المقالة الرابعة
الغاية من الاجتماع البشري، ويُسمَّى العمران أيضًا، التعاونُ على المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه. وذهبت طائفةٌ من الحكماء إلى أن الاجتماع نتيجة الفكر والرويَّة وقصرتْه على الإنسان، وقال قومٌ: بل هو طبيعيٌّ في الحيوان؛ لما يُعهد من اجتماع النمل والنحل والجراد والقرود، كما سنبين ذلك فيما يأتي. وإنما بلغ الغاية في الإنسان؛ لأنه أَقْوَمُها تكوينًا وأبعدها فكرًا وأقواها رويَّة. وأجمعوا على أنه ضروريٌّ للبشر وإلا لم يكمُل وجودهم ولم تتم حياتهم؛ لأن الإنسان مضطرٌّ لدفع شرورٍ كثيرة عنه مثل الجوع والعطش والبرد والتعب، وعدوان بعضه على بعض وعدوان الحيوانات الأُخر التي تساكنه أرضه وتُنازعهُ الحياة فيها، ولمقاومة قواسر أخرى طبيعية كثيرة. ومحتاج كذلك إلى موادَّ وآلات يتقي بها هذه الشرور كالقوت والكساء والمساكن والأسلحة، وغير ذلك مما يقتضي أعمالًا كثيرة، فإن كان منفردًا، فهو لا يستطيع القيامَ بها جميعًا؛ لأن كل عملٍ منها يستغرق فيه حياةً كاملة، وقد لا تفي بجزءٍ منه، فهو لا بدَّ له من الاجتماع وتقاسُم الأعمال حتى يتمَّ له التعاونُ بحيث يكون منه الزارع والصانع والجندي والوازع والمخترع والحكيم، وحتى ينتظم وجودُه ويحسن حالهُ.
ولهذا شبَّه الحكماءُ العمران بجسمٍ حيٍّ كسائر الأجسام الحيَّة مركَّب من أعضاء مختلفة تعمل لغاية واحدة، وهي سلامة بعضها وسلامة الكل. ووصفه بعضهم وصفًا طبيعيًّا نظيرها كما سيأتي، ولو اقتصر الإنسان على الحياة منفردًا ما استطاع أن يتغذَّى بغير الأثمار أو يكتسي بغير أوراق الشجر يخصفها عليه أو يأوي إلى كهوف الأرض، ولَمَا أمكن له إقامةُ القصور الشاهقة، وبناءُ المدن الحصينة، واتخاذ الملابس الحسنة الفاخرة، وطبخ الأطعمة الجيدة اللذيذة، واصطناع الأسلحة المنيعة، ولكان أشبه بالحيوانات العجم، ولَمَا نما إلى هذا الحد، ولكانت حياته أشبه بحياة الكريَّات الحية المؤلَّف منها الجسم الحي إذا كانت منفردةً. فهو لم يستطع النهوض بهذه الأعمال إلا مجتمعًا؛ فحياته الاجتماعية إذن ضروريَّة لحفظه ولراحته ورفاهيته؛ ولهذا نما فيه هذا الميل للاجتماع إلى حدٍّ بليغ جدًّا حتى وصفه الحكماءُ بقولهم: الإنسان مدنيٌّ بالطبع؛ أي: لا بدَّ له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم كما يقول ابن خلدون.
ولكي يتمَّ له ذلك لا بد له من سنن تكفله ولا بدَّ من العدل في هذه السنن؛ أي: مراعاة مصالح الجمهور المتبادلة، ولا بدَّ من احترامها كذلك وإلا انفصمت عروة الاجتماع وتداعتْ دعائمهُ. لكن لما كان الإنسان كثيرًا ما لا يسلك من نفسه الطرق المثلى المؤدية إلى ذلك؛ إما عن عتوٍّ وغرور أو عن جهل وذهول، كان لا بدَّ له من إقامة قوةٍ يُناط بها المحافظةُ على المقرر من السنن، والاقتصاص ممن يحيد عن جادَّتها وإلا آل به الحال إلى الفوضى؛ أي: لا بدَّ له من وازعٍ يكون منهُ؛ إذ لا يمكن أن يكون من سواهُ، يدفع عدوان بعضه عن بعض ويهتمُّ بإصلاح شئونهِ. وقد أشار أرسطو إلى ذلك كله في دائرته المسماة في عرف السياسيين بالدائرة السياسية حيث قال: «العالَم بستانٌ سياجُه الدولة، والدولةُ سلطانٌ تحيا به السنة، والسنة سياسة يسوسها الملك، والملك نظام يعضده الجند، والجند أعوان يكفلهم المال، والمال رزقٌ تجمعه الرعية، والرعية عبيدٌ يكنفهم العدل، والعدل مألوف وبه قوام العالم.»
