المقالة الثالثة
لم يَرِد على الإنسان سؤال أصعبُ من سؤالهِ: ما هو الإنسان؟ فإن هذا السؤال سُئل منذ نَشَأت الفلسفة، واشتغل به جميع الفلاسفة، ومع ذلك بقي زمانًا طويلًا ولم يتحوَّل عما تركه عليهِ مؤسِّسَا المدرستين القديمتين طالس وفيثاغورس. وما ذلك إلا لقيام الإنسان حكَمًا في مسألةٍ لا يَسلم فيها من الغرض مع انقياده في أحكامه إلى التصوُّرات الشعرية والأفكار الوهمية والمبادئ الخرافية؛ ولذلك لم يتيسر البحث عن الإنسان بحثًا علميًّا حتى زعزعت العلومُ الطبيعية هذه المبادئَ الفلسفية في الأعصُر المتأخرة، فانحصر البحث في هذه المسألة في علمَي الأنثروبولوجية؛ أي: علم الإنسان. والسوسيولوجية. أي: علم الاجتماع الإنساني.
وعلى ذلك فعوضًا عن أن يصعد الإنسان بالخيال إلى الطبقات السماوية؛ ليبحث عن أصل الإنسان، فإنه ينظر إليه في المكان الذي ينشأ فيه وينمو ويموت، ولا ينتقل إلى غيره من الأبحاث الطبيعية إلا عند الضرورة لارتباط العلوم الطبيعية بعضها ببعض ارتباطًا شديدًا، بحيث يتعذر البحث في علمٍ منها بدون الاستناد إلى سابقه في سلَّم العلوم. فالسوسيولوجية لما كانت أُصولها في علم البيولوجية؛ أي: علم الحياة، كان اعتناءُ علماءِ عصرنا بدرس فروع البيولوجية لتأسيس علم الإنسان لا يماثله اعتناءٌ. ثم إن معرفة حقيقة هذا العلم متوقفة أيضًا على أمر مهم من متعلقات علم الفلك، وهذا الأمر هو مبادرة الاعتدالين، وهو وإن كان مذكورًا في جميع كتب الهيئة منذ هيبرخوس إلا أنَّه لم يكن يظن أحدٌ قبل الآن أن له تعلقًا بارتقاء الإنسان، وأما الآن فيعتبر عند جمهور الجيولوجيين أنه سبب حصول الأدوار الجليدية في أوقات معينة.
وقد ظهر من الأبحاث المختلفة أن بين الإنسان وبين الأدوار الجليدية نسبةً شديدةً، بحيث تُؤَثِّر في نموه وتمدنه، وبهذا الاعتبار تنبئنا عن ماضيه ومستقبله بأمور كانت تبقى مجهولةً لولا ذلك؛ ولهذا لا بد قبل الشروع في هذا البحث من التكلُّم قليلًا عن الأدوار الجليدية على ما يذهب إليه جمهورُ الجيولوجيين تمهيدًا للموضوع فنقول: رأى الجيولوجيون في نقبهم بعض الجبال أَنَّ سطح الصخر الذي يؤلف جانب الجبل أملس وعليهِ ثلوم متوازية كأنها مصنوعة بالإزميل (انظر وجه ١٩٥ من السنة الثانية)، ورأوا أيضًا حجارة هائلة، بعضها مبدَّد في منحنى الجبل من سفحه إلى قمته وبعضها بعيدٌ عنه في السهول المجاورة، وقد لاحظوا، أيضًا، على مسير هذه الحجارة خطوطًا متقطعة ممتدة من محل استقرارها إلى قمة الجبل، فحكموا أن الحجارة المذكورة قد انفصلت من الجبل بقوةٍ ما واستقرت على أبعادٍ مختلفة بحسب القوة التي أَبْعَدَتْهَا، وأن الخطوط آثار مرورها على الأرض في انحدارها، وأول ما شاهدوا هذه الحجارة الهائلة والثلوم والخطوط في جبال ألبا.
