المقالة الخامسة والأربعون
مركز الجرائد في الشرق صعب جدًّا؛ لأن الجرائد التي تنتشر انتشارًا يترتب عليه أثرٌ لا بد لها من معدَّاتٍ كثيرة لا تتوفر لها إلا إذا كان جمهور الذين يقرءون كثيرًا، والشرق ولا يؤخذ علينا في تأخرٍ عظيم من هذا القبيل؛ لأن عدد الذين يقرءون محدود، لا يكفي للقيام بنفقات كل ما يُكتب ويُنشر، وربما كان هذا هو السبب الذي لأجله سيبقى الشرق محرومًا زمانًا طويلًا من الكُتاب الأعلام والمؤلفين العظام.
والجرائد أثرها أعظم جدًّا من أثر الكتب؛ لانتشارها بين الجماهير أكثر منها، وسلطانها على الأفكار أعظم جدًّا ممَّا يظنه الإنسان لأول وهلة لاستمرارها، والفعل الضعيف إذا استمر يكون له أثرٌ مُتجمعٌ عظيم جدًّا، ومن أمثال العامة «الحبل على تمادي الأيام يقطع خرزة البير.»
فالجرائد قوة من القوات التي يُعتد بها في الهيئة الاجتماعية، بل هي القوة الأولى في المجتمع الإنساني، ولها المقام الأول في الحكومات المُتمدنة؛ لأنها تستطيع على هذا المجتمع ما لا يستطيعه سواها. فلا صولة الملوك، ولا سطوة الجيوش، ولا قوة القوانين؛ تُعادل قوة الجرائد. فالكاتب الذي يخط بقلمٍ ضئيل على القرطاس الصقيل كلماتٍ هينات ربما لا يدري أن كلماته هذه سيكون لها في الجموع أثر لا يُصد، ولا يقف عند حد.
وبالنظر إلى ذلك كانت الجرائد كثيرة النفع كثيرة الضرر أيضًا، بحسب الخطة التي تسير عليها واللهجة التي تنطق بها. فتكون كثيرة النفع إذا سلكت طُرُق التنبيه إلى مواضع الخلل، والإرشاد إلى سُبُل الإصلاح، وبث المبادئ الصادقة بين الجماهير بلغةٍ لا تنحطُّ في الالتماس إلى التذلل، ولا ترتفع في الطلب إلى المُخاشنة والضد بالضد. وما من أحد من أصحاب الجرائد الشرقية يجهل ذلك، بل كل جريدة تصدُر تبدأ ببيان خطتها والغاية التي تنويها في مقدمةٍ تُضمنها من المبادئ العامة ما يرتاح إليه كل عاقل، ويرجو الخيرَ منه كلُّ قارئ، ولكنك إذا تعقَّبت هذه الجريدة في مستقبل الزمان وجدت أن سلوكها في الجزئيات لا ينطبق على مقدماتها في الكليات، وإذا خلوت بأصحابها قالوا لك: ما العمل؟ فنحن إنما نعيش في مجتمعٍ يصدُق عليه قول المعري:
فنحن إنما نفعل ذلك مُضطرين؛ لأنَّا إذا صدقنا أغضبنا، فنضطرُّ إلى المُداجاة أحيانًا، وإلى المجافاة أحيانًا أخرى، وإلا جفَّت موارد جريدتنا، وثروتنا التي هي غالبًا مجموع أرقام سلبية لا تُساعدنا على الاستقلال. وما تعوَّد أهل الشرق في مثل هذه المشروعات التعاون على جمع رأس المال، وهو عارٌ يلحق بأصحاب الجرائد، وإن لم يبرأ منه سواهم، فالحق يُقال إن السبب هو في عموم الهيئة الاجتماعية نفسها، فنحن معاشرَ الشرقيين ما زِلنا أطفالًا في سُلَّم حياة المجتمع الإنساني، والأطفال لا يؤخذون بمآخذ الرجال، ولا يؤخذون إلا بالترغيب أو الإرهاب، وإلا نفروا منك ولم ينقادوا إليك، وكما تكونون يُولَّى عليكم. وهذا هو السبب الذي لأجله اضطرَّت أكثر الجرائد المهمة بعد أن قصدت أن تسلك مسلك الاعتدال أن تنحاز إلى أحد الطرفين، وتقسم جرائدها إلى جرائد «فرشة» وجرائد «قمشة»، فمن لم تستطع أن تأخذه بعصا موسى شهرت عليه عصا فرعون، ولكن ضعفت بذلك ضرورة خدمتها العامة، وقويت مطامعها الخاصة. ولا يخفى ما لذلك من الأثر السيئ على الجموع؛ لِما لها عليهم من السلطة في تحويل الأفكار.
