المقالة الحادية والأربعون
نحن قد تسرَّعنا بطلبنا قلب نظام التعليم — لا من نظريٍّ بحت إلى عمليٍّ بحت؛ فإن ذلك قد يعدُّه بعضهم بدعة في الشرق وفي الغرب أيضًا — بل من نظريٍّ غالب إلى عمليٍّ أغلب، ولكن الذي نُسطره بملء الأسف بعد سبع وعشرين سنة من الاحتلال البريطاني، وبعد أكثر من مائة سنة من محمد على الكبير، هو أن المدارس الأميرية المصرية عِوضًا عن أن ترتقي من هذه الجهة في هذا الزمان الطويل، تقهقرت جدًّا عمَّا كانت عليه يوم أسَّسها ذلك الرجل الفطري العظيم؛ فقد كان التعليم العملي فيها — وكل شيء نسبي — أوسع جدًّا منه اليوم، كان نظامها على عهد مؤسِّسها يُقصد منه تخريج رجال عمليين، يكفُون البلاد حاجتها، ويشيدون استقلالها على أساسٍ مكين. وما مات حتى أخذ ذلك النظام يتفكك، والغاية الحقيقية المقصودة منه تتحول، إلى أن أوشكت العلوم العملية أن تموت، وحتى بلغت العلوم النظرية أوج زهوتها اليوم. والمصري بحكم الفطرة غيرُ مُحتاج إلى تقوية ملكة العلوم الجدلية؛ فإن قوة النطق فيه مُستوفية النمو في كل مراكزها، وإنما هو محتاج ككل شرقي إلى تقوية مراكز قوى العمل.
ولم تكتفِ الحكومة المصرية بذلك، بل أدخلت في مدارسها نظامًا هو في شرع كل مُنصف بدعة؛ فقد قرَّرت تعليم العلوم الدينية فيها. وقد طرب لهذا القرار جمهور الأمة وأعضاء الجمعية العمومية، وسيُصفق له البرلمان البريطاني بكلتا راحتَيه، وأقامت مسجدًا فيها للمسلم. والعدل يقضي بأن تَبني كنيسة للمسيحي وكُنيسًا لليهودي، وهيكلًا للبوذي، ومذبحًا للمجوسي، فما من أحد من هؤلاء إلا وله في ذلك حق، والحكومة مُمثلة الجميع، وتتقاضى مالها من الجميع، اللهمَّ إلا أن يكون مُعطلًا أو لا يملك فيها شَرْوى نقير؛ فهذا يسقط حقه في الاعتراض، ويحقُّ له إذا كان يملك قيد شبر يدفع عليه الشيء النزر، وحينئذٍ لا يبقى لزوم لتلك الجامعة الدينية الكبرى، ألا وهي مدرسة الأزهر؛ إذ تصير مدارس الحكومة معاهدَ دينيةً بحتة، ولعل قلة اهتمام الحكومة اليوم بذلك المعهد الديني الكبير توطئة لهذا التحويل.
على أن الحكومة لا تعدم نصيرًا من مُتخرجي مدارسها إذا استمسكت بالتخصيص ولم تشأ التعميم، ولا شيء أسهل عليها من استحصال فتوى من مدرسة اللاهوت الاجتماعي التي بجانبها، تُصدِّرها ﺑ «ما» و«لأن»، وتنتهي فيها ﺑ «حيث»، وتكون أطول وأعرض من فتاوى علماء الكلام في الاستحالة والوجود الواجب، تُثبت هذا الحق، وتدفع عنها هذا الاعتراض، وتُسفِّه رأي القائلين غير قولها، وربما عدَّتهم من المُصدعين.
على أن الشعوب الضعيفة أول ما تفتح عينَيها تحب أن تتشبه بالأمم القوية، وحكومتنا لا تأنف أحيانًا أن تنسخ نظاماتها عن نظامات أوروبا ولو أن عليها مسحة من ألف جيل. فأوروبا نفسها شاعرةٌ اليوم بهذا النقص في التعليم، وهي وإن لم تُصرح بطلب هذا القلب الكلي في نظامه محافظةً على كنزٍ موهوم، وانقيادًا لبقيةٍ باقية حتى في نظر الخاصة من اعتقاد العامة، أو خوفًا من تصعيب المطلب بتعميم الطلب، إلا أنها تأتينا كل يوم بدليل على أنها مُسيرة في هذا السبيل إلى غايته الكلية، بما تطلبه من التغيير في الفروع الجزئية.
إن التعليم في مدارسنا ليس كما ينبغي أن يكون. فالأساتذة الذين يُعلمون والطلبة الذين يتعلمون متَّفِقون على هذا القول، وجميعهم يعترفون بأن الدروس النظرية متسع المجال لها كثيرًا في مواد تُدرَك فقط في قاعات التشريح، وفي معامل الامتحان، وعند سرير المريض. ولا يُنكر أن كلام الأستاذ يحلو سماعه، ولكنه مهما كان بليغًا لا يسعه أن يقوم مقام المُشاهدة ولا مقام الاختبار. والأطباء الخارجون حديثًا من مدارسنا ناقصو الاستعداد، سواء كان لإجراء البحث العلمي أو لمُمارسة صناعة الطب نفسها. وإذا عُرف العيب فلا شيء أسهل من تدارُكه؛ وذلك بالاستعاضة عن الدروس الكلامية بدروسٍ عملية في معاملنا ومستشفياتنا يتسع المجال فيها للعمل، ويضيق فيها مجال النظر إلا ما يلزم من الكلام لشرحها وتفهُّمها. انتهى.
وهو كلامٌ حق لا اعتراض عليه، ولكن رو رُبِّي في مدرسة العمل بين أنبيق الكيماوي ومِشراط المُشرِّح، وتخرَّج على أيدي أكبر عالم عملي، وأتى بأعظم اكتشاف طبي علمي عملي معًا، فلا غَرْو إذا رأى هذا الرأي الصائب. ولكن هل يرى رأيَه الذين تخرَّجوا في غير مثل هذا المكان؟ والغريب أن الحقيقة بسيطةٌ ملموسةٌ أمامنا كل دقيقة، ومع ذلك فنحن ندور حولها مُتلمسين، ولا نريد أن نهتدي إليها ولو وضعوها تحت أنوفنا.