المقالة التاسعة والثلاثون

الأمم والحروب١

الأرض واسعة جدًّا، وحتى الآن لم يملأها الإنسان؛ فهذه قارة أفريقيا على سعتها تُعد أقل القارات سكانًا، وأضعفها فيهم نسبة، ومجاهلها الواسعة غنية جدًّا، ولكنها لا تزال على الفطرة بكرًا حتى اليوم، لم تطأها رجل فاتح، ولم تبقر بطنَها يدُ عامل؛ فخيرها محفوظ في تُربتها لا مِحراث يشقُّها، وكنوزها مدفونة في جوفها لا مِعول ينبشها.

وهذه بلاد روسيا على ضخامة مُلكها وكثرة شعبها لا تزال متسعة جدًّا للإنسان، وصحراء سيبيريا لا تزال موطنًا للدببة تسرح فيها وتمرح، ومنفًى لمساكين الأشقياء، وللأحرار الذين عبثت بهم أيدي الظلام، فقطعوهم عن جسم الإنسانية ليهنأ لهم العيش، ورموهم هناك في جُب العزلة يلبسون المسوح من جلود الدببة، ويقتاتون بيابس العشب وصديد القديد، ويعاملون ولا معاملة الإنسان للحيوان، بل أشد من معاملة الحيوان لعدُوه الحيوان، إلى أن تموت نفوسهم، أو يُقضى عليهم جوعًا وبردًا وعريًا بعد آلام في النفوس هي أشد من عذاب الأجسام.

وهذه بلاد الصين، فمع أنها تُعتبر مَنملة البشر، فمساحتها فوق ما تضم من الناس بكثير.

وهذه بلاد الهند، فحراجها لا تزال ملجأ وحوش الغاب، وأوديتها مَواطن الأفاعي، ومُستنقعاتها موارد الحتوف.

وهذه قارة أمريكا، وحكومتها أرقى الحكومات، وشعبها أرقى الشعوب، فاتحة أبوابها لكل عامل نافع تجود عليه بالأرض ليعمل فيها ويزيد في عمرانها.

وهذه المملكة العثمانية تستطيع أن تأوي فيها فوق ما فيها من السكان أضعافًا مُضاعفة.

وهذه أوروبا المُتمدنة اليوم، المُتضايقة أكثر من سواها، لم تبلغ الدرجة القصوى من العمارية.

فأنت ترى أن الأرض لا تزال واسعة جدًّا على الإنسان رغمًا عن تشاؤم المُتشائمين وإحصاء الإحصائيين، تقوم بأوده مهما زاد في عدده، إلى أن يُتاح له ركوب متن الهواء لافتتاح السماء، والمهاجَرة إلى الأجرام، والسفر إليها بمراكب الحقيقة بعد مطايا الأحلام.

فالتنازع بين الإنسان ليس سببه المُدافعة عن القوت، والحروب ليس الدافع إليها الخوف من الجوع، وإنما هي المطامع تحمل الإنسان على قتل الإنسان، والمطامع هي جوع النفوس، وهو أشد هولًا من جوع الأجسام.

ألا ترى أن الإنسان، كما جاء في أساطير الأولين وفي كتب الدين، ما صار اثنين حتى قام قايين على هابيل وقتله؛ لأنه ظن أن الله فضَّله عليه إذ خصَّه بالضرع، وهو لم يخصَّه إلا بالزرع، والتفضيل مشكوك فيه؟ لا غَرْو إذا بقي الإنسان حتى اليوم أعرق في المطامع وأميل إلى الشر؛ لأنه بحكم الرواية من نسل قايين اللعين.

وهي حكمةٌ عرفها السلف عن طبيعة الإنسان في حب التنازع؛ لأنه ابن هذا التنازع في ناموس الوجود، فعبَّر عن هذه الحقيقة الصادعة بذاك المجاز الرائع.

وأعمال الإنسان في جاهليته الأولى لم تخرج عن ذلك، فلم يكن الواحد يهبُّ من رُقاده حتى يعلو ظهر جواده مُتأبطًا شرَّه للنهب والسلب والتمثيل بعدُو له لم يره قبل طعنه بسنان رمحه، أو ضربه بحد سيفه. ولا يزال يرود في طلب غنيمته بين الظعن والمضارب، ولا يرجع إلى الخيام إلا تحت جنح الظلام، ولا يهنأ له عيش حتى ينام على إثم، حتى صار ارتكاب مثل هذا الوزر عنوان الفخر الذي لا يعلو عليه فخر، فدبج الأصمعي قصة عنترة عبس العرب، ونظم هوميروس ملاحم أخيل اليونان، هذا يفتخر بأنه جندل أعداءه حتى تركهم، كما في قوله:

وقرا الطير والكلاب القيولا

وذاك بوصفه أبدع حقيقة في إيراده عدُوه أشنع مورد، حيث يقول:

تحُوم عليه عقبان المنايا
وتحجل حوله غربان بين

فوصفها كما رآها في حقيقة حالها تأكل منه حتى تشبع، وتحجل حوله حتى تجوع، ونهمها لا يدعها تُفارقه. ولم يزل هذا شأن الإنسان حتى في انضمامه أُسرًا وقبائل وأممًا تربطه بعضه ببعضٍ صلة الرحم فالمَنبت فالمصلحة.

وما انقضاض الإسكندر المكدوني بجحافله على الشرق، ونابليون على الغرب، وأنيبال في اقتحامه الأهوال، وقطعه الجبال، وما نهم كسرى في مجده، وتعسُّف نيرون في ظلمه؛ عن ضيق في الأرض أو شظف في العيش، وإنما هي مطامع أفراد ضاق بنفوسهم فسيح الغبراء، حتى لو افتتحوها لوقفوا يُفكرون في: كيف أنهم يفتتحون السماء؟

ملوكٌ سوَّدتهم نفوسهم، وهوَّنت عليهم ركوب الأهوال واقتحام المخاطر، فاندفعوا ورءوسهم على أكُفهم مُقامرين غير هيَّابين، وساعدهم جهل الجماهير فسادوا عليهم، ورمَوا بهم من كل حالق، فاندفعوا يدفعون بأرواحهم ثمن مجد سواهم، يحصدهم الموت بمِنجله، وملوكهم يتمتَّعون بثمار فوزهم، ويرفعون على جُثَثهم قباب مجدهم. هكذا كان شأن الملوك في كل العصور، من كل عصامي جبَّار، إلى كل عظامي بليد. يوم كان الملوك كل شيء، وكانت الأمم لا شيء؛ لا غَرْو إذا كانوا كل حين في مطمع، وكل يوم في حرب. وكم أثاروا حروبًا هُدرت بها دماء الرجال، ورُمِّلت النساء، ويُتِّمت الأطفال، لقضاء شهوة بهيمية. وحُمر الناس يظنون أنهم يقضون واجبًا عليهم.

ما أرفعَ الإنسان إذا عز، وما أدناه إذا ذل! ذاك يُناصب آلهته العدوان، وهذا ينحطُّ إلى أن يُحاكي الحيوان. وما زال ذلك إلى أن انقضى زمن الخاصة أو تداعى، وقامت سيادة العامة أو كادت، فتنبَّهت في الأمم عاطفة المصلحة، تجمعهم فيها تارةً جامعة الأديان، وطورًا جامعة الأوطان، وأثاروا لأجلهما حروبًا تشيب لها الولدان. وقد ضعفت تلك اليوم كثيرًا في مجامع الأمم الراقية، ولكن جامعة الأوطان ما زالت عزيزة الجانب، يتذرَّعون بها إلى إثارة الفتن بين الأمم، وحملها على تقتيل بعضها بعضًا. على أنه كلما ارتقى الناس قلَّت الحروب، وزاد الحذر منها بزيادة معدَّاتها؛ إذ ليس أمنع للحرب من الاستعداد للحرب؛ ولذلك قلَّ الخوف من الحروب بين الأمم المَنيعة. وكلما ارتقى الإنسان أدرك أن التساهل والتسامح أدعى لمصلحة العمران، وأن الحياة أغلى ثمنًا من أن تُضحَّى على مذبح التوحش والجهل. فإن لم يكن هذا السبب الأخير هو الذي يصدُّ الدول عن الاشتباك في حربٍ نراها تبرق لها وترعد اليوم، فلا شك أن الذي يصرفها عنها خوفها ممَّا لكل واحدة منها من الحَوْل والطَّول، فليس من أمة من أمم أوروبا الراقية اليوم ترضى بأن تضرم فيما بينها حربًا، ليست الحروب الماضية بالنسبة إليها إلا كالألعاب النارية التي تُطلَق اليوم في الأعياد، وكل هذا التهديد والوعيد ليس إلا دعوة لاجتماعٍ تتوازن فيه مصالح الجميع، وسينتهي عمَّا قليل كغيوم الصيف تنحلُّ بالندى.٢
١  نُشرت في البصير سنة ١٩٠٨، وكانت غيوم السياسة الأوروباوية مُتلبِّدة بسبب المطامع في البلقان بعد إعلان الدستور العثماني؛ ممَّا كان يُنذر بالحرب، إلا أن الكاتب كان يعتقد غير ذلك.
٢  وبالواقع انتهت المشكلة المذكورة بعد ذلك، ولم يُجرد فيها حسام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