ثم رأوها في جبالٍ أخرى في شمالي أوروبا، وظهر لهم أنها تزداد وضوحًا كلما تقدموا إلى الشمال، وقد توهموا أنها تتجه دائمًا من الشمال إلى الجنوب فقالوا: إن سببها ارتفاع مياه الأوقيانوس المتجمد الشمالي بغتةً، واندفاع الجليد منه قطعًا هائلةً على الأرض بقوة عنيفة ساقت أمامها ما اعترضها من الحجارة وغيرها، وثلمت سطوح الصخور الملساء، وهذا هو مذهب الطوفان، وعَضَّد هذا المذهب كوفيه، الطبيعي الشهير وبقي معوِّلًا عليه إلى سنة ١٨٣٠، وحينئذٍ قام لَيل الجيولوجي الإنكليزي فناقضه قائلًا: إن الظواهر الطبيعية الحادثة على سطح الأرض ليست نتيجة انقلابات فجائية لا تُدرك أسبابها، بل هي حادثةٌ عن عواملَ طبيعية تتم أمامنا ببطء شيئًا فشيئًا، وإن هذه العوامل المتناقضة النتائج مَرْجِعُها كلها إلى القوات النارية التي ترفع سطح الأرض، وإلى فعل الهواء الذي يفتت الصخور ويعرِّي الجبال وينقل التراب ويملأُ به الأودية. ثم تحقق الجيولوجيون، خلافًا لما كانوا توهموهُ، أن اتجاه الخطوط من الشمال إلى الجنوب ليس مطردًا، بل يتبع مسير الماءِ كيف كان مجراهُ، فيكون، أيضًا، من الجنوب إلى الشمال كما في جبال البرينه، وهذا الاتجاه لا يصح أن يكون حادثًا عن طغيان الأبحر الشمالية.
فتحوَّل فكر العلماءِ حينئذٍ للبحث عن أسبابٍ أخرى طبيعية، فتحقق شِمبر، أحد الطبيعيين الجرمانيين، من أنهار الجليد الحاضر أنها تترك في سيرها حجارةً هائلةً وصخورًا مثلمةً شبيهة بما يوجد في الطبقات السفلى، وإنما الفرق بينها أن القديمة أكثر امتدادًا؛ فاستنتج من ذلك أنها؛ أي: القديمة، حصلت من أنهارِ جليدٍ أعظمَ من الموجودة الآن. ولكن لما كان بين هذا القول وبين التعاليم المعوَّل عليها حينئذٍ بونٌ عظيم لم يعبأ به. وفي سنة ١٨٤٠ نشر أكاسيز الشهير كتابًا بهذا المعنى بيَّن فيه وجود دور جليدي في الأدهار الغابرة، وأبدى رأيه عن أنهار الجليد القديمة، وعن نتائج امتدادها العظيم؛ فلشهرته انتبه كثيرٌ من العلماءِ إلى ذلك، وسافر جماعة من جيولوجي الإنكليز ومنهم ليل إلى جبال ألبا؛ ليتحققوا بأنفسهم فِعْلَ أنهارِ الجليد، ورجعوا مقتنعين مما رأوا.
ثم تحقق العلماءُ ذلك أيضًا في جميع البلدان ذوات الجبال بوسط أوروبا وشماليها وشمال أمريكا وجنوبها، وفي جبال آسيا الوسطى، حتى إن مذهب الأنهار الجليدية عَمَّ الآن وصار حكمًا من أحكام الجيولوجيا. ولَمَّا تحققوا أن القسم الأعظم من نصف الكرة الشمالي اكتسى بالجليد بعدما تكوَّنت أراضي الدور الثلاثي بقي عليهم أن يعرفوا ما هو السبب لحصول ذلك، فذهبوا مذاهبَ شَتَّى، وارتأوا آراء متعددة أَفْضَت، بعد المباحث الطويلة، إلى أن سطح الأرض لم يكتسِ بالجليد مرةً واحدة فقط، بل مرارًا متعددة في أدوار متعددة، وثبت عندهم أن هذه الأدوار الجليدية ترجع في أدوار منسوقة على نظامٍ محدود. ولدى التأمُّل في هذا النظام أخذوا يبحثون عن السبب الذي تهبط به حرارة أحد نصفَي كرة الأرض، فيبرد بردًا شديدًا يُؤْذِن للجليد بالدوام أزمانًا مديدة، ففطنوا إلى أمر مبادرة الاعتدالين وإلى انتقال محور دائرة الأرض العظيم، فسهل عليهم حل هذا المشكل.