أقول ذلك عن جرائد مصر المعوَّل عليها، ولا أدمج في سلكها تلك الوُرَيقات البذيئة التي لم توجد إلا لنشر المثالب الصِّبيانية من دون تعقُّل، والتي تقضي على الحكومة بأن يكون لها قلم مطبوعات يردع مثل هؤلاء المُتطفلين على الصحافة، وليس عندهم أقل رأس مال علمي أو أدبي. وأغفل كذلك ذكر الجرائد العثمانية، أي التي تُطبع في الممالك العثمانية؛ فإن هذه الجرائد لا يذكُرها عاقل إلا لشَجْبها والقضاء عليها، لا لأنها ليس لها أدنى منفعة، بل لأنها مُضرة وأي ضرر؛ إذ لا شأن لها إلا التمويه والتمليق والتضليل والتغرير. وإني أُقسم بكل عظيم لو كنت ناظرًا للمطبوعات في الممالك المذكورة، وكان لي بعض السلطة؛ لجمعت هذه الجرائد أكداسًا وأحرقتها على مشهد من العموم، وكبَّلت أصحابها بالحديد، وألقيتهم في السجون إلى يوم يتوسدون تُرَبهم، ويُقابلون ربهم، ويُجاوبون عن كذبهم.
وكأني بك أيها البصير قد شعرت بصعوبة الخطة وحرج المركز؛ لأن الخطة التي وعدت أنك تسير عليها، وهي خطة الاعتدال، صعبة جدًّا في مجتمعٍ مثل المجتمع الذي يسير فيه أهل الشرق؛ إذا مدحت لم تُرضِ ممدوحًا لأنك لم تُبالغ بمدحه، وإذا انتقدت عُدَّ انتقادك ذمًّا، فأغضبت في الحالَين.
وكأنك علِمت أن خطة كهذه لا تنجح إلا في مجتمعٍ بلغ من المدنية والاختبار والتعقُّل مبلغًا يضعف معه سلطان الأفراد، ويقوى سلطان المجموع، فيغلب فيه العقل على الهوى، حتى يقوى على احتمال الانتقاد، ولا يسكر بخمرة المدح، فتقوى أعصابه حتى لا ترجَّها رجة الغضب، ولا تهزَّها هزة الطرب.
على أن ما لا يُنال كله لا يُترك جله، وإني أرى أن المُثابرة على خطتك أولى، ونتيجتها للبلاد أنفع، ولو اعترضتها صعوباتٌ شتَّى لا يجهلها من كان في مركزك؛ لِما للجرائد من السطوة على الأفكار وتحويل مجراها، وإنما ينبغي عليك أن تُوفي خطتك حقها كما وعدتنا في مقدمتك البليغة، وأن تقول الحق ولو عليك، ولا تميل مع الهوى، وأن تجتنب المُحاباة والمُداجاة، وخصوصًا أن تجتنب التذبذب؛ لأني أراك ﮐ «بالع الموسى»، أو كالضفدع في الماء.
تحُوم على الحقيقة، ولا تجسر أن تقولها بكلامٍ صريح خوفًا من أن تُغضب هذا ولا تُرضي ذاك، وأن تجعل لغتك في الطلب بين الالتماس والأمر، وفي الانتقاد بين لين التمليق وخشونة المُجافاة؛ أي أن تجعل كلامك كلام رجال يُخاطبون رجالًا؛ فإن تنهج هذا المنهج فالمستقبل لك.