واختلفوا في حقيقة هذه السنن، فذهب قومٌ إلى أنها الشرع المفروض من عند الله؛ وإلا لم يكن لها وَقْعٌ في القلوب ولا نهيٌ عن المنكر. وقال غيرهم: بل هي الشرع على الإطلاق؛ وإلا لَمَا اقتضى أن تتم العمارة للبشر قبل الأنبياء ولا لأُممٍ غير تابعة لهم. قال ابن خلدون: «وتزيد الفلاسفة على هذا البرهان، حيث يحاولون إثبات النبوَّة بالدليل العقلي، وأنها خاصَّة طبيعية للإنسان، فيقررون هذا البرهان إلى غايته، وأنه لا بدَّ للبشر من الحكم الوازع، ثم يقولون: وذلك الحكم يكون بشرعٍ مفروضٍ من عند الله يأتي به واحدٌ من البشر، وإنه لا بدَّ أن يكون متميزًا عنهم بما أُودع فيه من خواص هدايتهِ؛ ليقع التسليم له والقبول منه؛ حتى يتمَّ الحكم فيهم وعليهم من غير إنكارٍ ولا تزيف. وهذه القضية للحكماء غير برهانية كما تراهُ؛ إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه، أو بالعصبيَّة التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادَّته. فأهل الكتاب المتبِعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب، فإنهم أكثرُ أهل الأرض؛ ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار فضلًا عن الحياة، وكذلك هي لهم لهذا العهد في الأقاليم المنحرفة في الشمال والجنوب، بخلاف حياة البشر فوضى دون وازع لهم البتَّةَ فإنه يمتنع؛ وبهذا يتبين لك غلطهم في وجوب النبوَّات وأنه ليس بعقلي، وإنما مدركه الشرع كما هو مذهب السلف من الأمة.»
وذهب فريقٌ إلى أن السنن التي اصطلح عليها الإنسان في بادئ اجتماعه إنما هي سنن العوائد، وهي أحكام تكليفية مرعية في المعاملات والمعايش إنما الحكومة لا تشدد في المحافظة عليها، وهي تحصل للناس بالتربية والمحاكاة وتنشأ فيهم عن سليقة، وهي أَسْبَقُ كل السنن. وذهب سبنسر إلى أنها أصلها جميعًا؛ لأنها هي المرعية وحدها عند بعض الأجيال من البشر المنغمسين في التوحش كأهل أستراليا وطسمانيا والإسكيمو، وغيرهم ممن ليس لهم نظامات سياسية ولا دينية، أو هي فيهم أثر من عين. قالوا: وقد كان زمام هذه النظامات السياسية والدينية أولًا في يد سلطان واحدٍ ولم ينفصلا إلا بعد حين؛ أي: بعد أن بلغ الإنسان درجةً عالية في العمران كما تدلُّ أحوال كثيرٍ من أجيال البشر اليوم، وكما يُعلم من تاريخ الأُمم العظيمة والمِلَل الشهيرة. وذهب المحققون إلى أن السنن ينبغي أن تكون تابعة للإنسان لا متبوعةً به؛ أي: أن تكون متغيرة لا ثابتة ومقيدة لا مطلقة حتى تكون نافعة له لا سببًا مانعًا لارتقائه، وإلا لما قدر الإنسان أن يخطو خطوةً عما يفرضه له نظام معلوم، ولبقي في كل عصرٍ وفي كل جيلٍ كما كان في العصر الأول والجيل الأول من اجتماعهِ؛ لأن كل جيل لهُ سنن لا تصلح لسواهُ، فإن لم تتغير هي لم يتغير هو. والحق أن أحوال الأُمم وعوائدهم ونِحَلَهم لا تدوم على وتيرةٍ واحدة ومنهاج مستقر، كما يقول ابن خلدون: إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقالٌ من حالٍ إلى حال، إلا أن هذا التبدُّل في الأحوال والعوائد والنِّحَل بتبدُّل الإعصار ومرور الأيام يذهل عنه الكثير من الناس؛ إذ لا يقع إلا بعد أحقابٍ متطاولة، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة.
