المقالة الثلاثون
الشرق لفظةٌ تعمُّ بلادًا واسعة وأقطارًا شاسعة، مختلفة الأطوال والعروض والحر والبرد والخصب والجدب. تضمُّ فيها أممًا وشعوبًا وقبائل مُتبايني الأصل والفصل، مُختلفين في الشكل وفي قابليات العقل. تجمعهم اليوم جامعةٌ واحدة هي تراخي النظام، وفساد الأحكام، وانحطاط المدارك العقلية، وفساد المبادئ الأدبية. لا علم يقيهم، ولا علم يحميهم، فهم بحكم تنازُع البقاء مُعرَّضون للذل والشقاء، يعملون لأسيادهم أهل الغرب، وأسيادهم بهم يعيثون، فينقادون إليهم صاغرين إلى يوم يُمحقون؛ لأن ناموس التنازع في الطبيعة صارمٌ لا يرحم، فالضعيف مقضيٌّ عليه أمام القوي بالمحاق أو الضياع بالاستغراق. فجدير بكُتاب الشرق أن يَرْثوه، فهو ميت في صورة حي، وإذا أبنوه فلا ينصفوه لئلا يُشددوا عليه الملام، والضرب في الميت حرام، بل فليشفقوا عليه، وإن كان الإشفاق لا يرضاه أهل الاستحقاق؛ لأن فيه من اعتقاد المسكنة بالمُشفَق عليه ما تأباه النفوس الكبيرة. فمُقاومة عدُو لي يعترف بفضلي أحب إليَّ من إشفاقٍ يأتيني من أهلي.
جرى علماء الأخلاق اليوم مجرى أكثر الطبيعيين القائلين بالنشوء، فعدُّوا الإنسان الأدبي والعقلي كالإنسان الطبيعي ابن الفطرة وابن المكان وابن الزمان أيضًا، فاعتبروه قابلًا للارتقاء والانحطاط في آدابه وفي قواه العقلية، بحسب العوامل المختلفة التي تؤثِّر فيه من طبيعية وأدبية. والفطرة ليست بالحصر إلا استعدادًا مُكتسبًا في الأصل من طبيعة المكان.
والشرقي، كما نريد به هنا, يدخل تحته الصيني والهندي والأفريقي والعربي والتركي والعجمي أيضًا، وإن اختلفت مراكز البلاد التي يقطنها بعض اللاحقين بهذه الأجناس، ممَّا يجعلهم في مركزهم الجغرافي واشتقاقهم الأنثروبولوجي أقرب إلى أهل الغرب منهم إلى أهل الشرق، إلا أنهم تجمعهم اليوم جامعة الوقوف والتقهقر في تاريخ العمران. ويطول بنا الشرح جدًّا لو أردنا استيفاء وصف كل من هذه الأجناس بحسب طبيعة بلاده وشرائعه وتعاليمه؛ لأنه وإن كان الجامع اليوم بين هذه الأجناس واحدًا، وهو التقهقر الأدبي والعقلي، إلا أنهم يختلفون فيما بينهم كثيرًا في ذلك، ويختلفون كذلك في الأصل وقابليات العقل بحسب طبيعة البلاد، ويختلفون أيضًا في مركزهم الاجتماعي بحسب شرائعهم وتعاليمهم.
إن أهل آسيا تغلب عليهم السكينة ورقَّة الطباع، لِما هم فيه من رغد العيش، بسبب خصب بلادهم واعتدال فصولهم؛ ولذلك لم يكن لهم شجاعة الرجال، ولا الصبر على المشقة، ولا الثبات في الأعمال، ولا علو الهمة، وطنيًّا كان أصلهم أم غريبًا. ويغلب فيهم حب اللذَّات على كل شيء، بخلاف أهل أوروبا الذين هم معهم على طرفَي نقيض من هذا القبيل؛ لصعوبة إقليمهم وقلة خصب بلادهم.
ولكن الاقتصار على هذا الأثر لا يكفي في مثل بحثنا؛ فإن الإنسان وإن يكن ابن المكان فهو ابن التربية والتعليم أيضًا. وقد فطن إلى شيء من ذلك أبقراط نفسه حيث قابل بين حكومات أوروبا وحكومات آسيا، فقال إن أهل أوروبا أشد نجدة للحروب من أهل آسيا؛ بسبب طبيعة بلادهم، وبسبب نوع أحكامهم أيضًا، فإن أهل أوروبا تحكمهم شرائعهم، وأما أهل آسيا فتحكمهم ملوك، وشتَّان بين النجدة التي يقوم بها من يُدافع عن نفسه، والنجدة التي يُظهرها من يُدافع عن غيره.
