاب نتيجة هذا التنازع. هذا شأن الإنسان في العمران منذ أول عهده، وما زال هذا شأنه حتى اليوم، ولن يزال كذلك حتى المُنتهى.
والحكومات مظهر من مظاهر الأمة، وهي تختلف باختلاف الأمم، فكلما ارتقت أمة في العمارة ارتقت حكومتها كذلك، وهو معنى قوله: «وكما تكونون يُولَّى عليكم.» فلا يُنتظر أن تكون الحكومة أصلح من الأمة التي نشأت فيها، بل لا تُلام الحكومة إذا داست بأخمصها رقاب الرعية، وهل تُداس رقاب تأبى أن تُداس؟ وإن من ينتظر الإصلاح عفوًا من أية حكومة كانت يجهل لا شك تاريخ نشوء الأمم في العمران، وها التاريخ أمامنا يُعلمنا أن الحكومات في كل زمان ومكان هي آخِر من يُذعِن للإصلاح إذ لم تقم العقبات في سبيله. وهل بلغت أمم أوروبا مبلغها من التمدن اليوم بفضل حكوماتها؟ لا لعمري، إنما بلغته ولا تزال مُجدَّة فيه بفضل تألُّبها واتحاد كلمتها، ورفع الرءوس المُطأطأة، وتقويم الظهور المقوَّسة، والمشي على الأقدام لا الزحف على الرُّكب، وربط حكوماتها كما تُربط القرناء، وإتلالها كما تُتلُّ السائمة، وجرِّها وراءها قوةً واقتدارًا. والأمم التي لم تستطع ذلك لعدم توفُّر أسباب القوة فيها عفاها الدهر، واستغرقها التنازع، ولم يُبقِ لها إلا آثارًا، ولم يُبقِ لها أثرًا، وتركها خبرًا مسطورًا.
•••
وأسباب القوة في العمران كثيرة، وتُردُّ إلى أربعة تُعدُّ دعائم؛ اثنان طبيعيان، وهما العدد والجنس؛ واثنان أدبيان، وهما الدين والعلم. ولا ريب أن كل أمة كثُر عديدها ولم يشُب جنسَها اختلاط، وتوحَّد دينها، وبلغ العلم فيها أقصى مبلغه في عصره؛ بلغت من القوة مبلغًا حقَّق لها الفوز في ميدان التنازع، والضد بالضد؛ فوحدة الجنس ووحدة الدين لازمتان لاتحاد الكلمة، وإلا كثر الانشقاق، وهو من دواعي الضعف. والعلم ضروري جدًّا لإتقان الصناعة والزراعة وسائر الفنون التي تكثر معها الثروة، والثروة عصب الاجتماع كما يقول الإفرنج، وزِدْ على ذلك أن العلم بإتقانه الصناعة يتفنَّن باختراع الآلات التي تُكسِب المنَعة في الدفاع وتحقيق الفوز في المُهاجمة، وهو أعظم العوامل لتقليل الانشقاقات الناشئة عن الأديان. فإذا عُلم ذلك لم يصعب علينا الحكم على مركز كل أمة في الحال، وما هو مقضيٌّ لها أو عليها في الاستقبال.
