المقالة التاسعة والأربعون
هي قصيدةٌ بعثت بها إلى الهلال، وقد ضمَّنتها رأيي في اقتراح الهلال على الشعراء: «إن الدين جزء من الوجدان، وأكبر تعزية لبني الإنسان.» وصدَّرتها بمقدمة في الشعر والشعراء، قلت فيها:
كلماتٌ أملاها عليَّ اقتراح الهلال، تكاد تكون غير مقفَّاة، ليس لها من رنَّة الروي ما ألِفته الأسماع العادية من تناسُب الوقع، والروي للشعر العربي كالموسيقى للغناء، فإن لم تبلغ في إجادة المبنى حدَّ الإفادة في المعنى، فهي لغير شاعر.
شعرٌ ليس له من صناعة النظيم غير الوزن، عاطل من كل جمال إلا حلي الحقيقة، ولكن الحقيقة فيما يُقال ليس لها جمال الخيال. فإن فعل في البعض فعل الوباء في الجُرَذ، فالأطباء كالأنبياء أُرسلوا رحمةً للعالمين.
موضوعٌ ينبو الفهم عنه، وليس يلزم أن يكون سليمًا. ولقد قال أحد الحكماء: «إذا قرأت شيئًا ولم تفهمه فافحص فهمك أولًا، واحذر أن يخونك العلم إذا صدقك الفهم.»
صوت من بين ملايين الأصوات، هل يُجزع منه؟ وإن لم يضرب على وترها، فهل يُفقدها لذة نغمها؟ وهل تُكدر نقطةٌ صفاء البحر العظيم إذا وقعت فيه؟ وإن كدَّرته فما أعظم حمأته!
ما أحلى الأماني لولا أنها خيال شاعر، وما أمر الحقيقة لولا أنها السبيل إلى الرشاد.
من نفس القائل:
هذا ما قاله شاعر البداوة على قمة جبل، يُلقي عليك به درسًا عاليًا في الأخلاق، ولم يثنِه الإباء عن مأتى الحصافة والحزم؛ لئلا تكون الصلابة القاصمة خرقًا في سياسة المنفعة.
وذلك قاله شاعر الحضارة قائمًا يسأل على أعتاب المدنية، مع أنه أمير شعراء المولدين في صناعة النظم وكبر النفس.
أنت تستطيع أن تُترجم شعر هوجو وموسه وروستان، وتستفيد من ذلك غرضًا اجتماعيًّا وبحثًا أدبيًّا أخلاقيًّا وعبرةً تاريخية، ولكنك لا تستطيع أن تُترجم شعر المتنبي وأبي تمام والبحتري، ولا أن تستخلص منه شيئًا من ذلك غير بعض الحِكم والأمثال مشتَّتة في تلك الأدغال لا رابط يُنسقها، ولماذا؟ لأن هوجو أطلَّ في شعره على العالم أجمع، فنظر إلى الحقائق، وبما له من قوة الخيال وحسن السبك ربطها وكساها من شعره حُلةً مهيبةً رهيبة في النفس، كما كساها موسه رقة وجمالًا، وروستان نظر إلى الوقائع فأكسبها من قوة خياله ومتانة شعره وقعًا في النفوس جعلها أبلغ في العظة.
فلو عُني المتنبي وأقرانه بالأمور نظيرهم، وقصدوا فيها إلى مرامٍ اجتماعيةٍ عالية، أكان خانهم خيالهم؟ أوما كانوا فاقوا شعراء الإفرنج في دقة الوصف وقوة التصور وسعة الخيال؟ فعوضًا عن أن يتبسَّطوا في ذلك الأسلوب الجاهلي، ويضعوا لنا ما إذا رُوي روى مطامع النفوس وظمأ العقول، بل عوضًا عن أن ينحوا النحو الذي نحاه بعدهم شعراء الإفرنج في وصف الطبيعة الصامتة والناطقة، وينزعوا إلى أغراضٍ اجتماعية؛ استغواهم ذلك البذخ الذي عاشوا في وسطه، واستهوت الخلاعة نفوسهم، فأذلوا لها قرائحهم، ونهجوا في شعرهم ذلك المنهج الغريب في المدح والغزل والتصابي والاستجداء، حتى غلب هذا الأسلوب على صناعة الشعر العربي، وألِفته الطباع، واستسهلته السلائق لعدم الارتباط فيه بقيد، وصار جماله لا يقوم إلا بالإغراب في تلك المعاني المُبتذلة.
وكيف يُترجم ردفٌ يقعد صاحبه كأنه كثبانٌ عالج، وقلب يحرق بناره الرجلين، ويثب من الصدر إلى العين؟ وقد رأيت قلبًا خرج من تحت الإبط في صدمة قطار، ولكني لم أرَ قلبًا تخطَّى سنن الطبيعة في خروجه من الجسم.
والشاعر العربي الذي يمكن أن يُترجم أكثر شعره من غير أن تُفقده الترجمة جماله هو شاعر الحقائق القائل:
والقائل:
والذين يقولون هذا القول هم الذين يحبون الحياة أكثر من سواهم، والقائل:
ولا شك أن أبا العلاء المعري هو فيلسوف الشعراء قاطبة، وأكثر شعراء العرب علمًا، وأرجحهم عقلًا، وهو الوحيد بينهم الذي ترفَّعت نفسه عن تلك الدنايا، ومال عقله عن سفساف القول إلى الحقائق ومُحاربة الضلال.
لا أقول ذلك حطًّا من سليقة شعرائنا المولدين من مُتقدمين ومُتأخرين، فإنهم — وايم الحق — أعلى الشعراء كعبًا في الصناعة، وأوسعهم خيالًا، ولا أقول أسماهم، وإنما أقول ذلك طعنًا في أسلوبهم العقيم المُبتذل؛ فإنهم وقفوا تلك القرائح المجيدة على أمور لا تفيد القارئ فائدةً أدبية أو اجتماعية أو تاريخية، ولو كتبوها نثرًا لخجلوا من دنا نفوسهم، وسخروا من إغراب عقولهم.
ولعله كان للمولدين من شعرائنا يدٌ ليست أقل شؤمًا من يد علماء الكلام في تقهقُر التمدن العربي، كما أن تلك الأشعار الحماسية في عصور الجاهلية وأثرها في النفوس كانت مبعثًا لقيام دولة العرب في الإسلام، وبزوغ تمدُّنها، وبلوغها فيه الشأو الذي بلغته.
ولعلنا اليوم على فجر نهضة جديدة؛ فإني أرى من بعض شعرائنا نزوعًا إلى وضع الشعر في أسلوبٍ يرمي إلى غايةٍ اجتماعية، ولا نعدم قرائح مُتوقدة من شعرائنا المطبوعين، فلعلهم لا يلبثون طويلًا حتى يُرونا منهم أمثال هوجو وموسه وروستان، وسواهم؛ فإن النظم طوع بنانهم، فما عليهم إلا أن يُعملوا عقولهم، ويُجيلوا نظرهم فيما حولهم، فلا تضنُّ الطبيعة عليهم بمكنوناتها، والاجتماع بأسراره، والتاريخ بعِبره. ولا أقلَّ من أن يدخلوا بنفوسهم إلى أعماق نفوسهم.
أما القصيدة فهذه:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••