المقالة الثامنة والثلاثون
لو تجرَّد الإنسان ممَّا غُرس فيه من بواعث التفريق بعلة الأديان، لمَا أتى منكرًا بحق أخيه الإنسان.
على أن الأديان تنهى عن المنكر، وهي كسائر الشرائع التي يُقصد منها إصلاح العمران تُعلم العطف على الإنسان.
ولكن الأديان، كسائر مخترعات البشر، تتحول من النفع العام حتى تصير وسائل للكسب في أيدي الذين اتخذوها تجارةً لجذب الدنيا، ولو بالقضاء على الإنسان.
رؤساء الأديان من كل دين وملة علَّموا الناس حتى اليوم غير ما تأمرهم به الأديان، وكم قاموا يبيعون دينهم بدانق، وفرَّطوا بمال الأيتام، وكم خدموا به أغراض عُتاة حكامهم؛ ليتقسموا معهم الدنيا، ولو داسوا الدين بالأقدام.
قامت النصرانية في العصور الوسطى بفظائع تقشعرُّ لها الأبدان، حاشا للإنجيل أن يكون الآمر بها، وما قام بها إلا أولئك الذين هزءوا بالدين ليسحقوا به الإنسان بالاتفاق مع الحكام الظلام.
ولو كانت النصرانية تأمر بهذه الفظائع لما رأيناها، في الممالك التي ارتقت بالعلم، شديدة العطف على الإنسان، إلا التي لا يزال الجهل مُخيمًا فيها، والتي لا يزال اليهود يُذبحون فيها على مذبح الجهل ذبحَ الأغنام؛ ممَّا يجعل الذنب كل الذنب على أولئك الرؤساء الطغام.
الإسلام دينٌ اجتماعي ينهى عن كل شر، لا يُقاتل إلا الذين يُقاتلونه، ولا يعتدي على الإنسان، ويأمر بالذود عن المُستأمنين الآمنين في ظله، وحاشا أن تأمر بغير ذلك شريعة القرآن؛ فالقرآن بريء من الفظائع التي ارتُكبت وتُرتكب كل يوم بعلة الدين في مملكة بني عثمان.
فيا مُقلنَسي الجهل ومعمَّمي الضلال، أين رأيتم في أديانكم ما يسمح لكم أن تزرعوا في رءوس أتباعكم الجاهلين التفريقَ بين الناس إلى حد التباغض والتقاتل، حتى قامت اليوم قيامتهم يُقتِّلون بعضهم تقتيلًا في الوطن الواحد، يعتدون على الآمنين لخلافٍ لا علاقة له بالدين؟
لو قامت الإنسانية في كل الدنيا، ونسرت لحم رؤساء الأديان، الذين هم وحدهم المسئولون عن كل الفظائع التي ارتُكبت، ولا تزال تُرتكب باسم الدين، نسرةً نسرة لما وفَّت حق الانتقام منه؛ لما جنَوه حتى اليوم على الإنسان.
عفوَكم أيها الأنبياء الكرام، على قول، ويا أيها الرجال العظام، على قول آخرين، ممَّا جناه باسمكم على الإنسانية هؤلاء الجهلة الطغام، الذين قُلتم فيهم إن لهم عينَين ولكنهم لا يُبصرون، وأُذنَين ولكنهم لا يسمعون، صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون.