المقالة الخمسون
١
سيدي صاحب الهلال
إني أرتاح دائمًا إلى قراءة هلالك، وأنتظره بتشوُّق لطلاوة مباحثه. وقد قرأت في عدده الأخير مقالًا لك في: «هل في الوجود عالمٌ آخر؟» استرسلت فيه من مقدمة إلى أخرى إلى وضع هذه الأولية، وهي: «إن نظام هذا الكون يدل على حكمةٍ فائقة في وضعه، ونرى هذه الحكمة في كل عمل من الأعمال المادية.»
ثم نظرت إلى الأعمال الأدبية، فقلت: «أما الأعمال الأدبية فقلما نرى حكمة فيها.» واستنتجت من ذلك أن الحكيم الذي وضع هذا النظام الكامل في العالم المادي لا يُعقل أن يدع هذا النظام غير كامل في العالم الأدبي، فلا بد أن يكون قد جعل لهذا الكون «تتمةً تسدُّ هذا النقص». ولما لم تظهر لك هذه التتمة في هذا العالم البادي، قلت: «ولا يمكن أن يكون ذلك إلا في عالمٍ آخر نظامه مُتمم لهذا. وبما أن ذلك النقص مُتعلق رأسًا بالإنسان، فلا يسدُّ ذلك الخلل إلا إذا وُجد الإنسان في ذلك العالم، وهو لا يكون هناك إلا مبعوثًا.» ا.ﻫ.
وليس غرضي هنا النظر في النتيجة التي اتصلت إليها كما بدا لك، مع ما هو معلوم من ارتباط الأعمال الأدبية بالأعمال المادية نفسها، وارتباط نظام الكل بالكل؛ ممَّا يجعل مثل هذا القول ضعيفًا، بل توجيه النظر إلى أن ما أثبته من الحكمة الفائقة لنظام العالم المادي ليس بأقل وهنًا ممَّا نفيته عن العالم الأدبي، ولا سيَّما أنك نظرت إلى الإنسان في هذا الكل كأنه عالمٌ مستقل.
قرأتُ ذلك في ليلةٍ اشتدَّ حرُّها، وكثُر بعوضها حتى لم يعُد يقي منه واقٍ، فحُرِمت المنام للسع كأنه وخز الحراب أو لذع النار، والفكر لا يهجع، فأخذت أنتقل من موضوع إلى آخر حتى وقفت على سؤالك: «فهل في الحوادث الطبيعية ما يُنافي هذا القول؟» أي الحكمة الفائقة في نظام الأعمال المادية، فنظرت، وإذا بالمُنافي كثير، وعجبت كيف أنه خفي عليك! لا سيَّما وأنك نظرت إلى الإنسان من خلال ذلك نظرًا خاصًّا، وهو في نظامه المادي ليس أكثر استقلالًا من سائر الكائنات، ولا أكمل منه في نظامه الأدبي، فخطرت على بالي الأبيات الآتية، أبثُّ بها شكوى، وأصدع بها إلى بيان حقيقة، وهي:
٢
حضرة صاحب الهلال
لما كتبت إليك مُوجزًا ومُشيرًا لم يكن قصدي أن أفتح معك باب المُساجلة في مسألةٍ اعتقاديةٍ خلافية، تتعلق بالمبدأ والمعاد؛ خشيةَ أن يجرَّنا الدخول في ذلك إلى أخذ وردٍّ لا ينتهيان؛ لاختلاف نظر كل واحد فيهما بحسب مواقفه وأهوائه، ويُوقعنا والجمهور معنا في مُغالطاتٍ اجتهاديةٍ عقلية، لا يكون معها تهافُت الفلاسفة وتهافُت التهافت شيئًا مذكورًا.
وإنما كان قصدي التنبيه إلى مسألةٍ علميةٍ بسيطة، لا يصح أن يُجاز علينا فيها ما قد يُجاز في المسائل النظرية العقلية البحتة، وهي نسبة العالم المادي، الذي قلت إن نظامه التام يدل على حكمةٍ فائقة، إلى العالم الأدبي الذي لم تجد فيه هذه الحكمة، وما قلت قولك هذا الغريب في العلم إلا لتستخرج منه هذه النتيجة الأغرب في الحكم، «من أن الصانع الحكيم لا يعقل أن يُتم شيئًا ويدع الآخر ناقصًا، فلا بد أن يكون قد أعد الكمال للناقص هنا في عالمٍ آخر هو عالم البعث.»
