المقالة الحادية والثلاثون
رأيت أن أتشبه بالأنبياء وأنا أجهل صناعتهم؛ لكي أقول قولًا يكثر مجازه ليتسع تخريجه، فلا تُكذبه الوقائع، وترضى به العقول الحريصة على المأثور، ولو أنها تأنح في تأويله كالمُعضل. فأنبأت منذ ربع قرن أن أوروبا لا ينقضي عليها القرن التاسع عشر حتى لا يبقى فيها ملكٌ يلبس البرفير والأرجوان، ويحمل الصولجان ويسوق بها حمر الإنسان. وها نحن الآن في العقد الأول من القرن العشرين، والملوك كالآلهة على عروش مجدهم، والناس كالسائمة في حقول جهلهم. فكنت بنبوَّتي الكاذبة نبيًّا كاذبًا، حلَت له أحلامه فاعتبرها حقائق. أُثبت بذلك على نفسي جهلي بطبائع الناس، كما أني أُثبت عليها خلوَّها من الذكاء الشرقي، فلم أُراعِ أثر الدهور، في مُقوَّسي الظهور، ولا وطأة المداس، في مُطأطئي الراس، كما أني لم أُراعِ في مقالب الدهاء، نعومة ملمس الرقطاء، لاستطلاع مناجع الكلاء.
على أني لا أكون عادلًا إذا جُرْت كل هذا الجور في الحكم على نفسي؛ لأن نبوَّتي إن لم تصحَّ كلها صورةً فقد صحَّ جلُّها معنًى. وما خطئي إلا في ضربي الأجل وتعييني الزمان، ولو قلت بعد زمانٍ لا يطول لأمِنت الانتقاد، ولحاكيت بالحصافة أرباب السياسة، ولكن الناس طبائع، فهذا يستمسك بالأعراض، وذاك لا ينظر إلا إلى الجواهر، وأنا ممَّن لا يقفون عند الصور، بل ينظرون إلى المعاني، لا كما ينظر بعض كُتابنا من قادة الأمة، فيستحصلون من التِّبر ترابًا، ثم ينبشون القبور، ويُسيغون من السم شرابًا يُخدرون به أعصاب الأمة لئلا تنشط من العمى، فتُبصرهم في صور أجدادهم قبل العصر الحجري قرودًا تُقهقه وعجائز يلطمن؛ بل أنا أنظر من خلال ذلك إلى الزُّبَد، ولو أنها كما في الخرنوب درهم دبس في قنطار خشب، فكأنني حر كأحرارنا، ولكني غير دستوري، فلا أُقيد الحرية بالقانون ولو سُنَّ القانون لها؛ لئلا أكون به حرًّا في استبداد أو مستبدًّا في حرية. وما أغرب هذا القول في هذا العصر الدستوري، خصوصًا بعد هذا الانقلاب الأخير الذي كنت أول المُتمنين له، ولكن آخر الحالمين به، حتى قلت فيه لشدة يأسي منه، في مقالٍ عنوانه «وكما تكونون يُولَّى عليكم»: «لا يأتي الدواء من العراق حتى يكون العليل قد فارق.» وهذه نبوَّةٌ ثانية لي كاذبة — على الأقل الآن — فكأني العاطوس في معطس الدهر، فكلما قلت قولًا كذَّبتني الحوادث، حتى صِرت أتمنَّى أن تنفتح لي أبواب الجحيم؛ لأكون على يقين من الفوز بجنات النعيم.