ولا ريب أن أثر العوامل الأدبية في الإنسان شديد جدًّا، وربما كان أشد من أثر العوامل الطبيعية، حتى ذهب الباحثون في طبائع الحيوان إلى أن الإنسان لم يتغير في بدنه كثيرًا من يوم اتخذ الكساء واصطنع السلاح وبنى البيوت. يريدون أن يُثبتوا بذلك أن الإنسان قادر على مُقاومة الطبيعة بالصناعة. وأهم هذه العوامل العلم، قال لتري مُعقبًا على أبقراط ما نصه: «إن أبقراط يقول إن طبيعة الإقليم والشرائع هي التي تجعل أهل أوروبا أشد نجدة للحروب من أهل آسيا. ومعلومٌ أنَّا رأينا، على تراخي الأيام، أن الفرس الذين غلبهم اليونان لم يقدر عليهم الرومان بعد ذلك، وأن اليونان ضعفوا جدًّا في عهد سقوط سلطتهم وذبول شوكتهم، وأن العرب أتاهم يومٌ كان لهم فيه نصر في الحروب مُبين، وشرفٌ ينطح السِّماك برَوقَيه، وعزٌّ يُقلقل الجبال. فمثل هذه الأمثلة تكفي لأن تُبين أن النجدة للحروب لا تختصُّ بإقليمٍ دون آخر. وكذلك يُقال عن الأحكام؛ فإن النجدة لا تتوقف عليها، كما أنها لا تتوقف على الإقليم، بل على النظام وعلم الحرب؛ فإن نفرًا قليلين منظَّمين من الأسوجيين ظهروا على الروس الكثيرين الغير المُنظمين في موقعة بلتاوا، والإنكليز قد جنَّدوا من الهنود جنودًا شديدة البأس في سنين قليلة، وقد كان للمصريين على عهد محمد علي جنودٌ باسلة. فالإقليم والحكومات أثرها في نجدة الحرب قليل، والنظام والعلم هما اللذان يفعلان كل شيء.» وهذا القول مع ما فيه من الانحياز إلى جانبٍ دون آخر، كما أبنَّا ذلك في محله، صحيحٌ باعتبار أن العلم من أقوى الوسائط المؤثِّرة في الإنسان والمُغيِّرة له. ولنا مثالٌ حديث في اليابان اليوم، وما أظهرته من النهضة الاجتماعية والحربية في سنين قليلة، حتى ظهرت على الصين التي تزيدها نحو عشرين ضعفًا في عدد السكان بفضل العلم.
فطبيعة بلاد الشرق بما تُوجب من الراحة للبدن تُفسح للعقل مجال الخيال؛ ولذلك كان الأنبياء كلهم من المشرق. وطبيعة بلاد المغرب بما تُوجب من المشقة على البدن تُربِّي فيه النهضة والإقدام؛ ولذلك كان أكثر الفاتحين من المغرب، إلا من قام من الشرق لدعوةٍ دينية تدخل في حكم المؤثِّرات الأدبية؛ ولذلك أيضًا كان أهل الشرق، كما قال الشهرستاني، ميَّالين للبحث عن ماهيات الأشياء وحقائقها، وأهل الغرب ميَّالين للبحث عن طبائع الأشياء وكيفياتها؛ أي إن هؤلاء أهل عمل، وأولئك أهل نظر قد يجرُّ إلى الكسل. وربما كان هذا من الأسباب الطبيعية التي لأجلها لا يستطيع الشرق أن يُناظر الغرب إذا تساوت عندهما المعَدَّات الأدبية.
فالشرق إذن لا يستطيع أن يُناظر الغرب إلا إذا فاقه في المعدَّات الأدبية. على أن الشرق اليوم — ونحصر كلامنا في الأقوام الذين تجمعنا وإياهم جامعة الوطن والسياسة — مُتقهقرٌ جدًّا عن الغرب في هذه المعدَّات لقلة العلم فيه، وثقل وطأة الوهم عليه. ولا يخفى ما لذلك من الأثر السيئ على العقل والآداب؛ ولذلك كانت قوى العقل في الشرق اليوم ضعيفة والآداب مُتراخية. ونعني بالآداب هنا لا كما يفهمها البعض؛ تلك الآداب الذاتية الرخوة التي لا تتجاوز النفس، ولا يُنظَر فيها إلى الكل، كالصوم والصلاة مع تربية الضغائن والأحقاد ضد من لا يُصلي صلاتك ولا يصوم صومك، فيُنسيك ذلك الجامعة الوطنية والسياسية في جنب الجامعة المِلِّية في بلادٍ كثُر فيها تفرُّق المذاهب والأديان، أو تلك الآداب السطحية المُنتقلة إلينا من سفساف آداب المغرب، كالهشاشة والبشاشة، والمُفاخرة باللباس والطعام، وإيلام الولائم، والتأنث في الحركات، وسائر أنواع المُجاملة التي لا تتجاوز حد اللفظ مع التبطن والرياء المتَّصِلة إلينا إما بالوراثة وإما بالتقليد، مع التواء المقصد منها علينا؛ لتمسُّكنا بالظواهر والأعراض، وإغفالنا الجواهر والأغراض؛ بل نريد بها تلك الآداب الرفيعة الاجتماعية التي تدل على ارتفاع المدارك، والتي ينطبق عليها قول المثل: «عدوٌّ عاقل خيرٌ من صديقٍ جاهل.» كالحزم والعزم والشهامة، وكرم الأخلاق الحقيقي، والصدق والإخلاص، ومحبة النفس من وراء محبة الغير، ومحبة الوطن فوق كل شيء، ممَّا يبعث إلى التعاون والتعاضد للقيام بالأعمال الجليلة العمومية التي يقوى بها الفرد؛ لأنه ينظر فيها إلى قوة الكل، ومعرفة أقدار ذوي الفضل منا للانتفاع بما خُصُّوا به من المواهب؛ لتنشيط هذه المزايا في الجمهور، لا قتلها فيهم لقتلها فيه حسدًا ولؤمًا. والإغضاء عن الهفوات في جنب الحسنات، لا تحقير هذه وتعظيم تلك؛ تشفيًا من الاجتهاد، وانتقامًا من الذكاء. فإن الفرق بين الغرب والشرق في ذلك كالفرق بين أعمال الرجال وأعمال الأطفال.