فإن هذا المحور العظيم يتحرك تحرُّكًا بطيئًا في دوران الأرض حول الشمس حتى يدور دورةً كاملة بالنظر إلى الاعتدالين في إحدى وعشرين ألف سنة تقريبًا كما يُعلم من علم الهيئة، وفي هذه المدة يوافق بالضرورة خط الانقلابين مرتين فينطبق عليه لحظة من الزمان. وقد حدثت الموافقة الأخيرة سنة ١٢٥٠ للميلاد، وحينئذٍ كانت نقطة الرأس في الانقلاب الشتوي، فتأتَّى من ذلك أن بلغت أيام الربيع والصيف في نصف الكرة الشمالي أعظمها، وطالت فصول الشتاء واشتد بردها جدًّا في النصف الجنوبي بحيث تولَّاه دورٌ جليدي لم يزل حتى يومنا؛ لأن ظروف المناخ لم تتغير من ثم كثيرًا. ثم إذا تقهقرنا عشرة آلاف وخمسمائة سنة رأينا أن نقطة الرأس كانت في الانقلاب الصيفي، فحصل عكس ما تقدم؛ أي: إن فصول الشتاء طالت واشتد بردها في نصف الكرة الشمالي، فأحدثتْ عليها دورًا جليديًّا، فكل ١٠٥٠٠ سنة يحصل دورٌ باردٌ جدًّا، شمالي ثم جنوبي على التعاقب، بحيث تتوالى الأدوار الجليدية على كلٍّ من نصفَي الكرة كل إحدى وعشرين ألف سنة.
•••
فلننظر الآن إلى الأنهار الجليدية من جهة تأثيرها في نوع الإنسان، فأولُ ما يتضح لنا هو سبب الاختلاف العظيم بين أهل الشرق والغرب وجهة تاريخهم، ولولا ذلك لكان تاريخهم يبقى في غاية الإبهام، فلا يخفى أن تاريخ الإنسان الشرقي أقدم جدًّا من تاريخ الإنسان الغربي، فإن أقدم آثار الإنسان التي وُجدت في أوروبا لا يتجاوز عمرها ٧٠٠٠ إلى ٨٠٠٠ سنة حسب تعديل الجيولوجيين بناءً على أقدم الآثار الموجودة حديثًا. وأما آثاره الدالة على تمدُّنه في الشرق فيصعد تاريخها، كما في بلاد مصر، إلى ١٥٠٠٠ سنة حسب تقويم أعدل الجيولوجيين، وذلك موافق لرواية مانثون الذي أمره بطليموس فيلادلفوس، فنقل عن الكتب المقدسة لهيكل اليوبوليس العظيم تاريخ مصر منذ أيامها الأولى، وضمَّنه في ثلاثة مجلدات لم يصل إلينا منها سوى بعض فقرات وفصول ذكرها المؤرخون القدماءُ الذين جاءوا بعده كهيردوطوس وغيره؛ على أنه لم يكن أحدٌ قبل الآن يثق بصحتها؛ لِمَا بين التواريخ التي ينسبها إلى دول مصر وبين التعاليم الشائعة من الفرق البيِّن حتى جاءَت أخيرًا الأبحاث الجيولوجية مؤيدةً صحتها.
فإذا قيل: ما هو السبب في كون تاريخ تمدُّن بعض شعوب المشرق يتقهقر إلى ١٥٠ قرنًا مع أن أهل أوروبا لم يكونوا منذ سبعة أو ثمانية آلاف سنة إلا قبائلَ متوحشة يقطنون المغاير والكهوف؟ فالسببُ واضحٌ لمن يتدبر مذهب الأدوار الجليدية، فإن بلاد مصر، لعدم وجود الجبال فيها ولاتصالها من طرفها الجنوبي بمدار السرطان، آمنةٌ من نوازل الثلج والجليد، فلا تُعيق نمو الإنسان فيها، وكذلك يقال أيضًا عن السهول الواسعة الممتدة في جنوبي آسيا من حدود البحر المتوسط إلى حدود الصين، بخلاف أوروبا فإنها لبُعدها عن المدارين واتصالها بالأبحر الشمالية، فالبرد يشتد فيها جدًّا فيتراكم الثلج على القسم الأعظم من سطحها فتَحُول دون نمو الإنسان فيها. وهذا هو السبب في عدم ظهور آثار الإنسان السابق العهد التاريخي فيها إلى ما بعد تقهقر الأنهار الجليدية الأخيرة. ولا يوجد قبلها إلا بعض عظام بشرية يندر وجودها أكثر فأكثر كلما اقتربنا إلى أسافل الأراضي التي تكوَّنت في الدور الرباعي.