وهذا هو السبب الذي لأجله لم أقبل أن أنتظم في جمعيةٍ مشروعة انتظامًا قانونيًّا، ولو انضممت إلى مبدئها، وكنت في طليعة الذائدين عنه؛ لأني أريد أن تبقى لي حرية القول والعمل للبلوغ إليه غيرَ مقيَّد فيه بنظام أو زمان. ولقد غُرَّ بي بعضهم من كتاباتي في أول نشأتي، وظن أن الذي يكتب ما أكتب لا يمكن إلا أن يكون عضوًا في تلك الجمعية الكبيرة السرية التي عفا جوهرَها تقادُمُ العهد، ولم يبقَ منها اليوم إلا تلك السخافات التقليدية والتهويلات الإرهابية، والتي فاقت في الاحتفاظ بها كل تقليد. فكتب إليَّ يطلب مني أن أُدخله في الفرع منها الذي أنا منه، وما كان أشدَّ حيرتي حينئذٍ للجواب بما يدحض الظن ولا يؤلم العواطف؛ لأن تحويل الظن نفسه جُرح، وإن كانت الكهولة لا تتألم منه إلا أنه في الناشئة أليم. فكتبت له، واقتصرت على هذا القول كأنه جملةٌ إنشائية: «أما أنا فلا أختص بجمعيةٍ دون أخرى، وإنما أنا عضو في جمعيةٍ كبرى من ضمنها جمعيات.» فلم يُبطئ أن كتب إليَّ أن أدخِلْني في هذه الجمعية. فكان استغرابي حينئذٍ أشد من حيرتي، وفضَّلت هجر الصمت على ألم التقويم بالرد، والرجل لا أعرفه، ولا أعرف اسمه اليوم، فليطمئنَّ من ذكر الحادثة.
وما ذكرتها إلا بيانًا لسطوة النظامات الموضوعة على العقول ولو المُتنورة، حتى إنه ليزول جوهرها ولا يبقى إلا عرَضها، ولا يزول سلطانها. فكم من نظام وُضِع لمبدأٍ حسن، ثم كان النظام نفسه مُزيلًا لحسناته مُطفئًا لنوره! وبقي نظامه راسخًا لا يتقلقل، حتى تهبَّ عليه عواصف الثورات، فتقتلعه عَنوةً كما تقتلع الأعاصير بواسق الأشجار من جذورها، ولكن بعد إضاعة الزمن الطويل؛ أي إلى أن تبلغ الأفعال المُتجمعة ضده مبلغها الهائل من الانتشار والشدة، ولولا ذلك لسار الاجتماع في ارتقائه على وتيرةٍ واحدة مع الطبيعة في نظامها الطبيعي الذي هو بالحصر: «لا نظام إلا قدر المنفعة.» وسرعان ما أسمع المُعترضين من أحرار ومُتقهقرين، مقيَّدين وغير مقيَّدين، دستوريين وغير دستوريين، إلا الذين استهواهم نظام الطبيعة المطبوع، ولم يُفتَنوا بنظام الاجتماع الموضوع؛ يصخبون ويقولون مُتعوِّذين: «كأنك تدعو الاجتماع إلى أن يكون الناس فيه فوضى لا سراة لهم.» وما هي إلا ألفاظٌ وضعوها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، وإلا فاللانظام الذي ندعو إليه ليس بدعة، أوَليس هو رائد أبدع قوى الطبيعة كما هو شأن الحياة؟ أوليست مركباته أبدع مركباتها كما هو شأن الأحياء؟ فكما أن الطبيعة ترقى إليه، فالاجتماع لا بد من أن يتحول كله إليه، وما وقوفنا في سبيله بمحض إرادتنا وبنظاماتنا إلا جناية فوق جناياتنا الأخرى عليه.
وعدم احتفالي بالإعراض هو سبب عدم احتفالي بالنظامات الموضوعة، غيرَ ناظر من خلالها إلا إلى المبدأ والجوهر، ولا يُراد من ذلك أني أُبدي احتقاري لها في غير مقام الانتقاد، بل بالضد أنا من أشد الناس احترامًا لها في مواقفها، فإني لأدخلن الجامع والكنيس والكنيسة وفي نفسي تأدُّب فوق خوف المتَّقين، ومع ذلك فلم أسلم من شرها؛ فقد وقفت مرةً أمام قاضٍ — غير موقف المتَّهَم — فما عتم أن نظر إليَّ مُقطبًا، فبسطت له وجهي لعله يحلُّ قطبة من قطب جبينه، وكأنه استعظم سلطته، فأراد أن ينتقم بها لأجداده عن خمس عشرة ألف سنة مضت، فانتهرني كأني أجيرٌ في باب أمير، وما علمت أني أسأت الأدب بحضرته إلا بعد أن دلَّني على أن يدي التي كانت هنا يجب أن تكون هنا. فصدعت بالأمر صاغرًا صونًا لكرامتي من أعظم في هذا المأزق الحرج، ثم مرَّ بخاطري بسرعة البرق التاريخُ الطبيعي والاجتماعي وأثر الماضي في الحال، وسرعة هذا الانتقال، وترحَّمت على الخليل فعذرته، وعلمت لأول مرة أن التأدب غير الأدب الحقيقي.