•••
واختلفوا في طبيعة الحكم الوازع فقال قوم: هو الحكم الملكي المطلق، ورأسه الملك، وقد أشار أنوشروان إلى ذلك حيث قال: «ورأس الكل افتقاد المَلِك حال رعيته بنفسه، واقتداره على تأديبها حتى يملكها ولا تملكه.» وقال غيرهم: «بل هذا النظام مفسد للعدل الذي هو أسُّ العمران بما يولي الملك من السلطان المطلق على عماله وعلى رعيتهِ؛ إذ لا يكون لأعماله منتقد ولا لأحكامه معدل، فيعدل إلى الاستبداد في أُمور الرعية ويستخدمها لأغراضه الخصوصية. وإذ تستحسُّ الرعية منه بذلك تدين له خاضعة خادعة، ويسود عليها مخضوعًا له مخدوعًا، فيتقرَّب له أصحاب الأغراض بالكذب في موضع الصدق وبالإطراءِ في موضع التنديد؛ لأن الناس متطلعون إلى الدنيا من جاهٍ أو ثروة والنفوس مولَعة بحب الثناءِ. ويسلك معه على هذا المنهاج عمَّالهُ وتبَّاعه وسائر بطانته، فيحجبون عنه صحيح الأخبار متزلفين إليه بما يزيدهم فيه استئثارًا، وفي أحوال الرعية استبدادًا.»
حكى أبو الفدا في تاريخه قال: «بينا الخليفة المنصور يطوف بالكعبة ليلًا إذ سمع قائلًا يقول: اللهمَّ إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع. فخرج المنصور إلى ناحية من المسجد ودعا القائل وسأله عن قوله، فقال لهُ: يا أمير المؤمنين، إن أمَّنْتَنِي أنبأتك بالأمور على جليَّتها وأُصولها. فأَمَّنَه، فقال: إن الذي دخله الطمع حتى حال بين الحق وأهله هو أنتَ يا أمير المؤمنين. فقال المنصور: ويحك، وكيف يدخلني الطمع والصفراءُ والبيضاءُ في قبضتي والحلو والحامض عندي؟ فقال الرجل: لأن الله استرعاك المسلمين وأموالهم فجَعَلْت بينك وبينهم حجابًا من الجص والآجُرِّ، وأبوابًا من الحديد، وحُجَّابًا معهم الأسلحة، وأمرتهم ألَّا يدخل عليك إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف ولا الجائع والعاري ولا الضعيف والفقير. وما أحد إلا وله من هذا الأمر حقٌّ، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك تجبي الأموال فلا تعطيها، وتجمعها ولا تقسمها قالوا: هذا قد خان الله تعالى، فما لنا لا نخونهُ وقد سخَّر لنا نفسه؟ فاتفقوا على أن لا يصل إليك من أخبار الناس إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا أَقْصَوهُ ونفوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدرهُ. فلما انتشر ذلك عنك وعنهم عظَّمهم الناس وهابوهم، فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا ليتقوَّوا بهم على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلمًا وفسادًا، وصار هؤُلاء القوم شركاءَك في سلطانك وأنت غافل. فإن جاءَ متظلم حيل بينه وبين الدخول إليك، فإن أراد رفع قصة إليك وجدك قد منعت من ذلك وجعلت رجلًا ينظر في المظالم. فلا يزال المظلوم يختلف إليه وهو يدافعه خوفًا من بطانتك، فإذا صرخ بين يديك ضُرب ضربًا شديدًا؛ ليكون نكالًا لغيره، وأنت تنظر ولا تنكر، فما بقاء الإسلام على هذا.
فإن قلتَ: إنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله في الطفل يسقط من بطن أُمه وما له في الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يدٌ شحيحة، فما يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى يعظِّم رغبة الناس إليه. ولست الذي يعطي، وإنما الله — عزَّ وجلَّ — يعطي من يشاءُ بغير حساب. وإن قلت: إنما أجمع المال لتسديد الملك وتقويته، فقد أراك الله في بني أُمية؛ ما أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة وما أعدُّوا من الرجال والسلاح والكراع حين أراد الله ما أراد. وإن قلت: إنما أجمعه لطلب غايةٍ هي أَجْسَمُ من الغاية التي أنت فيها، فوالله ما فوق الذي أنت فيه منزلة إلا منزلةٌ ما تُنال إلا بخلاف ما أنت عليه.»
