المقالة الرابعة والثلاثون
نظرةٌ هامة في مسألةٍ عامة:
١ انتقاديةٌ فكاهية
ما لي أراك أيها القلم تتعثَّر وعهدي بك أجرى من السيل، وتتثلَّم
وعهدي بك أمضى من السيف؟ أفراغ جيبك أفرغ جعبتك؟ وفراغ الجيوب أملأ
لوطاب العقول وأفسح لمجال الأفكار. أم تراكمت دونك العقبات، فخشيت قول
الشاعر: «الجود يُعدِم والإقدام قتَّال.» ونسيت قوله في صدر البيت:
«لولا المشقة ساد الناس كلهم.» أم لعلك نسيت قولك:
رُبَّ ساعٍ بالعزم وهو ضئيل
دك طودًا من راسيات الجبال
أم كبرت عليك المطامع فثبطت منك الهِمم؟ أولست أنت القائل:
رُبَّ ساعٍ بالحزم وهو ضئيل
صار قَيلًا من أعظم الأقيال
أم راعك أن قُراءك لا يبلغون نصف العُشر ولا نصف نصفه،
٢ فتذكَّرت قولك:
قد يني المرء لاقتضاء استواء
ووفاق لسائر الأحوال
وذهلت أنك أنت القائل:
غير أن الإنسان يفعل في الأحـ
ـوال ما قد يفعلن في الأشكال
أم تزاحمت عليك المواضيع، وانهالت عليك الأفكار، فوقفت بينها حائرًا
كما وقف حمار «بوريدان» بين حزمتَي الحشيش،
٣ لا تعرف بأيٍّ تبدأ ولا أيًّا تختار. أتبدأ بقولك:
«الإنكليز يُصلِحون، فلماذا يكرهون؟» كأنك تريد أن تُثبت هنا حقيقتَين
مُتناقضتين، ولو بحثت عن السبب لزال منك العجب، فالإصلاح واقع لأنه
ينطبق على مبادئ هذه الأمة العظيمة، وحكومتها لا يسعها إلا أن تسير على
رغائب الأمة؛ لأن قيادها في يدها. فمصر تحت سيطرة الإنكليز انتظم
ريُّها، واتسعت زراعتها، وأثرى فلَّاحها، وصارت حياته ذات قيمة،
وانتظمت ماليتها حتى صارت موضع ثقة العموم، وبلغت الحرية فيها مبلغًا
تفتَّحت له أبواب السجون، فالإصلاح حقيقي ولو ابتلعت
٤ بواخرها في البحر، وأغرقت بسنديلتها في البر، فالبواخر في
البحر معرَّضة للحيتان، والأرض في البر معرَّضة للطغيان، ويقال أن
ستبقى راية مصر تخفق في البواخر فوق راية الإنكليز، كطربوش صاحب المؤيد
فوق قبعة القبطان.
٥ وأما كرههم فحقيقي أيضًا، وله سببان: الأول طبيعي؛ فهم
دخلاء في البلاد، والدخيل لا يُحَب ولو جلس في أخريات الناس، فكيف به
إذا جلس في صدر البيت؟ على أن هذا السبب ليس بالجوهري؛ فهو غالبًا يزول
إذا رأى أهل البيت في الدخيل كفاءة وامتيازًا، وأنِسوا منه حسن معاملة
وصلاح حال. والسبب الثاني، وهو سبب هذا الكره الحقيقي، عتوُّ بعض أفراد
الإنكليز، وصلفهم واستبدادهم وتغطرُسهم، وإساءتهم إلى الذين تربطهم بهم
روابط المصلحة في دوائر الحكومة. فالحق يُقال إنه يوجد بين هؤلاء
الأفراد من لو شد إلى قرن لم يقوَ عليه … اثنان. على أنه كما يوجد فيهم
عُتاةٌ يوجد فيهم أيضًا من لو وضعته على جرح لكان كالبلسم كما في كل
أمة، وقد تعوَّد الناس إذا رأوا إساءة من فردٍ أن يطعنوا على هذا الفرد
بالطعن على جنسه، حتى يظن الذين يسمعونه أن كل أبناء جنسه من طرزه،
فيتوهَّمون أن أعمال هذا الفرد المُغايرة تنطبق على سياسة حكومته
ورغائب أمته. وهو خطأ؛ فإن حكومة الإنكليز وأمتهم لا ترضيان عن سلوك
مثل هذا الفرد لو علِمتا به. والذي يزيد عتوَّ هؤلاء الأفراد الذين هم
على أمتهم شرٌّ من الأعداء جبنُ مرءوسيهم، وانقيادهم لتحكُّمهم حتى
يتمادَوا في احتقارهم. وعندنا أدلةٌ كثيرة على أن اللورد كرومر لا يسمح
باهتضام الحقوق إلى هذا الحد، ويكون جذلًا مسرورًا إذا كان الناس
يرفعون إليه شكاويهم، ولا شك أنه يُنيلهم حقهم إذا كانوا مُحقِّين. فلو
جرى الناس والجرائد على هذه الخطة عوضًا عن الطعن العام الذي يُوغِر
الصدور لخدموا الأمتَين؛ أمة الإنكليز لأنها تعلم مكان الضعف فتُداويه،
والأمة المصرية لحصولها مع الإصلاح العام على احترام الحقوق الشخصية.