ولا يخفى ما في هذا القول من الاضطراب مع مُخالفته للمقرَّر في العلم الطبيعي من تلازُم العالمَين الواحد للآخر، وتوقُّف أحدهما على الآخر. ولو لم تجعل سندك هذا العلم لتقرير مقدمتك ونتيجتك لما جاز لي الاعتراض عليك.
ولقد أشرت فيما كتبت إليك بكلامٍ صريح إلى أن فقدَ الحكمة من العالم الأدبي، كما تقول، والذي قلت إنه نقص في الخلق، كائنٌ هو نفسه أيضًا في العالم المادي نفسه إذا نظرنا إليه نظرك، أي بالنسبة إلى غاية الخلق، وهو واضح جيدًا في عالم الأحياء الذي منه الإنسان المقصود بالذات من البعث. وكلامي هناك على ما فيه من الاقتضاب كافلٌ لأن يُنبه من ذهب عليه ذلك لا لنقص في العلم، بل لباعثٍ آخر غلبه فيه فصرَفه عنه، لعله يُراجع نفسه فيُصحح حكمه فيما بناه على مثل هذه المسألة العلمية المُنافية لغرضه؛ لئلا يكون التشبُّث بذلك أدعى إلى الوقوع في مُغالطاتٍ علمية أيضًا تكون الجناية فيها مُزدوجة على العلم والاعتقاد معًا.
على أن بيانك الذي أتيت به بعد ذلك دلَّني على أنك لم تعبأ بأهمية هذه الأعضاء الأثرية، فلم تعتبرها آثارًا مُنافية لغاية الخلق الاستقلالي، ومُنقصة لتلك الحكمة الفائقة في الخلق، بل صرفت النظر عنها، وأخذت تدلُّني على تلك الحكمة الفائقة في نظام العوالم، وتُوجِّه نظري إليها تارة في الأفلاك وطورًا في الأرض، من نظام الأجرام السماوية إلى نظام الأجرام الأرضية، من الإنسان فالحيوان فالنبات حتى الجماد.
والحق أقول إني غير صعب المِراس، وإن كنت غير مُتساهل في القياس، فجارَيتك إلى أبعد من مُبتغاك، ونظرت معك في نظام الأفلاك، وتحوُّل السدم إلى شموس وأقمار، وزدت عليك بأني نظرت وحدي إلى انحلال هذه الشموس والأقمار ورجوعها إلى السدم، ونظرت إلى حركات الرياح وتساقُط الأمطار، وأعجبني منك قولك فيها: «وتسلسل أسبابها.» ونظرت إلى تحليل المواد وتركيبها على نسبٍ محدودة، وقلت في نفسي هل كان يمكن يا تُرى غير ذلك، ثم نظرت إلى توالُد الأحياء من بيضة أو جرثومة، ثم قلت ما الحكمة من وجود هذه الأعضاء الأثرية التي لا معنًى لها في محفظة هذه البيضة أو الجرثومة التي اختصر فيها هذا الخلق البديع المستقل.
نظرت في كل ذلك، فلم أجد في بعض ما أدركته ممَّا أوسعتَ له مجال الإسهاب تلك الحكمة المقصودة، ولا تلك الغاية المرغوبة، وإنما وجدت في سردها من الإطناب ما هو أدعى في بعض المواقف إلى الإعجاب. على أنك لم تقصد بذلك إلا إكثار الأدلة لبيان الحكمة الفائقة في الخلق، لا بديع ما في قوله يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، ولكنه بيان لو تدبَّرناه جيدًا لوجدناه يرمي إلى ضد ما تقصد؛ فإنك قمت تؤيدني من حيث قصدت أن تُناقضني. أقول ذلك لا عن تعنُّت كما ربما تظن، بل عن برهان، وإليك البيان.