فلم يكن بدٌّ في مثل هذا النظام من تعظيم شريعة الله والإكثار من الهديد بها تذكيرًا للملوك وتهويلًا كما فعل الأعرابيُّ المذكور مع المنصور، وكما فعل بهرام بن بهرام في حكاية اليوم حيث يقول: «أيها الملك، إن الملك لا يتم عزُّه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعتهِ والتصرف تحت أمره ونهيهِ.» وإلا قلَّ عدلهم وانتفى صلاحهم وكثر جورهم، وهار بناءُ ملكهم؛ إذ ليس لهم زاجرٌ سواها؛ لأنهم غير مسئولين فيما عهد إليهم من أُمور العبد إلا لله وحدهُ. هذا على فرض أن يكون الملك حليمًا عادلًا فكيف به إذا كان جبارًا عاتيًا كتيمور الذي كان كلما فتح مملكة أو مدينة يبني من رُءُوس أهلها هَرَمًا.
•••
قالوا: ولهذا النظام أيضًا أثر لا يُحمد في الأخلاق إذ تنحط معه الهمم وتضعف العزائِم، وتذلُّ النفوس بما يكثر من الظلم فيسود الرياءُ ويفشو الكذب؛ لأن الذين يغلب فيهم الظلم يغلب عليهم الرياءُ حتى يصير فيهم ملكة طبيعية فيقلُّ الصدق؛ لأن القوم الذين يغلب فيهم الرياءُ هم قومٌ لا يَصدقون ولا يُصدقون، فيختل نظام الملك ويسوءُ حال الرعية وتفقد، على مر الزمان، استقلالَها في عالم الوجود. قال أبقراط في كتاب الأهوية والمياه والمساكن: «لذلك كان أهل آسيا أقل نجدةً للحروب من أهل أوروبا؛ لأن أعظم قسم منها تحكمه ملوك، وحيثما كان الناس عبيدًا لسواهم فهم لا يهتمون بأن يتمرنوا على السلاح، بل أن يتخلصوا من التجند؛ لأن الخطر غير موزَّع على السواءِ. فالرعايا يذهبون للحرب متحملين مشقاتها ويموتون عن سادتهم بعيدين عن أولادهم ونسائهم وأصدقائهم، وسادتهم هم الذين يجنون ثمرة أتعابهم لمد شوكتهم، وأما هم فلا ينالهم غير اقتحام الأهوال والموت. ومما يؤيد ذلك أن جميع الذين في آسيا من اليونان والبرابرة ممن لا سادة لهم، بل هم يتولون الحكم فيهم وعليهم بشرائعهم، ويشتغلون لأنفسهم هم بين سكانها أنجدهم للحروب وأقدمهم على الخطر؛ لأنهم هم الذين يجنون ثمرة بسالتهم ويتحملون عار جُبنهم.»
لذلك قالوا: إن الحاكم ينبغي أن يكون مقيدًا بسننٍ تضعها الأمة وأن يكون مسئولًا لها بها. وهذا النظام له فوائدُ جمةٌ؛ أولًا أن الحاكم لا يكون معه مطلق التصرُّف؛ فأحكامه في الأمر والنهي لا تجري إلا إذا كانت مطابقة لوضع السنن المقرَّرة، والتي يحافظ عليها رجالٌ من مشاربَ مختلفة وآراء متباينة تعهد الأُمة إليهم بها، ثم لما كانت احتياجات الأمة تختلف باختلاف أحوالها كان هذا النظام موجبًا من هؤلاء الرجال للنظر في هذه السنن لتعديلها من وقتٍ إلى آخر، بحيث تكون موافقةً للحال، ويكون ذلك بالاشتراك مع الأمة التي يطَّلعون على آرائها ومناويها، ويفهمون مقاصدها ومغازيها؛ إذ لا يكون معه حجرٌ على الأفكار.
وهذا الأمر من طبعه أن يُثير حربًا في الآراء والمذاهب تكون نارها بردًا وسلامًا على الأمة؛ لأن المضادة التي تنشأُ حينئذٍ تكون نتيجتها إعطاءَ الأشياءِ حقها من التمحيص قبل إقرارها، والوقوف فيها عند حد الاعتدال، وإلا إن لم تكن المضادة في الآراءِ لم يمكن تمحيصها بنار الانتقاد ولا الاعتدال بها؛ إذ تنفرد بها النفوس ويقوى بها التشيع. والنفس إذا خامرها تشيعٌ كان ذلك التشيع غطاءً على عينِ بصيرتها عن الانتقاد، فتجمح إلى ركوب متن الإفراط أو تسقط في مهواة التفريط. ولا يخفى ما لذلك النظام من الأثر في تحسين أحوال الأمة وعلومها وصنائعها؛ لما ينمو فيها من فضائل الحرية القانونية المؤسَّسة على معرفة الإنسان نفسَه، وما يجب له وما يجب عليه في العمران، فتنطبع على الإقدام والقيام بالأعمال الجليلة؛ إذ تنهض منها الهمم وتشتدُّ العزائِم، فتمتد شوكتها في الأقطار ويتسع نطاق ملكها.