فتقوى روابط الأُلفة بين الأمتَين. وانقياد فرد لفرد وأمة لأمة قضاءٌ
طبيعي؛ فالمُجاملة والحالة هذه خير من المُخاصمة العقيمة؛ فقد قال إمام
الشعراء:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوًّا له ما من صداقته بدُّ
٦
أم أتكلم في موضوع «كثرة الوفاق نفاق»، هؤلاء يقولون إن الإنكليز كل
أعمالهم سيئات، وأولئك لا يرون لهم إلا حسنات. ومهما حاول كلٌّ من
الفريقَين تأييد رأيه فلا نظن أن ذلك ينطبق على الواقع، والعقل لا
يُسلِّم بإمكانه، فتقع الريبة، وتسُوء الخدمة التي يتوخَّاها كل واحد
من خطته. ونعني بهذه الخدمة الخدمةَ العمومية. وقد لا نشكُّ نحن بأن
كلًّا من الفريقَين قد يكون مُخلِصًا في دعواه، ولكن زيادة التحمس
كثيرًا ما تؤدي إلى تجسيم الوهم على حد قوله:
وهِمناك أن تُعطي فلو لم تجُد لنا
لخِلناك قد أعطيت من شدة الوهم
إلا أن عموم الناس لا يفهمون ذلك، فتغرُّهم الأمثال، والأمثال، ولا
يخفى، تجري مجرى الحِكم، ويُشجعهم خصوصًا انطباق السجع، فيقولون: «كثرة
الوفاق نفاق.»
أم أتكلم عن السجون، فقد مرَّ بك ذكر هذه اللفظة عرَضًا، وهي موضوعٌ
يستحقُّ الالتفات، كيف لا؟ أليست السجون المكان الذي نختاره للراحة من
عناء الأشغال، وتبلبُل البال، إذ تضيق بنا الحال؟ فالاهتمام بأمرها
ممَّا يهمُّ كل إنسان، فهي بين الفنادق والمستشفيات. ومن يضمن لنفسه،
كبيرًا كان أو صغيرًا، أميرًا أو صعلوكًا، غنيًّا أو فقيرًا، عالمًا أو
جاهلًا؛ أنه لا يحل يومًا ما ضيفًا على الحكومة في هذه البيوت
المُروِّضة للأبدان المُروِّقة للأفكار؟ ونحن في عصرٍ بلغ فيه التأنق
والاعتناء بالفنادق والمستشفيات مبلغًا عظيمًا، وما ذلك إلا لأن أحوال
البشر اقتضت ذلك؛ لأنه لسوء الحظ أو لحسنه زادت احتياجات الإنسان
بالتمدن، حتى صار انتفاء أسباب الراحة التي تعوَّدها يجلب له الضرر.
ولسوء البخت كذلك، الناس في الهيئة الاجتماعية طبقات، فلا يُقاس العالم
بالجاهل، ولا يُعامل المُتعود على التأنق بالمعيشة كالمُتعود على قشف
العيش، فإنزال الرفيع إلى مقام الوضيع لا يُناسب أحيانًا كثيرة، والعكس
جائز هنا.
والسجون وُجدت لحبس الرجل عن الشر، وترويض أفكاره مدة سجنه، فإذا لم
تستجمع كل الوسائل الصحية والأدبية انقلبت فائدتها، وزادت الأخلاقَ
فسادًا إذا كانت فاسدة، وربما أفسدتها إذا لم تكن كذلك. وكما أن الذنوب
التي يرتكبها البشر درجات، فالعقاب يجب أن يكون درجات كذلك، لا في مدة
السجن، بل في نوع السجن أيضًا. ومن الذنوب ما هو أرفع مقامًا من سواه
ولو عاقب عليه القانون، فالذنوب السياسية والكتابية غالبًا قلَّما
يُعدُّ السجن فيها إهانةً حقيقية تُلبِس صاحبها وصمةَ عار لا تُمحى.
