المقالة السادسة والثلاثون
لا نقصد بذلك يد الظالم التي يمدُّها للفتك بك، ولا قبلة المُداجي الخائن الذي يبيعك بأبخس الأثمان، ولا درهم جاسوس السوء الذي يتقاضاه ثمن هدر دمك؛ وإنما المراد به أمرٌ عادي جارٍ كل يوم في المعاملات بين الناس، وهم على تمام الولاء والإخلاص، غافلين عما قد يجرُّه عليهم أحيانًا من السقم والبلاء.
ذهب الأطباء إلى أن أمراض الإنسان ناشئة عن أجسامٍ حية، تتوالد وتنمو كما ينمو الحيوان والنبات، صغيرة جدًّا لا تُرى إلا بالآلات المُعظمة، سمَّوها مكروبات، مُنتشرة في الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والأرض التي نطؤها، وعالقة بكل شيء لنا به اتصال، وإذا نجونا منها أحيانًا فلضعفٍ فيها أو لقوة فينا. فالهواء الأصفر الضارب اليوم في البلاد على أسلوبٍ غريب لم يسبق له مثيل في تاريخ الأوبئة، والحمَّى التيفوئيدية التي تفتك بنا كل سنة فتكًا ذريعًا، والتدرُّن الكثير الذي لا يُبقي ولا يذر، والدفتيريا التي هي طاعون الأطفال، وغيرها من الأمراض الكثيرة الخفيفة والشديدة؛ أسبابها مكروباتٌ خاصة بها تصل إلينا غالبًا عن طريق الفم بالطعام والشراب. وقد عرفوا أيضًا طرق إهلاكها، فهي لا تقوى على النار التي تُطهِّر كل شيء، فإذا نُقِّي الطعام والشراب منها مع ما في عصارات المعدة من الحوامض المُفسدة أمِن الناس شرها. ونقاوة الماء تكون بالترشيح، وأفضل من ذلك غليه، ونقاوة الطعام تحصل بالطبخ الجيد. تلك أمور لا نقصد الإفاضة فيها هنا، وقد صارت معلومة اليوم، ومرادنا فقط أن نُنبِّه إلى انتقال جراثيم الأمراض بواسطة ثلاثة عوامل مهمة، وهي: «اليد»، و«القُبلة»، و«الدرهم.»
فاليد أهم أعضاء الإنسان في المعاملات، يمدُّها إلى كل شيء، ثم يردُّها إلى فمه وعينَيه، فإن لم تكن نقية كانت سببًا لنقل العدوى، وهي العضو المُستعمل للسلام مُصافحةً. والسلام باليد عادةٌ لا نُبدي رأيًا في قبحها أو حسنها، وإنما نقول إنها شديدة الخطر؛ إذ إن الناس يتفاوتون في الاعتناء بنظافة أيديهم، وقد يحملون بها جراثيمَ أمراضٍ كثيرة، وربما استغربوا إذا قلنا لهم إن السلام مُصافحةً قد يكون سببًا لإيرادهم حتفهم، ولإتلاف عضو من أعضائهم كالعين. ولاتقاء ذلك على الناس جميعًا أن يعتنوا بنظافة أيديهم، وما ضنَّ الله عليهم بالماء، فالفقراء والأغنياء (ونستثني من ذلك سكان مصر والإسكندرية) في التمكن من الحصول على ذلك سواء، فلا يُعذَرون. ونِعم ما فرضته عليهم بعض الشرائع لو أنهم يفعلون! ونِعم العادة المُصطلح عليها أهل الشرق، وهي غسل أيديهم قبل جلوسهم على الطعام! وأفضل منها غسلها كلما تمكَّن الإنسان من ذلك.
والقبلة، وما أدراك ما القبلة، صلة القلب بين العاشق والمعشوق، وصلة النفس بين الأم والولد، وربما توسَّعوا فيها بين الصديق وصديقه، وهي هنا صلة لا نعرف لها اسمًا؛ إذ إنها غير طبيعية، فأمراض الفم والرئتَين كثيرًا ما تنتقل بواسطة القبلة، فكم من طفلٍ بريء أُصيب بداءٍ رديء بقبلة من مُرضعته! وكم من عاشقٍ أخذ الداء بقبلة من عشيقته! وهنا نستميح العفو من سادتنا الشعراء، فليس برد الأنياب دائمًا ريح الخزامى أو نشر القطر، كما في قوله:
ولا الريق دائمًا بالشهد كما في قوله:
على أن الشعراء يتَّبعهم الغاوون، وهم في كل وادٍ يهيمون، وكثيرًا ما ينطقون بما لا يصدقون، فالحذر من القبلة؛ فكم تُورِث الجسم علة، والقلب دبلة.
وأما الدرهم المُفرِّق بين الأم والولد، فلا مُشاحة في أنه عصب الهيئة الاجتماعية، كما يصفه الإفرنج؛ إذ تتوقف عليه قوة الأفراد والأمم. وكما أنه عصبها سيكون يومًا ما سببًا لتمزيقها أيضًا بما سيُحدِثه من الكوارث والقلاقل بين الشعوب؛ لانحصاره في جانب، وانحساره عن الجانب الآخر وهو الأكبر. ولسوء البخت هذا الحصر آخذٌ في الزيادة يومًا عن يوم بما لم يسبق له مثيل في تاريخ العمران. وهو علة الاضطرابات الداخلية الحاصلة في كل مملكة، وتألُّف العصابات لمقاومة أصحاب المال. وإن لم يتدارك ذلك أربابُ السياسة بالحسنى لا بالعنف، يُخشى أن يكون سببًا لخراب الممالك. هذا بالنظر إلى الاقتصاد السياسي، وأما إذا نظرت إليه طبيًّا فإنك تراه يصدق عليه قول الحريري:
فإن الدراهم يتداولها الناس بأيديهم، ويضعونها في جيوبهم، ومنهم من يضعها في فمه! فتحمل جميع المكروبات التي تُصادفها في طريقها، وتنقلها من واحد إلى آخر، مُكتسبةً كل مرة مكروباتٍ جديدةً على حد اكتسابها بالربا. ومن العادات السيئة إعطاء الدراهم للأطفال، فإنهم لا يتأخرون عن أن يضعوها في فمهم، فإذا كان عالقًا بها جرثومة مرض كالزهري أو الدفتيريا أو السل، فتصوَّر الضرر العظيم الذي يقع على الطفل من ذلك.
فهذه أيها القارئ اللبيب عواملُ ثلاثةٌ لنقل الأمراض، مهمة جدًّا، نبَّهناك إليها حتى إذا عرفت الداء سهُل عليك الدواء، راجين لك بذلك النجاة من شر المكروبات، وهذا أفضل ما نتمنَّاه للقُراء الكرام على رأس هذا العام.