قال أبقراط أيضًا: «ولهذا السبب كان أهل أوروبا أشد نجدةً للحروب من أهل آسيا؛ لأنهم لا تَحْكُمُهم ملوك نظيرهم، فالخاضعون للحكم الملكي يفقدون الشجاعة ضرورة؛ لأن نفوسهم مستعبدة، فلا يهمهم التعرض للخطر لمد شوكة غيرهم، وإنما تحكمهم شرائعهم؛ لذلك هم إذا رأوا الخطر محدقًا بهم أقدموا عليه بجسارة؛ لأن النصر عائده عليهم.»
•••
وذهب فريق إلى أن هذا الحكم إنما هو الحكم الملكي المقيد، وقال غيرهُ: بل هذا النظام يُشمُّ منه رائحة الاستبداد، وهو محفوف بالمخاطر؛ لأن المَلِكَ وإن كانت الأمة تقاسمه الحكم بمن تستنيبهم منها لديه لمراقبة أعماله والذود عن حقوقها، إلا أنه لم يخلُ من بطانةِ وعمال يهمهم التقربُ له أكثر من القيام بمصالح الأمة، فربما عاونوه على استمالة نوابها إليه إما لذهول هؤلاءِ عن المقاصد التي نُدبوا لها أو لخوف حرمانهم من المناصب بما للملك وخاصته من السطوة والنفوذ، فانقلبت نيابتهم فيها شرًّا وهدايتهم لها تضليلًا وساءَت بهم مصيرًا. ثم لما كان هذا النظام يخول الملوك حق الولاية بالسلالة كان لا يمتنع أن يتولى منهم من يكون خامل الذكر فاقد الحزم، فتتلاعب به أغراضُ عمَّاله وتتجاذبه أهواؤُهم وهو فاقد الرشد لا يميِّز غث الأمور من سمينها، فيتطرَّق الخلل إلى أمور المملكة من وجوهٍ شتى حتى تصبح:
وبالجملة ذهبوا إلى أن الحكم الوازع يمتنع أن يكون مقيدًا حق التقييد في مثل هذا النظام إلا إذا كان فيه المَلِك صورةً لا حقيقةً كما يُعهد في بعض الأمم (أُمَّة الإنكليز)، وهي مع ذلك أَصْلَحُ الناس حالًا؛ ولذلك قالوا: لا بدَّ من أن يكون حكم التبديل شاملًا لعامة الهيئة من الملك إلى العامل البسيط مع مراعاة جانب الحكمة في هذا التبديل اجتنابًا لشر العجلة إذا كان سريعًا، فتتبدَّل الدول ولا تكون فرصة للعمل وفرارًا من سوءِ عقبى الإبطاءِ؛ لئلا يستبد الرأس الحاكم بالحكم إذا طال عهده وهو قابض على ذمامه، كما وقع لنابوليون. ويُنتخب الرأس من آحاد الأُمة، ويوجب له هذا الانتخاب عندها ما له من الحكمة والدراية بالأمور، فيتعاون مع رجال الحكومة على إتمام الحكم في الأُمة وعليها، على قوانين الشورى الحقة، قالوا: وهذا النظام كثيرًا ما لا يبرأُ من الخلل، إلا أنه أَبْلَغُ ما في طاقة البشر إدراكه بالفعل.
•••
ومن ينظر في العُمْران ينبغي ألا يذهل عمَّا للإقليم من الأثر فيه؛ إذ لا يستوي العُمْران في كل الأصقاع لاختلاف طبائع أقاليمها، ولا في كل الأجيال لاختلافهم في الخَلق والخُلق. وسبب ذلك لأن الإنسان مُتأثر لعامة الأسباب الطبيعية من حر وبرد وهواء وخصب وجدب ونجد وغور وجبل وسهل وبادية ومصر واختلاف فصول، وغير ذلك ما بين اعتدال مزاج واختلاف تكوين وشدة واسترخاء وحزم وثبات وطيش وخفة وخشونة ولين ونشاط وتوانٍ وغفلة وذكاء وبلادة. وكل ذلك يؤثِّر في عاداته وسياساته ونِحله، ويؤثِّر بعضه في بعض أيضًا، بحيث تختلف النتائج عن ذلك اختلافًا جسيمًا، وتتنوع إلى ما لا حدَّ له. فإنك إذا قابلت بين سكان صقع وصقعٍ تجد بينهم بونًا عظيمًا في التكوين والأخلاق والسياسات والعادات، وكذلك الأجيال الواحدة تختلف في الأحقاب المختلفة، وسكان البلد الواحد يختلفون فيما بينهم حتى لا تكاد ترى اثنين يُشبِه أحدهما الآخر بسبب ذلك.