الذين يقولون بالمعاد في غير هذا العالم هم أصحاب الخلق، وهم أصحاب الخلق الاستقلالي أولًا — قلت أولًا لأن بعض هؤلاء يميلون اليوم إلى القول بالخلق الكلي — فهؤلاء يجعلون كل جنس مخلوق من المخلوقات التي يتألف منها العالم أجمع خلقًا خاصًّا، وأخصُّ هذه المخلوقات عندهم الإنسان الذين خُلِق كل شيء من منظور وغير منظور لأجله، فهو عالمٌ مستقل بنفسه، علاقته بهذا العالم المنظور عارضة، لا يلبث أن ينفكَّ عنها إلى العالم الآتي غير المنظور الذي هو مقرُّه الدايم، والذي علاقته به جوهرية. أليس هذا هو الاعتقاد الشائع الذي تعلم به الكتب الدينية، والذي هو أساس أوليتك؟
ولنحصر كلامنا في هذا الإنسان الذي هو محور هذا الاجتهاد من كل هذا البحث بالنظر إلى معاده؛ لنرى أولًا ما إذا كانت علاقته بهذا العالم عارضة أم جوهرية، وثانيًا لنعلم ما إذا كان الذي يُطلَق على كل الطبيعة يُطلَق عليه أيضًا، أم هو ممتاز علميًّا يجوز له الانفراد وحده بامتيازات تجعله فوق الطبيعة للتجرد عنها.
لا يجوز لي في هذا المقام بالنسبة إليكم أن أدخل معكم في بيان كَوْن الإنسان في تكوينه حيوانًا في أعلى درجة من سُلَّم الحيوان، تربطه به روابط تدلُّ على أنه مرتقٍ عنه، وإن كان في بعض العصور غيره الآن، فإني لا أرتكب مثل هذا الخطأ مع من أعدُّه يعلم ذلك جيدًا كما هو مقرَّر اليوم في العلم، والذي هو نفسه يقول لي: «كم من الحكمة في نمو النبات بتحويل المواد الترابية إلى موادَّ حية، وفي نمو الحيوان بتحويل المواد النباتية إلى حيوانية، ثم ترجع تلك المواد بعد الموت إلى التراب.» فأنتم تعلمون جيدًا أن في الأحياء، وخصوصًا في الإنسان، أعضاءً أثرية، أي زوائد لا معنًى لها في خلقه كما هو الآن، وإن كنتم تقولون مع ذلك: «على أننا إذا تدبَّرنا هذه الزوائد رأيناها تنحصر في عالم الحياة، وهو جزءٌ صغير من المخلوقات.»
ولا أقف عند هذا القول لأردَّ عليه بقولي أما كَوْن عالم الحياة جزءًا صغيرًا من المخلوقات ففيه نظر، سواء نظرنا إليه بالنسبة إلى أرضنا أو بالنسبة إلى العوالم الأخرى التي لا نعلم عنها شيئًا من هذا القبيل، وهو في أرضنا ليس صغيرًا بالقدر الذي يُستفاد من هذا الكلام، وصغيره يكاد يكون مالئًا الأرض كلها، ومُتخللًا كل أجزاء الجماد، وله في تحليله وتركيبه وتحولاته شأنٌ عظيم؛ فإن هذا البحث ليس من غرضنا هنا، بل أقول إنه مهما يكن من ذلك، فعالم الأحياء جزءٌ مهم جدًّا في بحثنا؛ لأنه يشتمل على الإنسان الذي هو موضوع البعث في العالم الآخر.
وأنتم تعلمون أن هذه الأعضاء الأثرية التي ليس لها معنًى في تكوين الإنسان كما هو الآن، كان لها معنًى في الماضي يوم كان تكوينه غيره اليوم، وهي كثيرة جدًّا، وليس المقام مقام بيان وجودها وإثبات عدم نفعها فيه ونفعها في سواه، كما هو مبسوط في محله، وكما تعلمونه جيدًا، بل أنتم تعلمون أن هذه الآثار أقوى دليل على تسلسُل الخلق وترابُطه، وعلى أن الإنسان مشتقٌّ من الحيوان بالارتقاء، ولكن بعد هذا العلم، ماذا يكون مقامها في الخلق الاستقلالي؟ وأين الحكمة فيها حينئذٍ؟ ولا إخالك تعمد هنا إلى القول بأن الحكمة التي لا تبدو لنا فيها دليل على جهلنا، لا على عدم وجودها. وربما كان يجوز مثل هذا التخلص لولا أنك تعلم أن العلم عرف فائدتها لاكتشافه حقيقتها في الأحياء الأخرى الأدنى، وأثبت بذلك ارتباط الإنسان بالحيوان، بل نشوءه عنه، وأقرَّ ذلك على أساسٍ علمي متين، فهل لنا بعد ذلك مناص من إنكار مذهب الخلق الجزئي الاستقلالي؟ وإلا فكيف يمكن لنا حينئذٍ أن نُوفق بين هذا الوصل في المبدأ وذلك الفصل في المعاد، وأن نُسند ذلك إلى العلم نفسه؟ بل كيف يمكن لنا أن نُوفق بين الحكمة الفائقة في الخلق ووجود مثل هذا العبث في المخلوقات؟ لأن وجود مثل هذه الزوائد غير النافعة فيها، والضارَّة بها أحيانًا، ليس إلا عبثًا بالنسبة إلى المخلوق نفسه.