•••
ثم يتضح أيضًا، على مذهب الأدوار الجليدية، سببُ أمرٍ آخرَ كثير الإبهام كسابقه، وذلك أن من يقابل بين أمم الشرق القديمة وبين الأمم الحاضرة بالنظر إلى نشاط القوى العقلية يستعظم الفرق بينها. أليست بلاد الهند وإيران والكلدان مهد التمدُّن وأُم العلوم والصنائع (فإن خرابات بابل ونينوى لا تزال موضوع اندهاش أهل هذا العصر؛ مما يدلُّ على أن الصنائع فيهما كانت بالغةً من الإتقان أعلى درجة، فضلًا عن أن علم الهيئة نشأ في بابل والعلوم الرياضية كانت متسعة جدًّا في بلاد الهند)، فما الذي استولى عليه حتى لم يبقَ لها بقيةٌ تُذكر أو ذكرٌ يُشهر؟ أليست البلاد التي أولدت طالس وأرخميدس وهيبرخوس عقيمةً منذ زمان طويل، فكيف وهنت قوى هؤلاءِ الشعوب، ولماذا سكنت حركتهم عن التقدم في معراج التمدن؟ إن سبب ذلك يتضح من دور البرد الأخير الذي استولى على نصف الكرة الشمالي؛ فإن شدته وصلت إلى أبعد من حدود الأنهار الجليدية بكثير (فإن دور البرد الشديد المستولي الآن على نصف الكرة الجنوبي لا يزال تأثيرهُ واصلًا إلى حدود رأس الرجاء الصالح في أفريقية وبونس أيرس في أمريكا مع أنه دخل في التناقص من تاريخ ١٢٥٠ سنة للميلاد)، فأهالي جبال آسيا لَمَّا داهمها الثلجُ حينئذٍ انسحبتْ من أمام البرد والتجأتْ إلى السهول المنحدرة نحو شطوط البحر المتوسط وخليج العجم وبحر الهند.
وما دامت تلك الثلوج تبعث الهواء البارد إلى الجنوب، فتبرِّد تلك الجهات دام المهاجرون إليها على نشاطهم العقلي الخاص بسكان البلاد الباردة، فنما التمدن وانتشر في الشرق؛ ولكن لما أخذت تلك الثلوج تذوب وتتقهقر أخذت طبائع تلك الأقاليم تتغير فاستولت عليها حرارة الجهات المدارية، واستولى الخمول على سكانها وأخذ نشاطهم ينحط وعزائمهم تضعف، حتى سكنوا في رقدتهم التي نراهم فيها، فنهض الغرب حينئذٍ إذ خلع عنه جلباب البرد القارس الذي كان كبَّل قواه وأخمد أنفاسه قرونًا عديدة، وأبان للعالم أجمع كَمْ ترك الأوائل للأواخر بما أبداه من النشاط الذي فاق كل نشاط، فإن الذي اتصل إليه ابن المغرب من السعة في المعارف والدقة في العلوم والإتقان في الصنائع لا تبعد عنا شهوده ولا يترك محلًّا للريب في أنه أناله قصب السبق في ميدان الإنسانية. ولكن لا فضل لأحد بذلك؛ فالفضل لله، ولا عَارَ علينا بخمولنا؛ فإنه بحكم الدور سيأتي زمن لا يتجاوز مائة قرن بتعديل الجيولوجيين، فيه تعود الثلوج وتغطي القسم الأعظم من نصف الكرة الشمالي، فتُمسي تلك العواصم المأهولة كبطرسبورج وفيينا وبرلين وباريس ولوندرة ونيويورك.
فيولِّي أهلها الأدبار من أمام وجه البرد طالبين ملجأً في جنوبي أوروبا، وفي أماكن أخرى على شطوط البحر المتوسط، ويتقهقر الغرب، ويبرد هواءُ الشرق فيدب النشاط في عروق أهله وتوافيه السعادة بعد الشقاء، وينتقل محور التمدن إليهِ.