المقالة الثانية والأربعون
بينا أنا أفكر في ماذا أكتب به إليك أيها البصير إنجازًا لوعدي لك، وأقول مع الشاعر:
وإذا بكتابك ورد عليَّ يُطالبني بالوعد، ولكنه ورد عليَّ في ليلةٍ ينطبق فيها على قولي:
ولكن شتان بين السهدَين؛ فسهد الشاعر عن كلف بالحبيب يُعلله الأمل بالوصال، فهو عذاب في انتظار لذة. وأما أنا فعن ألمٍ مُبرح أحرمني الرقاد، وتركني ليلي كله أتقلب على سريري كمن يتقلب على شوك القتاد، ليلٌ خِلت أنه ليس له آخر، كل دقيقة منه كأنها شهر، وكل ساعة كأنها دهر:
ألمٌ يُسمِّيه الأطباء داء المفاصل، ويذهبون فيه مذاهب، والأطباء كالشعراء يتبعهم «المغرورون»، وهم في كل واد يهيمون، وأما أنا فأقول مع الشاعر العربي:
ألمٌ انقضَّ على كتفي اليمنى كأنه وخز النصال، وأثقلها كأني كُلفت بها حمل الجبال، وعطَّل حركات اليد كلها فكأنني أصبحت أشلَّ اليدَين؛ لأن اليد اليسرى بالتربية، على قول البعض، ومن أصل الفطرة، على قول البعض الآخر، عاجزةٌ عن القيام بوظيفة اليمنى. ومهما يكن من هذا القول فإني في مثل هذا المقام حسدت العُسَّر؛ أي الذين يستعملون يُسراهم كما يستعمل سائر الناس يُمناهم. ولو كان في ذلك شيء من الانحطاط كما يذهب إليه «دلوني»، ومن نحا نحوه من العلماء الذين يزعمون أن المُياسرة، أي استعمال اليد اليسرى، دليل على الانحطاط، والميامنة، أي استعمال اليد اليمنى، دليل على الارتقاء. واستدل من ذلك على أن المرأة أحط من الرجل؛ لأن المرأة تُياسر، أي تذهب في حركاتها ذات اليسار، والرجل يُيامن، أي يذهب ذات اليمين. وهذا ظاهر حتى في عُرى ثيابهما وأزراها؛ فإن حركة التزرير في المرأة يسارية، وفي الرجل يمينية. وأما أنا فأُخالف دلوني في ذلك، وأعتبر أن المرأة من هذا القبيل أرقى من الرجل؛ لأنها أقدر منه على استعمال الحركتَين.
ولا أعتبر هذا الفرق من أصل الفطرة، بل أكثره من نتيجة التربية، فلو رُبِّي الإنسان منذ الصغر على استعمال الحركتَين على السواء لاستطاع ذلك. ولعل الآباء والأمهات في البيوت والمُعلمين والمُعلمات في المدارس ينتبهون إلى هذه المسألة المهمة جدًّا في أمر المعايش، فيُربُّون الأطفال على استعمال اليدَين على حدٍّ سوى، لا على استعمال اليد اليمنى وحدها، زاجرين الطفل كلما عمل عملًا باليسرى، حتى يرسخ في اعتقاد هذا الطفل المسكين أن استعمال اليد اليسرى ذنبٌ لا يُغتفر.
ولا ريب أن أشد مصائب الإنسان الأمراض، فالمريض ولو كان ذا ثروة يسكن القصور، ويتوسد الحرير، مسكينٌ تجوز عليه الشفقة، فكيف به إذا كان مُعدِمًا لا يجد مأوًى يأوي إليه، ولا فراشًا يستلقي عليه، ولا مُمرضين يُمرضونه، ولا أطباء يعودونه؟ وإذا نظرنا إلى كثرة عدد هؤلاء المساكين في كل مكان، وقلة ما اتخذته الهيئة الاجتماعية من الاحتياطات لتخفيف مصائبهم، فلا نستغرب إذا رأينا الإنسان ينقلب على الهيئة الاجتماعية باللوم والتعنيف، وهو سبب من الأسباب الكثيرة التي تحمل الإنسان على الخروج إلى الفوضى، ومحاولة دفع الشر بالشر، واللوم في ذلك ليس على هؤلاء المساكين الذين أحرجتهم مراكزهم، فأخرجتهم إلى اليأس، بل على الهيئة الحاكمة وعلى رجال الثروة من كل أمة، الذين في مقدرتهم مداواة هذه الأدواء وهم لا يفعلون، فيحملون الحانقين على الهيئة الاجتماعية على الإيقاع بهم، وهم يقولون:
وأفضل الوسائل لتخفيف وَيْلات المرضى، خصوصًا الفقراء منهم، إقامة المستشفيات الكثيرة في كل مدينة. وهذه المسألة إذا نظرنا إليها في بلاد مصر خصوصًا وجدنا الحكومة والهيئة الاجتماعية مُقصرتَين فيها كثيرًا؛ فإن المستشفيات الموجودة، صورةً لا معنًى، هي دون ما تدعو إليه الحاجة بكثير. فإن عدد الأطفال، حتى لا نتكلم إلا عن قسم من أقسام الهيئة الاجتماعية، الذين يموتون، والذين تُصيبهم العاهات بسبب الأمراض الكثيرة وقلة الاعتناء، لا نُبالغ إذا قلنا إنه يتجاوز الثمانين في المائة، فلو وُجدت مستشفيات للأطفال مثلًا كافية وافية لهبط هذا العدد كثيرًا، وهبوطه ربح للحكومة والهيئة الاجتماعية. فالخطأ في هذه المسألة من وجهَين: خطأ من جهة الاقتصاد السياسي، وخطأ من جهة الإنسانية؛ لأنه على صحة هؤلاء الأطفال وكثرة عددهم تتوقف ثروة كل أمة وقوة كل مملكة.
وإنا لنَعجب كيف أن شريعة البوذيين تناهت في هذا الأمر حتى أقامت مستشفيات للحيوانات، وشرائع الأمم المُتمدنة لا تزال مُقصرة به حتى في حق أبناء جنسهم. فقل للذي يتباهى ببناء حائط في كنيسة أو زاوية في مسجد أو بإقامة وليمة لأمير — والله غني عنه، والأمير كذلك — إن كان يقصد بعمله هذا فخرًا، فبناء المستشفيات فيه فخرٌ عظيم، وإن كان يقصد به أجرًا فأجره من ذلك أعظم؛ فقد اتفقت الشرائع المنزَّلة على أن علم الأبدان مقدَّم على علم الأديان، فذكِّر علَّها تنفع الذكرى.