المقالة الرابعة والأربعون
المشهور أن الجرائد من مُخترَعات أهل أوروبا، وأن أول جريدة مطبوعة ظهرت في مدينة البندقية (فينيسيا) في القرن السادس عشر للميلاد. والذي عُلِم لنا اليوم أن هذه الدعوى باطلة؛ فالصِّحافة ليست من مُنشئات أهل أوروبا، فقد عرفها أهل آسيا قبلهم بزمانٍ طويل، كما عرفوا أمريكا قبل خريستوف كولمبوس، والطباعة قبل غوتنبرغ، وكما عرفوا البارود والبوصلة التي عليها المعوَّل في فن سلك البِحار، وكما عرفوا كذلك صناعة الخزف ونسج الأقمشة البديعة التي لا يُجاريهم فيها مُجارٍ حتى اليوم. والبلاد التي سبقت أوروبا إلى كل ذلك هي مملكة الصين؛ أوسع ممالك الدنيا أرضًا وأكثرها سكانًا.
فمن ضِمن الجرائد المُعمِّرة التي تُقرأ حتى اليوم في مملكة ابن السماء، كما يُسمُّون مملكة إمبراطور الصين، يوجد في مدينة بكين (ومعناها عاصمة الشمال) جريدةٌ يومية تُدعى «كين بان»، ومعناها المجموعة السنوية، ظهر أول عدد منها منذ ألف ومائة سنة. وجريدةٌ أخرى شهرية تُدعى «تسين راو»، ومعناها المجلة، ظهر أول عدد منها منذ أربعة عشر قرنًا، والحروف التي استخدمها الصينيون لطبع هاتَين الجريدتين من الخشب.
«فتسين راو» ابتدأت شهرية، أي تصدُر مرة في كل شهر، وبقيت كذلك حتى اليوم. وأما «كين بان» فابتدأت شهرية كسالفتها، ثم وُسِّعت مواضيعها ولم تقتصر على ما يهمُّ الخاصة، بل تقرَّبت من العامة فأكثرت نُسَخها، وانقلبت يوميةً منذ سنة ١٨٣٠ للميلاد، ثم زاد انتشارها كثيرًا، فأخذت تصدُر ثلاث مرات في اليوم. وسبقت أمريكا وأوروبا في استعمال الورق الملوَّن للدلالة على طبعاتها المختلفة؛ فطبعة الصباح لونُ ورقها أصفر، وطبعة الظهر أبيض، وطبعة المساء رمادي.
وفي أول نشأتها كانت مُقتصرة على تقييد الحوادث السياسية المهمة من دون أن تُبدي فيها رأيًا، وذِكر جميع الأخبار ذات الشأن التي كانت تأتيها من كل جهات الصين ومُلحقاتها اليابانية والأنامية والكورية، نسبةً إلى بلاد أنام وكوريا. وهكذا كانت تُوقف قُراءها على حوادث أيام السنة واصفةً الأعياد والاحتفالات والجمعيات، ولم تحرمهم كذلك من فُكاهات القصص والحكايات الخرافية، ولا من ترويض العقل بنشر الأشعار التي كان يُوافيها بها مشاهير الشعراء.
ثم صارت تُبدي رأيها في الحوادث السياسية، ولكن مع التزام جانب الاعتدال، وتذكُر كل ما يُقال ويجري في المدينة، كما تفعل أعظم جرائد باريس ولوندرة. وممَّا يستحقُّ الذِّكر أن هاتَين الجريدتين لم ينصبَّ عليهما غضب الحكام بالتعطيل والإلغاء، ولا ثار عليهما الشعب بالمظاهرات العدوانية. والسبب اعتدالهما في كلامهما، واتفاقهما على مبادئ هي بين الصينيين واحدةٌ لتمسُّك البلاد كلها بشريعتها، كأنها فيها رجلٌ واحد، ولعدم وجود الأحزاب بسبب ذلك. وربما كان هذا هو السبب أيضًا في أن هذه البلاد التي هي بالحصر مهد الإنسان ومنشأ العمران وأم الجرائد التي هي من أقوى عوامل المدنية، لم تتقدم منذ مئات من السنين، بل لبثت واقفةً كالبلية رأسها في الولية، حتى حرَّكت عليها مطامع الدول الأوروبية من عظيمة وصغيرة وغنية وفقيرة، فاندفعت نحوها كلٌّ يطلب نصيبه، إنكلترا وروسيا وألمانيا وفرنسا، حتى إيطاليا هاجَتها المطامع، فكأنها أصبحت كما في قول الشاعر:
ولعل نفس السبب الذي أوقعها في الخمول سيكون السبب أيضًا لوقايتها من الوقوع في حبائل الدول الأجنبية زمانًا طويلًا، فيتحول خمولها إلى نهضة بمُحاكَّة الدول الغربية لها، واقتباسها عنها أسباب تمدُّنها، فتهبُّ حينئذٍ حزبًا واحدًا وقومًا واحدًا من جنسٍ واحد ولغةٍ واحدة ودينٍ واحد، فتردُّ عنها مطامع الاحتلال، وتحفظ لنفسها الاستقلال؛ ولذلك يُرجَّح أن الدول الأوروبية تشتغل هذه المرة لمصلحة سواها ضد مصلحة نفسها خلافًا للمشهور حتى اليوم، فالصين مستقبلها لها من قبل ومن بعد، والآتي أضمن لها.