ذكروا أن لامرتين الشاعر الفرنساوي الشهير بلغت ديونه نحو ثلاثة ملايين فرنك، فقامت الأمة ووفَّتها عنه بجمع المال بالاكتتاب، ولم يمنعه ذلك من تجديدها، ولا منع هذه الأمة من تجديد الاكتتاب لوفائها، فكيف لا يقوم بينَ أمةٍ هذا اعتناؤها برجالها رجالٌ ﮐ «لامرتين» وأعظم من لامرتين بطبقات. و«ولطر سكوت» خسر أموالًا طائلة في التجارة، وانكسر عليه نحو خمسين ألف جنيه، فعمد إلى التأليف ووفَّاها من كتاباته؛ لأنه كتب لقومٍ يقرءون، ويدفعون ثمن ما يقرءونه. بل لنعتبر بمثل بطل السودان، وما صادفه من العناية البالغة الغاية القصوى من أمته وحكومته ممَّا لا يزال صداه يرنُّ في الآذان، ولنُقابله بمعاملة حكومات الشرق وأممه لأبطاله إذا ظهر فيه أبطال، فأقلُّ عقاب لهم على اجتهادهم وامتيازهم الإقصاء إلى الأقطار الشاسعة، أو الوضع تحت القفل والمفتاح، حيث يُطمس ذِكرهم ويُتناسى فخرهم. فكيف لا يقوم من أولئك رجالٌ يبذلون قواهم ودمهم لخدمة وطنهم وأمتهم؟ وكيف لا تنمو فيهم مواهب الذكاء والإقدام على جليل الأعمال؟ وكيف لا ينزوي هؤلاء في بيوتهم مُتقاعدين عن خدمة وطنهم؟ بل كيف لا تموت فيهم هِمم الرجال؟
والغريب أن انحطاط الآداب في شرقنا بلغ مبلغًا لا يُعهَد له نظير في سوانا، فترى الصعلوك منا يظهر بمظهر الإمارة على أمير قومه، والأمير منا يتناهى في الحقارة والدناءة لدى صعلوكٍ أجنبي. فالواحد منا جبَّار على ابن جنسه ولو فاضلًا، وذليلٌ لدى الغريب ولو أنه أذل من بيضة البلد. فمتى بلغت الأمة هذا المبلغ من الدناءة فأي خير ترجو منها؟ وأي نهضة علمية أو أدبية أو اجتماعية ترجو من مثل هؤلاء الأقوام، الذين لا تجمعهم جامعة ولا تقوم لهم قائمة إلا بسيف كسيف محمد أو بونابرت يعمل في رقابهم، ويسوقهم سوق الأنعام؟
ولا شك أن حكومات الشرق هي التي ساعدت على فساد الأخلاق إلى هذا الحد؛ فقد تقدَّم أن الفرق من عهد أبقراط إلى اليوم بين حكومات المغرب وحكومات المشرق أن تلك تحكمها شرائعها، وهذه تحكمها ملوك. وإن تعدَّلت الأحكام في بعض ممالك الشرق اليوم فما تعديلها إلا صورة لا معنًى؛ فإن ملوك الشرق ما زالوا فوق شرائعهم. فأماتت حكوماتهم من الأمة عواطف الشهامة والإقدام بما ثقَّلت به على كواهلهم من الإذلال، وسائر ما يجرُّ إليه الاستبداد، وقوَّت فيهم كل الصفات الدنيئة الهادمة لصروح الاجتماع بما أخمدت من قوى العقل بإطفائها نور العلم. وأثر ذلك فيهم لتقادُم عهده شديد، وزواله منهم بعيد. فلا عجب بعد ذلك إذا رأينا الغرب باسطًا فوق الشرق يدَيه، طامحًا ببصره إليه، مُزمعًا أن يقبض عليه. سنة الطبيعة في التنازع، ولن ترى لسنة الطبيعة تبديلًا.