•••
فالأمة العثمانية — وكلامنا فيها — إذا نظرنا إليها من هذا القبيل وجدنا جميع الأسباب السلبية مُتوفرة فيها؛ ممَّا يجعل مركزها في الحاضر حرجًا، ومستقبلها مشكوكًا فيه. ولا نقول إن صعوبة مركزها من عددها؛ فإن عددها وإن لم يكن كثيرًا جدًّا إلا أنه ليس بالقليل، فلا يصح أن يكون سبب الضعف، ولكنها مؤلَّفة من أجناسٍ مختلفة، فمنها التركي والعربي والأرمني والكردي والبلغاري واليوناني … إلخ؛ وأديانٍ مختلفة، فمنها المسلم والمسيحي واليهودي والدرزي والمتوالي، وتحت كل منها قبائل وطوائف؛ ممَّا يجعل اتحاد الكلمة بينها في حكم المستحيل، ولا سيَّما إذا اعتبرنا حالة العلم فيها، فإنه يكاد يكون شيئًا لا يُذكَر. والقسم الأعظم من الأمة في جهلٍ عميق، ولو كان العلم مُنتشرًا فيها انتشارًا كليًّا لقلَّت جدًّا الانشقاقات الناشئة عن اختلاف الأديان والشعوب، وكبر الأمل باتحاد كلمتها، وتوسَّمنا خيرًا في مستقبلها، وتزيد قيمة ذلك كله اعتبارًا في نظر الباحث إذا قِسناها بالأمم المُجاورة التي هي معها، بحكم ناموس الاجتماع، في تنازعٍ دائم. فأي فرق بين معَدَّات الأمة العثمانية من هذا القبيل ومعَدَّات باقي الأمم، وهي حقائق مُحزنة لا يسع المؤرخَ الصادق إلا الاعترافُ بها؟
وإذا كان هذا حالَ الأمة العثمانية، فهل تستطيع المُقاومةَ زمانًا طويلًا والتنازع بينها وبين الأمم الأخرى في حد حِدَّته ومعظم شدَّته، وهي بعيدة عن التكافؤ والتفاضل؟ إنما هو عليها لا لها، وإذا كانت لا تستطيع المُقاومة، فما هو مصيرها يا تُرى؟ وهل يُرجى نهوضها؟ وبأي الطُّرق يكون ذلك؟
•••
يعلم الباحثون في طبائع العمران أن كل أمة مهما كان أمرها، مُرتقيةً كانت أم مُنحطة، لا بد أن تتنازعها قوَّتان غريزيتان فيها؛ إحداهما تركن إلى المحافظة على الحالة الراهنة، والأخرى تميل إلى الطفرة عنها. واصطلح السياسيون على أن يُطلِقوا على الأولى اسم حزب المُحافظين، وعلى الثانية اسم حزب الأحرار. ويؤلَّف الحزب الأول من الهيئة الحاكمة ومن تابعها من الشعب، والثاني ينشأ في الهيئة المحكومة، ويكون في أول الأمر مؤلَّفًا من أفرادٍ قليلين. وهذان الحزبان يختلفان قوةً بحسب حال الأمة من العلم، فهما مُتكافئان غالبًا في الأمم المُتهذبة، ومُتفاضلان في الأمم التي يكون العلم فيها غير موزَّع على السواء، ويكون الفوز كله للمُحافظين، أي للحكومة، في الأمم المُستغرقة في الجهل، حتى قد لا يُشعر بوجود حزب آخر سواه. ولقد مضت القرون الطوال، ولا يُسمع في الأمة العثمانية صوتٌ غير صوت الحكومة، وربما لم يُسمع سواه زمانًا طويلًا أيضًا لقلة انتشار العلم في الأمة، لولا أن أسباب التمدن الأوروبي انتشرت انتشارًا عظيمًا في هذا العصر، بحيث لم يعد في الإمكان إقامة الحواجز ضدها ومنع تأثيرها، إن لم يكن في العموم ففي الأفراد.
وما يُسمَّى اليوم حزب تركيا الفتاة دليلٌ على أن هذا الحزب الذي بقي صوته خافتًا لقلة عدده وضعف عدته، قد دبَّت فيه روح الحياة حتى صار له صوتٌ يُسمع وطبلٌ يُقرع. وكنت أودُّ أن أتحاشى الكلام في هذا الحزب لولا أن كثُر فيه اللغط، وركب فيه كل كاتب مركبًا يسير به على هواه، حتى كثر فيه الضالون وقلَّ المهتدون، وظن البعض أنه أُلعوبة كأبواق الصابون؛ تملؤها الأنفاس، فإذا انفجرت لم يكن من ورائها نار، حتى ولا هواءٌ يزيد النار اشتعالًا إذا أصابت نارًا أطفأتها أو حياةً أماتتها. ويحقُّ له أن يظن هذا الظن إذا أخذ الأشياء بظواهرها، وقاس الحقيقة على المجاز، وخلط بينه وبين بعض الذين يُكثرون من الجلبة والصياح. فإذا برق الذهب ولاح، وهطل غيث الدينار الوضَّاح؛ تراكضوا إلى المرح، والسابق السابق منهم الجواد. فهؤلاء ليسوا حزب تركيا الفتاة، وإنما هم حزب المارقين المُنافقين الذين اتخذوا اسم هذا الحزب وسيلة لشفاء حزازات في الصدور، وقضاء لُبانات في النفوس. وهم بعملهم هذا قد جاروا على دعوة هذا الحزب بجرأتهم المُتجاوزة الحدَّ في الخصام، وإحجامهم على أيسر سبيل عند نيل المرام، ولكنه إذا تدبَّر الأمور تدبُّر العاقل الخبير علِم أن هذا الحزب موجودٌ حقيقة؛ فهو مؤلَّف من كل عاقل هذَّبه العلم وعلَّمه الاختبار، ودرس الأمم درْسَ المُقابلة، وعلم أسباب القوة في العمران، فرآها مُتوفرة في الأمم الناجحة فحمدها، وغير مُتوفرة في أمته فأسف عليها. والعقلاء في الأمة كثيرون.