وربما أمكن الحكم على طبائع كل قوم من طبائع إقليمهم بقطع النظر عن تاريخهم؛ لأن مُتولدات كل إقليم هي شبيهة به؛ لذلك كان اليونان الأقدمون في عصر الميثولوجيا يُصْلُون آلهتهم نار الحرب، وكان أكثر شعرهم حماسيًّا كما جاء في ديوان شاعرهم أوميروس؛ لأن شعر كل قوم مرآة حال ذلك القوم؛ ولذلك أيضًا كان المصريون القدماء يعبدون التمساح وغيره من أصناف الحيوانات العجم؛ ولهذا السبب عينه كان أهل بريطانيا يغلب على طباعهم الجد وعلى تصوُّراتهم العبوسة، كما يظهر من تصوُّرات شاعرهم «مِلتُن»؛ ولهذا السبب أيضًا كان العرب وأهل إيطاليا وإسبانيا يَصْبُون إلى الألحان الشجيَّة، ويميلون إلى الغزل والتصابي في شعرهم. وما كان بين ذلك كانت طباع أهله بين ذلك أيضًا، ولا يمكن الإطلاق في مقام التقييد؛ لأن أسبابًا أُخَر كثيرة عامة وخاصة إذا اشتركت مع ذلك لم تُبقِ هذه النتائج على حالها، بل غيَّرت من أمرها، وبدَّلت تبديلًا كبيرًا.
•••
وممَّن تمعَّن من الأقدمين بما لطبيعة هذه الأسباب من الأثر في طبيعة الأرض وسكانها أبو الطبِّ أبقراط. قال في عُرْض كلام له في هذا المعنى ما نصه: «إن آسيا تختلف اختلافًا عظيمًا عن أوروبا بطبائع محاصيلها وسكانها، فكل ما يَنبت في آسيا أقوَمُ خَلقًا وأعدل خُلقًا، وسبب ذلك اعتدال فصولها؛ فإنها لوقوعها بين شروقَي الشمس (الشتوي والصيفي) هي معرَّضة للحر بعيدةٌ عن البرد، وهذا هو سبب خصبها وجودة محاصيلها واعتدال إقليمها. وهي ليست مُتساوية في كل الأماكن، فما كان منها واقعًا مُتوسطًا بين الحر والبرد كانت أثماره أخصب، وأشجاره أجمل، وهواؤه أرقَّ، ومياهه مطرًا كانت أم ينابيع أصحَّ؛ إذ ليس فيه زيادة حر تحرقه، ولا قلة مياه تُيْبسه، ولا برد قارس يُميته، بل هو دائمًا نديٌّ بسبب أمطاره الغزيرة وثلوجه الكثيرة؛ فأرضه لذلك كثيرة الخصب زرعًا مزروعًا كان أم نباتًا تُنبته الأرض من نفسها، وحيواناته كبيرةٌ كثيرة النتج، وسكانه سِمانٌ وأشكالهم جميلة وقاماتهم مُعتدلة، وقلما يختلف أحدهم عن الآخر. وهذه القارة أيامها أشبه بالربيع لاعتدال فصولها، إنما ليس لأهلها بسالة الرجال، ولا الصبر على المُلمَّات، ولا الثبات في الأعمال، ويغلب عليهم حبُّ اللذات. وأمم أوروبا تختلف بعضها عن بعض بالقدِّ والشكل لشدة اختلافات فصولهم وكثرتها.» إلى أن يقول: «لذلك فيما أرى كان أهل أوروبا يختلفون فيما بينهم أكثر من أهل آسيا، وكان أهل البلد الواحد يختلفون في القد؛ لأن تكوين الجنين يختلف في إقليمٍ تكثر فيه اختلافات الفصول أكثر من إقليمٍ تتشابه فصوله، وكذلك يحصل في الأخلاق؛ لذلك كان أهل أوروبا أشدَّ نجدةً للحروب من أهل آسيا.» ا.ﻫ.