ونعني بالذنوب الكتابية الذنوب التي يرتكبها كُتاب لهم شأنٌ معدود في
عالم الكتابة، لا الكُتاب المُتطفلون الذين لا شأن لهم مُطلَقًا. فحبس
مثل هذا المُذنِب مدةً لا يُراعى فيها مقدار ذنبه والضرر الذي نشأ عنه،
والضرر الذي يلحق به في حبسٍ واحد مع القاتل والسارق والمُرتكب، بل حبس
المُتعلم والمُتهذب مع من لا تربية له ولا خلاق، وفي مكانٍ غير مُتوفرة
فيه أسباب الراحة والصحة، كما هو شأن أكثر السجون.
٧ لا شك أنه مُفسِد للصحة، مُفسِد للأخلاق. ولا نظن أن القصد
من السجن إدخال الأمراض على الجسد والعقل لقتلهما وقتل مستقبل الإنسان،
خصوصًا لذنوب كثيرًا ما تكون هوائية. وإني أتصور في نفسي أنه لو وقع لي
مثل هذا الأمر، وأُخذت إلى السجن لسقطة قلم أو زلقة لسان،
٨ وعُومِلت هذه المعاملة؛ لخرجت من السجن وعيناي تقدحان
شرارًا لا أطلب إلا الانتقام. وأؤكِّد للجميع بأن طباعي الحقيقية تأبى
الإضرار عمدًا حتى بالحيوان، بل أميل جدًّا إلى تحمُّل الضيم، وأمثالي
في الدنيا كثيرون. فلماذا نُفسِد أخلاق مثل هذا الإنسان، ولا نُحاول
إصلاح جانب الضعف فيه، والانتفاع بما فيه من القوة؟ فالعقاب يلزم أن
يُراعى فيه أشياءُ كثيرةٌ غير مُستدرَكة لا في السجون ولا في
القانون.
والقانون، وما أدراك ما القانون، مجموع شبهات وظنون، فيما هو كائن
وما لا يكون، بل هو عقبة في سبيل تقدُّم الإنسان في العمران، ولو أغضب
ذلك سادتنا القضاة والمُتشرعين، ورمَوني بالجهل، وعدُّوني مُتأخرًا عن
عصري خمسة آلاف سنة أو مُتقدمًا كما يريدون. وقد عدَّه الناس لبونابرت
الحسنة الوحيدة بين سيئاته الكثيرة، وهو شر ما جنت يداه على الإنسانية،
فلا قتله الألوف المؤلَّفة من البشر، ولا تخريبه المعمورة مدة ربع قرن،
يُقاس بشيء من أضرار هذا القانون الثابت. فالشريعة ليست من العلوم
الرياضية حتى تُدوَّن في بنود كقضايا مسلَّمة تجري مجراها، ولا تُنقَّح
حتى يتفاقم ضرها ويكثر شرها. فالشرائع لا تُعاقب ذنوبًا بل مُذنِبين،
كما أن الطب لا يُداوي أمراضًا بل مرضى؛ فهي أبسط من ذلك جدًّا في
أصولها، وأشد اختلاطًا في فروعها، فالأحكام الاجتهادية أفضل جدًّا من
الأحكام القانونية. ولا نظن أن البلاد التي تُعوِّل في أحكامها على
الاجتهاد لا على القانون، كبلاد الإنكليز، أسوأ حالًا من البلاد
القانونية، إن لم تكن أصلح منها بكثير. أقول ذلك ولا أقصد به أمرًا
معلومًا أو أناسًا معلومين، وأرجو ألا يحمل الناس كلامي على ما بين
طائفة الأطباء والقضاة ممَّا بين السِّنور والثمثم (كلب الصيد)، خصوصًا
بعد حكمهم الجائر في باريس على المنكود الحظ الطبيب «لابورت»؛
٩ ممَّا أثار غضب الأطباء عمومًا على المحاكم، وسلقوها في
جرائدهم بألسنةٍ حداد.