بل كيف يمكن لنا أن نُوفق بين هذا النشوء المُتسلسل الذي يُثبت لنا أن العوالم بمُطلَقها التي تبدو لنا اليوم كما هي، لم تكن كذلك في الماضي القديم، وبين مذهب الخلق الكامل الذي يقول إن العوالم ومنها الإنسان وُجدت بصورتها الحاضرة كما هي الآن؟ فلم يبقَ أمامك إلا القول بالخلق الكلي، وهو أحسن ما يعتصم به المُستمسكون بالخلق؛ إذ ينسبون حينئذٍ كل تحولات الطبيعة إلى نواميسَ عامةٍ مخلوقةٍ هي نفسها، وهي العامل الثاني في نشوئها المُتسلسل، وإنما يبقى عليهم حينئذٍ أن يُوفقوا بين ذلك ومبدأ الأديان القائل بأن المعاد في غير هذا المكان للإنسان وحده، وهو لم يكن إنسانًا كما هو اليوم في أطوار نشوئه، ولا هو مستقلٌّ عن سواه في مبدئه حتى يجوز له هذا الاستقلال في معاده، أو أنهم يُطلِقون البعث حينئذٍ على العالم كله، لا باعتبار انتقال مواده فيه بتغيُّر صورها، بل باعتبار انتقال الطبيعة كلها بأعيانها من مكانٍ منظور إلى مكانٍ آخرَ غير منظور. هذا ولا يخفى عليك حينئذٍ ما يرد على الخلق الكلي نفسه من الاعتراض المعقول من أن الخالق والمخلوق لا يجوز أن يكونا مُنفصلين، وإلا وجب أن يكون فعل الخلق الصادر من الخالق مُنفصلًا عن الخالق نفسه، وهو خلف، وإن كان مُتصلًا به فكيف يكون هو نفسه غيره، وهو خلف أيضًا؟
على أن هذه الأمور المقرَّرة اليوم في العلم، والتي تنفي الحكمة من الخلق، تصبح ذات شأن عظيم في مذهب النشوء؛ إذ تُبين حقيقة هذا الترابط الذي تُشير إليه في قولك: «ونجد الخلق بجملته تامَّ النظام مُترابطَ الأطراف.» لتوقُّف كل تغيُّر فيه على تغيُّر في سواه، أو لإحداث كل تغيُّر فيه تغيرًا مُناسبًا في سواه. وعليه فالعالم في مذهب النشوء لم يكن ولا هو كائن ولن يكون إلا مُنتظمًا لناموسٍ عظيم فيه هو ناموس التناسب أو المُطابقة.
وكما أن العالم المادي مُترابط، ومن هذه الحيثية هو تام النظام في كل العصور، فالعالم الأدبي إذا نظرنا إليه نظرًا علميًّا وجدناه لا يخرج عن هذا الحكم، فهو مُترابطٌ تامُّ النظام أيضًا. ولا يجوز أن يكون غير ذلك، لا سيَّما وأن كل الأعمال الأدبية مُتوقفة على نظام المادة نفسها. فقوى الطبيعة من حركة إلى حرارة إلى نور إلى كهربائية إلى قوًى حيوية، إلى غير ذلك من تحولات القوى، مُترابطةٌ بعضها ببعض، ومُترابطة بالمادة نفسها. ووظائف الأعضاء في الأحياء مُتوقفة على حال هذه الأعضاء كوظيفة التغذية عمومًا، ووظيفةِ عضوٍ عضوٍ منها، فكما أن إفراز اللعاب عمل من أعمال الغُدد اللعابية، فالعقل نفسه ليس إلا عملًا من أعمال الدماغ، بحيث لو انحلَّت مادة الدماغ إلى بسائطها انحلَّ العقل إلى القوى المُودَعة في تلك البسائط، ولم يتطاير منه شيء إلى الخارج، حتى الوجدان نفسه الذي يتوهم البعض أنه مزية يمتاز بها الإنسان على سواه، والذي ذكرتموه على صورةٍ تؤيد هذا الامتياز، إذا تدبَّرناه كما ينبغي يظهر لنا أنه عام على العوالم كلها، مع حفظ النسبة بينها من الإنسان إلى الحيوان إلى النبات إلى الجماد، فكلٌّ من هذه العوالم يُدافع عن نفسه حفظًا لكيانه حسب مرتبته؛ ممَّا يدل على أنه شاعر بذاتيته، ولو لم يكن له هذا الشعور لم يكن له ذلك.
