المقالة الثانية والثلاثون
بِتُّ ليلتي وعواملُ متناقضةٌ تتنازعني، قليلها يُوجب الشكر ويجلب الهناء، وكثيرها يُلهب الفكر ويُمزق الأحشاء. وإذا بي كأني في قاعةٍ تسطع فيها شموس الأنوار، وتجعل الليل أبهى من النهار، مُكتظة بأناسٍ طلَوا الظاهر، فما زادهم الطلاء إلا نميمة شفَّت عما في الباطن، وهم يشهدون تمثيلًا من عالي الوضع، ولكن مُبتذل الطبع. رأيت الحب يتضرم فيُقدِم، ويتألم فيُحجِم، ثم يتهتَّك فيشين، وينقم فيُخرب العالمين، والناس يُعجَبون ويُصفقون، ثم يقولون هذا هو الأدب الرائع. فسألت فقيل لي: «هذا مَلهى الرجال.» فقلت: «بئس الأطفال!» وخرجت.
وإذا بي في قاعةٍ مُظلمة كأنها الليل الدامس، ثم انبثق نورٌ لامع مزَّق سجفًا من ذلك الليل المُدلهم، وإذا الجبال والأودية والأنهار والبحار والمناجم والمصانع والحيوان والنبات والإنسان والبلدان والمدن، تمُور مورًا، وتنتقل بي وأنا في مكاني بين الأقطار الشاسعة، والأعمال النافعة. فقلت: «ما هذا؟» قيل: «مَلهى الأطفال.» فقلت: «نعم رجال المستقبل!» ثم خرجت.
وإذا بي في قاعة كأنها القطب البارد، قام فيها رجالٌ يتكلَّفون الجلال، ويُحدِّثون بأنواع الكمال، وإذا بهم في قرون الجهل والضلال، يصفُّون الكلام بانسجام؛ ليُلهوا الناس عن الحاضر بالغابر. فالتفتُّ مع المُلتفتين، ومددت رجلي مع المادِّين، وما انتبهت إلا وعنقي من التلفُّت إلى الوراء يكاد يُنحَر، ورجلي أمامي تتعثَّر، فصرخت من الألم: «ما هذا؟» فقيل لي: «الجامعة.» قلت: «ما هي إذن بالنافعة.»
ثم انتقلت، وإذا دويٌّ يُصمُّ الآذان، كأن فولكان القدير يتهدَّد البشر بصواعقه، وشررٌ يتطاير كأن جهنم استبطأت الناس فتهادت إليهم نارها فأوغلت، وإذا أنا في مكانٍ رهبت منه رهبة إجلال؛ إذ رأيت هراقلة البشر يُغالبون الطبيعة فيغلبونها، تعصف بالنار رياح كيرانهم كأنها نفخ الأفاعي، فيُذيبون بها الحديد كالشمع، ويصبُّونه صبًّا كالزيت، ثم يصنعون منه أسلاكًا أدق من لعاب العناكب، وينهالون عليه بمطارقهم، فيدعونه صفائح أرق من دين الكافر، فقلت: «ما هذا؟» قيل لي: «وِرش بولاق.» فقلت: «نعم المسجد!»
ثم انتقلت، وإذا أنا في بناءٍ فخيم، يملأ أربع زوايا المسكونة، مُزوَّق الظاهر، مُزخرَف الباطن. فنظرت، وإذا في جهاته الأربع أقوامٌ يتشاوسون، يطولون ويقصرون، ويقومون ويقعدون، وغيرهم ينوحون ويتخبطون، أو يستطيبون ما يكرهون. فخرجت ولم أسأل، وقلت: «الجهل بهم خير من العلم.» وإذا بعاصفةٍ حملتني، ثم وقفت بي على شاطئ بحر، رمله كحصباء الدر، فأجَلتُ طرفي من «مَفقش الموج إلى مَبسم الثلج»، وقلت سلامٌ عليك أيها الوطن الحبيب. وإذا أكمة كأنها كرسي الجوزاء قائمة، تُطلُّ على ذلك البحر، وعليها بناءٌ فخيم، أو هو سلسلة بنايات تُناطح السحاب سموًّا، وكأني فيها، فرأيت ميازيب العلم تتدفَّق منها، كالبحر الزاخر، علومُ المعادن والحيوان، علوم النبات والإنسان، علوم الطبيعية والكيمياء، علوم منافع الأعضاء وطب الأبدان، علوم الفلك والأحداث الجوية، وعلوم اللغات بقدر ما يستطيع الإنسان أن يفهم ما يعلم، وأن يُعبِّر عما يفهم. فتذكَّرت عهدًا مضى، وقلت هذه مرضعة العلم الصحيح. وذكرت قولي فيها يوم فصالي عنها:
فسلامٌ عليكِ أيتها المدرسة الكلية وألف سلام!
ثم صحوت، وإذا الحقيقة كالمنام.