المقالة السادسة والأربعون
أرقت ليلتي لأزمة في الصدر هي لي أوفى الأصدقاء؛ لأنها لم تُفارقني منذ حداثتي، وكم من صديقٍ يتركك في الطريق! فانتبهت وكأن على الصدر أثقالًا، وأخذت أُجاهد كأني أُعالج أجبالًا. ولما قلَّت حيلتي، وخِفت أن تطول ليلتي؛ قلتُ لعل الذي لا تنجع فيه عقاقير الأطباء تفعل فيه مُطارحات الأدباء؛ لأن العِلل العصبية كثيرًا ما تثور وتزول بالعوامل النفسانية.
ولكن من أين لي في هذه الساعة المُدلهمة بالشدودي وحافظ وسركيس والخازن، ونصيبي منهم في النهار لا يكون إلا في ساعةٍ معلومة.
ثم قرأت فيه قصيدة عنوانها «فكتور هوجو» لنقولا أفندي رزق الله، فاستوقفني منها هذان البيتان:
فقلت من هو هذا المعري الجديد.
•••
ثم وضعت يدي الواحدة ومددت الأخرى، وإذا بالمنار يتلألأ فيها بأنوار الجلال، وهذه المجلة أكبر تعزية في قبره لفقيد الأمة والدين، حجة الإسلام في هذا العصر، الإمام الأكبر الشيخ محمد عبده، القائل:
والغريب أن الإنسان يستعمل عقله في كل أمر، فإذا وصل إلى الدين عقل عقله، مع أن الأديان بُنيت غاياتها على المعقول، ووضعها أناس إن لم نُسلِّم جميعنا بأنهم أولياء كرام فلا خلاف بأنهم رجالٌ عظام؛ أي من ذوي العقول الكبيرة. والظاهر أن الشيخ «رشيد» يتوخى في مناره حل هذا العِقال لتجريد الدين من كل ما يشين، ممَّا أدخله عليه صغار العقول من كبار العمائم، وذوي الغايات السافلة من أصحاب المقامات العالية؛ لتسلم له حقيقته، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وممَّا قرأته فيه ترجمة حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، ولا خلاف في أنه من أكبر أئمة الدين المُصلِحين والفلاسفة في الإسلام، حتى وصلت فيها إلى قوله عن تربية نفسه بنفسه: «حتى انحلَّت عني رابطة التقليد، وأنكرت عليَّ العقائد الموروثة.» فذكَّرني ذلك قوله في أحد كتبه: «لو لم يكن في ذلك إلا ما يُشكِّكك في اعتقادك الموروث لكفى به نفعًا؛ فإن من لم يشكَّ لم ينظر، ومن لم ينظر لم يُبصر، ومن لم يُبصر بقي في العمى والحيرة.»
وقوله أيضًا في محلٍّ آخر ما معناه: «إذا وجدت تناقضًا بين العلم والدين، فخير لك أن تعمد إلى التأويل من أن ترمي الدين بتهمة الضعف.» وقلت في نفسي إن أمة فيها مثل هذا الإمام لا يُستغرب نجاحها في مُعترك الحياة.
ثم قابلت ذلك بما قيل ونُشر في الكتب وعلى صفحات الجرائد من عهدٍ غير بعيد في أحد المشايخ من ذوي المقامات: «إن من كرامات جده أنه أكل حمل حمار من الخيار.» وقلت إن أمة فيها مثل من تقدَّم، كيف تأمن العثار؟
•••
وبعد أن فرغتُ من ذلك مددت يدي، وماذا أجد؟ ولا أُخفي عليك بأني شعرت كأني قد سُرِّي عني، فقلت هذه مجلة سركيس. وسركيس هو الكاتب المُتفنن الشهير، ومجلته هذه على حداثة عهدها قد طبَّقت شهرتها الآفاق.
فقرأت أولًا هجوه، ولم أعجب لاقتراحه ذلك عن نفسه، وهو أعلم من كل صحافي بطرق الرواج، والفخر لا يأتي دائمًا عن طريقه المألوف، وقد استوقفني في قصيدة المجاز قوله:
وهي لناظمها إلياس أفندي فياض المحامي. ثم انتقلت إلى باب حسنات الشعراء، فقرأت الأبيات الآتية:
قلت والبرهان بسيط. إلى قوله:
والأبيات من قصيدة لأحمد بك شوقي، يصف بها دخوله الآستانة يوم عيد الجلوس الهمايوني. ولما فرغت من تلاوة هذه الأشعار قلت مُقسمًا إن أحمد لهو أبو تمام هذا الزمان، إذا علا لا يُشق له غبار.