وما أتيت بهذا البيان لأُعارض أيًّا كان في إيمانه، بل لأدفع عن القضايا العلمية المُغالطات التي قد نُجيزها فيها على أنفسنا وعلى سوانا، فنقطع بها تارةً ما يُوصَل، ونصل بها أخرى ما يُقطع؛ لغاية في النفس لنا سابقة، نشوءها فينا معلوم لو تحرَّيناها إلى أصولها. وفي اللاهوت النظري ما يُغنينا عن ذلك كله للغرض الذي تدفعنا إليه أمانينا، ويرتاح له وجداننا، لا سيَّما وأن المسألة مسألةٌ اعتقاديةٌ بحتة.
أما قولكم إن كثيرين من العلماء الأعلام لم يستطيعوا النفي الباتَّ في مثل هذا المقام، فما ذلك بالبرهان على ثبوت دعوى خصوم النفي الذين لا يستطيعون أن يجدوا في العلم دليلًا واحدًا للإثبات. وما مقام اللورد كلفن بأعظم من مقام أغاسيز نفسه في العلوم الطبيعية؛ فقد كان فيها أعلم من داروين، ومع أن داروين بنى مذهبه وأيَّده بأبحاثٍ كثيرةٍ مأخوذة عنه، فقد كان أغاسيز نفسه من ألدِّ خصومه. ولا يُثبِت ذلك إلا أمرًا واحدًا، وهو شدة وطأة ناموس الوراثة، وخصوصًا ناموس الرجعة، كما دلَّتنا اليوم تصريحات لمبروزو نفسه على ما جاء في المقتطف من انقياده لشعوذة المُشعوذين ووهم الواهمين، واعتبار ذلك من مُرجِّحات الاعتقاد بالأرواح وما شاكل، مع أنه كان من أشد أنصار الفلسفة العقلية المادية.
فالعالم مخلوقًا يحملنا على اعتقاد وُجود العبث في الحكمة، وهي غير مُضطرة، وهو خلف؛ وناشئًا يدلُّنا على أن هذا العبث ليس بالحقيقة عبثًا، بل رابطةٌ ضرورية للتسلسل في النشوء. والعالم مخلوقًا يحملنا على أن نقطع حيث يجب أن نصل، أو نصل إلى نتيجةٍ كلية لا تنطبق على غاياتنا الجزئية، ولا على شيء من العلم. والعالم ناشئًا يدلُّنا على أن كل ما في الطبيعة منها وبها وإليها.
وعليه فالذي تقول إنه خلق لا ينطبق على الواقع المقرَّر في العلم، إلا إذا قلنا إنه نشوء، والذي تقول عنه إنه غايةٌ مقصودة لا يصح إلا إذا قلنا إنه نتيجةٌ لازمة، والذي تقول إنه حكمةٌ فائقة هو عبث، إلا إذا قلنا تناسُبٌ ضروري لنشوءٍ مُترابط، والذي تذهب إلى أنه معادٌ خاص في غير هذا المكان لا يجوز إلا إذا قلنا إنه عود على بدء في هذا المكان. وهذا ما يقوله العلم، وإن تلجلج في بعض القضايا العلمية المادية، فلا يقول سواه، كما في هذا القول:
أما الإيمان الذي ترتاح إليه نفوس الأكثرين لأسبابٍ تعليلُها واضح في مذهب النشوء، لا يضيق به مثل هذا الحصر، وهو قام حتى الآن على غير العلم، وفي إمكانه أن يبقى في غنًى عنه زمانًا طويلًا أيضًا، وليس من الحكمة أن نُحاول إلباسه حُلةً علمية لا تُناسبه تنمُّ عن ضعفه، أو تكون به كطيلسان ابن حرب.
وفي الختام إني مُعجَب بك لسعة فضلك، وغزارة علمك، وإن خالفتك في مثل نتيجتك التي اتصلت إليها، والتي كنت أود ألا أُحرج لمُعارضتها، ولكنك تُوافقني على أن لا مُحاباة في العلم، كما أنه لا حياء في الدين. وإن سألت ما الذي أحرجني، قلت مقامك عندي.