وعلى ذِكر الأطباء أقول إن هذه الطائفة — وقاك الله شرها — كثيرة
النفع كثيرة الضرر؛ إذ يتوقف عليها صحة الأبدان وحياة النفوس، فإصابة
منهم قد تُحيي، وغلطة قد تُودِي. وهم من هذه الجهة يتشابهون كثيرًا مع
القضاة. والفرق بينهم، كما قال بعضهم، أن الأطباء يدفنون أغلاطهم في
الأرض، والقضاة ينشرونها في الهواء (إشارة إلى دفن الميت وتعليق
المشنوق)، وهم لو اقتصروا على ما سنَّه لهم أبوهم أبو الطب أبقراط، حيث
قال: «على الطبيب أن يتوخَّى منفعة مريضه، فإن لم يستطعها فليتجنب
الإضرار به.» لوجدوا لهم من أنفسهم عاذرًا، ولمَا استحقُّوا كبير ملام؛
لأن الطب كما قال أحد حكمائهم: «يشفي نادرًا، ويُسكِّن غالبًا،
ويُعزِّي دائمًا.» ولكن الأطباء بشرٌ كسائر الناس، يختلفون نظيرهم في
العقول والأخلاق، فهذا يعتمد على البساطة في طبه كما يكون بسيطًا في
ملبسه ومعيشته، وذلك على ذر الرماد في عيون المرضى، كما يذرُّه في عيون
سائر الناس في سائر أحوال معيشته، فلِكي يصف لك قدح ماء يستقطر البحر،
ويستمطر السُّحب، ويستسيل الجمد، ومنهم من ينظر إلى مريضه شزرًا، ويجلس
إلى جانبه ويُعِيره ظهرًا.
١٠ وربما أراد أن يدل بذلك على خفة الداء، لا على قلة
الاعتناء. ومنهم، وكنت أودُّ ألا أذكر ذلك، من يقصد تكثير الربح كأنه
شريك الصيدلي (أعوذ بالله من شر الصيادلة، فهؤلاء يلزم لهم فصلٌ
مخصوص)، فعِوضًا عن الدواء البسيط يَعدل إلى المركَّب، وعوضًا عن أن
يصف لك بعض قمحات في مقدار من الماء، يمزجها ويقسمها أوراقًا أو حبوبًا
أو برشاناتٍ تزيد على المائة عدًّا، ويشغلك يومك وليلك في تجرُّع هذا
الدواء على الساعات والدقائق، والله أعلم بالعواقب. والحق يُقال إن
الذنب ليس كله عليهم، فالناس لا يرضَون عن طبيب إلا إذا قلبهم ظهرًا
وبطنًا فيما يلزم وما لا يلزم، وعادهم صباح مساء، وظهر عشاء، وكتب لهم
من الدواء ما يخرج به من عند الصيدلي مُستغيثًا بالحوذي ومركبته. فعن
الأول يقولون إنه «مُعتنٍ» ولو لم يفهم شيئًا، وعن الثاني إنه «شاطر»
ولا يصفحون عنك. ولو فهمت حالة المريض من مجرد تحديق نظرك فيه، وشفيته
بدواء لم تتعدَّ به دائرة المطبخ؛ فإنهم لا يزالون يرمونك بالإهمال
والجهل، ولا يريدون أن ينسبوا ذلك إلى نظرك الدقيق.
على أن الأطباء مهما بالغوا في الدهاء، فالمرضى يفُوقونهم في ذلك؛
فكثيرًا ما لا يُكافئونهم بغير تمزيقهم بلسانهم. وأنا أنصح لك كلما
سمعت أحدًا يذم طبيبًا أن تسأله إذا كان دفع له حسابه، فغالبًا تجد أنه
لم يدفع؛ لأن الذين يدفعون قلَّما يذمُّون. وزِدْ على ذلك أن الأطباء
أشبه شيء بالضرائر، ليس بينهم عصبيةٌ تحمي مصالحهم، فليس لهم رأيٌ عام
كما يقولون، ولو كان لهم ذلك لمَا تجاسر القاضي الذي حكم على «لابورت»
المذكور أن يصبَّ عليه ذلك الحكم الجائر. فقد قال بعضهم: «لو اعتصب
الأطباء بعد الحكم على لابورت ثلاثة أيام امتنعوا فيها عن تأدية
وظائفهم، لرأيت القضاة على أبوابهم يستسمحون.»
وعلى ذِكر الرأي العام، أقول إن كثيرين يذهبون إلى أن الرأي العام في
الشرق اسم بلا مسمًّى كالغول والعنقاء، ومع ذلك فنحن نسمعه في الجرائد
كثيرًا، ونفاه بعضهم عن المصريين بحجة قلة انتشار التعليم بينهم، وفي
الأمر نظر.
١١