•••
وكذلك تكلَّم الشيخ الرئيس ابن سينا في كتاب القانون، وقد نحا نحو أبقراط في ذلك حتى يُظن في أماكن كثيرة أنه نقل عنه. قال في أُرجوزته مُتكلمًا عن سبب اختلاف اللون في البشر:
وممَّن أفاض في هذا الموضوع ابن خلدون في مقدمته، حيث بسط الكلام على تأثير الحر والبرد والهواء والقُوت والمكان، وغيرها بما لا يُعهد له مثيل إلا عند علماء طبائع الحيوان اليوم. قال من كلامٍ طويل له في ذلك ما نصه: «وفي القول بنسبة السواد إلى «حام» غفلةٌ عن طبيعة الحر والبرد وأثرهما في الهواء، وفيما يتكون فيه من الحيوانات؛ وذلك أن هذا اللون شمل أهل الإقليم الأول والثاني من مزاج هوائهم للحرارة المُتضاعفة بالجنوب؛ فإن الشمس تُسامت رءوسهم مرتَين في كل سنة قريبةً إحداهما من الأخرى، فتطول المُسامتة عامة الفصول، فيكثر الضوء لأجلها، ويُلحُّ القيظ الشديد عليهم، وتسودُّ وجوههم لإفراط الحر.» إلى أن يقول: «وليست هذه الأسماء لهم من قِبل انتسابهم إلى آدميٍّ أسود، لا حام ولا غيره.» ثم يقول: «ونظير هذَين الإقليمين ممَّا يُقابلهما من الشمال الإقليمُ السابع والسادس، شمل سكانَهما أيضًا البياضُ عن مزاج هوائهم للبرد المُفرِط بالشمال؛ إذ الشمس لا تزال بأفقهم في دائرةِ مرئيِّ العين أو ما قرب منها، ولا ترتفع إلى المُسامتة ولا ما قرب منها فيضعف الحر فيها، ويشتدُّ البرد عامة الفصول، فتبيضُّ ألوان أهلها وتنتهي إلى الزعورة، ويتبع ذلك ما يقتضيه مزاج البرد المُفرِط من زرقة العين وبرش الجلد وصُهوبة الشعر.»
وهذا التعليل ربما لا يُوافقه فيه كثير من العلماء اليوم؛ لأنه لم يتحقق لهم أثر الحر والبرد في توليد اللون. فقد ذكر «كنوك» نقلًا عن «سميث» أن الهولانديين الذين قطنوا أفريقيا الجنوبية لم يتغير لونهم في مدة ثلاثة قرون، وذهب «دي كاترفاج» إلى أن طوائف النور واليهود لم يتغيروا مع أنهم مُنتشرون في عامة الأقاليم من عهدٍ طويل. والصحيح أنهم لم يتغيروا تغيرًا مهمًّا إلا أن هذه الأدلة لا تفيد شيئًا عظيمًا ضد هذا الأثر؛ لقِصَر الأحقاب المذكورة بالنسبة إلى الأعصار المُتطاولة التي توالت على الإنسان، وبالنظر لِما للإنسان من الاقتدار على تغيير الأحوال الطبيعية وتحويل أثرها فيه لما يُناسبه. وربما كان هناك أسبابٌ أخرى أيضًا، كالانتخاب الطبيعي والجنسي كما يذهب داروين، والقوت والأمراض وغير ذلك. والحق أن التعليل عن لون البشر لا يزال غامضًا، إلا أنه لا يُنكَر أن لضوء الشمس والحر كسائر الأسباب الطبيعية أيضًا أثرًا فيه؛ لِما يُعلَم من تأثُّر المادة المُلونة للجلد (والموجودة في جلد البشر عمومًا) تبعًا لطبيعة الإقليم، بحيث يزيد إفرازها ويقلُّ بحسب حر الإقليم وبرده، كما يقول المشرح صابي.