واللانظام الذي ندعو إليه ليس كأوس الأقدمين، ولا فوضى المُحدَثين، وإنما هو نظام أيضًا ولكنه مُتحرك، فلا يستقرُّ على مرِّ الأجيال حتى تضيع به الغاية التي وُضِع لأجلها، بل يتغير لكل حال صونًا لهذه الغاية. ولو راعى الناس في شرائعهم ذلك لمَا بدا فيها كل هذا الوهن، ولمَا سبَّبت كل هذه الحروب بين مُنكِر ومُقر، وكافر ومؤمن، وناقم وراضٍ، وبين الشِّيع من كل حزب، ولمَا بدا مُصلِح الأمس رزءًا على مُصلِح الغد، ولكن هي الأعراض أربت على الجواهر، وكان ضررها في الاجتماع أشد؛ لأن الاجتماع عاقل، فأضاف إلى تباطؤ سير الطبيعة المطبوع تثاقُل نظامه الموضوع.
ولكن نواميس الاجتماع كنواميس الطبيعة، مصيرها فيه إلى الارتقاء، ولو أدَّت به إلى الوقوف والتقهقر أحيانًا، وسرعتها فيه كسرعتها بالقلب كمربع البعد، واستخدام الإنسان قوى عقله الصائب فيه تزيد هذه السرعة سرعةً على نفس هذه النسبة. ومن يوم خطت أوروبا خُطاها في سبيل العلم الحقيقي، وأخذ ظل الأوهام يتقلَّص من العقول؛ صار الأمل كبيرًا بسرعة هذا الارتقاء. ولا نريد بهذا القول أنها على وشك بلوغ الغاية القصوى فيه، وإنما هي اليوم على فجر النهضة الحقيقية. ولا ريب في أنها ستكون الأولى في الاستفادة، وسيكون شأنها شأن المنارة التي يستضيء العمران بها في العالم أجمع؛ لسهولة ارتباط بعضه ببعض، وسيطرة بعضه على بعض اليوم؛ بفضل مُكتشَفات العلم ومُخترَعات الصناعة. وأول خُطاها في هذا السبيل ستكون تأييد سيادة الأمم سيادةً حقيقية، وسقوط سيادة الملوك. ولا يستتبُّ لها ذلك على قواعد متينة حتى تنتشر وتتأيَّد فيها الاشتراكية الصحيحة المبنية على تقاسُم المنفعة على نسبة الاشتراك في العمل، لا كما يفهمها البعض من خصومها. وإن من يُقابل بين حالة أوروبا قبل حرب السبعين وما آلت إليه بعهدها من الارتقاء الحقيقي في كل شيء يرى أن سيادة الملوك في احتضارٍ من ذلك اليوم، بل من يُقابل بين حالة الشعوب الجرمانية من عهدٍ غير بعيد وما هي عليه اليوم من الاشتراكية العظمى، يستعظم مجرى الأفكار فيها لخلع تلك السيادة، ولا يتوقف تقريب أجل ذلك إلا على حركات عاهلها اليوم؛ لأن شدة الضغط تُسرِّع الانفجار، وهي حركات لو كانت في عصر نابليون لألهبت العالم، ولسجد لها كل مُعجَب بسلطان الفرد، ولكنها اليوم حركاتٌ يزدري العاقل بها، وقد لا تضرُّ إلا مؤتيها.