المقالة السابعة والثلاثون
رأيت فتًى يلعب بالنرد، وهو كلما أراد نقل حجر أرسل إصبعه (السبَّابة) أولًا إلى فمه ولحسها بلسانه، وهكذا كان يفعل قبل نقل كل حجر، وكان يفعل ذلك بسرعة وخفة لا يُحاكيه فيهما سوى ذوات الأيدي الأربع، كأن الأمر فيه عادةٌ مألوفة ليس للرويَّة فيها أدنى دخل. وهذا ما استلفت نظري إليه خاصة؛ لأني رأيته وأنا مارٌّ في الطريق، فذكَّرني ذلك عادة كثيرين من الناس، تراهم دائمًا يُشركون ألسنتهم في كل ملموسات أيديهم. فالقارئ في كتابٍ يلحس إصبعه عند تقليب كل ورقة من أوراقه، والبائع يلحسها عند فرز كل بضاعة، واللاعب عند تناول كل ورقة من أوراق اللعب، وبعض الكتَبة يلحس الحبر عن الورق كلما أراد محو شيء كتبه للفور.
وهي عادةٌ قبيحة جدًّا وقذرة، وبعضها مُنافٍ لآداب المُجالسة، وتجعل مُجالسك يتقزَّز منك. وهي على العموم مُضرَّة بالصحة، وقد تكون واسطة لنقل أمراض قد يكون بها القضاء على الحياة؛ إذ لا يخفى أن الأمراض تنتقل بسهولة عن طريق الفم، كالسل والحمى التيفوئيد والهواء الأصفر، وسائر الأمراض البسيطة والوبيلة.
ولا يخفى أن اليد أقذر عضو في الإنسان؛ فهي التي يُصافح بها عند التسليم، ويتعرف بها كل ما يقع تحت نظره من الملموسات، ويقبض بها كل أنواع العملة. والعملة أقذر ما يتعامل به البشر؛ لانتقالها في الأيدي الكثيرة، ومن فم إلى فم كما يفعل أكثر السوقة من الناس، وكما يفعل الأطفال أنفسهم كلما وقع إليهم شيء منها. وإذا تحرَّينا جيدًا نجد أن العدوى بالأمراض عن سبيل اليد هي على نسبةٍ أعظم جدًّا منها بواسطة الطعام والشراب في الذين لا ينتبهون إلى هذه الصلة بين اليد والفم.
ولعل هذه الإشارة الوجيزة تكفي لحمل الذين يصل إليهم علم ذلك على الإقلاع عن هذه العادة المُزدوجة القبح بقذارتها وضررها بالصحة، ولعلها تكفي أيضًا لتربية الإنسان نفسه على الحذر من يدَيه، واعتبارهما من حين ما يخرج من بيته إلى أن يعود إليه عدُوتَين له، لا يأمن على نفسه منهما، فلا يُقربهما من فمه حتى يغسلهما جيدًا بالماء والصابون، ويُكثر من الغسل كلما تيسَّر له ذلك.
ويا ليت الناس يُقلعون عن المُصافحة باليد التي هي من شر العادات، ويستغنون عنها إما برفع اليد إلى الرأس أو برفع العمارة عنه إذا كانت قبعةً يسهل رفعها.
واليد إذا لم يتَّقِ الإنسان شرها هي أعظم جانٍ عليه؛ فهي التي تجرُّه إلى مواقف الردى في المحاكم والأمراض؛ ولذلك إذا وجب على الإنسان أن يحذر لسانه مرة، وجب عليه أن يحذر «يده» ألف مرة.