فالحكومة تُخطئ إذا كانت تظن أن هذا الحزب قاصر على بعض الأفراد الذين ركبوا متن الحدة في المقاومة، وجانب منهم غير مُخلِص في الدعوة، كما تبيَّن لنا. وتُخطئ أكثر إذا كانت تظن أنها باسترضاء هذا البعض الساخط تتمكن من مُلاشاة هذا الحزب، فالحزب نشوءه في الاجتماع ليس عارضًا حتى يسهل استئصاله، بل هو نشوءٌ طبيعيٌّ جارٍ على مُقتضى نواميسَ طبيعية، ولن ترى لنواميس الطبيعة تحويلًا. وإن كانت تظن أن استرضاء هذا البعض يُضعف حجة هذا الحزب عند الآخرين من الأمة الذين لا أفكار لهم إلا ما يفتكره لهم الغير، حتى لو قام غيرهم وحذا حذوهم لم يُصدقه الناس؛ فربما كان ظنها مُصيبًا بعض الإصابة، وإنما ربحها من هذا الجانب لا يُوازي خسارتها من الجانب الآخر؛ إذ ينتقض عليها المُتزلفون لها عن غير اقتناع، وهم الأكثر؛ لأنهم يرون أن سخط غيرهم كان أدعى لاستدرار النعمة من تزلُّفهم، فينقلبون ساخطين. ومهما يكن من ذلك كله، فما هو إلا أمورٌ عارضة لا تؤثِّر شيئًا في حقيقة الدعوة نفسها.
•••
ولكن هل يفوز حزب تركيا الفتاة؟ فهذا هو الأمر الجوهري الذي يهمُّ كلَّ عثماني أن يعلمه. وللجواب على ذلك لا بد لنا من إلقاء النظر إلى الأمة عمومًا، وما تدَّخره من المعدَّات، وما يكتنفها من الموانع. فإذا نظرنا إلى الدعوة من حيث كَوْنها صفة من صفات الاجتماع نقول إن الفوز محقَّق له؛ لأن الذي يُدركه البعض لا بد أن ينتشر على تمادي الزمان، ويعمَّ الأمة كلها لانتشار العلم الذي لا بد منه. وإذا انتشر العلم وكثر عدد المُتهذبين من الأمة حتى أصبح العدد الأهم، سقطت الحواجز التي تفصل بين عناصر الأمة المختلفة، وخصوصًا الترفض الديني، فاجتمعت كلمتها وقوِيت حجتها.
ولكن الذي يروع عقلاءَ هذا الحزب طولُ الزمان اللازم لوصول الأمة إلى هذه الغاية، وهو يخشى قبل ذلك أن يتحقق فيها قول المثل: «قبل أن يصل الدواء من العراق، يكون العليل قد فارق.» وهذا هو السبب الذي يحمل القسم الأعظم من عقلاء الأمة على أن ييئسوا من نهوض الأمة إلى إصلاح حالها مع حفظ استقلالها؛ لشدة التنازع الذي لا تنفكُّ عوامله تعمل فيها من خارج، وهي لا قِبل لها على المُقاومة. فالأمة العثمانية في نظرهم مقضيٌّ عليها بحكم النواميس الاجتماعية، التي هي في صرامتها كالنواميس الطبيعية، بالتشتت والانفصال؛ فقد أدركتها الشيخوخة، والمريض قد أشرف على الموت، فلا يقيها دهاء تركيا العجوز ولا تخبُّط تركيا الفتاة، دهاء وتخبُّط لا يفيدان إلا تعجيل الانحلال بزيادة الاختلال.