•••
ثم يصف ابن خلدون تأثير ذلك في الأخلاق، فيقول: «ومن خُلقِ السودان على العموم الخفة والطيش وكثرة الطرب، فتجدهم مُولَعين بالرقص على كل توقيع، موصوفين بالحمق في كل قُطْر. والسبب الصحيح تأثير الإقليم والحر.» إلى أن يقول: «ونجد يسيرًا من ذلك في أهل البلاد الجزيرية من الإقليم الثالث؛ لتوفُّر الحرارة فيها وفي هوائها؛ لأنها عريقة في الجنوب عن الأرياف والتلول. واعتبِرْ ذلك أيضًا في أهل مصر، فإنها في مثل عرض البلاد الجزيرية أو قريب منها، كيف تغلب الفرح عليهم والخفة والغفلة عن العواقب، حتى إنهم لا يذخرون أقوات سنتهم ولا شهرهم، وعامة أكلهم من أسواقهم.» أقول: وربما كان لعدم إذخارهم القوت سببٌ آخر غير الغفلة التي أشار إليها ابن خلدون؛ فلا يخفى أن ما ينشأ في بلادٍ باردة من انقطاع المُواصلة بين أهلها بسبب البرد والمطر والثلج يُولِّد في سكانها الحيطة خوفًا من ذلك، فيدخرون أقواتهم لسنة، بل ولأكثر من سنة، بخلاف سكان البلاد التي يندر مطرها ويقل بردها، فهم لا يرون لزومًا لأن يحتاطوا لأمرٍ لا يخشون وقوعه.
وقد ذكر تأثير الخصب والجدب بما ينطبق على قولنا: «وسكانُ بلادٍ ليِّنة التربة كثيرة السهول والبطاح كثيرة الخصب واسعة الرزق، قلَّما يحتاجون إلى جهد البدن والعقل للحصول على الرزق والإثراء؛ فإن أرضهم تُنبت ما يكفيهم، وربما ثبطت منهم الهِمم بقدر سعة العيش مثل بلاد مصر؛ فإن نيلها يفيض التِّبر، وأرضها تُنبت الذهب.»
ومن عجيب ما ذهب إليه في هذا الباب — ممَّا لو اطلع عليه علماء طبائع الحيوان اليوم لأثبتوا له السبق على «داروين» و«لامرك» في مذهبهما بأحقابٍ مُتطاولة، وإن لم يقصد ذلك نظيرهما — هو قوله: «واعتبِرْ ذلك في حيوان القفر ومَواطن الجدب من الغزال والنعام والمها والزرافة والحُمُر الوحشية والبقر، مع أمثالها من حيوان التُّلول والأرياف والمراعي الخصبة، كيف تجد بينها بونًا بعيدًا في صفاء أديمها، وحسن رونقها وأشكالها، وتناسُب أعضائها، وحدَّة مداركها؛ فالغزال أخو المعز، والزرافة أخت البعير، والحمار والبقر أخو الحمار والبقر، والبون بينها ما رأيت؛ وما ذاك إلا لأجل أن الخصب في التلول فعل في أبدان هذه من الفضلات الرديئة والأخلاط الفاسدة ما ظهر عليها أثره، والجوع لحيوان القفر حسَّن في خلقها وأشكالها ما شاء.»
•••
إلا أنه، أي ابن خلدون، وإن كان قد أشبع الكلام في أثر الأسباب الطبيعية، إنما لم يذكُر تأثير الأسباب الأدبية كما فعل أبقراط، ولا يخفى ما لهذه الأسباب من شديد الأثر في ذلك. والحق يُقال إنه يصعب استيفاء الكلام في هذا الموضوع جملةً ومبوَّبًا ولو في مجلداتٍ ضخمة؛ لكثرة هذه الأسباب وامتزاجها واختلاف نتائجها بحسب ذلك ممَّا لا يقع تحت ضبط كما أشرنا إليه فيما تقدَّم.
فهذه الأسباب الطبيعية والأدبية، مع ما يعرض لها من الامتزاج والاختلاف، إنما تؤثِّر تأثيرًا شديدًا في العُمْران لشدة تأثيرها في الإنسان، وهذا هو السبب في عدم تساوي البشر في صفاتهم ونظاماتهم وعلومهم وصنائعهم ولغاتهم وسائر ما يتعلق بهم، بعدم استواء الأسباب المؤثِّرة في طبائعهم وأخلاقهم. إنما لم يكن يمتنع إصلاح أحوالهم بالأسباب الأدبية؛ لِما للإنسان من الاقتدار بها على التأثير في الأسباب الطبيعية نفسها، وجَعْلها أصلح الأحوال له؛ لأن الإنسان وإن كان مُنفعلًا لهذه الأسباب بحسب طبيعتها، إلا أنه قادر كذلك على تغييرها وتبديلها، واتقاء شرها واستدرار خيرها، بما له من حدَّة المدارك وقوة الاستنباط؛ لذلك كان من الواجب عليه ألا يُغفِل شأن معَدَّات التربية العقلية كالتعليم والنظامات السياسية وسواها؛ لئلَّا يفقد بفقد الصالح منها عامةَ فوائد العُمْران، ويسقط في مهاوي التهلكة والخسران.