•••
ثم لما فرغت من كل ذلك تناولت شيخ المجلات الأدبية بلا مُنازع، ولو لم يكن له من العمر إلا خمس عشرة سنة، ناشر آداب القوم، وصاحب المقالات الإنشائية الاجتماعية والاقتصادية واللغوية، والروايات التاريخية التي لم يُسبق إليها في اللغة العربية. وأظنك عرفت أني أريد لهذا الوصف «الهلال»، وفضل زيدان صاحبه على آداب العرب، خصوصًا بعد الفتح الإسلامي، لا يربو عليه فضل؛ فقد حبَّب إلى الناس مُطالعة تواريخ هذه الأمة في نهضتها وكبوتها، وسهَّلها عليهم برواياته، واستخرج لآلئ تمدُّنها من مغاصها في مؤلفاته. وفي الأمرَين له فضل المُنشئ المجتهد والمؤلف المُبتكر.
والعدد الذي وقعت يدي عليه هو الأول من السنة السادسة عشرة، وفيه، عدا عروس فرغانة التاريخية وغيرها من المباحث، من المقالات المُوافقة للمقام ما يدل على حسن ذوق صاحبه في انتقاء المواضيع، ﮐ «استقلال أمريكا من سلطة الإنكليز»، و«مصر والشام»، و«حرية الصحافة في إنكلترا ومصر»، وفي مُطالعة كل منها عبرةٌ لقومٍ يعقلون، ولا سيَّما في هذا الدور الذي بلغت فيه عندنا فوضى المطالب مبلغًا تاه فيه الزعماء قبل الأحزاب. فدَرْس أسباب ارتقاء الأمم مفيد لنا، فنجتنب ضلالهم في عثارهم، ونهتدي بهديهم في نجاحهم. ذلك خير لنا من إثارة هذه الحرب بيننا على أحزاب لا وجود لها إلا في رءوس زعمائها، حتى سخر بنا النازلون بيننا من الأمم الراقية من مباحثنا العقيمة، فكأننا نِلنا كل ما ارتقت به الأمم، ولم يعُد ينقصنا إلا الأحزاب.
والأحزاب يا سادتي، إذا جاز لي هذا القول، هي في نظام الاجتماع من الكماليات، ونحن لا نزال في حاجة إلى أقل الضروريات، ونشوءها لا يكون بإتلالها، بل تنشأ من نفسها متى اكتمل الاجتماع. فزعماؤنا يُحاولون أن يخلقوا في نظام اجتماعهم جسمًا مشوَّهًا، ولكي أُثبِت أن زعماءنا رءوس بلا أجسام فلينهضوا ونرى كم ينهض وراءهم. فاتقوا الله في الأمة التي أنتم هُداتها، وانظروا إلى مصلحتها وانبذوا الغايات؛ ذلك أجلب للمنفعة وأدعى للفخر.
أراني تهتُ في الموضوع، فمن الهلال إلى الأحزاب بونٌ شاسع، ولكن تسلسُل الأفكار ينقلك من أقصاها إلى أقصاها لأقل سبب، سنة الطبيعة في كل أعمالها.
ثم قرأت فيه قصيدة لحافظ أفندي إبراهيم في فكتور هوجو، وفيها هذان البيتان:
وحافظ — ولا أُطرِيه — شعره كالبنيان المرصوص، متينٌ لا تجد فيه مُتهدمًا، وقد لُمْته يومًا على إقلاله، وقلت له: «ألعل الشهرة أضاعتك؟» فقال لي: «وهل نسيت المكان والزمان أم نسيت …؟» فأوقفته عني، ووجدته صادقًا في القولَين، ثم قرأت له فيه هذه الأبيات في «مصر والشام»:
وكأن بها مسك الختام وختام النوبة، وقد انبلج الصباح وقامت الأطيار تُغرد، فقمت إلى الورق، ودوَّنتُ فيه ما خالجني من الأفكار كما رأيت، فإن أحسنت فقل إن من الشر لخيرًا، وإن من العسر ليسرًا، وإلا فلِي تأسية بقول شيخ نهضتنا الحديثة إمام المُنشئين الشيخ أحمد فارس:
قال في وصف النوبة في الربو؛ أي الأزمة الصدرية المُشار إليها في المقالة السابقة:
•••
•••
•••
وقال في هذا المعنى أيضًا: